هل تفسّر المرجعيّة الدينيّة عنف الجماعات التكفيريّة؟
عمار بنحمودة
غالبا ما يربط الباحثون بين ظاهرة العنف التي تمارسها الجماعات التكفيريّة والمرجعيات التراثيّة، ومنطق تلك المقاربات خلفيات متباينة بعضها علميّ غايته البحث في الجذور الفكريّة للجماعات التكفيريّة العنيفة، وسنده في هذا البحث إعلان كثير من تلك الحركات عن مقولات ترتبط بابن تيميّة (ت 728هـ/ 1328م) ومحمّد بن عبد الوهّاب (ت 1206 هـ/ 1791م) وسيّد قطب (ت 1966م) والمودودي (ت 1979م). فتكون النتيجة بحثا عن أثر تلك المقولات في تلك التنظيمات؛ وأهمّها مقولات التكفير والحاكميّة والجاهليّة والجهاد والخلافة. أمّا البعض الآخر، فواقع تحت تأثير الرؤية المذهبيّة التي تتأسّس عليها أحكامهم، وهي رؤية إيديولوجيّة غايتها إدانة التطرّف السنّي رغبة في تصفية الحسابات التاريخيّة التي تعود جذورها إلى زمن الفتنة ومحن الشيعة.
ونتيجة لهذين الاتجاهين، فقد وقع التركيز على مرجعيّات السلفيّة الجهاديّة[1] وإهمال علاقة تلك التيّارات بالواقع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، وهو ما يدعونا إلى النظر في عنف الجماعات التكفيريّة في إطار أكثر شمولا، لا يكتفي بالنظر إلى المرجعيّة التراثيّة ولا بالرؤية المذهبيّة، وإنّما يبحث عن الأسباب الموضوعيّة المتصلة بالأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، [2] وهي نظرة لا تعدم أثر المرجعيّة الإسلاميّة للعنف، ولكنّها تفترض أنّ ذلك العنف سيجد آليّات أخرى لتصريفه، حتّى في ظلّ غياب المرجعيّة الدينيّة. ونقصد بذلك المرجعيّة الثوريّة القائمة على الإيديولوجيات، أو الحركات الشعبيّة الناتجة عن سبل للتواصل بين الجماهير وآليات رقميّة لحشد الجماهير وتنظيم الاحتجاجات. إنّه باختصار محاولة للخروج من أيسر السبل لتفسير العنف التكفيريّ نحو مسالك تتشابك فيها العوامل السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وتتدخّل فيها القوى الشعبيّة تدخّل القوى الأجنبيّة في عصور أضحت الحدود واهية والسماء مفتوحة والقيود محطّمة. ولعلّ ذلك ما جعل "علي حرب" يتحدّث عن ثورات القوّة الناعمة.[3] ولعلّ نعومتها تتمثّل في كونها تكسر الحدود والحواجز السلطويّة دون عنف أسلحة الانقلابات العسكريّة، إلاّ أنّ عنفها سائل وأثرها أكبر في المجتمعات.
إنّ سجلاّت العنف في التاريخ السياسيّ العربيّ غير خفيّة عن الملاحظين؛ فقد مارست الأنظمة على اختلاف شرعياتها العسكريّة أو القوميّة أو الإسلاميّة أصنافا شتّى من الرقابة والعنف ضدّ الحركات السياسيّة وأصحاب الرأي. وقضت سياسة الحزب الواحد في أغلب الدول الإسلاميّة إلى تبرير العنف ضدّ الخصوم وتحويل كثير من الدول إلى معسكرات تدين للقائد الواحد وحزبه. وإنّه لمن الصعب تصوّر أن تلك الحقب من الكبت السياسيّ والعنف المسلّط على الأفراد والجماعات المعارضة سينزل بردا وسلاما على الشعوب المضطهدة؛ فقد انعكس عنف الدولة أو عنف الدول المستعمرة عنفا مضادا. ومن منطق محاكاة العنف نشأت مقولات الجاهليّة والتكفير السياسيّ والهجرة والتوحّش والجهاد والخلافة. فقد جسّدت كلّ تلك المقولات العنف القائم بين الجماعات التكفيريّة العنيفة والنظم الدولتيّة أو الاستعماريّة. فالقسمة الثنائيّة هي أساس كلّ تلك المقولات وعمدتها.
فالشعور العميق بالاغتراب وغياب الأطر الإنسانيّة لحريّة التعبير هو الذي ولّد فصلا بين أفراد وجماعات تتصوّر نفسها ضحيّة وترتدي أقنعة الأنبياء وصحابتهم وجماعات ألبست أقنعة الجاهليّة والكفرة. فقد اشتغل المتخيّل الدينيّ لإحياء تلك الثنائيّات. ووفّرت الأحداث التاريخيّة بسرديّاتها ملامح مسرحة العنف ومحاكاة لسيناريوهات التقابل بين الجماعات المؤمنة والجماعات الكافرة. وقد نزعت إلى رسم متخيّل يجعلها صاحبة الحقّ ويجعل أعداءها كفّارا وجب وسمهم بالجاهليّة وتغيير أنظمتهم الطاغوتيّة بأنظمة إسلاميّة شعارها الخلافة ووقودها الجهاد الحربيّ. وقد ساعد الواقع على إعادة تمثيل الأدوار التاريخيّة ومحاولة استعادة اللحظة الثوريّة التي نقلت شبه الجزيرة العربيّة من الجاهليّة إلى الإسلام. وقد عملت الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة على تقوية هذا التماثل في متخيّل الجماعات التكفيريّة. فقد تصوّرت "الطواغيت" يستأثرون بموارد الدول لأنفسهم، ويقرّبون أتباعهم ويحتكرون التصرّف في الثروات. ولذلك، فقد أضحى الوجه الآخر للتماثل بين المرجعيّة الدينيّة وبرامج الجماعات التكفيريّة هو محاولة إعادة القسمة والاستيلاء على الغنائم التي توفّرها السلطة، وليكون سبيلها غير السبل التي تهب الحكومات القائمة الشرعيّة السياسيّة. فقد كان مفهوم الخلافة محاولة احتكار الشرعيّة وسدّ الطرق في وجه التيارات السياسيّة الأخرى، وهو الأمر الذي يفسّر مفهوم الحاكميّة، باعتباره مفهوما يقصي كلّ التصوّرات السياسيّة الأخرى بحكم "دنسها" وقدرتها على إيجاد مسالك أخرى لشرعيّة تعارض الاستبداد باستبداد بديل والعنف بعنف مضاد، فارتدت ثوب جلاّدها دون وعي منها.
سمة العنف الإنساني أنه يتأسس على معقولية . وقد وجد العنف التكفيريّ في الديّن مبرّرا لمشروعه
غير أنّ العنف القائم على مبدأ المحاكاة لا يمكن أن يفسّر لوحده قدرة تلك التيارات على التحوّل من تنظيمات محدودة العدّة والعدد إلى دول لها نفوذها ومؤسساتها.
فتجربة "داعش" تؤكّد أنّ تلك التنظيمات لا تستفيد من مجرّد وجود أطراف داخل الدولة تبحث عن سبل لانتزاع الحكم بقوّة السلاح. والحصول من وراء ذلك على مكاسب مادّية ورمزيّة بالمفهوم الدّيني، وإنّما تستفيد أيضا من الصراعات الإقليميّة والدوليّة. فاتّجاه الإرادة الدوليّة والقوى الخارجيّة إلى إسقاط نظام "صدّام حسين" ودعم المجهودات الحربيّة للإطاحة بنظام "بشّار الأسد" وفّرا الأرضيّة الخصبة لقيام دولة داخل الدولة. فتنظيم "داعش" هو ثمرة سقوط النظام العرقيّ وتفكيك جيشه الوطنيّ وهو أيضا ثمرة الصراع التي خاضها النظام السوريّ ضدّ من جنّدوا لقتاله والإطاحة بحكمه. والقوى الخارجيّة ذاتها هي التي حوّلت الظروف في العراق وسوريا من ظروف ملائمة لانتشار التنظيم وتمدّده إلى ظروف غير ملائمة حين اجتمعت إرادة النظام مع الدعم الروسي للإطاحة به، إلاّ أنّ الحدود التي يقف عندها كثير من الباحثين قد تحجب عنهم كثيرا من الحقائق حول الجماعات التكفيريّة العنيفة. فهي في النهاية حركات تمرّد تستند إلى مرجعيّة إيديولوجيّة وتجد ظروفا داخليّة وخارجيّة ملائمة، وتتلقّى دعما من أطراف إقليميّة ودوليّة لها مصلحة من وراء انتشارها، وهي ظاهرة إن قارنّاها مع سائر الحركات المتمرّدة في العالم وجدناها تتشابه معها في البحث عن مبرّر إيديولوجيّ لشرعيّتها وعنفها، سواء أكان هذا المبرّر دينيّا أم سياسيّا وفي كونها تواجه العنف الدولتي بعنف مضاد وبمقولات تحتكر بها الشرعيّة.
من هنا يمكن أن تقودنا المقارنة إلى البحث عن وجوه التشابه بين تنظيم "داعش" والتنظيمات الفاشيّة والنازيّة، ولكنّها تطرح أسئلة حول سبب ارتباط العنف بتضخيم دور المرجعيّة الدينيّة وفهم المقاصد الإيديولوجيّة من وراء الإصرار على الارتباط بالإسلام، باعتباره دين العنف والإرهاب والكراهيّة والحال أنّ مسالكه التأويليّة متعدّدة، ولا يمكن اختزالها في بعد دون آخر.
لا يمكن للباحث أن يتغافل عن انتشار العنف الذي تتبنّاه جماعات ضدّ الدولة، سواء أكانت المبرّرات ثوريّة سياسيّة أم دينيّة. فقد قامت في أوروبا حركات فاشيّة ومثلها قامت حركات تمرّد في أمريكا الجنوبيّة وفي جميع القارات. وقد بلغ عنف النازيّة جرّها العالم إلى حرب عالميّة أزهقت فيها أرواح أكثر من خمسين مليون من البشر. فنقاط الالتقاء بين تلك التنظيمات العنيفة في الإيمان الدوغمائيّ بتفوّق العرق أو الجماعة هو الذي يقود حتما إلى استعداء الآخر واستباحة دمه.
تتعدّد الأصوات السرديّة التي ترسم صورة متخيّلة للإرهاب الإسلاميّ. ولكنّ الصوت الطاغي بينها هو صوت الغالب: إنّه صوت المركزيّة الغربيّة المعتدّة بمركزيّتها، والتي تتصوّر الوعي الدينيّ وعيا مارقا عن العصر طوته عصور التقدّم وأنهكته العلمنة. وبحكم مركزيّتها، فقد ضخّمت من عنف تلك التنظيمات وصيّرتها العدوّ البديل عن الشيوعيّة. إنّه الاستثمار في الخوف ومتخيّل النصر على العدوّ الذي لن يكون ذا قيمة ما لم تتضخّم صورته. وقد عبّر "سلمان سيّد" عن هذه الرؤية بصدام "الأسلمة" و"الغربنة" معتبرا أن المشروع الإسلاميّ هو مشروع مناهض للعولمة.[4] إنّ ذلك المتخيّل هو الذي يعدّ سيناريوهات عدوّ إرهابيّ رجلاه من صلصال يكون الانتصار عليه تحقيقا للبطولة وتجاهلا للأسباب التي أضحى بها العدوّ عدوّا. فالتركيز على النتيجة يعمي الجمهور عن أسباب المعركة وعلّة العداء؛ فالإعلام يتبنّى تأويلا ينزع إلى عزل العنف عن سياقاته الواقعيّة وربطه بمرجعيّاته الدينيّة رغبة في النظر من زاوية واحدة "للإرهاب الإسلاميّ". تتجاهل الزاوية الأخرى التي يمكن أن تكشف علاقته بالعولمة وتوحّش النظام العالمي الجديد الذي انفرد بالسلطة بعد سقوط الشيوعيّة وجدّد أساليبه الاستعماريّة وتدخّل في شؤون الدول وقدّم مصلحته على كلّ الاعتبارات الإنسانيّة.[5]
إنّه لمن الصعب الاعتراف بأنّ توحّش النظام العالمي الجديد هو الذي ولّد توحّش الجماعات التكفيريّة. فالاعتراف يعني إلقاء المسؤوليّة على عاتق الدول العظمى وكشف القناع عن المصلحة المتدثّرة بعباءة الديمقراطيّة وحقوق الإنسان[6]: مقدّسات العالم الجديد. وإنّه لمن البداهة القول إنّ الدول العظمى هي من فرضت تغييرا قسريّا على الأنظمة بتصنيفها إلى دول صديقة وأخرى مارقة، وما المارق إلاّ من تتعارض سياسته مع إرادة القويّ، وهي من دعّمت حركات التمرّد في كثير من الدول. فالجماعات الأصوليّة عاجزة عن صناعة سيف، ولولا الدعم الخارجيّ لما استطاعت الحصول على رصاصة واحدة. وما الأسلحة المتطوّرة التي قاتلت بها سوى أدوات لتنفيذ استراتيجيات تخدم مصالح الأقوياء وأداء لمهمّة الحرب بالوكالة.
خلاصة القول إنّه لو افترضنا جدلا غياب المرجعيّة الدينيّة، فإنّ هذه التنظيمات ستتّخذ من روافد إيديولوجيّة أخرى مبررات لقيامها. فسمة العنف الإنسانيّ أنّه يتأسّس على معقوليّة. وقد وجد العنف التكفيريّ في الديّن مبرّرا لمشروعه.
[1] "تيّار "السلفيّة الجهاديّة" هو مصطلح أطلق على بعض جماعات الإسلام السياسيّ التي تتبنّى "الجهاد" منهجا للتغيير، وقد برز بداية كتيّار فكريّ في نهاية الثمانينيات. ويعلن قادة أو كوادر هذا التيّار أنّه يتّبع منهج سلف المسلمين، وأنّ الجهاد أحد أركانه، والذي يجب وجوبا عينيّا على المسلمين ضدّ العدوّ المحتلّ، كما ضدّ النظام الحاكم المبدّل للشريعة الإسلاميّة ويحكم بالقوانين الوضعيّة، أو ضدّ النظام المبالغ في الظلم والقهر، وكلّ ذلك من دون وضع معايير واضحة لهذه الأنظمة المستهدفة والجهة المخوّلة بأن تعلن الجهاد ضدّها." زينب مروّة، محمّد شكر، الحركات السلفيّة والتكفيريّة، رؤى وممارسات، ط1، بيروت، باحث للدراسات الفلسطينيّة والاستراتيجية، 2016، ص108
[2] تميّز أمارتا سن بين العنف الإرهابيّ وسائر أنواع العنف. فأشكال العنف الإرهابيّ تكسر "بطريقة مقصودة القواعد الإنسانيّة الأساسيّة في السلوك، لذلك فهي بانتهاكها الأعراف الاجتماعيّة كافّة تثير الغضب، ولا يمكن تجاهلها." أمارتا سن، السلام والمجتمع الديمقراطيّ، ترجمة روز شوملي مصلح، ط1، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016، ص ص 80، 81
[3] انظر: علي حرب، ثورات القوة الناعمة في العالم العربيّ، من المنظومة إلى الشبكة، ط2، بيروت، الدّار العربيّة للعلوم ناشرون، 2012
[4] انظر: سلمان سيّد، استعادة الخلافة، تفكيك الاستعمار والنظام العالمي، (ترجمة محمّد السيّد بشرى)، ط1، بيروت، الشبكة العربيّة للأبحاث، 2018، ص 63- 80
[5] يقدّم سلمان سيّد تصوّرا يعبّر عن رؤية المحافظين الجدد وتعريفهم الإسلام، باعتباره "جوهرا ثقافيّا عابرا للتاريخ مختلفا بشكل غير قابل للاختزال عن المفاهيم العالميّة للحضارة، ممّا جعله مشابها للشيوعيّة في غيريّته الجذريّة." سلمان سيّد، استعادة الخلافة، تفكيك الاستعمار والنظام العالمي، ط1، بيروت، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2018، ص53
[6] يتحدّث خير الدين حسيب عن التحوّل الذي شهدته سياسة الولايات المتحدة الأمريكيّة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي من الاعتماد على القوّة العسكريّة، باعتبارها المعيار الأوّل والرئيس لتحديد من هي القوى الكبرى في العالم إلى التركيز على العامل الاقتصادي للحفاظ على موقع القوّة. انظر: خير الدين حسيب، العراق من الاحتلال إلى التحرير، ط1، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2016، ص 106