الخصائص الأسلوبيَّة في التجربة الشعريَّة النِّسائيَّة
ضو سليم
دراسة أسلوبيَّة لقصيدة لنْ أبْكِيَ للشاعرة الفلسطينيَّة فدوى طوقان
المُقدمة: نهتمُّ في هذا البحْثِ بدراسةِ واحدة من أهمِّ القصائد الّتي نظمتها الشّاعرة الفلسطينيّة الرّاحلة فدوى طوقان ” لن أبكي ” ومسار هذا البحث فحص الخصائص الأسلوبيَّة للنصِّ وتفكيكها وتجزئتها و تحليلها لغويا ومدخلنا في التطبيقِ البنية الإيقاعية للأثر مستندين في ذلك على الأصوات المعتمدة باعتبارها الوسائل الإجرائيَّة لدراسة الظواهر الأسلوبيَّة. لِغاية الكشْفِ عن الأبعاد النفسيَّة للشاعرة وأوجه اختلاف وتميُّز التجربة الشعريَّة الأنثوية عن التجربة الشعريَّة الذكوريَّة .
يتضمن هذا البحث محاولة الكشف عن حدِّ الأسلوبية واختلافه عمَّا يحفُّ به من مصطلحات أخرى كالأسلوب والبلاغة والنقد الأدبي من جهة ومن جهة ثانية تحليل الخصائص الأسلوبية للقصيدة المذكورة آنفًا (لن أبكي) على مستوى الصوت، التركيب والدلالة، لتبيُّن العلامات الفارقة والمتميزة في التجربة الشعرية النسائيَّة.
- I مِهاد نظري
- 1. فِي حدِّ الأسلُوبِ
الأسْلُوبُ هُو جُمْلةُ الصِّيَغِ و الأساليب التَّعبيريَّةِ الّتي تنزاحُ بِالخِطابِ الأدبي العادي المألوفِ وتُكْسِبهُ خاصيَّةً مُميَّزةً، هذا الانزِياحُ [1] هُوَ نوعٌ ” منَ الخُرُوجِ علَى الاسْتعمالِ العاديِّ للُّغةِ، بِحيْثُ يَنْأى الشَّاعرُ أو الكاتبُ عَمَّا تقْتضيهِ المعاييرُ المُقرَّرةُ في النِّظام اللُّغوي ” [2]، هذا الاِنزياح اللُّغوي هو ما يرْقى بِشِعْريَّة النصّ ويرْفعُ من مُستوى الإثارةِ لدى المُتقبِّلِ الأمرُ الَّذِي يخْلِقُ ضرْبًا من الاِتَّصال بيْن قُطبيْ العملِ (المُبدعِ والمُتقبِّلِ) وهو ” لا يقْتصِرُ على مُجرَّدِ إظْهارِ إحساساتِ المُنْشِئِ واِنْفِعالاتهِ و لا يتوقَّفُ على حُدودِ بيانِ السِّماتِ والخصائِصِ اللُّغويَّةِ التي يتميَّزُ بِها هذا المُنْشِئُ وإنَّمَا يتخطَّى كُلَّ ذَلِكَ إلى حدِّ التَّمازُجِ الكاملِ بيْنهُ وبيْنَ صاحبِهِ بِحيْثُ يُصْبحُ الأسلوبُ مرآةً عاكِسةً لِشخْصيَّةِ المُنشِئِ الفنيَّةِ وطبيعتهِ الإنْسانيَّةِ” [3]. غيْر أنَّ فريقًا واسِعًا من الباحِثِينَ يدْحضُ هذه الفِكرةَ (الأسلوبُ مرآةٌ تعكسُ باطن المُؤلِّفِ) وحُجَّتُهم في ذلك أنَّ الأسلوبَ ليْس بالضَّرورةِ حمَّالَ دلالاتٍ نفْسيَّةٍ ووجْدانيَّةٍ وفِكريَّةٍ للباثِّ الَّذِي قدْ يجْعلُ من اللُّغةِ سِتارًا حاجِبًا يتوارى خلْفهُ لإضْفاءِ ما يُبْطنهُ من مشاعر و طِباع .
