روح التعايش بين الأديان جوهر الإسلام.. الصحابة يشيعون مسيحية بمكة واحتجاجات ترفع القرآن والإنجيل والتوراة

في مارس/آذار 2019؛ شغلت نيوزيلندا -على غير عادتها- دنيا الناس بفاجعة ارتكاب يميني متطرف ‏أسترالي مجزرة بحق مصلين مسلمين داخل مسجدين بمدينة كرايست تشيرتش. ورغم أجواء الحزن المطبقة جراء ‏فظاعة الجريمة التي اقشعرت منها جلود الملايين؛ فإن مظاهر تضامن النيوزيلنديين الفريد -في شواهده ومشاهده- ‏مع الجالية المسلمة سرعان ما عمرت القلوب وغمرت العقول، دافعةً للتساؤل عن سر رحابة الأفق الأخلاقي ‏التي اتّسموا بها حكومةً ومحكومين، وداعيةً للإعجاب بوفائهم لقيمِ تعايشٍ إنسانيةٍ وحقوقِ مواطنةٍ طالما ‏خانها نظراؤهم في المذهب السياسي والمشرب الحضاري!!‏

في هذا المقال؛ سنستعرض -انطلاقا من مواريث التجربة التاريخية الإسلامية- مناسبات ومواقف وحّدت فيها ‏أطرافَ “الجماعة الوطنية” أطيافاً وطوائفَ لحظاتُ الفرح والحزن، لنرى كيف تعايش الجميع أحيانا كثيرة متراحمين ومتلاحمين، فجمعتهم دروب الحياة من محاريب العلم إلى دواليب الدولة، وضمتهم مناسبات المجتمع في وليمة عرس أو جنازة ‏شخصية ذات شأن علمي أو مجتمعي، أو وحّد موقفَهم نشاطٌ سلمي أو حربي رفعاً لشكوى طغيان محلي أو دفعاً لبلوى عدوان أجنبي، حاملين ‏كتبهم المقدسة ورموزهم الدينية في وئام وسلام.. ودون نكير أو استغراب!!‏

الميراث النبوي

كانت رسالة الإسلام -من أول يوم- كونية الخطاب عالمية الدعوة، وسرعان ما أصبحت المدينة عاصمة لدولة الرسول (ص) المتعددة الشعوب والعقائد إذ “الناس ]فيها[ أخلاط: مسلمون ويهود ‏ومشركون ومنافقون”، ثم كان إعلان الرسول (ص) -بوصفه “إمام الأمة والمنفرد بالرئاسة الدينية والدنيوية” وفق تعبير الإمام الباجي (ت 474هـ)- ‘دستورَ المدينة‘ الذي عرّف ساكنة هذه المدينة/الدولة بأنهم “أمة من دون الناس” تبعا لمبدأ المواطنة لا الديانة أو العِرق.

وقد وضع الرسول (ص) أسس التعايش السمح بين مكونات “الوطن” الجديد، تمثُّلا للتوجيهات القرآنية عقديا ومجتمعيا: “لا إكراه في الدين” و”لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين”؛ فكان يزور مرضى اليهود (صحيح البخاري)، ويقوم احتراما لجنائزهم ‏(صحيح البخاري)، ويعاملهم ماليا حتى إنه اقترض من تاجر يهودي‏ فتُوفي (ص) ودرعه مرهونة لديه (صحيح البخاري).

بل إنه سمح لضيوفه المسيحيين بإقامة شعائرهم داخل المسجد النبوي؛ فقد ذكر الإمام ابن القيم (ت 751هـ) أنه “صحّ عن النبي (ص) أنه أنزل وفد نصارى نجران (سنة 9هـ وعددهم 14 رجلا) في مسجده ‏وحانت صلاتهم فصلوا فيه”، وأنه “يؤخذ من هذه القصة أمور منها: جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين”. وأرشد (ص) صحابته إلى كيفية الدعاء لـ”أهل الكتاب” مكافأة لمعروف يسدونه إليهم؛ فقد أسند الإمام الذهبي (ت 749هـ) إلى ابن عمر أن النبي قال: “إذا دعوتم لأحد من اليهود والنصارى فقولوا: أكثر الله مالك وولدك”.‏

وعلى خُطى هذا الهدْي النبوي الحنيف؛ سار الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان من منصفي المسلمين وغيرهم من أبناء الوطن الإسلامي، طوال الحقب التي تمتعت فيها الأمة بعافيتها الفكرية وأريحيتها الحضارية؛ فكان قادة الفتوح الإسلامية يعطون لأصحاب الأرض المفتوحة “الأمان لأنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، لا ينتقص شيء من ذلك ولا يساكنهم أحد من غير ملتهم”. وكان هناك تاريخيا “قاضي النصارى” و”قاضي قضاة اليهود” الذي يسمى اصطلاحا “الناجد”.

