الفرد والمجتمع بين المسؤولية الفقهية والدينية: فروض العين وفروض الكفاية

الفرد والمجتمع بين المسؤولية الفقهية والدينية: فروض العين وفروض الكفاية

وهبة الزحيلي*

خصائص الإسلام المتعلقة بالموضوع

العالمية والخالدية والخاتمية والتكامل والشمول هي مقومات الإسلام الأساسية ذي الأصول والجذور الإلهية الثابتة بالوحي الإلهي الذي اشتمل عليه الدين الأوحد الثابت من عند الله –عز وجل- الذي تكفل الله بحفظه في كتابه المجيد، وحفظ روافده، لقوله –تعالى-: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾(سورة الحِجْر:9) وهو الذي أتم الله به النعمة على المؤمنين وأكمل به الدين، لقولـه –عز وجل-: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾(سورة المائدة:3) فإتباعه والإيمان به واجب كل إنسان في الدنيا، لأنه يحقق السعادة والنجاة له، فيكون من الخالدين، ويسلم من العذاب والعقاب الأخروي.

أما العالمية: فالإسلام دين ذو نزعة عالمية يمتد وينتشر بالإقناع والرضا العقلي، وبالحوار، والأسوة الحسنة من خلِّص المتدينين به، كما وصفه الله –عز وجل- في كتابه المبين: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾(سورة الفرقان:1) وفي آية أخرى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين﴾(سورة الأنبياء:107). وترتب عليه أن أمة النبي –صلى الله عليه وسلم- قسمان: أمة دعوة شاملة، وأمة إجابة وقبول.

وأما الخالدية: فهو الدين الباقي إلى قيام الساعة وانتهاء عالم الدنيا، لقوله –تعالى- في مطلع ثاني سورة من القرآن وأكبر سورة قرآنية: ﴿آلم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين﴾(سورة البقرة:1-2) وقوله –عز وجل-: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾(سورة الأنعام:19) ويوضح هذا المبدأ ويؤكده قول النبي العربي الهاشمي المصطفى –صلى الله عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم - أو من خالفهم - حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك)(1).

وأما الخاتمية: فهو خاتم الدين الإلهي والشرع الرباني، فلا كتاب بعد القرآن الكريم، ولا شرع بعد الإسلام، ولا نبي ولا رسول بعد محمد -عليه الصلاة والسلام-، لقوله –تعالى-: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾(سورة المائدة:48) وقوله –عز وجل-: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾(سورة الأحزاب:40).

وأما التكامل والشمول: فهو دين الحق الكامل الشامل، عقيدةً وشريعة ونظاماً ومنهج حياة، وللدنيا والآخرة، وديناً ودولة، نظَّم علاقات الإنسان الثلاث: علاقته بربه وخالقه، وعلاقته بالمجتمع والأمة والجماعة، وعلاقته بالكون الأعظم والنفس البشرية، أساسه ومنشؤه الوحي الإلهي، يجمع بين السمو والكمال والواقعية، ويفصَّل أحكام الإيمان والعبادات والمعاملات الشاملة لنظام الأسرة والأحكام المدنية والجنائية والإجرائية والدولية والاقتصادية والمالية، وبناء الأخلاق القويمة والآداب الرفيعة، ويوصف بالصفة الدينية في بيان الحلال والحرام، وترتبط جميع أحكامه وشرائعه وعقائده ارتباطاً وثيقاً لتحقيق غاية سامية شاملة هي صلاح الفرد والحاكم والمجتمع والأمة، مع بيان المؤيدات المدنية من صحة وفساد وفسخ وبطلان وتوقف ولزوم وعدم لزوم، والمؤيدات الجزائية من حدود (عقوبات مقدرة) وتعازير (عقوبات مفوضة للحاكم أو القاضي بحسب ما يراه من المصلحة في ضوء مقاصد الشريعة) ونزعته الموازنة والعدل بين رعاية مصلحة الفرد والجماعة والدولة والأمة، رعاية لمقتضيات الفطرة الإنسانية السوية والصحيحة، وما يفرزه العقل الرشيد، ويحقق المصلحة العامة والخاصة، فهو بكلمة واحدة دين الكمال والشمول، لقوله –تعالى-: ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (سورة المائدة:3).