- في حدِّ الأسلُوبيَّةِ
الأسلُوبيَّة مُمارسةٌ وأداةٌ تحليليَّة – قبْل أنْ تكون نظريَّةً أو عِلما أو منْهجًا – تهتمُّ بِدراسةِ جوانبِ الطَّرافةِ والتميُّزِ في الخِطابِ الأدبي عبر فحْص ظواهرهِ اللُّغويَّةِ وتفكيكها وتمثُّلِ جوهرها، فاللغة هي مدخل التحليل الأسلوبي بِاعتِبار الاسْتخدام الأدبي للغة يختلفُ كُلَّ الاخْتلاف عن الاسْتخدام والتّداول العادي النفعي لها بوصفه خطابا مُباشرتيًّا لا يحتاج تأويلا لفهمه كما هو الشأن في الخطاب الأدبي. فالتَّحليل الأسْلوبي يُثري المُمارسة النَّقديَّة بِمُساءلةِ النصِّ لُغويًّا و النَّفاذ إلى قِيمهِ الجماليَّة واِستبطان ما يعِجُّ بباطِنِ المُؤلِّفِ الباثِّ ودراسة ملامحِ اِخْتلافهِ عنْ غيْرهِ من المُؤلِّفِينَ وِجدانيًّا وسلوكيًّا وأخلاقيًّا ومعرفيًّا وإيديولوجيًّا، و المُنعكسةِ بِوُضُوحٍ وجلاءٍ في خِطابهِ. فاختلافُ الإنْسانِ مُولِّدٌ لاخْتلافِ بيانه ” فكُلُّ مُنشِئٍ يمْتلكُ عالمًا من المعاني والأخْيِلة، وطريقةً في الصِّياغة والتَّعبير، مِمَّا يجْعلُ في النِّهايةِ شخْصيَّتهُ الأسلوبيَّة ذات السِماتِ والملامحِ المُتميِّزةِ التي تُميِّزهُ عنْ نُظرائهِ من المُنشِئين ” [4]. وقدْ تأسَّست الأسلوبيةُ على أنْقاضِ علم البلاغةِ القديم بعْد أن غدا هذا الآخير عاجزًا عن دراسة النصِّ الأدبي ويُعتبرُ اللِّساني السويسري شارل بالي Charles Bally (1865-1947) أوَّل من أرْسَى دعائِمها عبْر مُؤلَّفِهِ “الوجيز في الأسلوبيَّة” Précis de stylistique (1905) والّذي أعقبهُ بِمُؤلَّفٍ ثانٍ موسومٌ الأسلوبيَّة الفرنسيَّة ” Traité de Stylistique Française (1909). ويُشكِّلُ المضمون الوجداني للغةِ موضوع الدِّراسةِ عندهُ فهي تدرُسُ “وقائِع التَّعبير اللُغوي من ناحيةِ مضامينها الوجدانيَّةِ أيْ إنَّها تدْرُسُ تعبير الوقائِع للحساسيَّةِ المُعبَّرِ عنها لُغويًّا، كما تدْرُسُ فِعل الوقائِع اللغويَّة على الحساسيَّة ” [5].
و”إذا كانت أسلوبيَّة شارل بالي قصرتْ دراستها على اللُّغةِ في جانِبها التطبيقي العادي والاِجتماعي العام، فَإنَّ ثمَّة اِتِّجاه آخر يدْعو إلى أسلوبيَّة ينْصبُّ اِهتمامها على الأعمال الإبداعيَّة ويُعدُّ النِّمساوي ليو سبيرتزر léo spitezar (1887-1690) الرَّائِد في هذا الاِتِّجاه الأسلوبي، إنَّهُ يرْبِطُ الأثرَ الأدبي بِالجانِبِ الفرْدي والشَّخْصِي الخاص للمُؤلِّفِ لا سِيما ظروفهِ النَّفْسِيَّة لِذا اِتَّسمتْ أسلوبيَّتهُ بِالمزج بيْن ماهو نفسي و ما هو لِساني ” [6] فليو سبيتزر” رفض التَّقسيم التَّقليدي بيْن دراسة اللغة ودراسة الأدب، فأقام بِذلك في مركز العمل وبحث عن المِفتاح في أصالة الشَّكل اللساني أو لِنقُل في الأسلوب”[7].
ثُمَّ كان للبنيويون دور في جعلِ الأسلوبيَّة البنيويَّة اِمتدادا مُباشِرًا للِّسانيَّات الحديثة وقدْ شَهِد هذا الاِتِّجاه تطوُّرًا واضِحًا مع ميشال ريفاتير Michel Riffaterre (1924 -2006) من خلال كتابهِ محاولات في الأسلوبية البنيوية Essais de stylistique structurale (1976) والذي ركّز عبرهُ على مفْهوميْن أساسيَّيْنِ في ضوئهما تبرزُ القيم الأسلوبيَّة هُما: السياق الأسلوبي والتّضاد البنيوي ” فالأسْلُوب أثرٌ يُحدِّدُ المضمون الإخباري للإشارة بالتضادِّ أو التوافُقِ ولا يُمكنُ تعريفهُ إلَّا عبْر القارئ فَهْو أثرٌ على القارئِ فإمَّا أنْ يكُون الاِنتظار مُخيِّبًا وإمَّا أن يكون تامًّا ” [8] . “فالسِّياق الأسلُوبي ليْسَ هو التَّداعي و ليْس هو التَّوالي اللُّغوي الَّذِي يحْصِرُ تعدُّد المعْنى، أو يُضيفُ إيحاءات خاصَّة للكلمات، بلْ هُو نموذج لُغوي ينْكسِرُ بِعُنصُر غير مُتوقَّع ” [9]
أمَّا رابعُ الاتجاهات الأسلوبيَّة فهو ما يُعرفُ بالاتجاه الإحصائي والَّذِي يتَّخذُ من الإحصاء منهجا لهُ لِدراسة تواتُر وتكرُّر الاستخدامات اللغوية في نصٍّ ما وقدْ “نجحت الأسلوبيَّة الإحصائيَّة في الاحتكام إلى ثوابِت العلميَّة النَّقديَّة من خلال التخلِّي عن الذَّوق الشَّخصي الّذي يقُوم على الحدس الخالصِ لصالح الحدس المنهجي المُوجَّهِ وذلك عن طريق الاعْتماد على مقاييس مُحدَّدة ذات دلالات علميَّة خالصة تُساعِدُ في حلِّ الكثير من المُشكلات الأدبيَّةِ الّتي لم نكُن نجدُ لها حلًّا عند الاتجاهات الأسلوبيَّة الأخرى” [10] .