ويحدثنا الإمام ابن كثير (ت 774هـ)- أن المسلمين والمسيحيين اشتركوا في دمشق مدة سبعة عقود “معْبداً” واحدا لتأدية صلواتهم، فكان نصفه كنيسة ونصفه الآخر مسجدا، و”كان المسلمون والنصارى يدخلون هذا المعبد من باب واحد…، فينصرف النصارى إلى جهة الغرب إلى كنيستهم، ويأخذ المسلمون يمْنةً إلى مسجدهم”. وهذا “المعبد” هو الذي صار فيما بعد مسجدا خالصا للمسلمين حين تراضى الفريقان على ذلك سنة 86هـ، وعُرف تاريخيا وحتى الآن بـ”الجامع الأموي”.

ومع انتكاسة المد القيمي لدى المسلمين أواخر القرن الثاني؛ اختلّ كثير من موازين العدل والفضل، وشاع التظالم المجتمعي تحت وطأة الفتن السياسية والأزمات الاجتماعية وتمزق النسيج الداخلي. ثم عمّق ذلك كلَّه ما استجدّ مع مطلع القرن الرابع من عوامل أجنبية تمثلت في التهديدات الخارجية للعالم الإسلامي بمشارقه ومغاربه (هجمات الروم البيزنطيين وحملات الصليبيين الفرنجة وحروب المسيحيين بالأندلس)، ورُبط أحيانا كثيرة بينها وبين المكوّن غير المسلم داخله.

تلمذة متبادلة

ولعل من أوائل مظاهر التعايش الإيجابي بين المسلمين وغيرهم الأخذَ المتبادل للعلوم والمعارف الذي تواصل عبر حقب التاريخ الإسلامي؛ ففي صدر الإسلام تلقّى كثير من المسلمين عن أحبار اليهودية والمسيحية ‏معارف مختلفة مما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام وحقائقه. ومن الأمثلة على ذلك أن عالم التفسير مقاتل بن سليمان البلخي ‏‏(ت 150هـ) كان “يأخذ عن اليهود والنصارى علم ‏القرآن الذي يوافق كتبهم”، ورغم ما قيل فيه جَرحاً فإن آراءه في التفسير لا يخلو ‏منها أيٌّ من كُتب التفسير المعتمَدة لدى علماء المسلمين!

كما كان ‏إمام المغازي محمد بن إسحق (ت 151هـ) “يحمل عن اليهود والنصارى ‏ويسميهم في كتبه ‘أهل العلم ‏الأول‘”.‏ ولما أصدر المتوكل العباسي (ت 247هـ) سنة 235هـ قراراته التمييزية بحق غير المسلمين كان منها أنه “نهى أن يتعلَّم أولادُهم في ‏‏‏كتاتيب المسلمين و]أمر[ ألا يعلِّمَهم مسلم”. ويدل هذا على أن الجميع كانوا يشتركون في أماكن التعليم.‏ ‏

وتحدثنا كتب التراجم أن يحيى بن جزلة الطبيب المسيحي المرموق (ت 493هـ) “كان يقرأ على أبي علي ‏‏ابن الوليد ‏المعتزلي ويلازمه‏”.‏ وكان أبو محمد الغنوي النصيبي الشافعي (ت 660هـ) “‏منقطعا في منزله… يتردد عليه جماعة من ‏المسلمين واليهود والنصارى ‏والسامرة ]فـ[ـيُقرئ الجميع”.‏ وشمس الدين محمد بن يوسف الجزري الشافعي القوصي (ت ‏‏711هـ) “انتصب للإقراء فقرأ عليه ‏المسلمون واليهود والنصارى، وولي خطابة الجامع الطولوني ]بالقاهرة[، وقرأ عليه ‏التقي السبكي وروى عنه”.‏

وجاء في ترجمة عبد السيد بن إسحق الإسرائيلي (ت 715هـ) أنه “ديّان اليهود (= زعيمهم الديني)، وكان يحب المسلمين ‏‏ويحضر مجالس الحديث وسمّعه المزّي، ثم هداه الله تعالى وأسلم”. ومع شهود “مجالس سماع الحديث”؛ كان بعض ‏المسيحيين واليهود يحضر “جلسات السماع الصوفية” بين المسلمين، ولذا حكى الذهبي أن “مقدَّم الطائفة الحريرية” الشيخ أبو الحسن ‏الحريري (ت 645هـ) ‏”نهى أصحابه عن غلق الباب وقت السّماع حتى عن اليهود والنصارى”.