وتجاوباً مع هذه الخصائص والأصول العامة كان الإسلام أمانة عظمى في أعناق أتباعه، وكان المسلمون أمناء ومسؤولين عن حفظ دين الله وشرعه، مسؤولية عامة وخاصة، في الدنيا والآخرة، ومسؤولية مباشرة عن تبليغه ونشره في أرجاء العالم، وعن تعليمه وتعلمه، ومراقبة تطبيقه والاستجابة لـه فعلاً، وعن إشادة بناء الفضيلة، وقمع الفساد والرذيلة، سواء الحكام المؤمنون به، والجماعات، والأفراد، والعلماء والعاملون به. وتتفاوت درجة المسؤولية بحسب الحاجة إلى البيان، فيكون البيان إما فرض عين، وإما فرض كفاية.

وهذه المسؤولية تكليف وتشريف، بل ومن أجل حفظ الوجود الإسلامي، وصون الديار والممتلكات والأعراض والقيم، بل وحفظ وجود المؤمنين بالإسلام ديناً ودولة، وعقيدة وشريعةً، ونظام حياة، وتوفير عزة المسلم وكرامته، كما قال الله –عز وجل-: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُون﴾(سورة المنافقون:8).

والمسؤولية تشمل أصول العقيدة أو الإيمان، وأحكام الشريعة المنصوص عليها والدين، والفقه والاجتهاد لمواكبة أحوال التطور والتغير والتجديد وإعمال العقل والفكر، لرعاية الأعراف الصحيحة، والمصالح المتغيرة وما يستجد من مسائل وقضايا، فتسير القافلة في مظلة رعاية الثوابت الأثلية والمتغيرة، والأصالة والمرونة، والضرورات والحاجات، من عزائم (أحكام عامة معتادة) ورخص شرعية (أحكام استثنائية) لأن الإسلام دين اليسر والسماحة والحيوية المتجددة.

تبليغ الدعوة الإسلامية: أما تبليغ أصول العقيدة والإيمان والشرائع والأحكام: فهو واجب كل مسلم، فرداً أو جماعة، لأن أول معطيات نشر الدعوة الإسلامية هو إعلاء كلمة الله: كلمة التوحيد والحق والعدل، وقد أنيطت هذه المسؤولية بالصفة الأساسية الأولى لتحقيق مبدأ القدرة أو الأسوة الحسنة، عملاً بقول الله –عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين﴾(سورة المائدة:67) وهكذا كانت مهام رسل الله الكرام جميعاً، كما عبَّر القرآن الكريم عن أول رسول وهو نوح -عليه السلام-في قوله -عز وجل-: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾(سورة الأعراف:62).

وأدى النبي -عليه الصلاة والسلام- في حياته الشريفة مهمة التبليغ على أتم وجه، حيث بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، امتثالاً لأمر ربه في قوله: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾(سورة النحل:44).

ثم حمَّل هذا النبي مسؤولية تبليغ دعوته كل مسلم على مدى الأجيال المتلاحقة إلى يوم القيامة، فقال –صلى الله عليه وسلم-: (بلِّغوا عني ولو آية..)(2).

التعليم والتعلم والتثقيف: إن آفة المسلمين اليوم تتمثل بجهلهم، كما نشاهد واضحاً في كل بلد لدى الأكثرين، عرباً وغير عرب، مع أنه يُلزم الإسلام أتباعه رجالاً ونساء بتعلم الضروريات التي لابد منها لصحة العبادة والمعاملة الحضارية، وأمتنا هي أمة (اقرأ) التي بدأ الوحي القرآني بها للتنويه بأهمية الكتابة والقراءة، فهي نور ومدخل لترقية الأحاسيس وتنمية الوجدان وتغذية العقول، وضبط التصرفات والسلوك، ولقد نوَّه القرآن بالعلم بصيغة المصدر زهاء مائة مرة، فضلاً عن الأفعال المضارعة والماضية وأسماء الفاعل المشتقة من العلم، منها قوله –تعالى-: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾(سورة الكهف:114)، وقولـه –سبحانه-: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾(سورة المجادلة:11).

وورد في السنة النبوية عشرات الأحاديث في حكم العلم، منها: (طلب العلم فريضة على كل مسلم..)(3) ، ومنها: (العلماء ورثة الأنبياء)(4).

ولم نجد إطلاقاً نظاماً مثل الإسلام يجعل التقصير في التعليم والتعلم جريمة اجتماعية، يستحق مرتكبها العقوبة الدنيوية (التعزير) كما روى الحافظ المنذري في (الترغيب والترهيب): أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خطب ذات يوم، فأثنى على طوائف من المسلمين خيراً، ثم قال: (ما بال أقوام لا يفقِّهون جيرانهم ولا يعلِّمونهم، ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم، ولا ينهونهم؟! وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون، ولا يتعظون؟! والله ليعلُّمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون، أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا).

ويزداد الإيجاب والإلزام فيما يتعلق بتوعية المسلمين وتعريفهم بشؤون دينهم، وتقوية الشعور والحرص على معطيات الإسلام، حتى يكون العلم عاصماً من كل سوء، وحفظاً من كل مظهر من مظاهر التخلف، ونبراساً يستضاء به في مختلف أحوال اليسر والعسر، والفرج والشدة، والرخاء والضعف أو الانحدار، لتظل الأمة قوية، لا تهزّها الأحداث والملِّمات، ولا يفقدها ذاتيتها الرفاه والترف، ولتبقى شخصيتها على الدوام محصَّنة من الداخل والخرج، فلا تذوب ولا تنماع، وبخاصة الأقليات المسلمة في بلاد غير المسلمين، أو عند التعرض لمحنة أو احتلال أو استعمار أو تدخل في شؤونها ومحاولة النيل من كيانها أو المساس بشرف أوطانها.

وقد أشاد العلماء المسلمون الذي شُبِّهوا بأنبياء بني إسرائيل في العلم بقيمة العلم، والمراد كما ذكر الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: علم المعاملة، والمعاملة التي كلِّف العبد المخلوق العاقل البالغ العمل بها ثلاثة: اعتقاد، وفعل وترك، وقال: التعليم والعلم هما أعظم العبادات في الدنيا، وقسم الغزالي العلم قسمين: فرض عين، وفرض كفاية، وقال أيضاً: علماء الأمة المشهورون بالفضل هم الفقهاء والمتكلمون، وهم أفضل الخلق عند الله تعالى(5).

مراقبة تطبيق الأحكام الشرعية: على المسلمين قاطبة حكاماً ورعية، أو جماعات وأفراداً أن يكونوا في غاية الحساسية والشفافية ومراقبة تطبيق الأحكام الشرعية، من عبادات ومعاملات، لتسلُّم أمور الدين، وتظل محروسة بعناية ورعاية، فلا يتجاوزها إنسان، ولا يقصر في احترامها والعمل بها أحد. أما الحاكم أو الدولة، فقال الماوردي في بيان مهمات أو واجبات الإمام الأعظم: والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء، أذكر منها اثنين وهما:

أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبيَّن له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.

الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النَّصَفة أي (الإنصاف) فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم(6).

ومن مؤسسات الرقابة الإسلامية: ولاية المظالم لمحاكمة الولاة والقادة والوزراء ورئاسة الوزارة وقادة الجيش ونحوهم، وعرَّفها الماوردي بقوله: نظر المظالم: هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة(7). وهي تشبه في عصرنا مجلس الدولة.