نخْلُصُ مِمَّا تقدَّم إلى أنَّ الأسلوبيَّة مُمارسة إجرائيَّةٌ تسْعى إلى وصْف الظاهرة اللُّغويَّة المُكوِّنة للخطاب الأدبي ودراسةِ طريقة تشكُّلِها و اِستخدامها لذلك يُمكن اعتبارها جسرا بين اللغة والأدبِ يتفاعل صُلبها العلمان (اللغة والأدب) ويتأثرانِ، وهي تنقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ كُبرى أوَّلُها ما يُعرفُ بالأسلوبيَّة النَّظريَّةِ théortical stylistics وهدفُها إرساء الأُسس النَّظريَّةِ للتَّحليل الأسلوبي وثانيها ما يُسمَّى بالأسلوبيَّةِ التَّطبيقيَّة applied stylistics ومجال اشْتغالها فَحْصُ النصِّ وإبرازِ خصائِصهِ ومدْخلُها في ذلك لُغةُ النصِّ، وثالِثُها الأسلوبيَّةُ المُقارنةُ comparative stylistics وتعْتمدُ المُقارنة بيْن خِطابيْنِ أو أكْثرَ يختلفانِ في جوانِب ويأْتلفان في أخرى للتَّمييز بينهما ولِتبيُّنِ الخصائِصِ المُميِّزة لِمُؤلِّفٍ ما أو جنْسٍ أدبي مُحدَّدٍ. ومدار دراستنا تحليل قصيدة لن أبكي للشاعرة الفلسطينيَّة الراحلة فدوى طوقان تحليل أسلوبيًّا تطبيقيًّا منطلقين في ذلك من مجموع الظواهر المُستخدمة تركيبيًّا ودلاليًّا وصوتيًّا رغبةً في إثراء الجهود النَّقديَّة التي تناولت هذه القصيدة درسا وتحليلا أملا في الوقوف على القيم الجمالية التي تُبطنها القصيدة ولاسْتكشاف مظاهر فرادة التجربة الشعريَّة النسائيَّة هذه التجربة الإبداعيَّة الفريدة من نوعها، والّتي كانت منعرجا حاسما في تاريخ الأدب العربي الحديث، وفي تاريخ أدب المرأة أيضا، فتجربة المرأة الإبداعية والمتمثلة في الشعر قامت على تقليد النموذج الشعري الذكوري الذي كان يمثل الذاكرة الثقافية الّتي تتكئ عليها تجربة المرأة الشعرية إذْ يذهبُ النقَّاد القدامى إلى انّ المرأة الشَّاعِرة كانت تحذُو النموذج الشِّعري الَّذِي كان يُنتجهُ الرَّجُلُ ظنًّا منها أنّ هذا المُنجز هو الصيغة المثالية المتكاملة الّتي ينبغي أن يكون عليها الشِّعر وهو ما عُرفُ لاحِقًا بِعمود الشِّعر.
- II الخصائص الأسلوبيَّة في التجربة الشعريَّة النِّسائيَّة
النصّ:
لــــــــــــــن أبـــــــــــــــكِــــــــــــــــي
على أبواب يافا يا أحبائي
وفي فوضى حطام الدور
بين الردمِ والشوكِ
قفا نبكِ
على أطلال من رحلوا وفاتوها
تنادي من بناها الدار
وتنعى من بناها الدار
وأنّ القلبُ منسحقاً
وقال القلب: ما فعلتْ؟
بكِ الأيام يا دارُ؟
وأين القاطنون هنا
وهل جاءتك بعد النأي، هل
جاءتك أخبارُ؟
هنا كانوا
هنا حلموا
هنا رسموا
مشاريع الغدِ الآتي
فأين الحلم والآتي وأين همو
وأين همو؟
ولم ينطق حطام الدار
ولم ينطق هناك سوى غيابهمو
وصمت الصَّمتِ، والهجران
وكان هناك جمعُ البوم والأشباح
غريب الوجه واليد واللّسان وكان
يحوّم في حواشيها
يمدُّ أصوله فيها
وكان.. وكان..وكان الآمر الناهي
وغصّ القلب بالأحزان
*
أحبائي
مسحتُ عن الجفون ضبابة
الدّمعِ
الرماديهْ
لألقاكم وفي عينيَّ نور الحبّ
والإيمان
بكم، بالأرض، بالإنسان
فواخجلي لو أنّي جئت ألقاكم –
وجفني راعشٌ مبلول
وقلبي يائسٌ مخذول
وها أنا يا أحبائي هنا معكم
لأقبس منكمو جمره
لآخذ يا مصابيح الدجى من
زيتكم قطره
لمصباحي؛
وها أنا أحبائي
إلى يدكم أمدُّ يدي
وعند رؤوسكم ألقي هنا رأسي
وأرفع جبهتي معكم إِلى الشمسِ
وها أنتم كصخر جبالنا قوَّه
كزهر بلادنا الحلوه
فكيف الجرح يسحقني؟
وكيف اليأس يسحقني؟
وكيف أمامكم أبكي؟
يميناً، بعد هذا اليوم لن أبكي !