‏توحد بالأزمات

ومن صور التعايش الرحيم ما كان يُصدره العلماء والقضاة المسلمون من فتاوى لدفع ظلم الحكام عن رعيتهم وخاصة من غير المسلمين، ومن ذلك أن المفتي المالكي وقاضي القضاة بمصر الحارث بن مسكين (ت 250هـ) استفتاه الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ) في قتال أقباط قرية البُشمور حين تمردوا على سلطته سنة 216هـ، فرفض الحارث قتالهم قائلا “لا ‏يحلّ لك. فقال له المأمون: أنت تَيْس”!!‏ ‏وذكر ابن الوردي في تاريخه أنه في سنة 721هـ وقعت فتنة بالقاهرة حاصر فيها بعض العامة الكنائس “فغضب السلطان واستفتى القضاة فأفتوه بتعزيرهم”.

بل إن المستشرق السويسري آدم متز (ت 1917م) يقول إنه “كثيرا ما كان رجال الشرطة المسلمون يتدخلون بين فرق النصارى لمنعهم من المشاجرات”، وذكر نموذجين لذلك مشيرا إلى محاولة المأمون فرض الحرية الدينية قانونيا لطوائف المسيحيين ولو كان عدد إحداها عشرة أشخاص، فاعترض رؤساء الكنائس على ذلك!

ومن الظواهر المتكررة في التاريخ الإسلامي ما كان يقع في مدنه الكبرى من مظاهرات احتجاجية على عسف السلطات وظلمها للناس أو انعدام الأمن والاستقرار، وكان من المعتاد أن تشارك فيها أحيانا كافة الطوائف الدينية. ومن أغرب تلك الوقائع الحادثة التي حصلت في دمشق وحملت فيها كل طائفة كتابها المقدس واشتركوا في الدعاء داخل الجامع الأموي!

فقد ذكر المقريزي (ت 845هـ) أنه في سنة 363هـ دخل أبو محمود إبراهيم بن جعفر البربري الكتامي -وهو قائد العسكر ‏المصري الفاطمي- دمشق وهي مضطربة الأمن، وعندما “تفاقم الأمر واشتد البلاء” سيّر أهلُها -بقيادة “مشايخ البلد”- مظاهرات تندد بالاضطراب وتطالب بتوفير الأمن، وفيها “فتح المسلمون المصاحف، والنصارى الإنجيل، ‏واليهود التوراة، واجتمعوا بالجامع وضجوا بالدعاء، وداروا المدينة ‏وهي منشورة على رؤوسهم”!!

وحين اشتدت وطأة الوزير البويهي أبي الفضل الشيرازي (أقيل من الوزارة 362هـ ومات بُعيدها) “كثر الدعاء عليه فى المساجد الجامعة وفي الكنائس والبـِيَع”. وعندما بالغ خليفة الفاطميين الحاكم بأمر الله (ت 411هـ) في ظلمه لرعيته بمصر سنة 395هـ “اجتمع الكتاميّون واستغاثوا إليه، وكذلك سائر الكتّاب والعمال والجند والتجار… والنصارى واليهود، ‏وسألوه العفو عنهم”. ويضيف المقريزي أنه صدر العفو في “سجل كُتب ]منه[ نسخة للمسلمين، ونسخة للنصارى، ونسخة لليهود”.

وفي سنة 394 تدخّل مسؤول مسيحي كبير في الدولة الفاطمية لرفع الظلم عن أهل الشام المسلمين وغيرهم، واستغل في ذلك علاقته بـ”ست الملك أخت الحاكم (الخليفة الفاطمي) وله منها رعاية مؤكدة، فكتب إليها ‏يستصرخ بها ويشكو ما نزل بالناس من البلاء إليها وما شمل الشام وأهله… من الظلم ‏والعسف والجور، مما لم يجر بمثله عادة في قديم الأزمان ولا حديثها. فلما وصل الكتاب إليها.. دخلت على ‏الحاكم وكان يشاورها في الأمور ويعمل برأيها ولا يخالف مشورةً لها”.

أحزان جامعة

ومن تجليات التلاحم بين أتباع الطوائف الدينية؛ ما أبدوه أحيانا من تضامن ومواساة في لحظات الحزن وأوقات الحرب، وصل إلى حد المشاركة في تشييع جنائز الأعيان، والقتال في الحروب وما يقتضيه من إيواء وإغاثة.‏ ومن أقدم الشواهد على ذلك وأغربها ما جاء في “المصنف” للمحدث ابن أبي شيبة (ت 297هـ) روايةً عن الإمام الشَّعبي (ت 106هـ) أنه “ماتت أُمُّ الحارث بن ]عبد الله بن[ أبي ربيعة (المخزومي) وهي نصرانيةٌ فشهدها أصحاب محمد (ص)” وشيعوا جنازتها، وأضاف غيرُه أن اسمها “سبحاء الحبشية” وكانت وفاتها في مكة.

وعندما توفي الإمام الزاهد منصور بن زاذان الواسطي سنة 128هـ “خرج في جنازته اليهود والنصارى والمجوس يبكون عليه”. وأورد الحافظ ابن عساكر أنه سار في جنازة إمام الشام الأوزاعي (ت 157هـ) “أمم اليهود والنصارى والقبط”. ونقل أيضا بسنده عن “صاحب ستر” الإمام الفزاري (ت 186هـ) -وهو “أحد أئمة المسلمين وأعلام الدين”- قولَه: “لما مات أبو إسحق الفزاري رأيتُ اليهود والنصارى يحثون التراب على رؤوسهم مما نالهم”.

وذكر الخطيب البغدادي (ت 463هـ) أنه يوم وفاة الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) “وقع المأتم والنَّوْح في أربعة أصناف من الناس: المسلمين واليهود والنصارى والمجوس”. وفي الغرب الإسلامي؛ نقل الإمام الذهبي (ت 749هـ) عن المؤرخ الأندلسي ابن بَشْكُوال (ت 578هـ) أن العالم الأندلسي الكبير عُبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي القرطبي “شوهد يوم موته (سنة 298هـ) البواكي عليه من كل ضرب، حتى اليهود ‏والنصارى”.

وورد عند ابن عساكر أيضا أن “شيخ بلاد فارس في ‏وقته” محمد بن خفيف الضبي الشيرازي الصوفي مات سنة 371هـ “واجتمع في جنازته اليهود والنصارى والمجوس”. وقال الذهبي إنه لما توفي العالم الزاهد ابن أبي نصر الملقب “العفيف” (سنة 420هـ) خرج الناس في تشييعه فـ”كان بين يديْه جماعةٌ من أَصحاب الحديث يهلّلون ويُكبّرون ويُظهرون السُّنة، ‏وحضر جنازته جميع أهل البلد حتى اليهود والنصارى”.

معارك مشتركة

وفي ساحات الوغى؛ انخرط -في حالات عديدة- مسيحيون في جيوش تابعة لبعض سلاطين المسلمين فشاركوا معهم في حروب عادلة أو ظالمة. ومن النماذج الإيجابية لذلك أنه حين واجه السلطان غياث الدين السلجوقي (ت 644هـ) حركة تمرد بابا التركماني الذي ادعى النبوة سنة 638 وحشد 6000 فارس لنشر دعوته؛ أرسل السلطان لقتاله “جيشا فيه جماعة من ‏الفرنج الذين في خدمته فحاربوهم، وكان الجند المسلمون لم يتجرؤوا عليهم وأحجموا عنهم لِمَا توهموا منهم ]من القوة[؛ فأخّر ‏الفرنجُ المسلمين وتولّوا بأنفسهم محاربة الخوارج فكشفوهم ورموا فيهم السيف وقتلوهم طُرًّا”.

ولنقارن ذلك بما حدث بعده بخمس سنين (عام 642هـ) حين تحالف ملوك دمشق وحمص والكرك الأيوبيون مع الصليبيين ضد أخيهم المسلم سلطان مصر نجم الدين أيوب بن السلطان الكامل الأيوبي (ت 647هـ)، فساروا “تحت أعلام الفرنج وعلى رؤوسهم الصُّلبان”!!

