تأملات في الحضارة والعروبة والعربية
عبد القادر زينو
يقول الله تعالى في سورة الحُجُرات "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" فالجذر اللغوي "شَعَبَ" للكلمة شعوبًا يدلُّ على الافتراق و تدل الكلمة "شُعوبًا" على التعدد، ومن هذا نستنتج أنّ الله خلقنا مختلفين، يتباعد بعضنا من نَسَب بعض ويقترب، فإنَّ هذا الافتراق والتشعُّبَ أراده الله حتى نحقق "لتعارفوا" إذن فالأنساب والشعوب تبتعد عن بعضها وتجهلُ بعضها بعضًا لتتعارف، وأرى -والله أعلم وأرجو التصويب لو كان خطأً- أن تعارفوا هنا تحتمل أن تكونَ تحملُ معنى التمايزَ والتميُّزَ، فيُعرفُ كلُّ شعبٍ بما يتميَّزُ به، فلربما كان المعنى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتمايزوا أي تختلفوا، و فسّر البعض قوله تعالى في سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ ...." أي خلقهم ليختلفوا وقال تعالى في سورة البقرة "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا" قال المفسرون أي اللغات.
ومن هنا أردت أن يكون مدخلي إلى هذه التدوينة فالاختلاف والتمايز مسموحٌ في الإسلام ولا يراد في الإسلام إجبار النّاس على الدخول في دين لا يؤمنون به، لهذا عاش أصحاب الأديان المختلفة تحت ظل دول الخلافة الإسلامية حتى سقوط آخر خلافة إسلامية وهي الخلافة العثمانية بوئامٍ تامٍ، بعكسِ ما فعلته وتفعله الولايات المتحدة من محاولتها إخضاع العالم وتعبيده لقيم العولمة التي لا يؤمن بها وكل ذلك تحت الحديد ولظى النار، فأبادت شعوبًا بأكملها من الهنود الحمر حتى يقال بأن العدد وصل إلى 120 مليون إنسانًا، فأيةُ حضارةٍ وأية إنسانيّةٍ تزعم أنّها تريد أن تتفضل بها على العالم؟!
ولو دخلنا إلى أي مركز للتسوّق أو ناد للرياضة في أغلب دول العالم حتى الدول المسلمة منها لوجدنا الأغاني الغربية تصدح بأصوات النهيق والنباح والسعال وحتى القيء، قاضيةً على الأذواق السليمة وملغيةً أي فوارقَ بين الشعوب، ولكن هذا التوحيد منحطٌ لأنه يُصدر عن قيمٍ منحطةٍ ولا تكوِّن حضارةً، بعكس الإسلام الذي يحمي الاختلاف ويوحّد بالإقناع والجذب عن طريق المحاككة والمعاملة.
قالت لي معلّمةٌ تركية للغة العربية متذمِّرةً، كلَّما ذهبنا إلى دولةٍ عربيّةٍ نُحدِّثُهم بـ"لغتهم" العربية الفصيحة قابلونا بالحديث بالإنجليزية الأعجمية! فهل هؤلاءِ عَربٌ أمْ أن اللغةَ التي ينتسبون إليها هي العربية؟!
أمَّا العروبة فهي بحاجةٍ لإعادة تعريف ووصفٍ، فيمن هم العربُ الآن؟ وما هي صفاتهم؟ هل العربيّ هو الذي يغدر بأخيه؟! هل العربيّ هو من يقعُد عن نجدة المستغيثين المتعلقين بآخر أهدابٍ لأرماقهم، بل يتآمر ضدهم ويناصر عدوّهم، فهل هذا هو العربي؟! في حين أنّه عُرِفَ حتّى أُوقِنَ أنَّ العربَ أصحابُ النجدةِ والشجاعة والوفاء حتى قال الشاعر ضرار الفهري من البسيط:
إِنّي وَجَدِّكَ لا أَنفَكُّ مُنتَطِقًا .... بِصارِمٍ مِثلِ لَونِ المِلحِ قَطّاعِ
عَلى رَحالَةِ مِلواحٍ مُثابِرَةٍ ..... نَحوَ الصَريخِ إِذا ما ثَوَّبَ الداعي
يقول الشاعر في هذين البيتين أنّه لا يتركُ المستصرخ حتّى ينقذَه بأسرعَ ما يمكنه ذلك واضعًا سيفه إلى خاصرته ينتطق به وهو يطير إلى المستنجِد على فرسٍ سريعةٍ إذا ما كرر الصريخُ نداءه، فكم نادت فلسطين ولا مجيب؟! فهل هذا هو العربيّ؟!
وإذا أتينا إلى جانب اللسان نرى أنّه كثيرٌ ممن يُدعَونَ عربًا من المُحيط إلى الخليج لا يجيدون لغتهم الأمَّ التي هي هيكلُ تفكيرهم و قِوامُ حضارتهم و أسُّ عزّهم ونهضتهم، فطغت على هذه الشعوبُ الاستخدامات العاميّة المشوَّهة والمشوِّهة للغة، فقلما تجد أناسًا يجيدون العربيةَ الفصيحةَ كتابةً ونطقًا، بل وصل الأمر بكثيرٍ من الشباب في أحد البلدان "العربية" أن قالوا بعد أن سألهم المذيع بعربية فصيحةٍ لكن بلهجةٍ ساخرةٍ هازئةٍ:
ماذا ستفعل اليوم؟ فأجابوا وهم يضحكون ويقهقهون ويجترّون عاميّاتهم ويهزؤون بلغتهم، في مشهدٍ ينبئُ عن مدى الانهزام النفسي والحضاري الذي يرزح تحته شباب الأمّة، وهنا لنا أن نسأل، هل هذه اللغة التي سخروا منها هي لغتهم؟! فإن كان الجواب نعم، فلا تعليق. وإن كان الجواب لا، فلأيَّةِ لغةٍ ينتسبون؟!
العربيةَ ليست لأحدكم بأبٍ ولا أمّ، إنما هي لسانٌّ، فمنْ تكلَّمَ بالعربيةِ فهو عربي". فلا قداسةَ لمن يعصي الله ولو كان من بلدٍ مقدسٍ |
حتى قالت لي معلّمةٌ تركية للغة العربية متذمِّرةً، كلَّما ذهبنا إلى دولةٍ عربيّةٍ نُحدِّثُهم بـ" لغتهم" العربية الفصيحة قابلونا بالحديث بالإنجليزية الأعجمية، فسألت لماذا أنتم هكذا؟ فلم أُجِب، فهل هؤلاءِ عَربٌ أمْ أن اللغةَ التي ينتسبون إليها هي العربية؟! أم أنّ طِباعَ لغات الاحتلال بدَّلت أخلاقهم وشوَّهتها؟! بالله أخبروني .
ولنا أنّ نسألَ أيضًا ماذا سيكون ردُّ النَّاس لو تكلّمنا بالعربية الفصيحةِ بالأسواق والساحات في البلاد العربية؟!
وأنا بانتظار تجاربكم ...
قد رأى كثيرٌ منا وتناهى إلى سمعه أمرَ الفتاةِ الصينية المسلمة التي تَعلِّمت العربيّة الفصيحة بل وتعلِّمُها لبني قومها من الصينيين، فهل هي عربيّة؟! ونرى اليوم في تركيا وماليزيا اقبالًا كبيرًا على تعلُّم وتعليم اللغة العربية الفصيحة وخدمةً وتنظيمًا لبرامجِ تعلّمها وتعليمها، فهل هم العربٌ؟ أم نحن العرب؟!
وردَ في الحديث الشريف "إنَّ الربَّ واحدٌ، والأبَ واحد، والدَينَ واحد، وإنَّ العربيةَ ليست لأحدكم بأبٍ ولا أمّ، إنما هي لسانٌّ، فمنْ تكلَّمَ بالعربيةِ فهو عربي". فلا قداسةَ لمن يعصي الله ولو كان من بلدٍ مقدسٍ، ولا إهانةَ لمن يطيع الله ولو كان في بلد قصيّ أعجميّ، قال جل في عُلاه في سورة محمد "وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم" (38).
المصدر: https://blogs.aljazeera.net/blogs/2017/10/3/تأملات-في-الحضارة-والعروبة-والعربية