*
أحبائي حصان الشّعب جاوزَ –
كبوة الأمسِ
وهبَّ الشهمُ منتفضاً وراء النهرْ
أصيخوا، ها حصان الشّعبِ –
يصهلُ واثق النّهمه
ويفلت من حصار النّحس والعتمه
ويعدو نحو مرفأه على الشّمسِ
وتلك مواكب الفرسان ملتمَّه
تباركه وتفديه
ومن ذوب العقيق ومنْ
دم المرجان تسقيهِ
ومن أشلائها علفاً
وفير الفيض تعطيهِ
وتهتف بالحصان الحرّ: عدوا يا –
حصان الشعبْ
فأنت الرّمز والبيرق
ونحن وراءك الفيلق
ولن يرتدَّ فينا المدُّ والغليانُ –
والغضبُ
ولن ينداح في الميدان
فوق جباهنا التعبُ
ولن نرتاح، لن نرتاح
حتّى نطرد الأشباح
والغربان والظّلمه
*
أحبائي مصابيحَ الدّجى، يا اخوتي
في الجرحْ …
ويا سرَّ الخميرة يا بذار القمحْ
يموت هنا ليعطينا
ويعطينا
ويعطينا
على طُرقُاتكم أمضي
وأزرع مثلكم قدميَّ في وطني
وفي أرضي
وأزرع مثلكم عينيَّ
في درب السَّنى والشّمسْ
فدوى طوقان، الديوان، دار العودة بيروت، 1988، ص ص 511،517.
- تقديم النصِّ
بنت الشَّاعرةُ قصيدتها على أربعة مقاطع شعريَّة غير مُتساوية العدد من الأسطُر الشِّعريَّةِ إذْ تألَّف المقطع الأوَّلُ من ثلاثين سطر شعري وضمَّ الثاني خمس وعشرين سطر وتكوَّن الثَّالث من أربع وعشرين سطر في حين اِحتوى الرّابع إحدى عشر سطرا. تفْضحُ خلالها الشَّاعرة أعمال العدوِّ المُحتلِّ الغاشمِ من خرابٍ وتدمير ألحقهُ بِمدينة يافا الفلسطينيَّة مُقارنةً بين ما كنت عليه وما آلتْ إليْه مُصوِّرة مدى حُزنها وأساها تُجاه هذا الوضع. فقد ” جاءت القصِيدة الجديدة الحُرَّة لِتتمكَّنَ من سبْرِ الذَّاتِ الّتي أصْبحتْ بُؤرة للتفاعلات الكونيَّة، فكانت ولادة القصيدة الجديدة من أجْلِ تمكينِ التَّعبير عن الذات الجديدة ولِتعكس التحوُّلات النَّاشطة، في عالم مُتحوّل، فكان النَّمط الشعري الجديد خيْر مُعبِّرٍ عن التمزُّقِ والانْشِطار الدرامي في هذا العصْر. وهذا ما حمَّلَ القصيدة أجواء دراميَّة مشحونة بالتوتُّرِ والقلقِ والاِضطراب والضَّياع ” [11] فقد اِهتمَّ الشِّعر الحديث بِخدمة النِّضال والمُقاومة وكان أحد أوجه ذلك تمجيد الأبطال والتغني بإنجازاتهم من ناحية وتصوير بشاعة أعمال العُنف والحرب التي يُخلفها الكيان الصهيوني من ناحية أخرى.
تنتمي القصيدة إلى الشِّعر الحُرِّ الذي يكسرُ مع القواعد الكلاسيكيَّة القديمة الّتي تنُصُّ على الالتزام ببنية عموديَّة في نظم الشِّعر يتوزع خلالها الكلام بين أصدار وأعجاز متساوية التفعيلات موحَّدة القافية والرويِّ. لكنَّ الشَّاعرة ولئن تحرَّرت من البحر والبيْت واستعاضت عنهما بالسطر فإنَّها لمْ تقطع صلتها بالسُّنن الشِّعريَّة القديمة فالتزمت بالتفعيلة (الوحدة الإيقاعيَّة الدنيا في العروض) مفاعلتنْ[—V] إلَّا أنها لم تلتزم بعدد التفعيلات ولا بوحدة القافية، الأمر الّذي ساهم في تشكيل ملامح الإيقاع الخارجي للقصيدة وأبرز غنائيتها.
- الصَّوْت
” لقدْ أتاح النَّظْمُ الحُرُّ للشَّاعرِ المُعاصِرِ حُريَّة في التَّشكيل الإيقاعي للقصِيدة لم تزل تتَّسِعُ بِتطوُّرِ المُمارسة الشِّعريَّة حتَّى بلغت مدى لم يعهده الشّعر العربي على اِمتداد تاريخه الطَّويل. ولئن اِقْتصرت البدايةُ مع رُوَّاد هذا الضَّرْبِ من النّظم الحُرِّ على التخلُّصِ من حيِّزِ البيْت ذي الشَّطريْن والتصرُّفِ في عدد التفاعيل في البيْت الواحد وتجريد القافية من صبغة الإلزام وطابع الانْتظام، فإنَّ المُمارسة الشِّعريَّة قد أفْضت إلى جوازات جديدة لم تكن في حُسبان رائدي هذا الشِّعر الجديد” [12]، ولقد مرَّت فدوى طوقان خلال تجربتها الشعريَّةِ بِثلاثةِ أطوارٍ رئيسيَّة: الرومانسيَّة ويُمثِّلُها ديوان وحدي مع الأيَّام الصَّادر سنة 1952، مرحلة التَّجريب على الشِّعر الحُرّ ويُجسِّدها ديوانيْها “وجدتها 1957″ و”أعطنا حُبًّا 1960″ ثُمَّ مرحلة الانخراط في الحداثة الشعريَّة وتبنيِّها في دواوين ” أمام الباب المُغلق 1967 “، “الليلُ و الفُرسان 1969″، ” على قمَّة الدنيا وحيدا 1973 ” و” تموز والشيء الآخر 1989 ” والقصيدة الّتي نشرح تتنزَّلُ في هذه المرحلة الأخيرة التي ذكرنا، هذه المرحلة الّتي يتجلى فيها إعراضها جليًّا عن طرائق النظم التقليدي والديباجة الكلاسيكيَّة وولوعها بِمسالك النَّظم الحُرِّ وتُعدُّ المجموعة الشِّعريَّة ” الليل والفُرسان” التي منها اُقتطفا هذه القصيدة خيْر مُجسِّدٍ لِذلك ففيها نلمسُ نُقلة شِعريَّة مُتميِّزةً للشاعرة تنمُّ عن رُؤيا أدبيَّة واعيةٍ تتجاوز تصوير الواقع بما هو عليه من نُقصٍ. ويُعدُّ الإيقاع في القصيدة الحُرَّة أحد أبرز مظاهر الحداثةِ الفنيَّة والتحرُّرِ من ضوابط الشعر العمودي وينقسمُ هذا الإيقاع على ضربين داخلي و خارجي.