وقد أوجبت تعاليم الإسلام حماية المواطنين من غير السلمين “ومنع من ‏يقصدهم بأذى من المسلمين والكفار، واستنقاذ من أُسِر منهم”. بل إنه في الممارسة العملية حدث أن تُرك المسلمون المخالفون فكريا للسلطة في الأسْر عقابا لهم، بينما فُدي جميع من كان أسيرا من “أهل ذمة المسلمين”. فقد أورد الطبري (ت 310هـ) -في أحداث سنة 231هـ- أنه وقع فيها فداء لأسرى المسلمين لدى الروم بالقسطنطينية، وأرسل الخليفة العباسي الواثق ضمن بعثة الفداء مَنْ يمتحن أسرى المسلمين بالقول بخلق القرآن “ومن لم يقل ذلك تُرك في أيدي الروم”!!

ويحدثنا العماد الأصفهاني (ت 597هـ) أنه لما استولى الفرنج الصليبيون -في سنة 541هـ- على مدينة الرُّها “أخذوا من كان فيها من اليهود والنصارى والمسلمين…، فاجتمع (عليهم) عساكرُ المسلمين… فخلّصـ(وا) الأسرى جميعهم”. وكما أن المحتل الصليبي لم يفرق بين أصحاب الديانات في ظلمه فإن المسلمين لم يفرقوا بينهم في الحماية والفكاك من الأسر.

ومن المواقف العميقة الدلالة في هذا السياق؛ قصة ابن تيمية في إطلاق أسرى اليهود والمسيحيين الذين أسرهم التتار في هجومهم على دمشق سنة 699هـ، فقد جاء في رسالته التي بعثها إلى ملك ‏قبرص المسيحي سرجون: “وقد عرف النصارى كلهم أني… خاطبت التتار في إطلاق الأسرى… فسمح ]ملكهم غازان[ بإطلاق المسلمين. وقال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يُطلقون. فقلت له: بل ]تُطلق[ جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، فإنا نفتكهم ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة. وأطلقنا من النصارى من شاء الله، فهذا عملنا وإحساننا والجزاء على الله”.

حماية وإغاثة

ومن صور التضامن ذات الأثر الكبير ما كان يوفره غير المسلمين لإخوانهم المسلمين من إغاثة أو إيواء للهاربين من خطر على حياتهم مصدره سلطة محلية أو أجنبية؛ فحين فرّ الإمام الأندلسي طالوت بن عبد الجبار المعافري -الذي جاء عند الذهبي وصْفه بأنه “أحد العلماء العاملين”- من ‏ملاحقة أمير الأندلس الحَكَم الأول الأموي (ت 206هـ) “اختفى سنة عند يهودي، ثم خرج وقصد الوزير أبا البسام ليختفي ‏عنده فأسلمه إلى الحَكَم”.

ولم يسكت الأمير على هذه المفارقة المؤلمة فقال لوزيره: “حفظه يهودي وستر عليه لمكانه من ‏العلم والدين، وغدرتَ به إذ قصدك وخفرت ذمته”!! ثم إن الأمير أقال الوزيرَ الغادر وكافأ اليهوديَّ الوفي “وزاد في إحسانه”، ‏وتقول القصة إنه أسلم متأثرا بذلك الجزاء الحسن، وصارت قصته هي “المضروب بها المثل في الوفاء بالذمة” في الأندلس كلها.‏

وخلال الصراع مع الصليبيين؛ اشتد في إحدى السنين الحصارُ على المسلمين في عكا، فأمر السلطان صلاح الدين الأيوبي ‏‏(ت 586هـ) بتسيير سفينة محملة بالمؤن لنجدتهم، وتعاون في تنفيذ مهمة كسر الحصار “رجال مسلمون ونصارى من أهل ‏بيروت”، قادوا السفينة بتخطيط محكم حتى دخلت عكا رغم حراسة الصليبيين المشددة. ‏وأخبرنا ابن كثير أنه عندما اجتاح التتار عاصمة الخلافة العباسية بغداد سنة 656هـ اختبأ الناس “في المساجد والجوامع والرُّبَط، ولم ينجُ منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ‏ومن التجأ إليهم” من المسلمين.

وقبل قرن من الآن؛ حدث خلال ثورة المصريين عام 1919م على الاحتلال الإنجليزي أن دخل القمّص القبطي سرجيوس الجامع الأزهر فكان أول مسيحي يعتلي منبره في التاريخ، حيث ألقى فيه -وفي جامع أحمد بن طولون- عدة خطب سياسية بحضور كبار العلماء المسلمين.

