القيادة في القصص القرآني (نموذج يوسف – عليه السلام)
إن أكثر النصوص التي وردت في مؤلفات الإدارة والسلوك التنظيمي في الإسلام ركزت على شئون الأفراد، وبذلك ينفذ الإسلام إلى لب المشكلة الإدارية، حيث يقضي المنطق وتوجب الضرورة الاهتمام بما ينفع الإنسان. وكل وظائف الإدارة من تخطيط وتنظيم وقيادة وتوجيه ومتابعة ورقابة تقوم أساساً على الأفراد الصالحين، وتتجه لتحقيق مصالح الإنسان فرداً أو جماعة. فهي بالإنسان وللإنسان[1]. وبذلك تكون عبادة لله وطاعة وامتثالاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتعتبر وظيفة القيادة من أهم الوظائف في العملية الإدارية، فإن الله تعالى خلق الناس على فطرة الحاجة إلى الاجتماع. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ”. (رواه أبو داود).
وليس هذا في الإنسان فحسب بل في كل المخلوقات، يقول الله تبارك وتعالى: “ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ” (الأنعام: 38). والقائد الإداري من المنظور الإسلامي هو القدوة التي يستمد منها أعضاء المنظمة من العاملين النموذج الذي يتبعونه في ممارسة واجباتهم وتوجيه علاقاتهم بالآخرين[2].
وقصة يوسف – عليه السلام هي القصة الوحيدة التي وردت كاملة في القرآن الكريم، وهي سورة مكية؛ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هجرته المباركة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة. ومن مقاصد القصة تحديد مقومات عملية اختيار القيادات.
ويعتبر نموذج القيادة في قصة يوسف – عليه السلام نمط من أنماط اختيار القيادات في المواقف والوظائف التي تتعلق بإدارة شئون البلاد في المجالات الاقتصادية والمالية والموازنات العامة والتجارة والتموين وغيرها من الفروع ذات الصلة بأحوال ومعايش الناس. والقيادة عموماً هي طريقة للتأثير، موجهة مباشرة إلى تغيير وتشكيل سلوك الآخرين. فكان هذا النموذج القيادي لإخراج البلاد من أزمة اقتصادية طاحنة متوقعة أو شبه مؤكدة[3].
أولاً: مقومات الاختيار تتناسب مع هذا الموقف
إن مهمة إدارة شئون البلاد الاقتصادية تحتاج إلى قائد يتوافر فيه أمران بصورة رئيسية هما: الأمانة الشديدة، والعلم الراسخ بطبيعة المهمة. يقول الله تبارك وتعالى على لسان يوسف -عليه السلام: ” قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ” (يوسف: 55). وقد طلب يوسف عليه السلام هذا الطلب لأنه يعلم كيفية الخروج من الأزمة، وبعد أن صرح له الملك وقال له: “إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ” (يوسف: 54).
ويتضح من ذلك أن أولويات الاختيار تركز على الأمانة والعلم، ولم يتقدم في هذا الموقف عنصر القوة؛ مثل قصص أخرى في القرآن الكريم (موسى وطالوت وعفريت سليمان..) رغم أن يوسف كان يمتلك هذه الصفة وهي القوة، ولكنه لم يقدمها للظرف الطارئ وللمهمة التي سيضطلع بها، ودليل ذلك قوله تعالى: ”وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ” (يوسف: 31). يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية لأنهن لم يرين بشر شبيهاً له عليه السلام فقد أعطي شطر الحسن كما ورد في الحديث الصحيح. ويتضح من ذلك أن الأمانة والعلم قُدما على القوة، وأن العلم لابد أن يقترن بالأمانة، لأن العلم بدون أمانة قد يكون نقمة.
ثانياً: الدلائل العملية على توافر تلك المقومات في يوسف عليه السلام
لابد من توافر دلائل على الأمانة والحفظ والعلم. من هذه الدلائل؛ أن امرأة العزيز راودته فأبى: “وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ” (يوسف: 23). وفضل السجن على فعل الفاحشة: “قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ” (يوسف: 34). وقد برأته النسوة بعد ذلك: “قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ۚ” (يوسف: 51). وهذه دلائل عملية على أمانة يوسف – عليه السلام.
أما الدلائل العملية على العلم، قال الله تعالى على لسان يوسف – عليه السلام: “قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُون، َثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ” (يوسف: 47-49). وهي خطة اقتصادية واضحة وموجزة تضمنت عناصر التخطيط.