* الإيقاع الخارجي
يُولي الشّاعر الحديثُ أهميَّة كُبرى لهندسةِ القصيدة وبِنائِها مُسْتعملا في ذلك تصاميم ومواد يختارها اختيارا دقيقًا نوردها تباعا:
+ الوزن الشّعري: لئِن تحرَّرت الشَّاعرةُ في هذه القصيدة – كما في جُلِّ القصائدِ – من البحر والبيت فقد حافظت على وحدة التفعيلة إلَّا أنَّها لم تلتزم بعدد التفعيلات في كُلِّ سطرٍ شعري ولا بوحدة القافية في الأسطر المُتتالية، فقد أظهرت هذه القصيدة في بنيتها الموسيقيَّة لدى طوقان نمطًا جديدا أخرجها عن المألوف لدى السَّلفِ، فاعْتماد السَّطْر الشِّعري – وهو الّذي يتفاوت تركيبهُ بين الحرف الواحد و الجُملة الكاملة – عوضًا عن البيْت أدى بطبيعة الحال إلى إخلال في بنية الأوزان المُعتادة فقد تتوالى على سبيل المثال تفعيلات البحر في ترتيبها من دون قيد عددها في السطر الواحد، أو ترد التفعيلة ناقصة، مُوزعة بين سطرين أو أكثر، إذْ ” يقعُ الانْتقالُ فجأةً من الجُمل الطويلة المُتساوية إلى جُملة إيقاعيَّة قصيرة ينْتهي بها إيقاع القصيدة. بذا تشيعُ في المقْطعِ وفي كُلِّ القصيدةِ حركة قوامُها التحوُّلُ من نسقٍ إيقاعي إلى آخر. فنحْصُلُ على أنْساقٍ مُختلفة الوجهات ” [13].
اِعتمدت الشّاعرة تفعيلة الوافر “مُفاعلْتُنْ” لكن باختلاف مُتفاوت بين الأسطر وقد أوردنا هذا الجدول الإحصائي لنبين به اختلاف توزع عدد التفعيلات الّتي بلغ عددها الجُملي (187تفعيلة) بين مجموع الأسطر الشعرية (88 سطر)
عدد التّفعيلات في السطر | عدد الأسطر | النّسبة إلى عدد الأسطر |
1 | 14 | 16% |
2 | 50 | 57% |
3 | 23 | 26% |
4 | 1 | 1% |
بناءً على نتائج الجدول السَّابقِ نلاحظُ هيمنة الأسطر الشعريَّة ثُنائية التّفعيلة بِنسبة (57%) وتحتلُّ الأسطر الشِّعريَّة ثُلاثيَّة التفعيلة المرتبة الثانية بنسبة (26%) أمّا الأسطر الشعريّة اُحادية التَّفعيلة فتأتي في مرتبة ثالثة بنسبة (16%) بينما يحتلُّ السَّطر الشعري اليتيم رباعي التّفعيلة المرتبة الأخيرة بنسبة (1%).
نتيجة لذلك نُشير أن الشَّاعرة أنَّ الشّاعرة مالت إلى بناء الأسطر الشعريّة ثنائية التفعيلة أكثر من غيرها وهذا الاختيار البنائي سواء كان فعلا إراديا أو لا شُعوريًّا يُعتبرُ خصيصة أسلوبيَّة مُميَّزة لقصيدة لن أبكيَ فالتفعيلةُ كوحدة بنائيَّة يُمكن للشاعر أن يوظِّفها بحريَّةٍ وتنبع من قلب التجربة في حركيَّتها النفسيَّة والجماليَّة ” [14] فالشاعرُ ” وإنْ كان يستطيعُ في النَّفسِ الواحدِ أن ينطق بمقاطع كثيرة، إلَّا أنَّ قُدرتهُ في هذا محدودة، يُسيطرُ عليها ماهو فيه من حالة نفسيَّة، وهو حين يكون هادئًا وادعًا أقدر على النُّطق بمقاطعه الكثيرة دون أن يشوبها إبهام في لفظها، وهو أقلُّ قدرة على هذا حين يكون مُتلهِّفًا سريع التنفُّسِ كما هو الحال في الانفعالات ” [15]
+ القافية: تُساهم القافية في تشكيل ملامح الإيقاع الخارجي للقصيدة الحديثة وإبراز غنائيتها ومن وظائفها تأطير الجُملة الشعريَّة وضبط مراكز الثقل بين الكلمات بمُدى زمنيَّة بين سطر شعري وآخر ذات دور في بناء إيقاع وثيق الارتباط بدلالة القصيدة. ودور القافية ليس مُنحصرا في الجانب الغنائي فحسب بل هو بالغ الأهمية في تشكيل دلالات القصيدة ومعانيها ولدراسة نظام القوافي في قصيدة لن أبكي خصصنا الجدول التالي لدراسة تواتر الحروف المُهيمنة.
الحروف | العدد | النسبة المائويّة |
ء | 3 | 3.40 % |
ب | 4 | 4.54 % |
ت | 4 | 4.54 % |
ح | 6 | 6.81 % |
د | 1 | 1.13 % |
ر | 9 | 10.22 % |
ز | 1 | 1.13 % |
س | 5 | 5.68 % |
ض | 2 | 2.27 % |
ف | 1 | 1.13 % |
ق | 5 | 5.68 % |
ك | 4 | 4.54 % |
ل | 3 | 3.40 % |
م | 11 | 12.5 % |
ن | 18 | 20.45 % |
ه | 1 | 1.13 % |
و | 2 | 2.27 % |
ي | 7 | 7.95 % |
ع | 1 | 1.13 % |
من اِستقراء الجدول السّابقِ نُدركُ أنَّ الحروف الثلاثة الأولى المُهيمنة على المُستوى المُوسيقي في قوافي قصيدة لن أبكي هي النون بنسبة (20.45%) والميم بنسبة (12.5 %) و الراء بنسبة (10.22%) وهذه الأصوات “تشتركُ في وضُوحها الصَّوتي وهي، وهي من أوضح الأصوات السّاكنة في السَّمع … فهي جميعا ليْست شديدة أي لا يُسمعُ معها انْفجارًا، وليْست رخوة فلا يُسمعُ لها ذلك الحفيف الّذي تتميَّزُ به الأصوات الرّخوة لذلك عدَّها القدماء من الأصوات المُتوسِّطة”[16]. أمَّا أنظمة تردد هذه القوافي فكانت مُختلفة، وبإمكاننا تحديد هذه الأنظمة المُختلفة، وتقديم نماذج لها على النحو التّالي:
+ نظام ( أ – أ ) : أي تكرار حرف الروي نفسه في سطرين مُتتاليْن
تُنادي من بناها الدّارُ
وتنعى من بناها الدّارُ
—-
هُنا حلموا
هُنا رسموا
—-
يُحوِّمُ في حواشيها
يمُدُّ أصوله فيها
….
هذا النّظام الإيقاعي هو الأكثر تواترا في قصيدة لن أبكي حيْثُ يُتيح للشاعرةِ إمكانية التحول في القوافي بين روي و آخر دون أنْ تتقيَّد بحرف واحد في مجموعة كبيرة من الأسطر الشعرية.
+ نظام ( أ – ب- أ ): أي تردد ثنائي للحرف ذاته مع ظهور حرف دخيل بينهما.
بيْن الرَّدم والشّوك
وقفْتُ وقُلْتُ للعيْنيْن: يا عيْنيْن
قِفا نبْكِ
—–
تُباركه وتُفدِّيه
ومن ذوب العقيق و من
دم المُرجان تسقيه
—–
على طُرقاتكم أمضي
وأزرعُ مثلكم قدميَّ في وطني
وفي أرْضِي
إنَّ هذا التنويع في نظام التقفية والتخلُّص من مبدإ الالتزام بتوحيد القوافي مزية يمنحها الشعر الحرُّ للشعراء الذي تُهيمن عندهم الفكرة على البنية الإيقاعيَّة فتتنوع بذلك القافية وتتلون ” استجابة لتلون حالاتهم النفسيَّة، و لاختلاف مقصدياتهم ” [17].
* الإيقاع الداخلي
+ التِّكرار
يُعدُّ التّكرار سمة أسلوبيَّة مولِّدة للإيقاع في الشعر العربي عامَّة لكنَّ هذه السمة شكَّلت ظاهرة لافتة للانتباه في المُنجز الشعري الحديث فالمُتتبع لشعراء الحداثةِ وشِعرهم “يُدركُ إدراكا أوليًّا أنَّ بنية التكرار هي أكبر البُنى التي تعامل معها هؤلاء الشعراء ووظفوها بِكثافة لإنتاج الدلالة ” [18] وقد تضمنت القصيدة محل الدرسِ تكرارات مُتنوعة بعثت في القصيدة ضربا إيقاعيًا مُميزا نفرِّعُها كالآتي:
التكرار العمودي: ونقصدُ به التّكرار المبني على “تكرار كلمة أو عبارة في أول كلِّ بيْت من مجموعة أبيات متتالية” [19] الأمر الّذي يصْنعُ إيقاعا مُميَّزا في المقطع الشعري ومن نماذج هذا النّمط
على أبواب يافا يا أحبائي
على أطلال من رحلوا وفاتوها
على طرقاتكم أمضي
——
هُنا كانوا
هُنا حلموا
هُنا رسموا
——
لن يرتدَّ فينا المدُّ والغليانُ
ولن ينداح في الميدان
ولن نرتاح لن نرتاح
ولهذه التكرارات جانبها الدلالي الذي يُعبِّرُ عن إحساسات الشاعر وأحواله النَّفسيَّة “فالنمط التكراري يُحقِّقُ معهُ دفع المعنى إلى النمو تدريجيًّا وصولا إلى تحقيق الهدف الدلالي” [20]
التّكرار الأفقي: ونقصد به تكرار نفس الكلمة في نفس السطر وهذا الضرب من التّكرار يُعد ضئيل الحُضور مُقارنة بالتكرار العمودي ومن الأمثلة على ذلك:
وهل جاءتك بعد النَّأي هل
—
فأين الحُلم الآتي و أيْن هُمو
—-
وكان .. وكان
—-
ولن نرتاح لن نرتاح
هذه التكرارات بمختلف أنواعها تنفذ إلى أذن السامع فيُدرك منها تماسك البنية الصوتية للقصيدة هذه البنية التي يكتمل تشكلها جماليًّا مع السّامع الّذي جعلت منه الدراسات الأسلوبية جزءً لا يتجزؤ من النصِّ.
+ الجِناس
على الرّغم من اندراج هذه القصيدة في مرحلة الحداثة وتجاوز القوالب الكلاسيكية المعهودة في نظم الشعر إلَّا أنَّ الواضح أنَّ الشاعرة لم تنْبتَّ تمام الانبتات عن السنن الشعريّة القديمة وهذه القصيدة خير دليل على ذلك فقد احتوت عناصر بديعية مختلفة من تضمين وطباق وجناسٍ مع هيمنة وطُغيان هذا الآخير.
أوَّلُ ما يُلاحظُ في هذه القصيدة هيمنة الجناس غير التّام أي تشابه كلمتيْن لفظًا لكن مع اختلافهما في بعض الحركات أو تغيُّر ترتيب الحروفِ أو استبدال حرف بحرف آخر مجاور له صوتيًّا ومن الأمثلة على ذلك [حلموا، رسموا] [أين همو، غيابهمو] [مبلول، مخذول] [تسقيه، تعطيه] [البيرق، الفيلق] [الجرحْ، القمحْ]
لقدْ أسهمت هذه الجناسات على اختلافها تمنح القصيدة إيقاعا مميزا في أذن المتقبِّلِ فهو يُعوِّضُ إلى حدٍّ كبيرٍ النقص الإيقاعي الخارجي الّذي تمنحه تفعيلات البحور والقوافي وقد تداركت الشاعرة الأمر باعتماد هذا المُحسن البديعي الأمر الّذي جعلها توائم بين توجهها الشعري الحداثي وغنائية القصيدة الشرط الأساس لمرونة تقبل القصيدة واستساغتها.
الخاتمة
تأثّرت السّاردة بالعوامل السَّياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة في منتصف القرن التّاسع وبداية القرْن العشرين المنادية بضرورة تحرير المرأة ومساواتها بالرّجل فأخذت تُعبّرُ عن توقها في تحقيق حلم المساواة في مجتمع يُمجد الذكورة وتبحث عن تحقيق ذاتها، فكانت الكتابةُ خير أداةٍ بها استطاعتْ الكاتِبةُ التَّنْفيس عن ذاتها الحبيسة والتخَلُّصَ من اكراهات الحياةِ والتحرُّر من مُكبِّلاتها، إنَّها مُمارسَةٌ تَشْعُرُ من خلالها المَرْأةُ الكاتِبة أنَّهَا كائِنٌ حُرٌّ قادرٌ فَهْيَ وسيلةٌ بها تَسْتعيدُ توازنها النَّفْسي. فـ” حادِثَةَ المرْأة والكتابة لا تَقِفُ عِنْد ظاهرها الإبداعي وكأنَّما هِيَ مُجرَّد إنْجاز ثَقَافِي ولَكِنَّها تَتَعَدَّى ذَلَكَ لِتَكُونَ ضَرُورة نَفْسِيَّة أكْثَر مِمَّا هي ضَرُورة ثقافِيَّة” [21] فـ”المرْأة الكاتبة تتوقُ إلى تكريسِ مقومات هويتها بتبنِّي قضايا المرْأة وتقديم البدائل الممكنة” [22]. لذلِكَ لم يُمثل حدثي الكتابة وقرض الشّعر عند فدوى طوقان مجرّد ظاهرة تَسِمُ المشهد الثقافي، فالكتابة عندها ترويحٌ عن الذاتِ وتنفيسٌ عن الأنا المكبوتة لذلك كثيرًا ما كانت متسمةً بالقلق والاكتئابِ نظرًا لكونها لصيقة الذّات، فالإنجاز الأدبي “هو الوسيلة الأساسيَّة للخروج من هموم الذات والانضمام إلى الجماعة، فأصبحت الموهبة الإبداعيَّة بمثابةِ جواز سفر تسمح لمرأة دخول الحياة العامَّة”[23] وفي هذا السياق تنزَّلُ اختيارنا لهذه القصيدة بالذّات باعتبارها منجزا شعريًّا فرديًّا يلتحم بمشاغل المجموعة ويتدارسها، فتتبعنا الخصائص الأسلوبية للبنية الإيقاعيَّة في هذه القصيدة بوصفها أكثر عناصر الحداثة الفنية في الشعر الحُرِّ الّذي كانت طوقان أحد أهم رموزه الإبداعيَّة، فأسفرت لنا هذه الدراسةُ عن انعتاق الشاعرة من اِيسار الضوابط التقليدية لنظم الشعر إذْ لا يكادُ يغيبُ عُنصر من عناصر البنية الإيقاعيَّة الحديثة إلَّا أولته اهتمامًا، فتأهل شعرها أن يُقرأ في إطار النّظرة النقدية الحديثة الّتي تنبني على العلاقة الجدلية المُتفاعلة بين البنية الإيقاعيّة والبنية الدلاليّة والّتي تجسدت بجلاء بعد مُقاربتها في ضوء المنهج الأسلوبي.
إنَّ هذا التّمرد على طرائق الديباجة الكلاسيكية للشِّعر يُبطن في داخله رفْضًا وتمرُّدًا على الأعراف الاجتماعيَّة التي أقرها المُجتمع وما التّمرد على سُنن الكتابة إلا واحد من وجود عدة ثارت عليها جُملة من الشّاعرات الطلائعيات منتصف القرن الماضي بدءً من الشّاعرة العراقية نازك الملائكة التي اختطَّت المسالك الأولى لهدي السبيل أمام التابعاتِ.
إنَّ الأسلوبيّة باعتبارها ممارسة إجرائيّة تُشرح باطن النّص وتُجزئه تساعد الباحث وبطريقة موضوعيّة علمية على الاقتراب من ملامح الطرافة والتميّز والاختلاف لدى منشئ النصِّ انطلاقا من أسلوبه الذي يُشكل بصمته الخاصة به عن غيرهِ. والتجربة الإبداعيّة الأنثوية باعتبارها تجربة فريدة ومُشاكسة تنأى بالمرأة عن الهامش الّذي خصها به الرجل و تنحو بها صوب المركز تبرز جدتها وطرافتها في ضوء القراءة الأسلوبيّة الّتي تمنحها دفقا جماليًّا متجدّدا.
*******
[1] المقْصود بالانحراف أو الاِنزياح هو : ” تكرارُ صوْتٍ أو قلبِ نظام الكلِمات أو بِناءِ تسلْسُلات مُتشابِكة من الجُمل و كُلُّ ذَلِكَ يخْدمُ وظيفةً جماليَّة كالتَّأكيد أو الوضوح أو عكس ذلك كالغُمُوض أو الطمس المُبرَّر جماليًّا “( أوستن وارين، رينيه ويلك، نظريَّة الأدب، ترجمة موحي الدِّين صُبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفُنون و الآداب والعُلوم الاجْتماعيَّة، 1972، ص ص 231-232.
[2] لُطفي عبد البديع، التَّرْكيب اللُّغوي لِلأدب، النَّهْضة المِصْريَّة، ط 1، 1970، ص 107، نَقْلا عنْ فتْح الله أحمد سليمان، الأسْلوبيَّة مدخل نظري ودراسة تطبيقيَّة، مكتبة الآداب، القاهرة، 2004، ص 31.
[3] فتْح الله أحمد سليمان، الأسْلوبيَّة مدخل نظري و دراسة تطبيقيَّة، ص ص 12-13.
[4] المرجع نفسه، ص 14.
[5] بيير جيرو، الأسلوبيَّةِ، ترجمة مُنذر عيَّاشي، مركز الإنماء الحضاري، ط 2، 1994، ص 54.
[6] يحي سعدوني، دراسة أسلوبيَّة في ديوان أعراس لمحمود درويش، مُذكَّرة لِنيل شهادة الماجستير، إشراف مُصطفى درواش، المركز الجامعي أكلي محمد أولحاج بالبويرة، الجزائر، ص 41.
[7] بيير جيرو، الأسلوبيَّةِ، ص 76.
[8] بيير جيرو، الأسلوبيَّة، ص 125.
[9] صلاح فضْل، علْم الأسلوب مبادئهِ و إجراءاتهِ، دار الشُّروق، القاهرة، 1998، ص 225.
[10] رامي علي أبو عايشة، اِتِّجهات الدَّرْس الأسلوبي في مجلَّة فُصُول (1980-2005)، دار ابن الجوزي للنَّشْر والتَّوزيع، ط 1، 2010، ص 64.
[11] منيف موسى، في الشِّعر و النَّقْد، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1985، ص ص 211، 212.
[12] فتحي النَّصْري، السِّردي في الشِّعر العربي الحديث، ميسكيلياني للنَّشْر و التوزيع، تونس، 2006، ص ص 234،235.
[13] محمد الخبو، مدخل إلى الشِّعر العربي الحديث، دار الجنوب للنَّشْر، تونس، 1995، ص 75.
[14] إبراهيم رُمَّاني، الغموض في الشعر العربي الحديث، ديوان المطبوعات الجامعيَّة، الجزائر، 1980، ص 209.
[15] إبراهيم أنيس، موسيقى الشِّعر، مكتبة الأنجلو المِصريَّة، ط 4، القاهرة 1997، ص 175.
[16] إبراهيم أنيس، الأصوات اللغوية، مكتبة الأنجلو المصريَّة، ط 4، القاهرة، 1999، ص 58.
[17] محمد مفتاح، دينامية النص (تنظير وإنجاز )، المركز الثقافي العربي، ط 3، 2006، ص 55.
[18] محمد عبد المُطلب، بناء الأسلوب في شعر الحداثة، دار المعارف، مصر، ط 2، القاهرة 1995، ص 381.
[19] محمد شرتح، ظواهر أسلوبيَّة في شعر بدوي الجبل، منشورات إتحاد كتاب العرب، دمشق، 2005، ص 8.
[20] محمد عبد المُطلب، بناء الأسلوب في شعر الحداثة، ص 117.
[21] عبد الله الغذامي، المرْأة واللغة، المركز الثَّقافي العربي، الدَّار البيْضاء، ط 3، 2006، ص 137.
[22] بوشوشة بن جمعة، الرواية النسائيّة المغاربية، ص 104.
[23] أمل التميمي، السيرة الذَّاتيَّة النسائيَّة في الأدب العربي المُعاصر، ص 172.
المصدر: https://www.alawan.org/2019/10/29/الخصائص-الأسلوبيَّة-في-التجربة-الشعر/