أفراح وولائم

ولم تكن مواقف الأحزان والأزمات فريدة في توحيدها لأتباع الديانات في الحضارة الإسلامية؛ إذ كان لمناسبات الفرح والاحتفال نصيبها من ذلك التوحيد والتوحّد؛ ومن أمثلة ذلك الاستقبالُ التاريخي الذي نظمته القاهرة المملوكية لأول خلفاء العباسيين في مصر الملقب “المستنصر” (ت 660هـ)، فلدى وصول موكبه -في 8 رجب سنة ‏‏659هـ- ركب السلطان الظاهر بيبرس (ت 676هـ) للقائه “ومعه الوزير.. وقاضي القضاة.. ‏والشهود والرؤساء، والقراء والمؤذنون، واليهود بالتوراة، والنصارى بالإنجيل‎”.

وبعد تحرير مدينة عكا الأخير من الاحتلال الصليبي سنة 690هـ على يد السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون (ت 693هـ)، منهيا بذلك عصر الحملات الصليبية بمفهومها التاريخي؛ دخل الأشرف دمشق “ولم يبق أحد من أهل دمشق… إلا وقد خرج في موكب اليوم…، وكذلك العلماء والقضاة والخطباء والمشايخ، والنصارى واليهود”.

وتوحي الفتاوى الكثيرة في كتب الفقه الإسلامي المتعلقة بأعياد غير المسلمين بمدى انتشار ظاهرة حضور المسلمين لهذه الأعياد، بمن فيهم النساء المسلمات؛ فقد طالب الفقيه المحتسب ابن عبدون التجيبي الأندلسي (ت 527 هـ) بـ”منع المسلمات من دخول الكنائس” في مناسبات أعياد المسيحيين وأعراسهم.

وأفاد الرحالة الجغرافي الفقيه المقدسي البشاري (ت 380هـ) بأن “من أعياد النصارى التي يتعارفها المسلمون ويقدّرون بها الفصول: الفصح وقت النيروز، والعنصرة وقت الحر، ‏والميلاد وقت البرد، وعيد بربارة وقت الأمطار”، ويُشعر ذلك بعلنية احتفالات هذه الأعياد والحرية المتاحة لأصحابها في إقامتها. وحين أرّخ المحدّث الخطيب البغدادي لوفاة العالم اللغوي أبي عمرو الشيباني (أحد شيوخ الإمام أحمد بن حنبل)؛ قال إنها كانت سنة 210هـ “في يوم السّعانين -بسين مُهمَلة- وهو ‏عيدٌ من أعياد النصارى”.

وشاع تبادل الدعوات لولائم الزواج وغيرها وتبادل الهدايا، كما نجد في قصة الإمام عبد الله بن المبارك (ت 181هـ) مع بهرام المجوسي الذي أولم “وليمة عامة للمسلمين والنصارى واليهود والمجوس”. وقد نقل شهاب الدين الحموي (ت 1098هـ) -في كتابه ‘غمز عيون البصائر‘- عن فتاوى شيخ الإسلام أبي الحسن السعدي الحنفي (ت 461هـ) أن “واحدا من المجوس كان كثير المال حسن التعهد للفقراء المسلمين، يُطعم ‏جائعهم ويكسو عاريهم، وينفق على مساجدهم ويعطي دهان سُرُجِها، ويقرض محاويج المسلمين؛ فدعا الناس مرة إلى ‏دعوة… فشهدها كثير من أهل الإسلام، وأهدى إليه بعضهم هدايا”.

وقد شاهد الرحالة والفقيه الأندلسي ابن جبير (ت 614هـ) لما زار مدينة صور بلبنان عرسا مسيحيا في مينائها، ووصف بدقة تفاصيل ما جرى فيه ملاحظا أن “المسلمين وسائر النصارى من النُّظار قد عادوا في طريقهم سماطين (= صفّين) يتطلعون فيهم ولا ينكرون عليهم ذلك”. وفي سنة 1156هـ أقام المشرف على حسابات ولاية دمشق فتحي أفندي الدفتري حفلا بمناسبة زواج ابنته، “وكان سبعة أيام كل يوم خصّه بجماعة: ]…[ واليوم الثالث إلى المشايخ ‏والعلماء، ]…[ واليوم الخامس إلى النصارى واليهود”.

وقبل مئة سنة، وبعد الفتنة الطائفية بحلب في 28 فبراير/شباط 1919؛ يقول مؤرخ حلب وشاعرها كامل الغزي (ت 1933م) إنه “خطر لبعض عظماء الملل الثلاث أن يسعى بتأكيد ما بين هؤلاء الملل من المحبة والولاء القديمين؛ ‏تفاديا من أن تكون تلك الحادثة قد شوّهت محاسنهما أو أبقت لها أثر حقد أو ضغينة في القلوب. فأخذ عظماء الملل ‏من السادة العلماء والكهنة يجتمعون عند أحدهم مرة في الأسبوع، يتبادلون في أثناء اجتماعهم عبارات التوادد ‏والتحابب. وفي ختام الاجتماع يَأْدِبُ صاحب المنزل مأدُبةً حافلة”.

صدقات وأوقاف

ومن مظاهر البر المتبادل أيضا تصدُّق المحسنين من أهل كل ديانة على فقراء الديانة الأخرى ورصد الأوقاف لهم؛ فقد قبـِل النبي صدقات غير المسلمين من رعايا دولة الإسلام، بل إن أول وقف في تاريخ المسلمين كان من أموال ثريٍّ يهودي من أهل المدينة، قاتل مع المسلمين في غزوة أُحُد (سنة 3هـ) دفاعا عن المدينة، ودعا قومه للقتال فقال: “يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحقٌّ”.

فقد ذكر الإمام ابن إسحاق (ت 151هـ) أن اليهودي مخيرق النضري شهد أحُد ‏وقال قبل المعركة: “إنْ أصِبتُ فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء”.‏ وأسند ابن سعد في ‘الطبقات‘ إلى عمر بن عبد العزيز أن “حوائط النبي (ص)… السبعة التي وقفـ]ها كانت[ من أموال مخيريق” هذا، وروى ابن كثير أنها “كانت أول وقف بالمدينة”. هذا مع أن علماء السيرة لم يتفقوا على ثبوت إسلامه، والظاهر أنه قُتل يهوديا لأن المسلمين عادة لا يذكرون النبي (ص) باسمه بل بلقبه: “نبي الله” أو “رسول الله”.

ويصف لنا ابن جبير في رحلته -وكانت أيام سيطرة الصليبيين الفرنجة على ساحل الشام- عن المعاملة الرحيمة التي قابل بها سكان جبل لبنان من المسيحيين مجاوريهم من متعبِّدي المسلمين، فيقول: “من العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به بعض المنقطعين ]للعبادة[ من المسلمين جلبوا لهم القوت ‏‏‏وأحسنوا إليهم، ويقولون: هؤلاء ممن انقطع إلى الله عز وجل فتجب مشاركتهم”. وقد تنبه الرحالة المسلم لتلك المفارقة بمنطق زمانه فكتب معلقا: “وإذا كانت معاملة النصارى لضد ملتهم هذه المعاملة فما ظنك بالمسلمين بعضهم مع بعض؟”. ‏

وحين تحدث علامة الشام محمد ‏كرد ‏علي ‏‎(ت 1953م) عن ‘قصبة الجبل‘ في لبنان قال إن فيها “إلى اليوم جامع قديم من القرن العاشر بناه ‏أحد أمراء لبنان، ‏ولا ‏يزال ‏الديريون (= أصحاب دير القمر المسيحي) يحرصون على سلامته فيتعهدونه بالعمارة، وإن لم ‏يكن له من يقيم فيه الصلاة‎‏”!!

وقد أدى التعايش بين هذه المكونات إلى نتائج غريبة من الاقتباس الثقافي وحتى التعبدي؛ ففي سنة 288هـ نقص منسوب مياه النيل بمصر عن المستوى المطلوب للزراعة “فخرج المسلمون والنصارى واليهود ليستسقوا”. واشتهر الشيخ الفقيه الزاهد أبو الطاهر المحلي (ت 633هـ) خطيب جامع عمرو بن العاص في مصر بـ”اعتقاد أهل عصره فيه حتى اليهود والنصارى وتبركهم بخطّه”. ومثل ذلك شيوع الختان بين مسيحيي مصر والأندلس، وكذلك كتابة البسملة في مقدمات كتبهم، وتلقبهم بألقاب دينية تشابه ألقاب علماء المسلمين مثل “موفق الدين” و”شمس الدين”!!

ومن أغرب أمثلة ذلك ما حكاه الرحالة الفرنسي لوران دارفيو (ت 1702م) في مذكراته المضمَّنة في كتابه ‘وصف دمشق‘ خلال القرن السابع عشر الميلادي؛ إذ يقول فيما نقله عنه كامل الغزي: “يوجد في زماننا طائفة من الأرمن يسكنون عينتاب يقال لهم ‘كيز وكيز‘ أي نصف ونصف، ‏سُمُّوا بذلك لأن ديانتهم مركبة من الإسلامية والمسيحية؛ فهم يقرؤون القرآن العظيم ويعلمونه أولادهم… ويدخلون المساجد ويصلون فيها… كما ‏أنهم يعمّدون أولادهم ويحترمون الصليب ويحتفلون بالمواسم المسيحية”.‏‏

الوجه الآخر

وختاما؛ فإننا -حين نقف على هذه اللحظات ونتوقف عند تلك المحطات- واعون بالجانب الآخر من التجربة الذي ‏صبغه ‏التشاحن بدلا عن التعاون، والتحارب عوضا من التحاور. ولكننا نعتقد أن صور التراحم والتلاحم -التي نقدم هنا نماذج يسيرة ‏منها مما حفظته سجلات التاريخ المنشورة- ‏كانت رغم قلتها هي الأصلَ الممثـِّلَ للمبدأ القيمي المؤسِّس للعلاقة بين مكونات ساكنة أقطار الإسلام منذ انساحت فتوحه خارج ‏جزيرة العرب، القائمةِ على خضوع الجميع لمبدأ “الإنصاف والانتصاف” وقاعدة “لهم ما لنا وعليهم ما ‏علينا”.‏

وأما ما سواها من صور التظالم -بمختلف ضروبه- فكانت تعكس الممارسة التاريخية للمبدأ القيمي في لحظات ضعفها وانكفائها ‏الأخلاقي، متخليةً عن قيم البر والقسط: توظيفا مطفِّفا لنصوص الدين تسويغا لهضم حقوق الأخوة ‏والعهد والجوار، أو تأثرا ‏بأزمات هموم العيش اليومي ورَهق ‏التعايش المجتمعي، أو انعكاسا لمظالم السياسة والسلطان وحسابات الولاء لحكم محلي ‏داعم أو غزو أجنبي داهم.‏

وآية كل ذلك؛ أن الظلم -مهما كان مصدرُه مسلماً أو غيرَ مسلم- ‏عانى منه الجميع مسلمين وغير مسلمين، والتحيز والتمييز مارستهما كافة ‏المذاهب والطوائف الإسلامية حتى تجاه بعضها بعضا استجابة لغواية التعصب المذهبي.‏ كما أن التحالف مع الاحتلال الأجنبي مارسه المسلمون وغيرهم.

ومن أمثلة شمول ظلم السلطة للجميع بمن فيهم رموزهم العلمية؛ ما رواه ابن تغري بردي (ت 874هـ) من أنه في سنة ٧٩١هـ “قـَـبَض ]الأميرُ[ منطاش (قـُـتل 795هـ) على متّى بطرك النصارى وألزمه بمال، و]قبض[ على رئيس اليهود وألزمه أيضا بمال… ثم طلب منطاش الشيخ شمس الدين محمد الركراكي ]القاضي[ المالكي (ت 793هـ) وألزمه بالكتابة على الفتوى في أمر [الانقلاب على] الملك الظاهر برقوق (ت 801هـ) فامتنع من الكتابة غاية الامتناع، فضربه منطاش مائة عصاة وسجنه بالإسطبل”.

ويكفي أن نذكر من صور التظالم بين المسلمين –بداعي التعصب المذهبي- هذه الأقوال التي صدرت من بعض علمائهم الذين ينتمون إلى طبقة يُفترض فيها أن تضبط أحكامَها بميزان كفتاه العلم والعدل؛ فقد كان القاضي شريكاً النخعي (ت 177هـ) يقول “لأنْ يكون في كل حي من الأحياء ]بالكوفة[ خَمّارٌ خير ‏من أن يكون فيه رجل من أصحاب أبي حنيفة‏”.

ورأى العالم الحنفي محمد بن شجاع الثلجي (ت 266هـ) أن ‏‏”أصحاب أحمد بن حنبل يحتاجون ‏أن يُذبحوا‎‏”!! فما بالنا بالمغايرين في المعتقد الديني الذين عُرفوا -في أحيان كثيرة- بـ”ما لهم من الحرية الزائدة والجاه ‏القاطع” في مؤسسات الاقتصاد وأروقة السلطة!!‏

المصدر: http://www.chawarii.com/?p=78432

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك