غير القابل للاحتمال: في عداء الشّعوب!!
سامي عبد العال
بأي معنى تصنعُ الشّعوبُ أعداءها، وهل استجابتها للعداء واحدةٌ أم أنَّ هناك اختلافاً؟! هل ثمّة عداء عمومي بالصّدفة دون قصدٍ، وما خطورة أنْ تعادي قوّةٌ مّا ( كالدولة التركيّة مؤخّراً ) شعباً ضارباً في التّاريخ( مثل الكُّرد )؟! وداخل تلك الدّائرة: هل الصُور المتبادَّلة للأطراف تترك آثارها أم تستثير ركاماً غابراً من الأخيلة؟! وهل العداء محتمل أم أنَّه مفتوح، بلا شروطٍ؟! ومن أين تأتي لامحدوديّة العداء( الصّراع ) في تجارب أو غيرها؟!
تفترض هذه الأسئلة إجابات مغموسةً بتجارب تاريخيّة هي الأبعد تحت تصوّرات العداوة. فالتّصور التقليدي للعداء أنَّه بين طرفين(أو أكثر) بينهما ما يضرّ كيانهما والإحالة لصور كريهة تُشْهر طوال الوقت. وأنَّ الأمر قد يخبو بمجرّد انتهاء ما يدعو إلى ذلك سواء وقعت مواجهات أم أفعال خفيّة. لكن العداء غير المحتمل يأتي من مجهولٍ آخر، مجهول الثّقافة والاحداث الّتي يصعب معرفة أبعادها. إنَّه يتولَّد ضمن تحوّلات الثّقافة وتفاعلها مع الصّراع ويسكن الفراغات السّاخنة فيه بلا تباطُؤ. وقد يتّسع المجال لمَنْ يملأ فراغاً بهيئة منطبقة على(عدوٍ مّا). بيد أنَّ المجهول له وقع أبعد وأكثر غرابة من أي شيء آخر.
العداء والحبّ
إنَّ وجوداً إنسانياً مسيَّساً(بغرائزه ورغباته) لا يفرق بين العداء والحبّ كنمطين للعيش والانتماء. الاثنان جزء لا يتجزأ من طبيعة الوجود في مستواه الأعلى والأدنى معاً، بل ربّما يخترقا كافّة المستويات بشكل مُحيّرٍ. الحياة الإنسانيّة من تلك الزاويّة لم تخطو نحو المستقبل كثيراً(ولا خطوة واحدة)، فلم تختلف عن حفريات الصّراع الدموي لدى القبائل والجماعات البدائيّة منذ آلاف السّنوات. العنف جهاز إنساني كامل الأهليّة والحساسيّة والتّداعي والتّبعات المدمّرة كنسيج طاغٍ في كياننا الحيّ، والأخير لم يتطور حديثاً ولا راهنا أكثر من أسلافه الغابرين.
هذا الوضع بارز حتّى بصدد مفاهيم الدولة الحديثة مثل: السّلطة والسّيادة والوطن والقوّة والحرب. فالدولة لا تُفرِّق بين الحبّ والعداء حين يتعلّق الأمرُ بالدّفاع عن كيانها وحين يتمّ الدّخول في حروب وصراعات. وقد يرتكب البشر باسمها أعمال إبادة جماعيّة وتطهير عرقي وأكل لحوم البشر مثلها مثل أي كيان بدائي دموي منقرض. فيجرى التّأكيد أنَّ حب الدولة(وضمنياً المجتمع) يقتضي بذل الرّوح والنّفس أمام أعدائها. لدرجة أنَّ السرديات الوطنيّة وترانيم السّلام الرسمي للدول والأهازيج الّتي تقال في الأحداث السياسيّة هي معزوفات حربيّة معاصرة على أنغام ونوتات موسيقيّة قديمة. وحتّى عندما ترسم صورة الأعداء(وإنْ كانوا من جسد الشّعب الواحد) فلا تنحصر مظاهر دلالته في شكل ما يأخذ اسمه، إنَّ العداوة تتلوّن على نحو قاس ومشوَّه في أبنيّة المجتمعات والدّول وتنضح عبر الأفعال والخطاب والأفكار الجاريّة.
تحتوي ثقافة الشّعوب على تناقضات صراعيّة لا حدود لها، تمثّل مناطق زلقة في حاجة دوماً إلى تماسك بفضل أهداف معيّنة. والمجتمعات القويّة هي الّتي تستطيع إدارتها بشكل خصب لصالح آفاق النّاس والزّمن. ومنها يكون العداءُ وضعاً زلقاً قابلاً للاستعمال طبقاً للأحداث وحرق المراحل التاريخيّة. وإلاَّ ما الّذي يدفع– على سبيل التّوضيح- نظام “طيب أردوغان” إلى اللّعب بالتّوترات السّاخنة بين الكرد والتّرك. فهناك اهتزاز ساخر لصورة السّلطان العثماني وهناك تناقضات داخل المجتمع التركي إلى حدّ الأزمات المتعاقبة الّتي لا يكاد يستفيق منها النّظام الحاكم، وهناك تدهور اقتصادي وتعقد السّياسات الإقليميّة نتيجة فشل مشروع الخلافة فوق الشّعوب الاسلاميّة المنكوبة. فكان استراتيجياً أنْ يعلن السّلطان حربه الضّروس على الإرهاب في شخص الكرد، ويعيد تشغيل ماكينة العدو الخارجي لالتئام جروح الدّاخل.
دوماً فإنّ دول الحدود بين القارّات والثّقافات والامبراطوريات ومناطق النّفوذ وطرق التّجارة(دول المعابر مثل تركيا) لديها فرص كثيرة لمكاسب رمزيّة وماديّة وقرصنة للفرص الّتي لا نهايّة لها. وبين ليلة وضحاها قد تعود لديها أشباح القرصنة المخيفة وتنسح حولها الأساطير والمعارك الوهميّة. فتركيا كانت نقطة عبور جيوسياسي لتوسّعات الشّرق الإسلامي قديماً إلى أوروبا على ظهر الدولة العليّة(الدولة العثمانيّة)، ومع مرور الزّمن لم يخبو هذا الحلم المتجدّد في أحداق النّظام التركي. وإذا كانت الدولة العثمانيّة رجل أوروبا المريض، فهي بمنطق العبور أرادت الالتحاق بالاتّحاد الأوروبي على صهوة الجغرافيا والسياسيّة.
والمفارقة توضح التّلاعب بظلال الخلافة العثمانيّة في الشّرق العربي وكذلك بإنعاش أحلامها الأوروبيّة استناداً إلى زخم الماضي. وتلويحاً بذلك يستغلّ السّلطان العثماني المتأخر جغرافيا العبور بواسطة اللاّجئين، حين هدد باستعمالهم لصالح الفوضى، ومن قبل حين استعمل جاليته التركيّة بألمانيا وأوروبا أثناء انتخابات الرئاسة التركيّة!! فقد خرجت مظاهراتهم تأييداً لنظامه منددين بعدم قبول الاتّحاد الأوروبي لتركيا وبمواقف ألمانيا من السّلطان.
غير القابل للاحتمال
الآن علينا التّفرقة بين صعيدين للعداء:
- الصّعيد الفردي حيث تكون العداوة مرهونة بأفعال أو بعلاقات متوترة بين الأفراد. وربّما تكون بفضل تصرف يضع الآخر في إحراج ومأزق بالنّسبة للمحيطين به. ولهذا التّصرف مجال التّكرار، فمالم يتكرّر لن يترك أثراً يوغر الصّدر تجاه الفاعل. وربّما التّفاعل اليومي يحرّك ما هو كامن تحت السّطح ويجعل الأفراد أطرافاً في عمليّة هوجاء من التّدافع والمراوغة.
- الصّعيد الجمعي وهو ما يمثل معضلة تتحدى أيّة نهايّة وأيّة حدود، فليس من عداء كبير بحجم وجود أناس تجاه أعداء أو أغيار إلاَّ إذا كان هؤلاء الأغيار وضعوا أنفسهم مرار في خانة العدوّ. والعدوّ بألف ولام التّعريف مهم لكسر القيود والحواجز، لأنّ التّصنيف هنا يشكّل بعداً تاريخياً بالضّرورة. كلّ عداء بهذا المعنى الحدّي يستند على إبراز ذاته خيالياً أو لا يكون. ولذلك لا يفرغ العداء وجوده إلاَّ في صورة حروب طاحنة. والحروب ليست فرديّة بحالٍ ولن تصبح لأنّها تنشب باندفاع وشراسة. وبمقدار أصالة الحرب بالنسبة لوجودنا الإنسانيّ، فالعدوّ باستمرار غير قابل للاحتمال، إنّه المستحيل الّذي لا يتعيّن بسهولة، وقد لا يأخذ ظروفه التاريخيّة على نحو واضح. رغم أشكاله الّتي قد يأخذها ويتقمّصها بفعل التّخيل.
فالسّلطان العثماني (أردوغان) يحرص مراراً على الباس الكرد عباءة الشّيطان(أي شيطان وما هو)، وكذلك لا يترك شاردة ولا واردة إلاَّ ويتحسّس الفكرة حتّى لو نال الكرد بعضاً من رياح التّغير إلى الأفضل. وكأنَّه يتحسّس ما يخص الدولة التركيّة من أجل الزّج باسم الكرد فيما لا مجال له. وبالطّبع التراث الديني للخلافة العثمانيّة كان حاضراً عبر الخوف من الآخر وإقصائه ولو كان أحدَ خيوط المجتمع المنتمي إليه. لأنَّ فكرة السّلطة الجامعة بمنطق اللاّهوت تستدعي المراقبة الكليّة على حدود معينةٍ تفترضها داخلياً وخارجياً. وعليه سيذهب السّلطان ليوسّع نطاق الحدود أو يقلصها حسبما يريد، وليس الوضع جغرافياً على خريطة واضحة المعالم والأقاليم، لكنّه خاضع لرؤيّة السّلطة وآليات الحكم السّائد.
دون مبالغةٍ أحياناً تعادي الشّعوب شعوباً أخرى بناء صور انفعاليّة عامة يعاد إنتاجها، ولكن ليس العداء هنا قدراً طارئاً بالصدفة كلّما اتّفق، فنحن نختار اعداءنا كما نختار أصدقائنا. وإذا كنّا نتخلص من اصدقائنا مع ترهل العلاقات الإنسانيّة وذوبان نقاط التماس بيننا، فلم يعثر البشر حتّى الآن على مبرّر لتذهب العداوة. وهي كذلك لها طابع الإلحاح، ورغم وجود ملابسات وظروف تعلها بهذا المعنى إلاَّ أنّها غير قابلة للتّبرير. فعادة الأعداء لهم مواقفهم الّتي تستحق العداء وإن كانت غير صحيحة، كما أنّ العداء هو الّذي يجعلنا ننزف ونفرغ ما نكره ولا نقوى على احتماله.
لكن في المقابل تستجيب الشّعوب لمشاعر العداء بقدر ما تملك من تراث ومن ثراء الحياة، ولا تبدي انفعالاً عاماً تجاه كيانات أخرى دون أن تسأل ثقافتها: ماذا سيحدث؟ كيف سنعادي الآخرين؟ وماذا نفعل إزاء ذلك؟ وهل من منفذ وكيف ستصبح العداوة في المستقبل؟
من هنا تبدو ورطة تركيا السّياسيّة وشعبها مع الاعتداء على الكرد لا حدود لها. ففي كلّ الأحوال لن يسلم الأردوغان من اعتباره عدوا غير قابل للنّسيان، والكرد بحكم العمق التاريخيّ لثقافتهم يدركون ما معنى العدو. فعليك ألاَّ تعادي جذوراً خارج الأوضاع المؤقّتة لأنّها ستمتد إليك أينما تذهب. والأرض مهما قويت وامتدت، فالجذور تستطيع شقها من الداخل. ومهما يكن صدى الأحداث، فالأشياء الّتي تترسّب هي الأكثر تأثيراً على المدى البعيد. وبخاصّة أنَّ شعباً كالكرد لديّة قدرة تاريخيّة على امتصاص الأحزان والأوجاع دون تفريطٍ، وإفشال الحضور دون احتواء وتجذير الأعماق بلا تسطيح.
وليس يدرك من هم الكرد سوى الآخرين، قال هتلر” أعطني جنديا كردياً وسلاحاً ألمانياً.. وسوف أجعل أوروبا تزحف على أناملها..”. يبدو أنَّ بعض القول يكشف موضوع الخطاب دون وجود تماس فعلي بين القائل والموضوع(المتحدث عنه). وليس ما يجعلنا نصغي لهتلر إلاَّ بوصفه فاهماً لأمورٍ تخصّ شعباً من الشّعوب. فالإصغاء من منطلق هتلر كان لمعنى أبعد، لكن لماذا اختار هتلر حصراً إذا صحت المقولة؟
مقولة أخرى لصدام حسين تسائل ممارسات نظامه إزاء الكرد، وما إذا كانت الدّلالة واضحة في سياق القول أم لا، يقول صدام:” في كلّ نقطة دم كرديّة يولد مجاهد…” ورغم أنّ صدام لم يتعايش مع الكرد، لكنّه أثبت المعنى أثناء صراعه معهم بالتّضييق والتّصفية الجغرافيّة والتاريخيّة والإنسانيّة. وقد خرج صدام من المعادلة الصفريّة حين انتهى نظامه نهاية فاجعة (نهايّة غير قابلة للاحتمال أيضاً)، أي نهاية غريبة من الهول والرّعب الأكبر في تاريخ العرب ومنطقة الشّرق الأوسط عندما دمّرت أمريكا شعباً متحضّراً هو العراق، وبات الكرد أشدّ صلابة وتمرّداً، ومقولة صدام لا تحدد القائل بقدر تأكيدها لخلاصّة التّجربة التاريخيّة للكرد.
إنَّ شعباً بهذا التّكوين ليس أكثر من “عدو لا يحتمل”، و” العدوّ غير المحتمل” لا يهادن، ولكنّه يضع نفسه نداً لند من أوّل وهلة، يقف في وجه العواصف والأعاصير، يتعايش مع الموت وهو يعلم أنّه لا يختلف عن الحياة في كثير أو قليل. وهذا يفسر جلَّدْ الكرد في البيئات السياسيّة القاسيّة والطاردة للحياة الّتي عاشوا فيها.
لأنَّ البيئة الطبيعيّة الوعرة(الجبال والوديان والصّخور) تتبادل وجوداً حيوياً مع مروضيها من البشر. كما يقول أبو القاسم الشّابي: ” من لم يعتد ركوبَ الجبال… عاشَ أبد الدّهر بين الحفر”. والكرد من تلك الجهة ليسوا قاطني الجبال الصخريّة، لكنّهم جزء من حقيقتها، هم جبال في صورة بشريّة، جبال تروض جبالاً، وصخور تناطح صخوراً. النّقش واحد، النّسيج مشترك، الصّلابة ممتدة ونافذة الحركة، فالحقيقة تتبادل المعاني والطّرائق تسري بين الشّقوق والأخاديد في الحياة بجميع مكوناتها.
ذات مرّةٍ تعليقاً على أحداث الشّرق الأوسط في وقته، قال هنري كسينجر وزير خارجيّة أمريكا: ” لا يوجد رجال.. ولم أجد رجالاً في حياتي أكثر عناداً من رجال الكرد”…. لماذا اختار كسينجر – الثّعلب الدبلوماسي- لفظ “عناداً” كوصفٍ، حيث يعد الكلمة حفريّة مهمّة في شعب الكرد، وهي مثل النّدوب الّتي يحفرها الزّمن مع مرور الوقت؟، لأنَّ الشّعوب ذات الجذور الثقافيّة البعيدة لا تنحني بسهولة، لا تتلقف كلمات التسليّة للسّير في الرّكاب والتّواطؤ مع المآرب والمصالح، إنّما لديها ميراث طويل مع عمليات الإقصاء والاغتيال المعنوي والسّياسي. بجانب ذلك تبقى شعوباً صامدة في وجه التّحولات ومميزة بأسلوبها في الحياة. وهذا أمر جدير بالتّقصي، لأنّ نمط الحياة الشّاقة يؤثّر على المعتقدات والأفعال بلا شك، لكنّه إزاء الآخرين يصبح لائقاً لتّحديد ماذا يكون الفعل وما ينبغي التّعامل به بما يناسب.
يعمّق الزّعيم الكوبي فيدل كاسترو الفكرة قائلاً: الأتراك حمقى لأنَّهم احتلّوا يوما مّا مناطق كرديّة شعبها لا يملّ ولا يضعف…”. والحُمق ليس له علاج من جهة الحكمة منه ولا التعلُّل به، غير أنَّه سياسياً لا يعتبر حُمقاً لكونَّه سقوطاً تاريخياً إزاء طرفٍ صعبِ المراس، طرف يقف في وجه التّرك ويسبب لهم حرجاً من واقع الثّقافة والممارسات العامة. هكذا لن يكون العداء محتملاً بحالٍ، لأنّه أصبح شكلاً مجرداً وراء كيان لا يخضع لمعايير ملموسة رغم حدود المتعارف عليها. وصورة الكرد خيال ثقافي أتٍ منذ أزمنة بفضل تجارب سياسيّة مع الاستبداد والاستعمار ولاهوت الدول الوطنيّة وصراعات الدول الإقليميّة، ومع حروب نائية لم تنبت في بيئات كرديّة، مثل زعماء الكرد كصلاح الدّين الّذي تواجد بمصر وأدار الصّراع مع جيوش الحملات الصليبيّة.
الموت والحياة
على العمق الثّقافي، يجيئ المعنى بالنسبة لمقولات الكرد في الأمثال العامّة:” الموت أفضل من الهزيمة… Mirin çêtire ji revê”. والعبارة تحدّد أنَّ الصّراع متعلّق بالموت في أعماق البشر، وهو لا ينتهي إلاَّ بهذه الطّريقة. إذن ما يجعل العداء غير قابل للاحتمال كونه مفتوحاً على المجهول. وهو ما يجعل التّحديد بدوره أمراً غير ممكن بحالٍ. الموت حين يتكلّم لن ندرك ماذا سيحدُث ولن نفهم ما سيقال ولا نستطيع التّوقع بالمستقبل!!
كلّ الاحتمالات واردة، كلّ التناقضات آتية، كلّ ما يجري سيجري مستقبلاً بلا تبرير. إنّه الغموض المتّسع بحجم الثّقب الأسود الّذي يلتهم أي وجود واضح. وطالما ساد الموت إزاء الواقع فالميّتات تتساوى، وسيشكل دافعاً لكي يحارب الإنسان طوال الحياة حتّى الرّمق الأخير، لأنّ المقابل هو الهزيمة الّتي لا يرغبها إطلاقاً. ومن ثمّ يبدو الموت انتصاراً لا فناء بموجب أنّ الهزيمة حياة ذليلة فاقدةٌ لمضمونها الإنساني، بينما الموت امتثالاً لقناعة ثقافيّة خاصّة.
يقول ونستون تشرشل- رئيس الوزراء البريطاني-:” يجب ضرب الكرد والأفغان بالسّلاح الكيماوي”… لماذا سيكون الموت هو مصير الكرد والأفغان؟ لأنَّ الموت هو المقابَل بموتٍ يفضله أحد طرفي المعادلة دون الهزيمة. والمصير الدّموي الّذي يترصّده تشرشل للكرد، يظهر كم هو حجم التّصور الّذي يثيره شعب لمن يهيمن على تلك المنطقة من العالم. إنَّ الإبادة الجماعيّة -بموجب المقولة- أمر غير محتمل، لأنَّ الكرد والأفغان غير محتملين بالضّرورة. والشّعبان ليس لهما غير إبداء المقاومة والدّفاع عن كيانهما بطريقة غير قابل للاحتمال كذلك.
أولاً: إنَّ غير القابل للاحتمال أمر وارد دوماً مثلما تكون العداءات المفتوحة على المستقبل أمراً متاحاً هي الأخرى. وفي هذا الإطار سيكون إحياء الصّراعات بين الشّعوب الباب المشرَّع على المجهول، بل يمثل شقاً نافذا بعمق المجتمعات.
ثانياً: الزّعم بوجود” الصّراع التاريخي” في حالة أو أخرى زعمٌ ملتبس وغير مبرّر وهو لون من تعضيد فكرة “غير المحتمل” حتّى للطّرف الأضعف وتمكين الأقوى منه. كما ردد الرّئيس الأمريكي أنَّ الصراع بين الكرد والتّرك صراع تاريخي عمره من مئات السّنوات. في محاولة من القوّة الأكبر في عالم اليوم لتبرير عدم جدوى التّدخل ولعق التّهديدات الّتي أطلقها ترامب بأنّه سيدمر الاقتصاد التّركي لو أقدمت على اجتياح شمال سوريا.
وخاصّة أنّ ترامب وضع علاقته بالكرد على فوهة “غير القابل للاحتمال”، فلقد كانوا هم الجنود الأبرز الّذين قاوموا الدّواعش وأجهزوا على بقايا تنظيم الدّولة الإسلاميّة من خلال قوّات سوريا الديمقراطيّة. وهناك شهادات أمريكيّة وأوروبيّة من مراكز البحوث والمنظّمات الدوليّة بأنَّ جنود الكرد هم أكثر ديمقراطيّة ومدنيّة من سواهم وهم أصدقاء أوفياء لمن يحاربون بجانبهم وهم أكثر استيعاباً للتّقنيات والتكنولوجيا العسكريّة ويحافظون على الحقوق الإنسانيّة مقارنة بطوائف وفصائل الصّراع في المنطقة.
لذلك ما فعلته أمريكا لا يخرج عن سياساتها غير القابلة للاحتمال أيضاً، فلا شيء ثابت لديها كقوة سياسيّة عولميّة، فهي تتلاعب بكلّ القوى الإقليميّة ولو كانت وفيّة لها. يقول رئيس أمريكي سابق –رونالد ريجان– عن الكرد: ” هكذا قدر الكرد، حيث الدّول الغربيّة استعملوا الكرد للوصول إلى غاياتهم، فالكرد كالنّيران القويّة، وعلينا إشعال هذه النّيران متى نشاء وفي الوقت المناسب”.
ثالثاً: تعميم الصّراع أحد وجوه غير القابل للاحتمال، لأنّه سيتحوّل إلى طواحين للغرائز والكراهيّة الّتي تأكل الأخضر واليابس. والتّعميم بصدد الكرد سيثير دوافع عميقة لديهم حين يكون كيانهم الخاصّ هو المهدّد، وكأنّ تركياً تقول إنّنا سنقضي على الكرد، سنستأصل جذورهم من الأساس. وما يرتبه أردوغان هو حقاً اقتلاع للكرد من وجودهم التّاريخي، اقتلاع ثقافي ونزع البذور من الأرض والتّلاعب في التّكوين الديموجرافي لأصحاب الثّقافة والحياة.
وهو ما سيفتح كلّ مجالات الصّراع على مصراعيه دون ضابط ولا رابط. وقد عبّر بعض أعضاء البرلمان التركي من أصل كردي عن همجيّة ما فعله أردوعان، وأنّه يمثّل دولة قتل وإبادة جماعيّة كما فعلت بالأرمن، معتبرين التّرك شعباً محتلاً لتركيا ذاتها، لأنّ هناك أصولاً منغوليّة ومغوليّة وشيشانيّة للمهاجرين الترك في بداية الدولة. وهو ما جاء كرَّد فعل كردي من القبيل غير المحتمل، ويبرهن على معانٍ غير متوقّعه، حتّى أنّ آخرين في البرلمان نفسه هتفوا بضرورة قتل الكرد ونزع أنفاسهم من الحياة!!
رابعاً: إنّ تحوّل الصّراع إلى لا شيء، إلى عدم، حتّى لو في مداه البعيد أمر غير قابل للاحتمال. فماذا لو انتهت الحرب التركيّة ولم تُحل مسألة الكرد بتركيا ولا سوريا؟ فليس هناك ضامن ديموجرافي ولا سياسي ينهي المسألة الكرديّة. إنّما الزّمن سيجعل ” ذاكرة الكرد” أكثر شراسة، وستشرب الأجيال القادمة كراهيّة التّرك أينما حلّوا. فالطّرف الأصيل فيها(الكرد) لا يدير صراعاً بل يكْره على مغادرة وجوده وحياته. ولعلّ مظهر الأطفال وهم يشرَّدون ويرَّحلون ويقطَّعون هو صناعة لمستقبل لجنون القادم لا محالة. ماذا ينتظر التّرك من أطفال حُرموا من آبائهم وأمّهاتهم ومن أوطانهم؟! ماذا سيكون حال الأطفال وهم يكبرون على مشاهد الأشلاء وتفجير الرّؤوس وتمزيق أجساد ذويهم؟!
خامساً: فتح جبهات الصّراع يقضي على عقلانيّة التّواجد معا كشعوب حرّة، كتنوّع ثري في العيش والسّلوك، وإذا ضاع العقل بمعناه العام لن يكون سوى الخبل السّياسي وراء الغبار. والغريب أنّ الكرد أولوا عناية للعقل بما يليق بتبجيلهم للحياة ورقيها. يقول المثل الكردي: “العقل ليس حنطةً حتّى يتمُّ كيله” Hiş ne genime ku werê pîvan ….، فالعقل هو تثمين الأشياء بما يناسب وجودها، وليس تُعلف الحنطة إلاَّ الحيوانات السّائمة. كما أنّ الحنطة لا قيمة لها، كمّياتها الكبيرة لا مقابل لها إلاَّ بضع نقود. وهذا بخلاف الأشياء الثّمينة كالعقل … جرام منه يساوي ذهباً مضاعفاً.
سادساً: زحزحة أو تأجيل الصّراع لوقت تالٍ يسمح بظهور غير القابل للاحتمال مرّة تالية. لأنّ تهجير الكرد من مناطق تواجدهم وتسكين آخرين مكانهم إنّما هو احتقان جديد لن يفرغ إلّا في المستقبل خلال حروب وكراهيات طاحنة بين المهجرين والسّكان الجدد. وهو ما يعني وضع فخاخ ومتفجّرات في أنسجة المجتمع السوري لن يستطيع تجنبه لاحقاً، لأنّه قائم على اغتصاب الأرض والحقوق وتجريف المجتمعات.
سابعاً: سياسات الكذب إحدى وجوه “غير القابل للاحتمال”، لأنّها معدومة الأساس، ومطلّقة العنان لأيّ شيء ولو كان مفجعاً. وبالتّالي سيكون ردّ الفعل عليها من نفس جنس الكذب، فميدان الصّراع انتقل – في معركة الكرد والتّرك- إلى ساحة الخطاب الاعلاميّ والسياسيّ. وبالتّالي التّبريرات والمقولات الخادعة من قبل فضائيات الجزيرة والقنوات التركيّة والإخوانيّة عمل خرافي وسك عالم من المجازات وصور الحروب واللاّمبالاة تجاه القتل والدّماء. والكرد أنفسهم يردّدون:” لا تُبنى الأوطان بالأكاذيب…” Bi derewa bajar ava nabin. ولو أخذ الكذب يوماً شكل حملة حربيّة تبيد من يقف بطريقها، فنهايته هي تدمير الذّات بما يلائم صوته المرعب!!