ومن هذه المؤسسات على الأسواق: نظام الحسبة لمراقبة الغش وتطفيف الكيل والميزان، وأحوال الأسعار، والاحتكار ونحو ذلك، والحسبة: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله(8)، قال الله -تعالى-: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾(سورة آل عمران:104) وأركانها أربعة: المحتسب، والمحتَسب عليه، والمحتسب فيه، ونفس الاحتساب لكل ركن شروط(9). ويقوم بها اليوم وزارة التموين والداخلية عن طريق الشرطة.

وعلى المستوى الأخلاقي والاجتماعي يجب تخصيص هيئة مستقلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أفق عام لمراقبة تطبيق الأحكام الشرعية بين المسلمين، وبخاصة الأحكام الاجتهادية غير المنصوص عليها صراحة في النصوص الشرعية كالعبادات والآداب العامة، وترصد هذه الهيئة مدى تفاعل الأمة مع تعاليم الإسلام، لبناء قاعدة صلبة تلتزم بأحكام الشريعة، كما تشخصِّ المشكلات والأمراض الاجتماعية الناشئة عن سوء تطبيق الأحكام الشرعية، لتفادي الانتكاسات، والبعد عن السلبيات، وعلاج أوجه القصور والإهمال، واقتراح ترتيب الأوليات في الأحكام بحسب حاجات المجتمع الإسلامي، وعلى هذه الهيئة وضع أفضل المناهج والأساليب لإنجاح مهامها مسترشدة بتوجيهات القرآن والسيرة والسنة النبوية وبالعلوم الاجتماعية والتربوية والنفسية الحديثة مركّزة على الأولاد الصغار والنساء وأرباب الاقتصاد، وولاة الأمور في كل بلد، ومع رعاية التنسيق مع الهيئات الأخرى في بلاد المسلمين، والعناية بشؤون الصحة والتعليم ومكافحة الأمية والجهل، ورصد درجة التقدم بين المسلمين وبين الأمم والشعوب، عسكرياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً.

رعاية قواعد الفضيلة وقمع الفساد والرذيلة: إن من أهم قواعد رسالة الإسلام نشر الفضيلة أو الآداب والأخلاق الكريمة، ومقاومة كل ألوان الفساد والرذيلة، ليكتمل بناء المجتمع الفاضل بالعقيدة والعبادة والمعاملة الحسنة، ولأن البيئة الصالحة عون على الاستقامة على أمور الدين وحفظ النظام الصالح. والبيئة الفاسدة سبب في الانحراف والفسق وظهور المعاصي، والمعصية نار محرقة لصاحبها وللأمة والمجتمع، لذا جعل الإسلام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فريضة محكمة وسنة متبعة وشرعاً لازماً، بل إن مجالسة أهل المنكر والسكوت عن المنكر رضا به وعون عليه.

قال الغزالي: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين(10). وتضمن القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على وجوبه، منها الآية السابقة: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾(سورة آل عمران:104) وأضاف الغزالي قائلاً: ففي الآية بيان الإيجاب، فإن قوله –تعالى-: ﴿وَلْتَكُن﴾ أمر، وظاهر الأمر الإيجاب وفيها بيان أن الفلاح منوط به، إذ حصر وقال: ﴿وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾ وفيها بيان أنه فرض كفاية، لا فرض عين، وأنه إذا قام به أمة، سـقط الحرج عن الآخرين، إذا لم يقل: كونوا كلكم آمرين بالمعروف، بل قـال: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ﴾ فإذاً مهما قام به واحد أو جماعة، سقط الحرج عن الآخرين، واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين، وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون، عم الحرج كافة القادرين عليه لا محالة.

وكان من أهم أوصاف خيرية الأمة الإسلامية ثلاثة أمور: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله –تعالى-: في الآية الكريمة: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ..﴾(سورة آل عمران:110).

وقال العلامة إبراهيم بن يوسف أطفيش في شرح النيل(11): وجميع المعاصي محاربة لله –عز وجل-. وورد في الحديث المتفق عليه: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضت عليه..) وسواء في قوله (مما افترضت عليه) فرض العين وفرض الكفاية كالجهاد والأمر والنهي والحِرَف والصنائع.

وتدرَّجَ التوجيه النبوي في بيان مراتب مقاومة المنكر بحسب القدرة والسعة، كما في حديث أبي سـعيد الخدري –رضي الله عنه-، قال: سـمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يسـتطع فبلسـانه، فإن لم يسـتطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)(12) أي يكرهه به، ويعزم على تغييره إن قدر، وذلك الإنكار بالقلب أضعف الإيمان، أي أضعف خصال الإيمان، كما قال المناوي، والمراد به الإسلام، أو آثاره وثمراته.

ومنهاج التعامل في إزالة المنكر مع الحكام -منعاً من تسرب أفكار الإرهابيين-، يتبين بجلاء واضح في حديث عبادة بن الصامت –رضي الله عنه- قال: (بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع أي، (تنفيذ أوامر أولي الحكم)، والطاعة في العسر واليسر، والمَنْشط والمكَرْهَ، وعلى أَثَرة علينا أي (على تفضيله واختيار حكمه، وإتباع سنته. والاستئثار: الانفراد بالشيء)، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كُفْراً بَوَاحاً (أي: ظاهرًا)، عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم)(13).

والتقصير في مقاومة المنكر يعرِّض الأمة للعذاب الشديد، لحديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (والذي نفسي بيده لتأمُرُن بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله يبعث عليكم عذاباً منه، ثم تدعونه، فلا يستجيب لكم)(14).

التضامن أو التكافل في المسؤولية الاجتماعية: يتميز الإسلام عن غيره من سائر الأنظمة أنه لا يقتصُر أداء الواجب في أداء المسؤولية الدينية والفقهية عن الآخرين على فئة معينة أو طبقة محددة، مثل فئة رجال الدين المسيحي (أو الإكليروس) أو الحكام، أو العلماء مثلاً، وإنما المسؤولية عامة وشاملة كل مسلم أو مسلمة فيما يعلمه ويقدر عليه، ويتمكن من أداء مهمته في الدعوة والتذكير بالحكم الشرعي، وحمل الناس على طاعة الله ورسوله، مع بيان الحكمة أو السبب الموجب لوجود الأحكام الشرعية والمبادئ الإسلامية، ولا فرق بين حكم ديني تشريعي ورد به نص شرعي، أو حكم فقهي اجتهادي مجمع عليه، أو مبني على غلبة الظن، ورعاية مقاصد الشريعة، وتحقيق المصلحة، لأن (العمل بالظن واجب).

ومما ينبغي أن يقال: لا يصح لأحد النيل أو التهوين من الأحكام الاجتهادية المستنبطة من أئمة الاجتهاد، لأنها معتمدة على الأدلة الشرعية المقررة من النصوص أو حفظ المصلحة ودرء المفسدة، وإنما مهمة فقيه العصر أن يعمل بالاجتهاد الانتقائي أو الاختيار المناسب المحقق للمصلحة، ما دام الحكم مقرراً في مذهب معتمد، وغض النظر عن الآراء الشاذة، أو الضعيفة، أو الواردة في حواشي المصنفين أو المؤلفين القدامى دون اعتماد على دليل واضح، وبخاصة ما وترك التعصب المذهبي، أو المصادم لمنهج الإسلام في الأخذ باليسر والسماحة، وترك التشدد أو التطرف، لأن المهم كون الحكم الذي يحرص عليه هو المنسجم مع رعاية المصلحة العامة، ودرء المفسدة الضارة، وإعمال الحكم الشرعي في تحقيق الغاية، والاسترشاد بضوابط الشريعة، ومقاصدها العامة في رعاية مقتضيات الدين (عقيدةً وشريعة) والنفس (حق الحياة) والعقل أو الفكر الرشيد، والنسب أو العرض لصون الأسرة من الدخيل، والمال ومنع كل اعتداء عليه، في مظلة الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ..﴾(سورة النساء:29).

وتميُّز الأمة الإسلامية في مبدأ التضامن في المسؤولية الدينية والفقهية مستمد من الآيات القرآنية مثل قول الله -تعالى-: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾(سورة المائدة:2)، وقوله –عز وجل-: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم﴾(التوبة:71) والمعنى أن أهل الإيمان الحق بالله –عز وجل- يتناصرون فيما بينهم في الإيجابيات وهجر السلبيات، ويتعاونون في إرساء معالم الفضيلة وهي الأمر بالمعروف: وهو كل ما أمر به الشرع من صالح الأعمال كالدعوة إلى توحيد الله والعبادة المفروضة له، وفي مقاومة الفساد وهو النهي عن المنكر: وهو كل ما نهى عنه الشرع من قول أو عمل، كالظلم وارتكاب الفواحش، ويؤدون الصلاة المفروضة في أوقاتها، ويؤتون الزكاة الواجبة لتحقيق مدلول التكافل الاجتماعي لمحاربة الفقر والجهل والمرض وجهاد الأعداء المعتدين، ويطيعون الله ورسوله في أداء الأوامر واجتناب النواهي، أولئك الموصوفون بما ذكر لا غيرهم سيرحمهم الله تعالى بإنجاز وعده بنعيم الجنان والخلود فيها، إن الله قوي غالب لا يعجزه شيء، حكيم في صنعه وتدبيره، لا يضع شيئاً إلا في محله.

يؤكد ذلك الحديث النبوي الثابت في شأن التعاون على مقتضيات الإنقاذ والنجاة، ومنع كل أسباب الدمار والهلاك والإيذاء والفساد، وهو حديث السفينة عن النعمان بن بشير، عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (مَثَل القائم في حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا اسـتقوا، مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً(15).

ولا يغترن أهل الصلاح بصلاحهم، فقد يهلكون بفعل أهل الفساد، لقوله –تعالى-: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب﴾(سورة الأنفال:25).

ويوضح ذلك حديث ثابت عن زينب بنت جحش -رضي الله عنها-، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فزعاً يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب، فُتح اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلَّق بين أصبعيه: الإبهام والتي تليها، فقلت: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)(16) أي كثر الفسق والفجور، وهو تصوير لأوضاع العرب اليوم وقبل ذلك أو بعده.

درجة المسؤولية: يُعْنى الإسلام عناية فائقة وأساسية بتحقيق الغايات والمقاصد، وتوافر المصلحة ورعاية الحاجة، فلا تتلاشى الغاية في خضم الجماعة، متكلاً بعضهم على بعض، فتفوت المصلحة، وتضيع الحاجة، وإنما جعل درجة الحساسية والمسؤولية مترددة بين فرضية العين وفرضية الكفاية(17)، وهذا منهج حكيم وسليم.

وفرض العين: هو كل ما طلب الشرع فعله من كل فرد من أفراد المكلفين به، من غير أن يجزي قيام مكلَّف به عن آخر، كالصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، واجتناب الحرام وأنواع المعاصي كالخمر والفواحش.

وحكمه: أنه يلزم الإتيان به من كل مكلف، ولا يسقط طلبه بفعل بعض المكلفين دون بعض.

وفرض الكفاية: هو كل ما طلب الشرع حصوله من غير نظر إلى من يفعله، وإنما يطلب من مجموع المكلفين، كتعلم الصناعات المختلفة وتلقي العلوم الدنيوية من طب وزراعة وهندسة وتطور علمي في مختلف العلوم التطبيقية والإنسانية، وبناء المشافي، وتنظيم القضاء ودرجات المحاكم وتنوع الاختصاص القضائي: من جنايات، وقضايا مدنية، وتجارية، وشرعية، واقتصادية وأمنية ونحوها، والعناية بالإفتاء في كل مكان، والصلاة على الجنازة، ورد السلام، وإعداد متطلبات الدفاع والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما طلب الشرع وجوده بقصد تحقيق المصلحة، دون أن يتوقف على قيام كل مكلف بها، وإنما يحصل الغرض من بعض المكلفين.

والخطاب الشرعي في الواجب الكفائي إما موجه إلى هيئة المخاطبين الاجتماعية، وإما إلى كل من غلب على ظنه أن غيره لم أو لن يقوم بالمطلوب، والأصح أنه موجه إلى كل فرد.

ويأثم جميع المسلمين في كل بلد عند الترك إجماعاً، مما يدل على أن الوجوب على الجميع، لتحقيق المراد.

وبما أن الوضع العام في الوسط الإسلامي المعاصر ليس على المستوى المطلوب، مع تفاوت كل دولة إسلامية عن الأخرى، في مدى الالتزام بتطبيق الأحكام الشرعية، فإن الحاكم أو القائد أو الرئيس في كل دولة أضحى مطالباً وملزماً بالعمل على إحياء معالم الإسلام، لأن النظام الدولي الحاضر يتولى وضع المناهج والخطط، والتنفيذ، فالمسؤولية على الحاكم باتت في الدرجة الأولى منوطة به، وبيده مفتاح الحلول.

ثم يليه تنظيمات المجتمع المختلفة، فعليها المبادرة إلى رعاية تطبيق الأحكام الشرعية، والمطالبة بتنفيذها من الحاكم والرعية، بقدر الإمكان.

ثم يعدّ كل مسلم ومسلمة مطالباً بالتزام شرع الله –عز وجل-، فيما يستطيع فعله، سواء في نفسه، أو أهله، أو أولاده، ثم أقاربه وجيرانه وأهل بلدته، وعليه الامتناع عن كل ما يضره ويضر أمته ومجتمعه.

وإهمال كل من الحاكم، والمجتمع، والفرد أداء واجبه المستطاع، يحمله المسؤولية عن فعل ما يستطيع من أداء الواجبات، وترك ما يلزم تركه من السيئات والمضارّ والمفاسد، ومسؤوليته نابعة من قول الله –تعالى-: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾(سورة الأنعام:164).

وما أجمل البيان النبوي لهاتين الآيتين، لجعل قاعدة المسلم الأساسية هي مسؤوليته أولاً عن نفسه وأهله، روى ابن ماجه، ورواته ثقات، عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (لا يحقِّرن أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله، وكيف يحقِّر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أن عليه مقالاً، ثم لا يقول فيه، فيقول الله –عز وجل- يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحقَّ أن تخشى).

**************************

الحواشي

*) فقيه ومفكر من سورية.

1- أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود عن ثوبان، وأخرجه آخرون عن غيره (جامع الأصول لابن الأثير الجزري: 10/130 ، رقم: 6774 - 6779).

2- أخرجه أحمد في مسنده والبخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو –رضي الله عنه-.

3- أخرجه ابن عبد البر في باب العلم عن أنس بن مالك –رضي الله عنه-، وهو صحيح.

4- أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي الدرداء –رضي الله عنه-.

5- إحياء علوم العلوم: 1/5 – 28، 2/210، المطبعة العثمانية المصرية، ط أولى 1352/1933م.

6- الأحكام السلطانية: ص14، ط صبيح بالقاهرة.

7- المرجع السابق: ص73.

8- المرجع السابق: ص231، إحياء علوم الدين: 2/174.

9--- لإنصاف.يون كانوا قوماً فقهاءإحياء علوم الدين، المكان السابق.

10- إحياء علوم الدين: 2/269.

11- 16/350، ط ثالثة 1405ﻫ/1985 ، مكتبة الإرشاد - جدة.

12- أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.

13- أخرجه البخاري ومسلم.

14- أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب (أي رواه واحد أو اثنان).

15- أخرجه البخاري والترمذي.

16- أخرجه البخاري ومسلم.

17- ينظر في كتب أصول الفقه كالمعتمد لأبي الحسين البصري: 1/149، 369، شرح العضد على مختصر المنتهى لابن الحاجب: 1/234، فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: 1/63، شرح جمع الجوامع: 1/130، التقرير والتحبير: 2/135.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=436

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك