الصين في مرآة الثقافة العربية (العصر الوسيط)

الصين في مرآة الثقافة العربية (العصر الوسيط)

شمس الدين الكيلاني*

لم تكن الصين بعيدة عن اتصال العرب المسلمين بها، ولم تكن عصيّة على معرفتهم، وتصوراتهم، فكانت حاضرة، بشكل مبكر، في اتصالاتهم ومعارفهم، ومتخيلهم، شجع على ذلك الاحتكاك العربي المبكر بها، فلم يأت القرن الثاني الهجري حتى امتلأت سواحلها والجزر القريبة منه، بالجاليات العربية، التي عاشت على هامش النشاط التجاري والبحري. فامتلك العرب متخيلاً عاماً عن حضارة الصين، ولعل ما يوحي بذلك الحديث المأثور (اطلبوا العلم ولو في الصين) الذي حمل في طياته الإشارة إلى بُعْدَ الصين، وإلى ما تختزنه من علوم، إلى أن بدأ عصر التدوين في القرنين الثاني والثالث هجريين، ونشط التأليف الأدبي، وكتب الأنساب والجغرافية، والفلسفة والفقه، ومدونات التاريخ، وهذه الأخيرة طمحت إلى الإحاطة بالتاريخ العالمي برمته، باعتباره قصة أمم يقودها ملوك، ورسالات نبوية نزلت على هذه الأمم، توجتها رسالة النبي محمد-صلى الله عليه وسلم-. على أمته، الأمة الخاتم، التي ينفتح بها أمام العرب التاريخ الكوني بحق، الذي تحتل فيه الأمة الصينية مكاناً مرموقاً، وكان أفضل نموذج لهذا السردية التاريخية قدمها الطبري، والمسعودي، واليعقوبي، وابن الأثير وغيرهم، وأكمل هذا الطموح إلى العالمية المدونات الجغرافية الكبرى في دأبها المحموم للإحاطة بالعالم برمته، بأممه وحضاراته، وأقاليمه المختلفة، فضلاً عن الرحالة الذين واكبوا ذلك الفضول المعرفي للعالم، واحتلت الصين مجالاً حضارياً جاذباً لذلك الفضول المعرفي المتعدد الجوانب، وللاتصالات المباشرة عن طريق التجار والرحالة، والسفارات، ولتبادل المعارف والاقتباسات الثقافية، وكانت حصيلة ذلك، تراكم المعرفة المكتبية عن الصين، انعكست فيها صورة زاهية عن الحضارة الصينية، وعن الشعب الصيني، مفعمة بالحماسة والإعجاب، لم ينل منهما التحفظات التي ترد هنا، وهناك عن بعض جوانب عادات الصين الاجتماعية، وعن اعتقادهم الديني، وأنساقهم الثقافية فلقد استأثرت الصين بمكانة ممتازة في نظر العرب، في مجال العمران، والعلم والخبرة الصناعية، وبسمعة الثراء، والحكمة، وأيضاً عدل حكامهم.

ولقد كثف القزويني في قليل من السطور صورة الصين في المتخيل العربي، التي جاء فيها "بلاد واسعة في المشرق ممتدة من الإقليم الأول إلى الثالث، عرضها أكثر من طولها، قالوا: نحو ثلاثمائة مدينة في مسافة شهرين، وإنها كثيرة المياه، كثيرة الأشجار، كثيرة الخيرات وافرة الثمرات، من أحسن بلاد الله وأنزهها، وأهلها أحسن الناس صورة، وأحذقهم بالصناعات الدقيقة، لكنهم قصار القدود عظام الرؤوس، لباسهم الحرير، وحليهم عظام الكركدن والفيل، ودينهم عبادة الأوثان، وفيهم مانوية ومجوس، ويقولون بالتناسخ، ولهم بيوت عبادات)(1).

صلات مبكرة ومقارنات في الحضارة

لا نستطيع أن نحدد بدقة، اعتماداً على المصادر العربية، الزمن الذي أتى فيه العرب إلى الصين أول مرة، أو الطريقة التي جاءوا بها، وعلى الرغم من قلة الشواهد التاريخية الواضحة، فإنه يمكن القول، أنهم أول ما اتصلوا بالصين إنما عن طريق التجار الذي كانوا يسلكون الطريق البحري القديم، ولكن أسبق النصوص، التي يمكن الثقة بها تشير إلى علاقات سياسية مبكرة عن طريق البر، وذلك بعد أن أخضع العرب بلاد فارس، فبعد وفاة يزدجرد آخر ملوك آل ساسان، استنجد ابنه فيروز بالصين لتنصره على العرب، فقيل إن إمبراطور الصين أرسل إلى البلاط العربي سفيراً يدافع عن قضية الأمير الهارب، في زمن الخليفة عثمان، فأرسل الأخير أحد قواد العرب ليرافق السفير الصيني في طريق عودته سنة 651م، فأكرم الإمبراطور وفادته(2). وذلك في عهد الإمبراطور تاوتسنغ سليل أسرة تانغ الملكية، وذكر الطبري هذه الواقعة، وذلك بأن يزدجرد نفسه ملك الفرس، أوفد بعد هزيمته في معركة (ناهوند) مبعوثاً إلى إمبراطور الصين، وعندما عاد سألوه عما رآه، فسرد لهم حوار الإمبراطور معه، الذي تضمن تعريف المبعوث بحال العرب المسلمين، وتعليق الإمبراطور على ذلك، فوضعنا هذا السرد أمام مقاربات حضارية، جعلت إمبراطور الصين يقرّ بتفوق العرب المسلمين، وجاء في هذا الحوار، على لسان المبعوث الفارسي (قال: لما قدمت على ملك الصين بالكتاب والهدايا، فأنا بما ترون (بهدايا مماثلة)، ثم قال لي: قد عرفت أن حقاً على الملك إنجاد الملك على من غلبهم، فصف لي هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإني أراك تذكر قلة منهم وكثرة منكم، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذي تصف منكم، فيما أسمع من كثرتكم، إلاّ بخير عندهم وشرّ فيكم، فقلت: سلني عما أحببت. فقال: أيوفون العهد؟ قلت: نعم، قال: وما يقولون لكم قبل أن يقاتلونكم. قلت: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم، فإن أجبناهم أجرونا مجراهم. أو الجزية والمنعة أو المنابذة، قال: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قال: أطوع قوم لمرشدهم قال: ما يحلون وما يحرمون؟ فأخبرته؟ فقال: أيحرمون ما حّلل لهم و يحلّلون ما حرّم عليهم؟ قلت: لا. قال: هؤلاء قوم لا يهلكون أبداً)(3). وكتب إمبراطور الصين إلى يزدجرد يخبره (أنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بحق علي، ولكن هؤلاء الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو خلي بينهم أزالوني ما داموا على ما وصف)(4).

ولعل أول الوافدين من التجار - الرحالة العرب إلى الصين، الذين ذكرتهم المصادر العربية، هو تاجر عماني، اسمه أبو عبيدة عبد الله، أقلع من عمان إلى خانفو (كانتون) حوالي (133هـ - 750م) واشترى من الصين بعض أخشاب الند(5). وروى بزرك حكاية (عبهرة الربان) الذي (سافر إلى الصين سبع مرات، ولم يكن سلك قبله إلى الصين إلاّ من غرر (أي من جازف بالمخاطر)، ولم يسمع أن أحداً سلكه وعاد قط... وما سمعت أن أحداً سلم في الذهاب والمجيء سواه)(6). يُظهر هذا التعريف، أن عبهره من أوائل المتاجرين مباشرة مع الصين، من القرن الثاني الهجري، لهذا ساعد بعض المراكب على اجتياز بحر الصنخي إلى الصين، كما دوّن القاضي الرشيد بن الزبير (القرن الخامس الهجري) رسالة وجّهها ملك الصين إلى معاوية بن أبي سفيان، أرفقها بهدية كتاب في العلوم، ودعوة لإرسال مبعوث يعرّفه بالإسلام.، وتعكس هذه الرسالة، إذا افترضنا أن كاتبها عربي، ودوّنها فيما بعد، جانباً من صورة الصين عند العرب، إذ تجمع بين إجلال مكانة السلطان والدولة الصينين، والمكانة العلمية لأهل الصين، فقد جاء فيها (من ملك الأملاك الذي تخدمه بنات ألف ملك، والذي بنيت داره بلبن الذهب، والذي في مربطه ألف فيل، والذي له نهران يسقيان العود والكافور، الذي يوجد ريحه من عشرين ميلاً.

إلى ملك العرب الذي يتعبد الله ولا يشرك به شيئاً.

أما بعد، فإني قد أرسلت إليك هدية، وليست بهدية، ولكنها تحفة، فابعث إلي بما جاء نبيكم من حرام وحلال، وأبعث إلى من يبينه لي(7)، لا يتوقف ابن الزبير عند تدوين الرسالة، بل يعلق، مبيناً تأثير هذه الهدية الثقافية على تطور العلم عند العرب، (وكانت الهدية كتاباً من سرائر علومهم، فيقال أن صار بعد ذلك إلى خالد بن يزيد بن معاوية، وكان يعمل منه الأعمال العظيمة من الصنعة وغيرها)(8).

وليست المرة الوحيدة، التي تأتي فيها الدعوات لإرسال مبعوثين للخلفاء المسلمين لإرسال مبعوثين ليعلموا الدين الإسلامي للبلاد البعيدة، إذ أورد اليعقوبي، في تاريخه مجيء وفد من (التيبت) في الصين، في أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز، إلى والي خراسان الجراح بن عبد الله المكي. يسألونه أن يبعث إليهم من يعرض عليهم الإسلام، فوجّه إليهم عبد الله الحنفي)(9).

وذكرت التواريخ الصينية، أن سفيراً يدعى سليمان، أوفده الخليفة هشام بن عبد الملك سنة 726 إلى الإمبراطور حين طرده أحد الغاصبين من عرشه فتنحى عنه لابنه سو تسينغ (Suting) (756م)، فطلب هذا الأخير النجدة من الخليفة العباسي المنصور، وأجابه الخليفة إلى هذا الطلب بأن أرسل إليه قوة من الجيوش العربية، نجحت بمساعدته في استرجاع عاصمته سينغو (Si-mqan-fu) وهو ننفو(Ho-nan-fu) من أيدي الثوار، وفي نهاية الحرب، لم ترجع هذه القوات العربية إلى بلادها، بل تزوجت في الصين واستقرت فيها(10). غير أن هذه الحادثة لا يرد ذكرها في المصادر العربية، وفي المقابل، فإن المصادر العربية تعرضت لاستيطان جاليات عربية أخرى في الصين. ولأسباب مختلفة، فنقرأ عند المروزي، عن لجوء جالية عربية (من الطالبيين الهاربين من السلطة الأموية) إلى أطراف الصين الجنوبية، في جزيرة ملاصقة لإحدى مرافئ الصين، يقومون بدور الوسيط التجاري، وأحياناً الترجمان بين أهل البلاد والغرباء القادمين إلى الصين، أو كما يقول المروزي (هم سفراء بين أهل الصين وبين من يفد عليهم من القوافل والتجار، أما عن سبب استقرارهم في أطراف الصين، فيقول (فما رأوا جدّ بني أمية في طلبهم وإبادتهم، خلصوا نجياً وتوجهوا نحو المشرق.. فانحازوا إلى الصين... ولما علم صاحب الصين أن ليس وراءهم غائلة، وأنهم مضطرون إلى التمسك بجانبه، أقرهم في ذلك الموضع... فسكنوا آمنين)(11). وروى ياقوت عن أبي دلف أنه في الأخير من رحلته إلى الصين، عن طريق البر، موفداً من سلطان خراسان نصر بن أحمد الساماني، في القرن العاشر ميلادي، صادف في هضبة التيبت، ما اعتقده من بقايا قبائل يمنية أتت مع حملة (تبع) في بلاد الصين، فعندما انتهى إلى (موضع يقال له (القليب) فيه بوادي عرب من تخلّف عن تبع لما غزا بلاد الصين، لها مصايف ومشات في مياه ورمال، يتكلمون بالعربية القديمة، لا يعرفون غيرها، ويكتبون بالحميرية ولا يعرفون قلمنا، يعبدون الأصنام، وملكهم من أهل بيت منهم.. ولهم أحكام، وحظر الزنا والفسق، ولهم شراب جيد من التمر، وملكهم يهادي ملك الصين)(12).

وروى الجاحظ عن الهيثم بن عدي، عن أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمر، أنه رأى في ديوان معاوية بن أبي سفيان، بعد وفاته، كتاباً من ملك الصين فيه (من ملك الصين الذي على مربطه ألف فيل، وبنيت داره بلبن الذهب، والفضة، والذي تخدمه بنات ألف ملك، والذي له نهران يسقيان الألوة (العود الذي يتبخر) إلى معاوية)13 وفي هذا النص، يظهر فيه مميزات الصين، وما تشتهر به، ويبرز قوة هذا البلد وغناه.

ولعل أبرز اللقاءت السياسية، التي حملت في سرديتها العربية اللقاء الحضاري، وحوار مدنيتين، بقدر ما حملت معاني التحدي، وصراع الغلبة، هي تلك التي جرت في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ - 715م) عندما عبر قائد جيشه قتيبة بن مسلم نهر جيحون، منطلقاً من خراسان، واخضع على التوالي بخارى وسمرقند، ومدناً أخرى، ومضى قدماً في فتوحاته فدخل بارقند، وختن دون مقاومة، واستولى على كاشغرد وهي أدنى بلاد الصين، ثم وصل إلى طرخان متوغلاً في أطراف الصين، وذلك في سنة (96هـ - 715م)، فأدرك إمبراطور الصين، وكان حينئذ وانغ جونغ (Yuang chung) المخاطر القادمة، فكتب إليه ملك الصين، كما روى الطبري، وابن الأثير، وغيرهما (إن ابعث إلينا رجلاً من أشراف من معكم يخبرنا عنكم، ونسائله عن دينكم) فانتخب قتيبة من عساكره اثني عشر رجلاً، لهم (جمال والسنٌ وشعور وبأس) تحت قيادة (هبيرة بن المشمرج الكلابي)، وقال لهم (لا تضعوا العمائم عنكم حتى تقدموا البلاد، فإذا دخلتم عليه فاعلموه: أني قد حلفت ألاّ أنصرف حتى أطأ بلادهم. واختم ملوكهم، وأجبي خراجهم)، فلما وصلوا، أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم، فدخلوا الحمام، ثم خرجوا فلبسوا ثياباً بياضاً تحتها غلائل، وتدخنوا (أي تبخروا)، ولبسوا النعال والأردية، ودخلوا عليه)، وكان عنده عظماء مملكته، فجلسوا، فلم يكلمهم الملك ولا أحد من جلسائه، فنهضوا وانصرفوا، فقال الملك لمجلسه (كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوماً ما هم إلاّ نساء، ما بقي أحد، حين رآهم ووجد رائحتهم إلا انتشر ما عنده) فلما كان الغد، أرسل إليهم مجدداً، فلبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف، وغدوا عليه) فلما دخلوا عليه، قيل لهم: أرجعوا، فقال ملك الصين لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا له (هذه الهيئة شبه بهيئة الرجال من تلك الأولى) وأرسلوا إليهم في اليوم الثالث، فشدوا عليهم سلاحهم، ولبسوا البيض والمغامر، وتقلدوا السيوف، وأخذوا الرماح، وتنكبوا القسي، وركبوا خيولهم، وغدوا (فنظر إليهم صاحب الصين فرأى (أمثال الجبال مقبلة) فلما انصرفوا سأل أصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا ما رأينا مثل هؤلاء قط)(14).

فأرسل إليهم الملك: (إن ابعثوا لي زعيمكم وأفضلكم رجلاً، فبعثوا إليه هبيرة). فسأله ملك الصين (لم صنعتم ما صنعتم من الزي في اليوم الأول والثاني والثالث؟) فأجابه هبيرة: (أما زيّنا الأول فلباسنا في أهالينا، وريحنا عندهم، وأما يومنا الثاني، فإذا أتينا أمراءنا، وأما اليوم الثالث فزيّنا لعدونا، فإذا هاجنا هيّج وفزع كنا هكذا، قال الملك: ما أحسن ما دبرتم دهركم)(15).

وهكذا ارتدت مقابلات العرب الثلاث، رمزية كثيفة، ففي الأولى، وهي في زي يستعملونه في وسطهم العائلي، ظهروا للصينين برقة النساء ووداعتهن، وفي هيئتهم الثانية، التي يظهرون فيها أمام أمرائهم، فكانوا أشبه بالرجال، وأما في هيئتهم في اليوم الثالث فظهروا في زي الحرب، فكانوا (أمثال الجبال المقبلة).

أما في الفصل الحواري التالي ما بين ملك الصين وهبيرة، فيستعرض كل منهما مصادر قوته، لإرهاب الآخر، وتهديده، طلب الملك من هبيرة (انصرفوا إلى صاحبكم، فقولوا له: ينصرف فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلاّ بعثت عليكم من يهلككم، فأجابه هبيرة: (كيف يكون قليل الأصحاب من (كان) أول خيله في بلادكم، وآخرها في منابت الزيتون (يقصد بلاد الشام)، وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا قادراً عليها! أما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا رجالاً، إذا حضرت فأكرمها القتل فلسنا نكرهه ولا نخافه) فلما سمع الملك لغة التحدي هذه من هبيرة. اضطر للمساومة، فسأله: (ما الذي يُرضي صاحبك؟) فبيّن له هبيرة (إنه حلف ألاّ ننصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويعطى الجزية)، فتوصل الملك إلى مخرج يجنبه مخاطر المواجهة مع قتيبة، ويحفظ لقتيبة طلباته، مُظهراً كل مظاهر الرضوخ، إذ قال: (فإنا نخرجه من يمينه، نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه جزية يرضاها) فأرسل الملك إلى قتيبة (بصحائف من ذهب فيها تراب من أرض الصين) وحرير وذهب، وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم)(16).

لعل أقدم الرحلات إلى الصين، التي حملت معها سجالاً حول موقع الحضارات، وأغنت المكتبة العربية بمعرفة الآخر: الصيني، هي رحلة الملاح والتاجر (سليمان التاجر)، الذي يخلف وراءه معلومات موثوقة عن الصين مرفقة بتقييمه وأحكامه عن أنماط السلوك الاجتماعي - الثقافي، ومقاربات (صريحة) عامة وواسعة ما بين الحضارة الصينية، وثقافتها، وبين أمثالها في الهند، ومقاربات أخرى ضمنية مع ما يقابلها في (ديار الإسلام)، بالإضافة إلى ما نقله عن مشاهداته في بلاد الصين، وعن أهلها، في رحلاته العديدة إليها في منتصف القرن التاسع الميلادي، وعلى التقريب في عام 851م، وأن ما يهّمنا هنا هو الجانب (الحواري) من هذه الرحلة، تلك التي اختزنتها مقابلة (وهب بن الأسود القرشي)، لإمبراطور الصين، والتي حكاها سليمان التاجر، ودونها فيما بعد عنه أبو زيد السيرافي، ونجد وقائعها أيضاً عند المسعودي، الذي سمعها من السيرافي، عندما قابله في سيراف. أما النقطة الأخرى التي تهمنا هنا فهي ملاحظاته العامة عن الحضارة الصينية في سياق مقارنتها بالحضارة الهندية، وسنترك معطيات رحلة السيرافي الأخرى إلى سياق البحث.

تختزن رحلة القرشي ومقابلته لإمبراطور الصين، كثافه من الرموز والدلالات، فكل حادث أو جملة حوارية فيها على مغزى يتعلق بحوادث الحضارات، والتفاضل فيما بينها، لقد رحل القرشي من البصرة بعد ثورة الزنج، واجتاز البحور حتى وصل ميناء (خانفو)، وكانت خمدان، التي ذكرها المسعودي والإدريسي، وابن سعيد المغربي، وأطلق عليها ابن بطوطة اسم (الزيتون)، عاصمة الصين في القرن التاسع الميلادي، ولعلها سينانفو حالياً (Sinanfo)، والتمس القرشي مقابلة الملك في خمدان، ومما له مغزاه، أنه ادعى (أنه من أهل بيت نبوة العرب)، فاهتم الملك بأمره، لهذا السبب، فاستضافه في إحدى المساكن، لكن قبل أن يسمح بمقابلته، أمر عامله في خانفو التقصي عن صحة نسبه إلى النبي، من التجار العرب المقيمين في المدينة، (فكتب صاحب خانفو بصحة نسبه، فأذن له، ووصله بمال واسع)(17). وهذا يعكس تصور العرب بأن نبيهم له مكانته الرفيعة في نظر أباطرة الصين ورعيتهم. ولقد تأكدت للقرشي هذه الحقيقة فضلاً عن تقديرهم لمكانه ملوك العرب لديهم، عندما قابل الملك، ففي هذه المقابلة، سأله الملك: (عن العرب، وكيف أزالوا ملك العجم، فأجابه (بالله جل ذكره، وبما كانت العجم عليه من عبادة النيران والسجود للشمس والقمر من دون الله)، فسأله مرة أخرى: (فما منزلة سائر الملوك عندكم)، فأجاب القرشي: (مالي علم بذلك)، عندها قال له الملك رافعاً من مكانة العرب إلى مصاف الأمة الأولى بين الأمم في علو المكانة، وباعتراف ملوك العالم بذلك، بينما وضع الصين وملكها في المرتبة الثانية، ووضع لكل أمة خصائصها وفضائلها المميزة، وجاء في قوله: (إنا نعد الملوك خمسة، فأوسعهم ملكاً الذي بملك العراق، لأنه في وسط الدنيا، والملوك محدقة به، ونجد اسمه عندنا ملك الملوك، وبعده ملكنا هذا عندنا ملك الناس، لأنه لا أحد من الملوك أسوس منه ولا أضبط لملكه من ضبطنا لملكنا، ولا رعية من الرعايا أطوع لملوكها من رعيتنا، فنحن ملوك الناس، ومن بعدنا ملك السباع وهو ملك الترك الذي يلينا، وبعدهم ملك الفيلة وهو ملك الهند، ونجده عندنا ملك الحكمة لأن أصلها منهم، وبعده ملك الروم، وهو عندنا ملك الرجال، لأنه ليس في الأرض أتمَّ خلقاً من رجاله ولا أحسن وجوها، فهؤلاء أعيان الملوك، والباقون دونهم)(18).

وهكذا. فإذا كان ملك العراق يتميز بأنه -وأن ملكه يقع في وسط الدنيا- أوسع ملكاَ، فإن ملك الصين يتميز حكمه بدقّة النظام الذي يسوس به رعيته، وملك الترك بالشجاعة، وملك الهند لامتلاكه الفيلة، وأيضاً لأن ملكه منبع الحكمة، وملك الروم لتميز شعبه بتمام الخلقة والجمال، فجعل المؤلف العربي ملك الصين نفسه يعترف بتفوق العرب، دون أن يغمط الأمم الأخرى ما تتسم به من فضائل، وقد ذكر السيرافي في موقع آخر من مذكراته، (لأن أهل الهند والصين مجمعون على أن ملوك الدنيا المعدودين أربعة، فأول من يعدون من الأربعة: ملك العرب، وهو عندهم إجماع... أنه ملك أعظم الملوك، وأكثرهم مالاً، وأبهاهم جمالاً، وأنه ملك الدين الكبير (يقصد هنا الإسلام) الذي ليس فوقه شيء، ثم يعدّ ملك الصين نفسه بعد ملك العرب، ثم ملك الروم، ثم بلهر (أي ملك الهند)(19).

وقدّم السيرافي سلسلة من المقارنات الثقافية ما بين الصين والهند، وهي خلاصة تجربته، ومشاهداته، هذا إذا نظرنا إلى الثقافة على أنها الأسلوب العام لحياة الجماعة، ونشمل كل ما يرتبط بالحياة الاجتماعية أو الفردية بالبيئة الاجتماعية، كالعادات والمعتقدات والطقوس والآداب، وجاء في هذه المقارنة (لأهل الهند قضاة يحكمون بينهم... وكذلك أهل الهند.. وأهل الصين والهند يزعمون أن البدّد تكلمهم) والصين والهند يقتلون ما يريدون أكله، ولا يذبحونه فيضربون هامته حتى يموت. ولا يغتسل الهند ولا الصين من جنابة، وأهل الصين لا يستنجون إلا بالقراطيس، والهند يغتسلون كل يوم قبل الغداء ثم يأكلون.

والهند لا يأتون النساء في الحيض... والصين يأتونهن في الحيض.. وأهل الهند يستاكون، ولا يأكل أحدهم حتى يستاك ويغتسل، وليس يفعل ذلك أهل الصين، وبلاد الهند أوسع من بلاد الصين... وبلاد الصين أعمر، وليس للصين ولا للهند نخل ولهم سائر الشجر.

وليس لأهل الصين علم وإنما أصل ديانتهم من الهند، وهو يزعمون أن الهند وضعوا لهم البِددَ، وأنهم في أهل الدين، وكلا البلدين يرجعون إلى التناسخ، ويختلفون في فروع دينهم.

الطب بالهند والفلاسفة، ولأهل الصين أيضاً الطب، أكثر طبهم الكي، ولهم علم بالنجوم، وذاك بالهند أكثر...

وبلاد الصين أنزه وأحسن، أكثر الهند لا مدائن بها، وأهل الصين في كل موضع لهم مدينة محصنة عظيمة، وبلاد الصين أصح وأقل أمراضاً وأطيب هواءً، لا يكاد يرى بها أعمى ولا أعور ولا من به عاهة، وهذا كثير في بلاد الهند...

وفي بلاد الهند مفاوز كثيرة، والصين كلها عمارة، وأهل الصين أجمل من أهل الهند، وأشبه بالعرب واللباس والدواب)(20).

تجار وتجارة ومدن تجارية

لم تنحصر علاقات العرب بالصين على العلاقات السياسية، أو تبادل الرسائل، والرحلات، والمعارف، بل صاحب ذلك كله علاقات تجارية نامية، وما يرافقها من متبادل للمنافع وللتعارف، ولقد أدرك المصنفون العرب هذه الصلات، واتجاهاتها، وموضوعاتها، وأورد ابن خرداذبة، في معرض حديثه عن (مسلك التجار اليهود والراذانية) أن هؤلاء التجار يمضون في البر (إلى السند والهند والصين، فيحملون من الصين المسك، والعود، والكافور، والدار الصيني، وغير ذلك... حتى يرجعون إلى القلزم، ثم يحملونه إلى الفرما (في مصر)، ثم يركبون في البحر الغربي (البحر المتوسط)، فربما عدلوا بتجاراتهم إلى القسطنطينية، فباعوها إلى الروم، وربما صاروا فيها إلى ملك الفرنجة فيبيعونها هناك)(21)، وأورد بزرك رحلة تاجر يهودي، من دار الخلافة، إلى الصين، فدخل بلد اسمه (لوبين) وهو من مدن التيبت في الصين، وأنه سلك إليه بين جبال شاهقة، وأن وعورتها حتمت أن (يحمل المتاع إليه على الغنم، لأن صعود جباله مثل الدرج لا يستطيعه إلاّ الغنم، فوجد في البلد (ملكاً كبيراً له قدر وجلالة عظيمة الشأن) فدخل إليه (وهو يجلس على سرير من ذهب مرصع بالياقوت (وعليه حلي مثل النساء، وزوجته إلى جانبه عليها أكثر مما هو عليه، وفي رقبته أطواق من ذهب وزبرجد... وعلى رأسه نحو من خمسمائة جارية) فقال له الملك (يا عربي هل رأيت أحسن من هذا - يعني طوقاً مرصعاً من أطواقه)، فقال له، نعم (معي واحدة اشتريتها بمال عظيم)، ولما عرض عليهما الطوق الذي يحمله، ورآه الملك (سجد من ساعته لها، وسجدت امرأته). ووهبا لها مكافأة (لها قدر عظيم)(22). وذلك لأن ملوك الصين، كما يقول بزرك مولعون بالجواهر.

ولا يُخفى على المسعودي وعورة الطريق البري إلى الصين، فهناك أنهار عظيمة للصين (تجري من بلاد الترك والتيبت والصغد، وهي بين بخارى وسمرقند، وهناك جبال النوشادر)، منها يحمل النشادر، إلا أن هذه الجبال خطرة في الصيف، لاحتمال أن تشتعل النوشادر من فوق الحرارة، إلاّ أنها في الشتاء تبدو سالمة، فمن أراد من بلاد خراسان أن يسلك إلى بلاد الصين، عليه أن يسلك واد بين تلك الجبال، طوله أربعون ميلاً أو خمسون، فيأتي إليه أناس هناك، على فم الوادي، (فيرغبّهم في الأجر النفيسة فيحملون ما معه على أكتافهم... حتى يخرجوا إلى ذلك الرأس من الوادي). لأن الحيوانات لا تستطيع المرور هناك، والمسافة من (بلاد خراسان على الموضع الذي ذكرناه إلى بلاد الصين نحو أربعين يوماً)(23). غير أن المسعودي ينبهنا إلى، وجود طرق أخرى، للتجارة مع الصين تمر في بلاد الأتراك، وهي (مما يسلكه البهائم نحو من أربعة أشهر، إلا أن ذلك في خفارات أنواع من الترك)(24). ويخبرنا أيضاً أنه رأى (بمدينة بلخ شيخاً جميلاً، ذا رأي وفهم، وقد دخل الصين مراراً كثيرة، ولم يركب البحر قط، ورأيت عدد من الناس ممن سلك من بلاد الصغد على جبال النشادر إلى أرض التيبت والصين)(25).

أما المروزي، فدلنا على طريق تجاري آخر ينطلق من كاشغر، (فالقاصد نحوهم (نحو الصين) للتجارة أو غيرها يسلك من كاشغر إلى باركند في أربعة أيام، ومنها إلى خُتن في أحد عشر يوماً، ومنها إلى كروبا في خمسة أيام، ومنها إلى ساجو في خمسين يوماً، ومن هناك تفترق الطرق إلى الصين)(26).

وفصّل الإدريسي معالم هذا الطريق، متوقفاً عند كاشغر كمحطة كبرى للتجارة مع الصين، ليقول له: (ومدينة كاشغر من بلاد الصين، وهي مدينة عامرة كثيرة الخيرات، مشتملة البركات، فيها متاجر وبضائع، وأسفار وحركات.. ومن مدينة كاشغر إلى مدينة خيغون ثماني مراحل، ومدينة خيغون مدينة عامرة من مدن الصين والقاصد إليها كثير، وبها التجارات الكثيرة، وبأرضها توجد دواب المسك والزباد)(27). وأشار اليعقوبي، وكان معاصراً لأبي زيد السيرافي، إلى هذا الطريق. مبيناً انه (من أراد الصين على البر، فإنه سار في نهر بلخ وقطع بلاد السند، وفرغانه والشاش والتيبت، حتى يصير إليها)(28).

وكان للعرب دراية واسعة بخطوط التجارة البحرية مع الصين، ودونوا ذلك في مؤلفاتهم، وتناولوا هذه التجارة من جميع جوانبها، وسجل بعضهم وصول السفن الصينية إلى مرافئهم العربية حتى القرن التاسع الميلادي، وهو ما نجده عند السيرافي، وتبعه في ذلك ابن الفقيه، (أن أكثر السفن الصينية تحمل من سيراف، وان المتاع يحمل من البصرة وعمان، وغيرها إلى سيراف، فيعبأ في السفن الصينية بسيراف، وذلك لكثرة الأمواج في هذا البحر، وقلة الماء في مواضع معينة)(29). وأشار المقدسي البشاري، إلى أن سيراف (كانت حينئذ دهليز الصين)(30). كما نبه الإدريسي، وغيره، إلى أهمية عدن في هذه التجارة، وإلى السلع المستوردة من الصين، فيقول: (ومدينة عدن صغيرة، وإنما شهد ذكرها لأنها مرسى البحرين، ومنها تسافر مراكب السند والهند والصين، وإليها يجلب متاع الصين مثل: الحديد والفرند، والكيمخت (أي الحرير المشجر) والمسك، والعود، والسروج، والغضار، والفلفل والدار فلفل، والنارجيل، والهرنوة، والقاقلة، والدار صيني، والخولجان، والبسباسة، والإهليلجيات، والأبنوس، والذبل، والكافور، والجوزبوا، والقرنفل، والكبابة المتخذة من الحشيش، والثياب العظيمة المخملة، وأنياب الفيلة، والرصاص القلعي، وغيرها من القنا، والخيزران، وأكثر السلع التي تبحر بها إلى سائر البلاد)(31). وتطرّأ اليعقوبي في تاريخه، إلى الطريق البحرية التجارية التي تعبرها السفن الذاهبة والآيبة ما بين الموانئ العربية والصينية، فذكر أن للصين بلاداَ واسعة، إذا أراد أحد السفر إلى الصين بحراً، يجب عليه أن يجاوز سبعة أبحر، يختلف كل واحد منها، في اللون والريح والأمواج، وغيرها من المخلوقات البحرية، وأول هذه البحار بحر فارس (يبحر فيه التاجر من سيراف وينتهي برأس الجمجمة، والثاني يقال له بحر لا روي، والثالث الهركند، حيث توجد جزائر سرنديب، والرابع بحر كلاه بار، الذي فيه أشجار الكافور، والخامس بحر شلاهط الذي فيه العجائب، والسادس كندرج، والسابع صنخي، ويقال له أيضاً كنجلى (وبحر صنخي حسب الجغرافية الصينية هو بحر تشان هاي الذي يلتقي ببحر آخر يقال له كنجلى)، ويقول اليعقوبي عن بحر صنخي أنه (بحر الصين، وإنما يسار فيه بريح الجنوب حتى يصيروا إلى بحر عذب عليها المسالح والعمران، حتى ينتهوا إلى مدينة خانقو)(32). وتعقب ابن خرداذبة طريق التجارة البحري إلى الصين بدءاً من الفورما في مصر على البحر الأحمر (القلزم)، إلى جده (ثم يمضون إلى السند والهند والصين فيحملون من الصين المسك والعود والكافور والدار صيني، وغير ذلك)(33). وكان العرب ينظرون إلى الصين كموطن للبضائع الكمالية الدقيقة الصنع، وقد علّق الثعالبي من نيسابور في القرن الحادي عشر ميلادي على ذلك بقوله: (إن العرب كانوا يسمون كل إناء دقيق أو غريب الصنع، وما شابه ذلك، بغض النظر عن مصدره الحقيقي: (الصيني)، لان الأشياء الدقيقة الصنع من اختصاص الصين)، ويتابع في ذكر خزفهم الدقيق والشفاف وحريرهم المنوع الألوان، وأقمشتهم المطرزة بخيوط الذهب - ومعاطفهم المحمية من المطر، بواسطة الشمع، ومناديل المائدة المصنوعة من الحرير الصخري ومراياهم المصنوعة من الفولاذ وكانت هذه المنتجات تصل العرب بواسطة الطريق البحري(34).

وكانوا أيضاً على معرفة بالمرافئ الصينية، وطريقة تعامل الصينيين مع القادمين من التجار العرب، وتطرأ ابن خرداذبة إلى هذا الموضوع، مع تقدير المسافات التي تفصل بين المدن الصينية الساحلية، والسلع التي تشتريها، فذكر أن (لوقين هي أول مرافئ الصين، مائة فرسخ في البر، فذكر أن من الصنف (أو صنخي)، (إلى لوقين (تونكين Tonken) هي أول مرافئ الصين، مائة فرسخ في البر والبحر، وفيها الحجر الصيني، والحرير الصيني، والغضار الجيد الصيني، وبها أرز، ومن لوقين إلى خانفو، وهي المرفأ الأكبر مسيرة أربعة أيام في البحر، ومسيرة عشرين يوماً في البر، وفيها الفواكه كلها والبقول والحنطة والعشير والأرز، وقصب السكر، ومن خانفو إلى خنجو (Hangochow) مسيرة ثمانية أيام، وفيها مثل مافي خانفو، ومن خانجو إلى قانطو مسيرة عشرين يوماً، وفيها مثل ذلك، ولكل مرقى من مراقي الصين نهر عظيم تدخله السفن)(35). وأشار المروزي أيضاً إلى أن (الطريق إلى الصين من جانب البحر، فأول مرفأ من البحر إليه يقال له لوقير ثم مدينة خانقو، وهي أعظم من لوقير وهو مرفأ عظيم، وبها نهر ماء عذب كبير يخترق البلد، وعليه جسور وعلى جانبيه أسواق التجار الغرباء، وعلى جانبه الآخر أسواق أهل المدينة، وأكثر من يقصدهم من التجار الفرس والعرب، والفرس يركبون المراكب إليهم من سيراف والعرب من البصرة)(36). وعلمنا من المروزي، على الطريقة التي تدير فيها سلطة المدينة العلاقة مع التجار وطريقة تعاملهم مع العرب المسلمين خاصة، ففي هذه المدينة محصل الضرائب مندوباً عن ملك الصين، (يجمع أمتعة التجار، ويأخذ منهم العشر)، ولا ينسى إطراء أخلاق أهل المدينة، فهم أصحاب (وفاء وأمانة وصدق لهجة)، وفي هذه المدينة تصنع (الغضائر الصينية والكواغد الحسنة (ورق حريري) التي يكون أحد وجهيها أبيض والوجه الآخر أصف، والحرير الصيني الجيد، ولباس أهلهم الخفاتين)(37). وتخضع المدينة لنظام ثابت، إذ ينصرف الناس إلى بيوتهم مساء (فإذا غربت الشمس قرع الطبل في الجانبين ينصرف كل فريق إلى مواضعهم، فمن وجد بعد ذلك من الفريقين في سوق غيره أدّب وغُرّم). والبضائع التي تستوردها من التجار، وأكثرها من بلاد العرب والهند (أنياب الفيل والفلفل، والزجاج والزعفران والفولاذ وخشب الطرفا والحور وجميع الفواكه اليابسة كالتمر والزبيب) وملكهم (يكرم التجار ولا يظلم أحداَ ممن يرد ناحيته.. يأخذون من التجار الذين يردون هذه المدينة من جميع ما معهم من كل عشرة ثلاثة، ويكون نصفة لصاحب الجيش والنصف ينفذ إلى ملك الصين)(38). ويخضع التجار القادمين في المراكب لنظام دقيق، إذ متى وصل المركب إليهم خرج إليه الأمناء والكتاب من أهل البلد، فيكتبون عدد ما في المركب من النساء والصبيان والعبيد، ثم يكتب اسم صاحب المركب، وأسماء الذين معه، ويثبتون جميع ما في المركب من الأمتعة، وكل من كان أنظف ثياباً وأحسن كان أكرمهم عندهم، وهو ما يشير على اعتنائهم بالنظافة، ويحرصون على ألاّ يقع (بخس وضرر بالبائع والمشتري)(39). وأشار السيرافي من قبل، إلى أن هذه المدينة (خانفو) وهي مجمع التجار، وأن المسلمين فيها يحتكمون إلى قوانينهم فحسب، إذ فيها (رجل مسلم يوليه صاحب الصين الحكم بين المسلمين الذين يقصدون إلى تلك الناحية، يتوخى ملك الصين ذلك، وإذا كان في العيد صلي بالمسلمين، وخطب ودعا لسلطان المسلمين، وأن التجار العراقيين لا ينكرون من ولايته شيئاَ، وفي أحكامه وعمله بالحق، وبما في كتاب الله -عز وجل-)(40).

إلا أن كتاب العرب سجلوا انقطاع الاتصال المباشر بين المراكب العربية التجارية إلى مرافئ الصين. كما خسرت الجاليات العربية مراكزها الكبرى في المدن الساحلية الهندية، ولا سيما في مدينة خانفو، ودوّن تلك الواقعة كلّ من السيرافي، والمسعودي، وأصبحت العلاقة بين التجارة الصينية والهندية تلتقي تبادلاتها في (كله)، وهي مدينة تقع كما بينوا ذلك في منتصف الطريق بين البلاد العربية والصين، فنقرأ عند المسعودي أن كله (هي النصف من طريق الصين أو نحو ذلك، وإليه تنتهي مراكب أهل الإسلام من السيرافيين والعمانيين في هذا الوقت، فيجتمعون مع من يرد من أرض الصين في مراكبهم، وقد كانوا في بدء الزمان بخلاف ذلك، وذلك أن مراكب الصين كانت تأتي بلاد عمان وسيراف وساحل فارس والبحرين والأبلة والبصرة... ولما عدم العدل (ويقصد في الصين) وفسدت النيات، وكان من أمر الصين ما وصفناه التقى الفريقان في هذا النصف)(41).

علّل المسعودي والسيرافي هذا الانقلاب الكبير في السياسة الصينية، في اضطراب الحكم، وذلك لاغتصاب ملك شرير الحكم في عام (264هـ - 878م)، فكتب المسعودي: أن الأمور في الصين لم تزل (مستقيمة في العدل حسب ما جرى به الأمر فيما سلف من ملوكهم إلى سنة أربع وستين ومائتين، فإنه حدث في الملك أمر زال به النظام، وانقضت به الأحكام والشرائع... وهو أن نابغاً نبغ فيهم من غير بيت الملك كان في بعض مدائن الصين يقال له بانشو، وكان شريراً يطلب الفتنة، ويجتمع إليه أهل الدعارة والشر)، ومع الأيام، اشتد أمره، ونما ذكره، وقويت شوكته وشن الغارات على العمائر حتى نزل مدينة خانفو، وهي مدينة عظيمة على نهر عظيم، تدخل هذا النهر (سفن التجار الواردة من بلاد البصرة، وسيراف وعمان ومدن الهند، وجزائر الزابج، والصنف، وغيرها من الممالك، بالأمتعة) وفي هذه المدينة (خلائق من الناس مسلمون ونصارى ويهود ومجوس، وغير ذلك من أهل الصين) فقصدها هذا العدو وحاصرها، وأتت جيوش الملك فهزمها، وافتتح مدينة خانفو عنوة، (فقتل من أهلها خلقاً لا يحصون كثرة، وأحصى من المسلمين والنصارى واليهود والمجوس ممن قتل وعزق خوف السيف فكان مائتي ألف)(42).

قضت هذه الحادثة -الكارثة- على الجاليات العربية الإسلامية في المدن الساحلية الصينية، وانقطعت من مفاعيلها الصلات المباشرة بين مرافئ الصين، والمرافئ العربية، فتحولت هذه التجارة إلى مرافئ الأرخبيل الأندونيسي، ولا سيما مرفأ (كله)، الذي هو في منتصف الطريق بين الصين وبلاد العرب، ولقد نوه الباحثون المعاصرون بهذه الأحداث ذاتها، فكتب آدم ميتز (وتؤيد التواريخ الصينية ما حكاه بحريو العرب من القضاء على المراكز والجاليات التجارية في الصين، ولا سيما في مدينة خانفو، حوالي سنة 880م، ذلك أن شريراً في الصين كما يقول المسعودي، قضى على أٍسرة تنج، وأفسد أمور الصين، وفتح خانفو... وقتل من أهلها مائتي ألف من المسلمين ومن غيرهم، وباضمحلال أمر هذه الأسرة فسد كل شيء في جنوب الصين واختفت معالم التجارة البحرية من هناك)(43). وكما أشار أحد الباحثين، في سياق تعرضه لذلك التحول الصيني، (ولكن حدث في 266هـ - 879م أن اندلعت ثورة في الصين بقيادة هوانج - شو، أعقبها تغير سياسة الصين تجاه التجار الأجانب، فأغلقت موانيها أمامهم، فلجأ معظمهم إلى شبه جزيرة الملايو)(44).

غير إن المؤلفين العرب أشاروا، إلى أن هذه الحالة من الانقطاع لم تستمر، فعادت الأمور إلى ما كانت عليه، فإن بزرك روى في القرن العاشر الميلادي، عن ذهاب تاجر اسمه (كاوان) من عُمان إلى المرافئ الصينية في العقد الثاني من القرن العاشر، وقابل ملك الصين (بغبور)(45). كما دوّن المروزي، وهو من أبناء القرن الحادي عشر ميلادي، معلومات واسعة عن وجود مراكز تجارية عربية في خانفو، ووصول التجار العرب إليها، كما ورد معنا سابقاً. وهذا ما يتوافق مع الأبحاث المعاصرة، إذ كتب متز، (إن حكومة الصين بذلت في نهاية القرن العاشر (ميلادي) جهداً كبيراً لاجتذاب التجارة الأجنبية الآتية من البحر إلى الصين رأساً، وأرسلت بعثه تدعو التجار الأجانب... للحضور إلى الصين... وفي ذلك العصر وما جاء بعده تذكر روايات كثيرة عن تجار مسلمين زاروا بلاط إمبراطور الصين، واستقبلوا هناك استقبالاً مملوءاً بالمودة)(46).

وسجل ابن بطوطة في رحلته إلى الصين. في القرن الرابع عشر، كثافة الوجود العربي والإسلامي في الصين، وعلى سواحلها، وازدهار التجارة العربية فيها، وكان قد وصل الصين وهي تحت حكم المغول، الذين تحولوا إلى الدين الإسلامي، وفتحوا الطريق أمام المسلمين لدخول الصين والاستقرار فيها، وجاءت زيارة ابن بطوطة في هذه الفترة، وتجول في مدنها، فتحولت مذكراته إلى سجل حافل عن حياة المسلمين، ونشاطهم الكبير في حياة المدن الصينية(47).

وكانت أول مدينة وصل إليها ابن بطوطة، هي التي يسميها (الزيتون)، ويعتقد البعض أنها كانتون نفسها، وأن محقق كتاب ابن فضل الله العمري، يضعها بين مدينة أموي وفوتشينو، وثالث يعتقد أنها جوان شو (Tch – Jung) الحالية، ولعل الأرجح أنها مدينة كانتون، لأن مواصفاتها عند ابن بطوطة تشابه، ما يذكره الباحثون العرب الآخرون عن خانفو، أي كانتون، وصفها ابن بطوطة بأنها (مدينة عظيمة كبيرة، تصنع فيها ثياب الكمخا والاطلس، ومرساها من أعظم مراسي الدنيا، أو هو أعظمها)، وقد رأى فيها مائة (جنك) كبير، أي مركب كبير، ووجد من الجنك الصغيرة ما لا يحصى، ومرفؤها، (خور كبير من البحر يدخل في البر حتى يختلط بالنهر العظيم)، وما يهم هنا أنه رأى فيها (المسلمين ساكنين بمدينة على حدة)، وتعرّف على قاضي المسلمين فيها، وكبار التجار، وإذا قدم التجار المسلمون إليها (فرحوا أشد الفرح، وقالوا: جاء في أرض الإسلام) فلا يشعر المسلم الغريب بالغربة(48).

وانتقل إلى ما سماه مدينة (صين الصين) ويعتقد أنها مدينة (مهاجين) الحالية، ومعناها الصين الكبرى، وهي حسب محقق كتاب الجغرافيا، لابن سعيد المغربي هي (عاصمة منزي في ولاية فوكين الحالية، فرأى فيها جالية عربية ومسلمة(49)، وعندما انتقل إلى مدينة أخرى سمّاها (الخنسا)، التي يعتقد أنها هانج جو الحالية، قال عنها (أكبر مدينة رأيتها على وجه الأرض طولها مسيرة ثلاثة أيام)، وهي مقسمة إلى (ستة مدن) أولها يسكنه حراس المدينة وأميرهم، وثانية يسكنها (اليهود والنصارى والترك وعبدة الشمس)، والثالثة، يسكنها المسلمون (ومدينتهم حسنة، وأسواقها مرتبة كترتيبها في بلاد الإسلام، وبها المساجد والمؤذنون,... ولها زاوية تعرف بالعثمانية، حسنة العمارة، وبها طائفة الصوفية... وعدد المسلمين بهذه المدينة كثير)(50). وهو وصف لمدينة إسلامية في اكتمال مواصفاتها، وهو ما يعبر عن الحرية التي يتمتع بها المسلمون بهذه المدينة، وبالصين عموماً، فيتنقل التجار العرب والمسلمون بهذه البيئة الاجتماعية المرحّبة بهم بكل أمان وحرية.

الدين والطقس

لامس العرب من بعيد أحياناً، وعن قرب أحياناً أخرى، مكتبياً وتجريبياً، المناخ الديني للصين، وروح الاتجاهات العامة لدياناتها، إذا أشاروا إلى انتشار عبادة الأسلاف لدى الصينيين، وإلى انتشار الاعتقاد بقداسة الملوك (أبناء السماء) وإلى عبادتهم للأصنام، وانتقال ديانة ماني إليهم من فارس، وديانة السمنية أي البوذية من الهند، وإلى انتشار ما سموه الثنوية وإلى إغلاق الصين أبوابها أمام النسطورية، وهي إشارات لها مصداقية، وإن كان ينقصها العرض المنهجي للمذاهب.

والحال، كان الصينيون قبل وصول الديانات الأجنبية إليهم، يتخذون الأجسام السماوية والظواهر الطبيعية معبودة لهم، أما الحكماء الذين ظهروا في الصين بعد هذا الزمن، مثل (لاوتسي) و(كونفوشيوس) و(مونشيوس)، فلم يأتوا بكتاب مقدس، إلاّ أن كلامهم يوحي بالاعتقاد فيما وراء الطبيعة، فالطريقة عند (لاوتسي) ليست بصوت ولا بصورة، وهو تعريف يتوافق مع تصور لإله متعالي، وأما (السماء) في عقائد كنفوشيوس، فهي عنده صاحبة السلطة العليا، وليس هناك فرق كبير بين سماء كونفوشيوس وسماء مونشيوس وبقي الصينيون محافظين على دياناتهم القديمة، حتى بعد أن اعتنق أكثرهم الديانة البوذية التي وصلتهم من الهند، إذ لم تستطع أن تحدث تغييراً جذرياً في اعتقاداتهم القديمة، مع أنها أثّرت في آدابهم وفلسفتهم، فالرجل المتدين في الصين لا يجد حرجاً في الجمع بين هذه العقائد والمبادئ التي ترجع إلى دياناتهم المختلفة، فهو يمكن أن يكون بوذياَ وكونفوشسياَ، ولا وتسياَ، وفي وقت واحد(51).

ولقد انتشرت بالفعل، ولو على نطاق ضيق، ديانات أجنبية أخرى: المانوية والمجوسية والنسطورية، دخلت المانوية إلى الصين في القرن السابع ميلادي، عن طريق تركستان، فانتشرت في شمال الصين، كما انتشرت المجوسية قبل بزوغ الإسلام بقرن، واتسعت دائرة نشاطها، بعد لجوء بزدجرد إلى الصين إثر سقوط فارس بيد العرب، ولكن أنصارها اقتصروا على فئة ضيقة، ما لبثت أن اندثرت آثارها في سنة 846م إثر اضطهاد أباطرة الصين لها، أما الديانة النسطورية فوصلت إلى الصين في سنة 635م تقريباً مع داعية لها يدعى اولوبن (Oloben) استوطن جانغ - آن وبنى معبداً نسطورياً فيها، إلاّ أن هذه لم تثمر في الصين، وتلاشت في القرن التاسع ميلادي(52).

كان سليمان التاجر من أوائل الذين تعرضوا للديانة الصينية بالبحث، فقدم ملاحظتين: الأولى قال فيها إن (أهل الصين يعبدون الأصنام، ويصلون إليها ويتضرعون إليها، ولهم كتب دين)(53). ونوه في الثانية بأن (أصل ديانة الصين من الهند)(54)، وفي ذلك إشارة إلى انتقال البوذية من الهند إلى الصين، وهو ما يطابق الحقائق التاريخية’ التي لم تكن بعيدة عن وعي ابن طاهر المقدسي، والمسعودي، والمروزي، وابن النديم، والنويري، الذين أضافوا معطيات أخرى على المشهد الديني الصيني، فالمروزي والمقدسي أشارا إلى المذهب المانوي، فنظر المروزي إلى تقديسهم التماثيل باعتباره (تعبّد وتقرّب، لأن ماني أمرهم بذلك، وغرّهم بقول الفلاسفة، فإنهم قالوا: في حد الفلسفة إنه التقبل بالله بحسب الطاقة الإنسانية)(55). ونقرأ عند المقدسي (ويزعمون أن أهل الصين منهم الثنوية والسمنية ولهم فرخارات (أمكنة عبادة) فيها أصنام يعبدونها) وأضاف (أنهم يسجدون للشمس والقمر والكواكب والنار، وكل ما استحسنوا من شيء خرّوا له سجداً)(56). وحفظ ابن النديم (377هـ - 987م) حواره مع الراهب النجراني مبعوث الجاثليق (النسطوري)، إلى بلاد الصين، بصحبة خمسة من الدعاة للمذهب النسطوري، مكثوا هناك ست سنوات، ورجعوا عام (377هـ - 982م)، فسأله ابن النديم عن الصين ودياناتها ومذاهبها، فأعلمه الراهب النجراني أن (أكثرهم ثنوية، وسمنية، وعامتهم يعبدون الملك ويعظمون صورته) إلى درجة أنهم إذا شاهدوا صورة الملك وقع عليهم الأفطل والرعدة والجزع، حتى ربما فقد الواحد عقله أياماً)(57). ثم أخبر ابن النديم (أن النصارى الذين كانوا ببلد الصين فنوا وهلكوا).، وختم ابن النديم هذا الحوار، بتقرير أن عبادتهم للأصنام، ليست موجهة للصنم بحد ذاته بل اتخاذهم لها واسطة (تقربهم إلى الله زلفى، وأن (من سنة الصين تعظيم الملوك والعبادة لها، على هذا أكثر العامة، أما مذهب الملك وأكابر الناس، فثنوية وسمنية)(58). ومنذ وقت مبكر، أكد اليعقوبي، على أن مذهب عبادة الأسلاف يمتزج لدى الصينيين بتقديس ملوكهم، وأن ملك (عرون) شيّد الهياكل، وعمل فيها صوراَ لأبية، وجعلها في صدر الهيكل، فكان إذا دخل الهيكل، سجد لتلك الصورة تعظيماً لصورة أبيه)، كما عمل، أيضاً، ابن عرون بعد وفاة أبيه، صورة له من ذهب مكلل بالجواهر والرصاص والنحاس (اتخذها أهل مملكته جميعاً في مدنهم وبلداتهم، وقالوا: ينبغي للرعية أن تعمل صورة ملك قد ملكها من السماء)(59).

ولعل أشمل صورة موضوعية، وشاملة عن الدين الصيني، قدمها المسعودي، إذ جمع بين الموضوعية، وفهم الموضوع من الداخل، وبين الشمول، وهو يقترب بذلك بعرضه للديانة الصينية، بعرض البيروني للديانة الهندوسية، والاثنان نظرا إلى عبادة الأصنام هنا وهناك، على أنها واسطة أو رمز للوصول إلى التعالي المجرد، الواحد، كما ميزا بين ديانة العامة التي تعتمد التمثيل والتجسيد، وإيمان الخاصة التي تعتمد على التجريد للوصول إلى الوحدانية.

لم يغب (التاريخ) عن عرضه لظهور المذاهب، وتفرعاتها، فالحلقة المركزية التاريخية لتطور تلك المذاهب تبرز عنده مع الملك الذي يسميه (توتال)، فهو الذي رتب لهم (سياسة شرعية، وفرائض عقلية وجعلها لهم رباطاً). وهو الذي رسّخ بموته، وتعظيم أهل الصين له، عقيدة عبادة السلف المندمجة بقداسة الملوك، إذ جعل الصينيون يوم وفاته صلواتاَ وعيداً يجتمعون فيه عند ذلك الهيكل، وصوروا صورته على أبواب المدينة، وعلى الدنانير والفلوس، على الثياب)(60).

وإن كان قد أرجع بذور هذه العقيدة، إلى تقليد أسبق ينسب إلى ملوك الصين، ولا سيما إلى زمن ما سمّاه (الملك عيثون) الذي جعل جسد أبيه مخزوناً في تمثال من الذهب الأحمر... وكان يسجد له، ويبدأ بجده الأول ثم أبيه، وأهل مملكته يسجدون له)(61) وقدموا القرابين للهياكل، التي تحتوي هذه الصور الملكية المقدسة. وأوقدوا البخور، وعملوا لهؤلاء الأجداد تماثيل من الأحجار والأشجار. وآمنوا بقدرة الكواكب على مصيرهم ومصير العالم المحيط بهم، (فجعلوا لكل كوكب منها وقتاً بتقربون فيه إليه بدخن (بخور) معلوم من أنواع الطيب والعقاقير)(62)، كما أشار إلى أتّباعهم للديانة البوذية، ديانة السلف ويسميها السمنية التي كان يعرف أنها أتتهم من الهند، أو كما قال: (وهو رأي الهند)، كما أن لهم (آراء ونحل حدثت عن مذاهب الثنوية، وأهل الدهر)(63).

ولاحظ المسعودي أن المذاهب الدينية الصينية اتخذت، بالنهاية، الأصنام والصور مقاصد للعبادة، مشبهاً إياها بعادات العصر الجاهلي القرشي، أو كما قال: (عباداتهم نحو من عبادات قريش قبل مجيء الإسلام: يعبدون الصور، ويتوجهون نحوها بالصلوات)(64). غير أن المسعودي قد ميّز في داخل عبادة الأصنام هذه بين مقصدين للمتعبدين، بين جاهل يشرك بها، لأنه يتوجه إليها بالعبادة فحسب، وعابد ينظر إليها كواسطة للاقتراب من الله، والتقرب منه، أو كما يقول بصدد عبادة الأصنام والصور: (اللبيب منهم يقصد بصلاته الخالق، ويقيم التماثيل من الأصنام والصور مقام قبلة) أي كمحطة مقدسة يتوجه عبرها المؤمن إلى الخالق، (والجاهل منهم، ومن لا علم له، يشرك الأصنام بإلهية الخالق، ويعتقدها جميعاً، وأن عبادتهم الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، وأن منزلتهم (أي للأصنام) في العبادة تنغص عن عبادة الباري لجلالته وعظمته وسلطانه، وأن عبادتهم لهذه الأصنام طاعة له ووسيلة له، وهذا الدين كان بدء ظهوره في خواصهم من الهند لمجاورتهم إياه)(65).

وعزا المسعودي انتشار مذهب الثنوية في الصين، (والقول بالنور والظلمة)، وقوعهم تحت تأثير المانية، (نسبة إلى ماني) وأحد دعاتها الذي (زخرف لهم كلاماً يريهم فيه من تضاد ما في هذا العالم، وتباينه من موت وحياة، وصحة وسقم، وضياء وظلام، وغنى وفقر، واجتماع وافتراق، واتصال وانفصال، وشروق وغروب، ووجود وعدم، وليل ونهار، وغير ذلك من سائر المتضادات) ويستمر المسعودي في عرض حجج الرجل الماني التي قدمها لأهل الصين ليفتنهم بمذهبهم، فذكر لهم: أنواع الآلام المعترضة لأجناس الحيوان من الناطقين وغيرهم مما ليس بناطق من البهائم، وما يعرض للأطفال والبله والمجانين، وأن البارئ جل وعز غني عن إيلامهم، وأراهم أن هناك ضداً شديداً، دخل على الخير الفاضل في فعله، فاجتذبت حجج الداعية هذه بعض الصينيين، الذين فيهم، حسب تعبيره من (الشُّبه في عقولهم) فدانوا للمانية(66).

وختم المسعودي عرضه هذا لمذاهبهم الدينية المختلفة، بما فيها تلك التي قارنها بديانة العصر الجاهلي، بالتأكيد على أن هذا الاختلاف في مجال الشرائع والديانات، لم يؤثر على رصانة العقل الصيني، وذلك بقوله: (وملوك الصين ذوو أراء ونحل، إلاّ أنهم، مع اختلاف أديانهم غير خارجين عن قضية العقل والحق، وفي نصب القضاة والحكام، وانقياد الخواص والعوام)(67).

*****************

الحواشي

*)كاتب وباحث من سورية.

1 – القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد. دار صادر. بيروت 1960م، ص53.

2 - توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام. ترجمة حسن إبراهيم حسن. مكتبة النهضة المصرية القاهرة. بدون تاريخ، ص252.

3 – الطبري: أبو جعفر بن جرير، تاريخ الرسل والملوك ج4. تحقيق أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف القاهرة. بدون تاريخ، ص167.

4 - المصدر نفسه: ص167 - 168.

5 – البلاذري: الإمام أبو العباس محمد بن يحيى بن جابر، فتوح البلدان، تحقيق عبد الله أنيس الطباع..دار النشر للجامعيين، بيروت 1957م، ص435 - 436 والمسعودي التنبيه والإشراف. ج1 وزارة الثقافة، دمشق، ص55.

6 – بزرك: بن شهريار الناخذاه الرامهر مزي. تحقيق. محمد حبشي. المجمع الثقافي. أبو ظبي. 2000م، ص87.

7 - القاضي الرشيد بن الزبير: كتاب الذخائر والتحف. حققه محمد حميد الله سلسلة (التراث العربي 1) تصدرها دائرة المطبوعات والنشر في الكويت. الكويت 1959م، ص10 - 11.

8 - المصدر نفسه: ص11.

9 – اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي ج2 دار صادر، بيروت، ص302.

10 - توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام. ص252.

11 - الطبيب شرف الزمان طاهر المروزي: أبواب في الصين والترك والهند، لندن، كمبرج، 1942م، ص5-6.

12 - ياقوت الحموي: معجم البلدان. مجلد 3. ج12. دار صادر، بيروت، 1955م، ص443 – 444.

13 – الجاحظ: أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ. الحيوان. الكتاب الأول. ج7. تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. 1945. ص13.

14 – الطبري: ج6. ص501-502 وابن الأثير. الكامل في التاريخ. ج4. دار الكتاب العربي 1967م، ص135.

15 – الطبري: المصدر نفسه. ص502 وابن الأثير. المصدر نفسه ص136.

16 – الطبري: المصدر نفسه. ص502-503 و وابن الأثير. المصدر نفسه ص136.

17 – السيرافي: أبو زيد الحسن، تحقيق عبد الله الحبشي، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 1999م رحلة السيرافي ص60-61 والمسعودي، أبو الحسين علي بن الحسين، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج1، مطبعة السعادة، ط4. مصر، 1964م، ص143.

18 – السيرافي: المصدر نفسه. ص61، والمسعودي المصدر نفسه. ص143.

19 – السيرافي: ص33.

20 - المصدر نفسه: ص50-51 وابن الفقيه أبوبكر أحمد بن محمد الهمداني. مختصر كتاب البلدان، ليون مطبعة بريل، 1302م، ص10-11.

21 - ابن خرداذبة: أبو القاسم عبد الله بن عبد الله، المسالك والممالك، مطبعة المثنى، بغداد، بدون تاريخ ص154.

22 – بزرك: ص110-112.

23 – المسعودي: مروج الذهب. جض ص156.

24 - المصدر نفسه: ص156.

25 - المصدر نفسه: ص157.

26 – المروزي: ص6.

27 - الشريف الإدريسي: كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، مكتبة الثقافة الدينية، دون مكان، وتاريخ، ص203 - 204.

28 - اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي ج 1، دار صادر، بيروت، ص208.

29 – السيرافي: ص24 - وابن الفقيه، ص11.

30 – المقدسي: شمس الدين أبي عبد الله البشاري. أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم,، ليدن، 1909م، دار صادر، بيروت، ص426.

31 – الإدريسي: ص54.

32 – اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي ج1. ص207 – 208.

33 - ابن خرداذبه: ص153.

34 - عن. س. أي. بوسوروث. آسيا الوسطى. تراث الإسلام. قسم أول. سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت، 1980م، ص186.

35 - ابن خرداذبة: ص69.

36 – المروزي: ص10.

37 - المصدر نفسه: ص10.

38 - المصدر نفسه: ص10.

39 - المصدر نفسه: ص11.

40 – السيرافي: ص24.

41 – المسعودي: مروج الذهب، ج1، ص140.

42 - المصدر نفسه: ص138، السيرافي ص54 والنويري. من نهاية الأرب، ج 14، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرة العامة للتأليف والترجمة، القاهرة، بدون تاريخ ص331.

43 - آدم ميتز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع هجري. ج2، تحقيق محمد عبد الهادي ريده، مطبعة لجنة التأليف والنشرط2، القاهرة 1948م، ص325.

44 - شوقي عبد القوي مكاوي: تجارة المحيط الهندي في عصر السيادة الإسلامية سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1990م، ص195 وحوراني، ص26.

45 – بزرك: ص128-129.

46 – ميتز: الحضارة الإسلامية ج2 - ص356، ومكاوي ص75.

47 - إبراهيم أحمد العدوي: ابن بطوطة في العالم الإسلامي. اقرأ 144 دار المعارف. مصر 1945م، ص17- 18.

48 - ابن بطوطة: رحلة ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار. دار الشرق العربي، بيروت دون تاريخ ص490.

49 - المصدر نفسه: ص491 – 492.

50 - المصدر نفسه: ص494 – 495.

51 - بدر الدين: الحي الصيني، ص141-142.

52 - المصدر نفسه: ص142-144.

53 – السيرافي: ص49.

54 - المصدر نفسه: ص50.

55 – المروزي: ص4.

56 - ابن طاهر المقدسي: كتاب البدء والتاريخ ج4. ص19-20.

57 - ابن النديم: الفهرست. ص504 – 505.

58 - المصدر نفسه: ص507.

59 – اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، ج1. ص205.

60 – المسعودي: مروج الذهب. ج1. ص135 والنويري ج14 326 – 327.

61 - المصدر نفسه: (المسعودي). ص133.

62 - المصدر نفسه: ص135.

63 - المصدر نفسه: ص136.

64 - المصدر نفسه: ص136.

65 - المصدر نفسه: ص136. والنويري من نهاية الأرب ج14. ص328.

66 - المصدر نفسه: ص137.

67- المصدر نفسه: ص138.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=448

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك