مؤسّسات المجتمع العربيّ وصناعة الأفراد: الأسرة والمدرسة أدوات في إنتاج العنف
مقدّمة
هل العنف في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة اختيار ذاتيّ ونهج فرديّ أم هو حصيلة سياقات اجتماعيّة كالتنشئة العائليّة والتمدرس؟ وكيف تمارس مؤسّسات المجتمع العربيّ أعتى أشكال العنف على أعضائها، وتفلح في غرس جملة من المعتقدات والممارسات، وتجعل من الشباب مالكا لاستعدادات التطرّف؟ بأيّ معنى نتفهّم عنف الفرد العربيّ: هل هو قدر تاريخيّ وثقافيّ فُرض على الشباب العربيّ أم هذا الشباب نفسه صنيعة بيئته المجتمعيّة يكرّر تعليماتها، ويستنسخ مفاهيمها ويلتزم بكونها المشترك من الأفكار والاعتقادات، فيكون عنفه وتطرّفه امتدادا لعنف أكبر مترسّخ في العائلة والمدرسة مثلا؟ يقدّم بيير بورديو P.Bourdieu تصوّرا ناجعا لهذه الأحجية يتمثّل في مفهوم العنف الرمزيّ الذي تمارسه مؤسّسات المجتمع أو بنى الهيمنة كالعائلة والمدرسة والفضاء العامّ بطريقة لامرئيّة وممنهجة وتستزرعه في أفرادها، حتّى يضحى فطريًّا وطبيعيًّا، ولكنّهم بدورهم يعيدون إنتاجه[2]. في هذا السياق، نفهم إشكاليّة العنف والتطرّف في حياة الشباب العربيّ الذي وجد نفسه في خضمّ حركات أصوليّة وجهاديّة تحوّل طاقاته واستعداداته إلى فورة عنيفة تنتج الدمار والهلاك محلّيّا وعالميّا، فكأنّما عنف الشباب العربيّ ونزوعه إلى التطرّف حصاد سياسات عائليّة ومدرسيّة مغلوطة وغير قويمة.
وقد أثارت نزعات التطرّف العنيف أسئلة محرجة عن بواعث هذه العنف وعوامل شيوعه في الفئات الشابّة وغيرها في المجتمعات العربيّة على اختلاف مجالاتها وسياقاتها وخصوصيّاتها، ولئن حاول الكثير من المختصّين وصل ذلك بالبيئات الاجتماعيّة وما فيها من بؤس وحرمان أو بتداعيات العولمة وما خلّفته من تصدّعات أو بضيق المجال السياسيّ واستحالة المفاوضة ضمنه؛ فإنّ آخرين يشيرون إلى أسباب هيكليّة بنيويّة تمسّ مؤسّسات المجتمعات العربيّة كالأسرة والمدرسة اللتين أخفقتا في تأصيل معرفة ناقدة وعلميّة وواعية في عقول الناشئة، ولم تفلحا في بناء ذوات مفكّرة في العالم وظواهره، قائمة على الإرادة الحرّة والمسؤولة، وعلى استعداد لقبول التنوّع والاختلاف. وبهذا، فعنف الشباب العربيّ أو المسلم وتطرّفه في جزء كبير منهما محصّلة تنشئة مغلوطة وعجز عن الاحتضان من قبل العائلة والمدرسة في آن معا.
ولكن كيف يمكن للأسرة العربيّة، رغم ما يقال عن مكانتها الاعتباريّة وأدوارها التأسيسيّة والتاريخيّة، أن تتحوّل إلى فضاء يؤصّل العنف في أفرادها، ويزرع فيهم استعدادات الانغلاق والدوغمائيّة ورفض التواصل مع الآخر ومقابسته؟ وفي نفس السياق، ألفت المدرسة العربيّة بكلّ مستوياتها نفسها في موضع مساءلة محرجة: هل ما تقدّمه من مضامين تربويّة ومعرفيّة يليق برهانات الحاضر ويمكّن الشباب من مواطنة فاعلة تراعي الاختلاف، وتقبل بالعيش المشترك أم على النقيض من ذلك تسلبهم القدرة على المبادرة والتفكير خارج الثوابت والإيمان بأنّ الآخر شريك في المعرفة والحقيقة والحياة معا، وتحوّلهم إلى كائنات تؤمن بالعنف والتطرّف وتمارسهما؟ لذلك تسعى هذه المقاربة التحليليّة المتواضعة إلى إبراز العلاقة العضويّة الجدليّة بين عنف الشباب العربيّ وجنوحه إلى التطرّف من جهة وعجز الفضاءين الأسريّ والمدرسيّ عن الاحتواء والتوجيه.
1 ـــ مؤسّسة الأسرة وثقافة الاستبداد
تُعدّ الأسرة نموذجا مجتمعيّا مصغّرا يختزل الحسّ المشترك والجمعيّ الذي تواضع عليه أفراد المجتمع، وصار وعيا ملزما ومتعاليا وتبادليّا؛ فالأسرة تمتلك سلطة عمليّة ورمزيّة وشرعيّة في تشكيل أفرادها ليتطابقوا مع النموذج العامّ أو "الشخصيّة القاعديّة" التي تراعي "النماذج المثاليّة" Les modèles idéaux التي تلتزم بطائفة من الاعتقادات والأفعال و"تختبر فعلا معياريّا يقصي التصرّفات التي تنحرف كثيرا عن المعايير التي تقترحها"[3]. ولكن ماذا تقدّم الأسرة لأفرادها؟ وكيف تتمكّن من زرع هذه الأعراف والقيم أو منظومة المفاهيم في أجسادهم وعقولهم؟ يمكّن فعل التنشئة الاجتماعيّة Socialisation من خلال التلقين وطقوس العبور والاحتواء والتدريب على النماذج المقبولة والمرفوضة، الأسرة من التحكّم المرن والذكيّ في أفرادها وإنتاجهم اجتماعيّا وثقافيّا وسياسيّا وفق نموذج معلوم ومضبوط ومشترك كانت الجماعة قد أرست معالمه وقواعده منذ أزمنة غابرة. وبهذا، فالشابّ العربيّ في نزعاته وميولاته منتوج هذه الأسرة يحمل بصماتها وتعكس أفعاله السلبيّة والإيجابيّة سياساتها وتوجّهاتها.
تُعدّ الأسرة نموذجا مجتمعيّا مصغّرا يختزل الحسّ المشترك والجمعيّ الذي تواضع عليه أفراد المجتمع
وبما أنّ الأسرة واحدة من أجهزة المجتمع، فهي ملتزمة بالأجندة التي وضعها حتّى تنسجم مع النظام المؤسّسيّ برمّته عن طريق الترسيب Sedimentation والتقليد Tradition، لأنّ الممارسات أيّا يكن مجالها وفاعلوها وسياقاتها هي أنظمة مؤسّسيّة ومعياريّة وإلزاميّة يتشارك فيها أعضاء أيّة جماعة ثقافيّة بفعل عمليّة التواطؤ الجمعيّ التي تحوّلها إلى مسلّمات مفهوميّة وعمليّة في آن هي جوهر الأدوار والمؤسّسات التي يقوم عليها النظام الاجتماعيّ، لأنّ "إنجاز الدراما يعتمد على الأداءات المكرورة لأدوارها المحدّدة من طرف الفاعلين الموجودين"[4]. وهذا يجعل الفرد في الأسرة بوصفه مظروفا بسياق ثقافيّ جمعيّ يتقاسم مع جمهوره وعيا مشتركا أو شبكة ذهنيّة Mental Network تضمّ حشودا من المعتقدات والادّعاءات والتمثّلات تكوّن "لغة مشتركة ونظاما من المفاهيم"[5]. ولكن كيف تسهم الأسرة العربيّة في خلق استعدادات العنف والتطرّف في عقول أفرادها؟
من الوظائف الجوهريّة والحاسمة التي تنهض بها الأسرة العربيّة اثنتان محوريّتان في إنتاج العنف والانغلاق على الذات، وهي: صورة الآخر وتشريع العنف؛ فالآخر على تنوّع صوره موضوع تلقين دائم وأساسيّ في مهامّ الأسرة التي تصطنع منه عدوّا يتهدّد الأفراد، ويستدعي الحيطة والاحتراس الدائمين، لأنّ "وجود الآخر هو واقع غامض في الجوهر ومربك" و"يثير المخاوف والقلق"[6]. إلّا أنّ الآخر قد يتّخذ هذه الوضعيّة لمجرّد حدوث اختلاف في اللون أو الانتماء المجتمعيّ أو الدين أو اللغة أو الثقافة بما يوسّع مجاليه المفهوميّ والعمليّ ليضيّق من مفهوم الذات ويزيدها انحسارا وانغلاقا، وهو ما يعزّز إمكانات المواجهة والصدام المادّيّ والرمزيّ بين الذات المنفردة بهويّة مفترَضة والآخر المتخيَّل خطرا وعدوّا بما ينعكس على المخيال والاستعدادات النفسيّة والروابط الاجتماعيّة والخطاب الثقافيّ برمّته؛ ففي "عمليّة وجود الآخر تُسلّط مشاعر السخط والعدوانيّة والكراهيّة على من يُعتبرون أشخاصا غرباء أو ثقافات غريبة على نحو خطير"[7]. وهذا الآخر في منظور العائلة، قد يكون الجار أو القريب أو المخالف في الموقف أو نماذج ثقافيّة في وسائل الإعلام أو في المجتمع تتباين عنّا في الملبس أو الفكرة.
إنّ كره الآخر أو استعداءه قد يتحوّل من مجرّد فكرة أو شعور إلى فعل أو ممارسة تتّخذ أشكالا عنيفة من الجريمة الفرديّة والجريمة المنظّمة إلى النشاط الإٍرهابيّ الذي يترجم هذه التلقينات والتعليمات الأسريّة، ويكفي أن نتفحّص أدوار الأسر في الاحتراب الطائفيّ والمواجهات الإثنيّة وما تلقّنه لأفرادها من معارف ومعلومات وإشارات تشمل اللون والعرق والدين والطائفة من النعوت إلى الصور المنمّطة ذات المضامين السلبيّة. لكنّ الأسرة لا تكتفي بهذا الدور فحسب، بل تتحوّل إلى فضاء لممارسة العنف وتشريعه؛ فالعنف الرمزيّ ينتشر في كلّ التفاصيل من ألوان الملبس وطرائق المشي وأشكال التخاطب اليوميّ إلى سحر الأشكال والطقوس والكلمات، فهو يقوم على "تحوير علاقات السيطرة والخضوع إلى علاقات حميميّة وتحويل السلطة إلى أهليّة، أو إلى سحر خاصّ يثير الابتهاج العاطفيّ"[8]. وبما أنّ العنف الرمزيّ نظام صامت وطبيعيّ قائم على الخضوع والقبول، فهو يُمارس في كلّ تفاصيل المعيش اليوميّ، والشباب العربيّ في عنفه المتنوّع ونزعاته المتطرّفة هو ثمار لسياسات العنف الرمزيّ المتأصّل.
وبما أنّ الأسرة العربيّة والمسلمة قائمة على ترتيبات بطريركيّة صلبة تحترم الأدوار والتراتبيّة الجندريّة، فهي توزّع السلطة في مواردها ومسالكها ومواقعها وفق هذه الاعتبارات، فاستحواذ الرجل أبا أو أخا على الموارد الماليّة وسلطة اتّخاذ القرارات وإدارة تفاصيل الحياة اليوميّة وامتلاك آليّات الرقابة والمعاقبة أو التحفيز والتبخيس ضرب من العنف المادّيّ والرمزيّ الذي يلغي الشراكة في المسؤوليّات والمساواة في توزيع الأدوار ويخلق نوعا من الفجوة الجندريّة Gender Gap بين الرجال والنساء. ولكن كيف يصنع هذا الوضع جنوح الشباب إلى العنف والتطرّف؟ ما يتعلّمه الفرد داخل أسرته وما يتلقّاه يتحوّل إلى دور نموذجيّ يعيد إنتاجه في المجتمع، لأنّ "النماذج الثقافيّة مثل بدلات اللباس"[9] التي تسمح لنا بالانتماء إلى المجتمع والاندماج فيه. وهنا يتحوّل العنف الرمزيّ والمادّيّ داخل الأسرة إلى حالة مجتمعيّة عامّة يستبدّ فيها الرجال بالسلطة ويقهرون النساء في أجسادهنّ وحركتهنّ وأدوارهنّ؛ فالشباب الذين عايشوا العنف الأسريّ المتنوّع سينقلونه إلى طور الممارسة عن طريق تمرير هذا المخزون المعرفيّ وصونه وتبريره بعد أن تحوّل إلى ذخيرة رمزيّة بفعل الممارسة التاريخيّة والتعهّد المستمرّ بما يسهم في ديمومة النظام المجتمعيّ عبر "الكتلة المعرفيّة الجمعيّة"[10]. وما يكرّره الشباب العربيّ السلفيّ الأصوليّ في خطاباته وممارساته عن النساء والمظهر إلّا صورة حيّة على هذه المعتقدات التي زُرعت في عقولهم وذهنيّاتهم في الأوساط العائليّة.
ما يكرّره الشباب العربيّ السلفيّ الأصوليّ في خطاباته وممارساته عن النساء والمظهر إلّا صورة حيّة على المعتقدات التي زُرعت في عقولهم في الأوساط العائليّة.
وتخبرنا تجربة داعش الإرهابيّة في سوريا والعراق وغيرها من المواقع، أنّ عنف أفرادها كان إعادة إنتاج للعنف الأسريّ وخاصّة ضدّ النساء والأطفال، فقد تحوّلت النساء إلى أدوات للمتعة وأغراض للتجارة والتبادل في استجابة لما غُرس فيهم سلفا في محاضنهم الأسريّة. وحتّى أنظمة الرقابة التي مارسها شباب داعش في المجال العامّ على النساء في ألبستهنّ وطريقة حركتهنّ وتصرّفاتهنّ ما هي إلّا ترجمة لمعتقدات وأفكار استزرعتها الأسر العربيّة والمسلمة عن سيادة الرجال وتبعيّة النساء، وعن الصورة المثاليّة للذكر القويّ والأنثى المثاليّة النموذجيّة. وهذا يظهر أنّ الشباب العربيّ منتوجات ثقافيّة لأنماط مجتمعيّة أساسها أسرة تشرّع للعنف وتبرّره بشتّى التعلّات وتمارسه بكلّ الأشكال المرئيّة وغير المرئيّة، فيكون التطرّف أو الجنوح إلى العنف حصيلة تنشئة أسريّة تنهض فيها العائلة بدور محوريّ، ما دامت الأسرة هي المحصن الأوّل والمورد الأساسيّ للقيم والأفكار والتمثّلات التي تصنع الاستعدادات وأنماط السلوك.
2 ـــ الفضاء المدرسيّ وإعادة إنتاج العنف
هل المدرسة فضاء محايد ومستقلّ بذاته عن المجتمع، ويمتلك إرادته الحرّة في صناعة المتعلّمين وتجهيزهم بالمهارات والخبرات والمعارف اللازمة للانخراط في مسار التاريخ؟ لقد كان م. فيبر M.Weber على صواب كبير، عندما وصف المعلّمين والمسؤولين عن الفضاء المدرسيّ بأنّهم "أنبياء صغار أجّرتهم الدولة"[11]، فالمدرسة مؤسّسة محوريّة تواصل ما كانت الأسرة قد شرعت في إقامة لبناته وإرساء صروحه، لأنّ التلقين الأوّل يحتاج إلى تلقين ثان يرسّخه ويتعهّد تفاصيله ويطوّر بعض جزئيّاته، ليلائم أعمار المتعلّمين واحتياجاتهم، بل بعبارة أدقّ لخدمة احتياجات المجتمع وتلبية انتظاراته الاستراتيجيّة من العمليّة التعليميّة. أليس الفضاء المدرسيّ في المجتمعات العربيّة بهذا المعنى من خلال طرائقه البيداغوجيّة ومضامينه المعرفيّة موجّها محوريّا لنزعات الشباب وميولاتهم واستعداداتهم النفسيّة والذهنيّة والاجتماعيّة؟
ليست البنية الاجتماعيّة إلّا جملة النظام المؤسّسيّ الذي يضبط مواقع الفاعلين وأدوارهم، ويعيّن طرائق الأداء بكلّ تنويعاتها، ويحدّد هويّات أفراده وما تستدعيه من التزامات وتقعيدات. لكنّ البنية لا تشتغل من تلقاء نفسها، وإنّما يتقمّصها البشر في عقولهم وأجسادهم، ويفصحون عنها في مجموع أداءاتهم المتضافرة بما أنّهم تشرّبوا الشيفرات الثقافيّة واستدمجوها بطرائق واعية وغير واعية بما يجعل "البنى الاجتماعيّة إذن تتألّف من علاقات اجتماعيّة ممأسَسة"[12]. والفضاء المدرسيّ بوصفه مؤسّسة منخرطة في هذا النظام المؤسّسيّ وملتزمة بتوجّهاته واستراتيجيّاته التي قد تعاني خللا بنيويّا، ووهنا هيكليّا يجعلها تنتج العنف والنزوع إلى التطرّف، ويكفي أن نتفحّص طائفة من الأنظمة الشموليّة في تاريخ الإنسانيّة، لنستنتج ذلك من أنظمة التعليم في ألمانيا النازيّة والمعسكر الاشتراكيّ قبل انهياره إلى أنظمة التعليم زمن حكم طالبان وتنظيم داعش في الرقّة مثلا. وكلّ استعداد نفسيّ أوّلي للعنف ثاوِ في الوعي الباطن للشباب العربيّ، إنّما استمدّ شرعيّته ووجاهته من فضاءاته المدرسيّة ومن طرائق التعليم التي تكرّس الاستبداد ووحدانيّة الرأي والحقيقة المطلقة الغالبة التي تجعلهم أوعية اجتماعيّة حاملة للعنف ومالكة لدوافعه ومبرّراته.
تنهض مؤسّسات النظام المجتمعيّ من العائلة إلى المدرسة بفرض نمذجات ومعايير صارمة تلزم كلّ فرد منخرط فيها بتقمّص البنية الذهنيّة، لأنّ "المعرفة الثقافيّة التي يقع تقمّصها في المؤسّسات الاجتماعيّة تحدّد المستويات والشروط التي تجعل الناس يعيّنون الوضعيّات الاجتماعيّة"[13]. فالفضاء المدرسيّ في المجتمعات العربيّة "ينزع إلى إعادة إنتاج هيمنة الاعتباط الثقافيّ المهيمن فيسهم ذلك في إعادة إنتاج علاقات القوّة"[14]. ويمكن رصد وجهين لانخراط الفضاء المدرسيّ في استزراع العنف والنزوع إلى التطرّف في نفوس الشباب العربيّ وعقولهم، الأوّل يتعلّق بالطرائق البيداغوجيّة. أمّا الثاني، فيتّصل بالمحتويات المعرفيّة. وهذا التآلف بين الطرائق والمحتويات قمين بإنتاج كائنات بشريّة مؤمنة بالعنف ومتملّكة لبواعثه وراغبة في ممارسته بكلّ أشكاله وفي شتّى المجالات من الفضاء البيتيّ إلى المجال العامّ وضدّ كلّ مخالف في الرأي كالعلمانيّ والديمقراطيّ أو العقيدة المسيحيّ أو اليهوديّ أو الجندر كالنساء.
لقد أصبحت الأنظمة التعليميّة المعاصرة تراهن على بناء المهارات وخلق القدرة الذاتيّة للمتعلّمين على الاختيار والقرار، وهذا استدعى تحوّلا جوهريّا في الطرائق البيداغوجيّة، لننتقل من مفهوم التعليم بوصفه تلقينا ووصاية إلى التعلّم بوصفه اكتسابا وتواصلا. لكنّ الفضاءات المدرسيّة العربيّة لا تزال رهينة نماذج تقليديّة من نظام الكتاتيب إلى نظام الجامعات والمعاهد العليا، فالمدرسة تقوم على نظام تراتبيّ يفترض سيادة المؤسّسة وهيمنتها، مثلما يفترض السلطة المطلقة للمعلّم باعتباره مالكا للحقيقة ومنتجا أوحد للمعرفة. فكيف أسهم هذا النمط في زرع العنف واستدماجه؟ يكشف نظام الكتّاب مثلا أنّ المتعلّمين ضحايا ثقافة التلقين التي تمنعهم من مساءلة ما يتعلّمونه ولا مقارعته بالحجّة العقليّة ولا مقارنته بوجوه أخرى للمعرفة، لأنّ المعلّم أو الشيخ يحظى بمكانة اعتباريّة تنزع إلى القداسة تجعله سيّدا على عقول الناشئة وقلوبهم. وهنا تكون أدوات غرس الجنوح إلى العنف، لأنّ المتعلّم سيتحوّل إلى امتداد لشيخه يكتفي باستعراض تلك المادّة الدينيّة أو التاريخيّة أو التربويّة دون أن يفكّر فيها أو يعرضها على محكّ النقد العقليّ.
أصبحت الأنظمة التعليميّة المعاصرة تراهن على بناء المهارات وخلق القدرة الذاتيّة للمتعلّمين على الاختيار والقرار، وهذا استدعى تحوّلا جوهريّا في الطرائق البيداغوجيّة
وفي كثير من الأنظمة التعليميّة العربيّة لا تقتصر الطرائق البيداغوجيّة المنتجة للعنف على الكتاتيب، بل تشمل مستويات التعليم بأكملها من الطور الابتدائيّ إلى الطور الجامعيّ، أين تسود لغة الإقصاء وأساليب الانتقام وأشكال العقاب البدنيّة والمعنويّة وطرائق مصادرة الآراء وفرض الاختيارات في الأفكار والتوجّهات. فهل يمكن لهذه الأنماط البيداغوجيّة أن تنتج شبابا سويّا ومتوازنا روحيّا ونفسيّا واجتماعيّا وقادرا على ممارسة الحوار وتملّك آداب التواصل واستخدام ثقافة الحجاج العقلانيّ؟ قد لا تكون المعضلة البنيويّة محصورة في هذه الطرائق البيداغوجيّة المختلّة والقائمة على مفارقات جوهريّة مع روح العصر ومتطلّبات المواطنة فحسب، بل تنسحب على طبيعة المضامين المعرفيّة والتربويّة التي يتلقّاها المتعلّمون في هذه الفضاءات؛ فهي في مقام أوّل تمجّد الأنا الحضاريّة خالقة نرجسيّة ثقافيّة تجعل الذات مرجعا ومصدرا للحقيقة، وفي مقام ثان تبخّس الآخر وتستهدفه بالتبشيع وتصوّره خطرا وعدوّا.
ولعلّ استكشافا عميقا لمضامين هذه المادّة التعليميّة في كثير من الاختصاصات كفيل بالإبانة عن الآليّات التي تجعل الشباب مؤمنين بالعنف حاضنين له ومتملّكين لاستعدادات أوّليّة قويّة؛ فالمضامين الدينيّة تعود في أغلبها إلى اختيارات تقليديّة تراثيّة تكرّر على مسامع الناشئة مفاهيم "الكفّار" و"المشركين" و"النصارى" و"أهل الكتاب" وتسوّق لتمثّلات عن الجهاد والقضاء على أعداء الإسلام والمنافقين الذين يندسّون في نسيج الأمّة المثاليّة المختارة، ويمزّقون عُراها ويخرّبون مقوّماتها. ألا تخلق هذه المحتويات المعرفيّة قطيعة بين شبابنا من جهة، والثقافات والمجتمعات المخالفة لنا في القيم والعقيدة وأنماط السلوك وطرائق المدنيّة من جهة أخرى؟ وألم تتحوّل المادّة الدينيّة التعليميّة إلى مولّدات للعنف ومحفّزات على التطرّف لا تخلق إلا شبابا مستعدّا للعنف بمبرّرات دينيّة تلقّاها في الفضاءات المدرسيّة؟ والأمر يتكرّر. إن تأمّلنا التعليم الجامعيّ وما فيه من رسائل التخرّج والتخصّص التي يهتمّ كثير منها في مجالات الفقه والتفسير والمذاهب والعقيدة، فهي لا تزال تكرّر معرفة الإقصاء وكره الآخر والقطيعة مع الحداثة فكرا وقيما وأسلوب عيش. وهذا هو أساس العدوانيّة الباطنة والظاهر التي تسكن الشباب العربيّ وتخلق معتقداته وتصوّراته، وتوجّه سلوكياته العنيفة ضدّ الآخر بكلّ صوره من الإنسان الغربيّ إلى العربيّ المخالف في الفكر والمرأة المخالفة لتصوّراته في طرائق الحياة والممارسة.
خاتمة
جميع الأفراد وبلا استثناء صنائع بيئاتهم الاجتماعيّة التي تسخّر أجهزتها ومؤسّساتها لإنتاج كائنات تستجيب لمعاييرها، وتندمج في استراتيجيّاتها الكلّيّة وتلبّي احتياجاتها وانتظاراتها، ولا يمكن أن يتحقّق ذلك إلّا بتنميط الأفراد وتوحيدهم في نموذج واحد يخلق الإجماع "الذي يساهم أساسا في إعادة إنتاج النظام الاجتماعيّ"[15]. وقد لا تكون هذه المصادرة موضوع خطورة إلّا في مجتمعات تعاني اختلالات بنيويّة وجذريّة في قيمها ومفاهيمها، فهذا يسهم آليّا في ديمومة الخلل والوهن ولا يسمح بإحداث تغييرات هيكليّة في أبنية المجتمع وأدواته النافذة في إدارة البشر ونحت هويّاتهم والتحكّم في مصائرهم.
وفي مجتمعاتنا العربيّة التي تكابد محنة العنف من الفضاء المنزليّ إلى المجال العموميّ، لا تزال أنساق تفكيرنا ومدوّنات سلوكنا وطرائقنا في المعيش على ما هي عليه، تولّد من العنف ألوانا ومن الجنوح إلى العدوانيّة أشكالا ومن النزوع إلى التطرّف ضروبا. فالفضاء العائليّ لا زال يكرّس التمييز بين الجنسين ويمنح الرجال السلطة واستحقاق تملّك القوّة، ويجعل من النساء ضحايا عنف مشروع ومبرّر بالقدر الذي تتحوّل فيه مؤسّساتنا التعليميّة إلى مجال خصب وقادر على ترسيخ ثقافة الإقصاء وفلسفة الانغلاق على الذات في ضرب من النرجسيّة الواهمة.
ولكن أيّ سبيل للخلاص من العنف الموجّه والشرعيّ في مؤسّساتنا جميعها؟ إنّ تعديل المفاهيم عن دور الدولة في حياة الأفراد ووظائف الأسرة وحدودها في تنشئة البشر كفيل بخلخلة النزعة التسلّطيّة وتحجيم السلطة المطلقة لأجهزة الدولة. وهو ما يسمح بتوسيع هوامش المبادرة الفرديّة والقدرة على إرساء ضرب من الخصوصيّة في الاختيار والقرار كفيل بكسر التنميطات والمسالك المغلوطة في بناء الذات الجماعيّة وتحريرها من الإملاءات التي أنتجت العنف وأعادت إنتاجه مرارا وفي أشكال مختلفة.
قائمة المراجع:
(مرتّبة هجائيّا)
■ باللسان العربيّ
- بيير بورديو وجان باسرون، إعادة الإنتاج: في سبيل نظريّة عامّة لنسق التعليم، ترجمة: ماهر تريمش، المنظّمة العربيّة للترجمة، لبنان، ط 1، نوفمبر، 2007
- بيير بورديو، أسباب عمليّة، ت: أنور مغيث، الدار الجماهيريّة للنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، 1425 هـ.
- ــــــــــــــــــــــ، الرمز والسلطة، ترجمة: عبد السلام بنعبد العال، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط 3، 2007
- طوني بينيت ولورانس غروسبيرغ وميغان موريس، مفاهيم اصطلاحيّة جديدة، المنظّمة العربيّة للترجمة، بيروت، ط 1، سبتمبر 2010
■ باللسان الأجنبيّ
- Berger, Peter and Luckmann, Thomas, the Social Construction of Reality, Pengiun Books, England, 1966
- Scott, John, Conceptualising the Social World, Cambridge University Press, U.S.A, 2011
[1] نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 51
[2] بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط 3، 2007، ص 48
[3] Linton, Ralph, le fondement culturel de la personnalité, traduit par Andrée lyotard, Dulond, Paris, 1977, p 51
[4] Berger, Peter and Luckmann, Thomas, the Social Construction of Reality, Pengiun Books, England, 1966, p 92
[5] Scott, John, Conceptualising the Social World, Cambridge University Press, U.S.A, 2011, p- p 17-18
[6] طوني بينيت ولورانس غروسبيرغ وميغان موريس، مفاهيم اصطلاحيّة جديدة، المنظّمة العربيّة للترجمة، بيروت، ط 1، سبتمبر 2010، ص 41
[7] نفسه، ص 42
[8] بيير بورديو، أسباب عمليّة، ت: أنور مغيث، الدار الجماهيريّة للنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، 1425 هـ، ص 222
[9] Linton, p 94
[10] Berger and Luckmann, the Social, p 86
[11] بيير بورديو وجان باسرون، إعادة الإنتاج: في سبيل نظريّة عامّة لنسق التعليم، ترجمة: ماهر تريمش، المنظّمة العربيّة للترجمة، لبنان، ط 1، نوفمبر، 2007، ص 121
[12] Scott, John, Conceptualising the Social World, p 150
[13] Ibid, p 153
[14] بورديو وباسرون، نفسه، ص 110
[15] بورديو، الرمز والسلطة، ص 50