وفي نفس الوقت كان الملك ذا فراسة واهتمام بأمر رعيته، فولاه بعد أن تم إزالة الشبهة (إن وجدت) في حق المرشح. يقول الله تبارك وتعالى: “وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ “(النور: 4 – 5). ورفض يوسف عليه السلام طلب الذهاب إلى الملك إلا بعد تبرئة ساحته بصورة واضحة. قال الله تعالى: “وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ” (يوسف: 50 – 51).
ثالثاً: المقابلة لتدعيم الاختيار
لابد من عمل مقابلة مع المرشح لتوليه منصب قيادي. يقول الله تعالى: ” وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ” (يوسف: 54). يقول ابن كثير أن الملك حين تحقق من براءة يوسف عليه السلام ونزاهة عرضه مما نسب إليه؛ قال استخلصه لنفسي؛ أي يكون من حاشيتي، وتمت المقابلة على هذا الأساس.
كما أن يوسف – عليه السلام لم يطلب القيادة إلا عندما توفرت فيه عناصر العلم والخبرة التي تحتاجها المهمة؛ فلم يطلب الإمارة لنفسه أو لحرص عليها. وفي باب النهي عن طلب الإمارة قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ لعبد الرحمن بن سمرة: “يا عَبدَالرَّحمن، لا تَسْأَل الإمارَةَ؛ فَإنَّكَ إن أُعْطِيتَها عَن غَيْرِ مسأَلَةٍ أُعِنْتَ علَيها، وَإنْ أُعْطِيتَها عَن مسأَلةٍ وُكِلْتَ إلَيْها” (متفق عليه).
وهكذا يعتبر نمط القيادة في قصة يوسف – عليه السلام من أنماط القيادة التي تناولت عناصر ومقومات اختيار القائد. إن المقاصد العامة من الأمثال ومنها القصص القرآنية ليست لمجرد الامتاع والترويح ولا حتى بيان الإعجاز البلاغي أو الاتعاظ وتهذيب السلوك (وكلها مقاصد هامة)، وإنما هي سند حجاجي منطقي؛ به يصلُ المتحاجون إلى كلمة سواء من خلال ما يكشف عنه استعمالهم «الميزان» من قواسم مشتركة بينهم، وبذلك نتجه نحو عالمية الإسلام بالكشف عن ميزان الفطرة الذي يتقاسمه البشرُ كلُّهم[4]. إن القصص تعتبر ضمن الأمثال القرآنية، واعتبرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أدلة مشروعية القياس.
والخلاصة: أن من مقاصد قصة يوسف – عليه السلام كيفية اختيار القيادات، ويمكن تلخيص أهم العناصر؛ كالآتي:
– إن الإنسان هو محور وظائف العملية الإدارية فهي بالإنسان وللإنسان. ولابد من اعتبار العلم والتدريب والخبرة ورجاحة العقل والتجارب والمعرفة والحكمة.
– إن القيادة سواء للحاكم أو لمن يختاره للإمارة هي مسئولية كبرى.
– الإمارة لا تطلب ولكنها تكليف لمن يثبت صلاحيته. وعدم تولية المناصب لمن يسعى إليها.
– لا تنتهي بالاختيار ولكن لابد من متابعة أداء القيادات للتأكد من سيرهم على الطريق الصحيح دون انحرافات.
– دقة الاختيار وتوافر أركان الأمانة والعلم والقوة.
– كل مهمة لها صفات يجب توافرها في القائد، ولا يعني ذلك إهمال الصفات الأخرى، فالأمانة والعلم تُقدم في مجال إدارة شئون البلاد اقتصادياً ومالياً.
– المقابلة الشخصية ضرورية في الاختيار؛ للتأكد من توافر المؤهلات العلمية والعملية اللازمة.
– أن يتم تعيين المرشحين البعيدين عن الشبهات ويكون ذلك من خلال المسار الوظيفي لكل مرشح.
– يجب وجود أدلة عملية مؤكدة على توافر الأركان المطلوبة لشغل الوظيفة وأداء المهمة.
– التوصيف الدقيق لكل وظيفة.
– إن كل ما وصل إليه الفكر الإداري الغربي من توصيف للوظائف والترشيح والاختيار والتعيين والتدريب والتطوير.. كلها محل اعتبار.
[1] علي السلمي، إدارة السلوك التنظيمي (القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، 2004م)، ص 681-682
[2] المرجع السابق، ص679.
[3] محمد المحمدي الماضي، استراتيجية التغيير التنظيمي – مدخل إسلامي مقارن (القاهرة: دار النشر للجامعات، 2000م)، ص ص 300-305.
[4] إبراهيم البيومي غانم، مقاصد الأمثال القرآنية: من الإعجاز إلى الإقناع (مقال منشور في جريدة الحياة بتاريخ 16/12/2017)
المصدر: https://islamonline.net/32632