الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية: قـراءة عربيـة
الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية: قـراءة عربيـة
حسن حنفي*
كثيراً ما يظن الناس، خاصة إذا كانوا من المؤمنين الأتقياء الذين لم يبلغوا قدر معين من الثقافة أو الذين بلغوا هذا القدر ولكنهم عاشوا بشخصيتين منفصلتين: الأولى لا تتعدى الإيمان العامي، والثانية تنحصر في الثقافة لذاتها أو الذين بلغوا حدا كبيرا من الوعي الفكري والسياسي يجعلهم يرفضون أي إعادة نظر في الدين ويبقون عليه بمفهومه التقليدي حتى يمكن الاستغناء عنه وتركه ضمن المأثورات الشعبية والبدء بالعلم الحديث أو بالأيديولوجية العلمية - كثيراً ما يظن هؤلاء أن الدين هو مجموعة من العقائد تحوم حول الغيبيات التي يُعطي لها نفس في نفس الوقت وجود عيني. ولكن بعد تقدم العلوم الإنسانية خاصة في البلاد المتقدمة، وبعد احتياجنا نحن في البلاد النامية إلى إقامة هذه العلوم لحل مشاكلنا المعاصرة، أصبح الدين أحد موضوعاتها، يمكن دراسته في علم النفس الفردي أو في علم النفس الاجتماعي، أو في علوم التاريخ -علم الأساطير المقارنة مثلاً- أو في تاريخ الفن، أو في تاريخ الحركات السياسة...الخ.
ومن أبرز الدراسات في التفكير المعاصر تلك التي نشأت لتبين الصلة بين الدين والنظم الاقتصادية حتى ليقال أنه يمكن في المستقبل أقامة علم الدين الاقتصادي أسوة بعلم الاقتصاد السياسي. فكما ارتبط النظام الاقتصادي بالعقيدة الدينية، وربط علاقات الإنتاج بالتصور الديني للعالم. ومن أشهر المحاولات في هذا الميدان تلك التي قام بها ماكس فيبر (Max Weber) (1864-1920م) عن (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية)(1).
1- بعض الملاحظات العامة
بالرغم مما يسود دراسة فيبر من موضوعية واعتماد على البيانات الإحصائية إلا أن الطابع اللاهوتي قد غلب عليها وخرجت دراسة عن الأخلاق البروتستانتية أكثر منها دراسة عن (روح الرأسمالية)، ولم تتضح تماما العلاقة بين (الدين) و(الأيديولوجية) إلا في إثارة بعض النقاط التي تدعو للتفكير والبحث والمناقشة، كما غلبت على الأخلاق البروتستانتية التشعيبات والتفريعات حتى ليفقد القارئ الخط الأساسي في الدراسة والهدف الذي ترمي إليه وهو إثبات الصلة بين الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية كما اعتمدت الدراسة على تتبع أنماط السلوك ومظاهر (التقوى) (Piété) التي تعتبر أهم قيمة خلقية في البروتستانتية حتى فقدت الدراسة طابعها النظري العام. ومن ناحية أخرى يتحدث فيبر عن روح الرأسمالية ويفيض في بيان أسسها دون أن يحاول أن يربط بالفعل بين الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية إلا فيما ندر وفي فكرة واحدة وهي أن التنظير العقلي من خصائص التقوى الباطنية، وهذا التنظير نفسه هو دعامة الرأسمالية التي تقوم على التنظيم العقلي للعمل (علم الاجتماع الديني).
ولكن الأهم من ذلك هو أن فيبر يدرس هذه الصلة بين الدين والرأسمالية ويجعلها صلة إيجابية، فالأخلاق البروتستانتية هي التي أقامت دعائم الرأسمالية، وبالتالي يجب الإبقاء على هذه الأخلاق للمحافظة على هذا النظام وإعطائه دفعة روحية جديدة أو أيديولوجية دينية تغني فقره الفكري وضعف أسسه النظرية ويدافع عن كليهما باسم الغرب، فالبروتستانتية والرأسمالية كلاهما نتاج غربي. ولا يحاول فيبر دراسة الطرف المقابل أعني الناحية السلبية من اعتماد الدين على التطور الطبقي للعالم واعتماد الرأسمالية على التصور التدرجي للدين، وفكرة المراتب وتثبيت الاستغلال والأوضاع القائمة مرة باسم رأس المال ومرة باسم الدين وهي الصلة التي درسها ماركس من قبل واعتبر الدين لهذا السبب (أفيون الشعب) لأن تصورا معينا من تصورات الدين وهو التصور الهرمي نتيجة لوضع معين من أوضاع المجتمع هو الوضع الطبقي ولأن هذا الوضع نفسه يجد تبريره في التصور الهرمي للعالم الذي يغذيه التصور الديني بمفهومه التقليدي أي بمعناه الأفلاطوني والذي يدل على العجز عن الالتزام بقضايا التاريخ وعلى التعويض عن ذلك بالالتجاء إلى خلق عالم روحي وهمي منفصل عن الأرض وعن حياة الناس اليومية وأوضاعهم المعيشية.
وبصرف النظر عن مستوى التحليل: الواقع الإحصائي، السلوك اليومي، العقائد الدينية، فإن الذي يهمنا هو التحليل على مستوى الشعر لبيان البناء النفسي للرأسمالية، والبناء النفسي للتصور الطبقي للدين، وتشابه البنائين وتقوية كل منهما للآخر لدرجة الاتحاد أو البدل، فيتم الدفاع عن الرأسمالية وهو في الحقيقة دفاع عن التصور التدرجي للدين، أو الدفاع عن قيمة الدين وهو في الحقيقة دفاع عن التصور الطبقي للعالم. يهمنا وصف بناء الشعور وتحليل عملياته في الإدراك والسلوك متبعين في ذلك المنهج الفينومينولوجي الذي يثبت كل يوم طرافته وجدته في تحليل الظواهر الإنسانية كتجارب حية في الشعور.
وماكس فيبر نفسه ليس غريبا عن هذا المنهج وقد قيل كثيرا عن تأثره به في دراساته في علم الاجتماع بل إن البعض يعدونه مع تونيس (Tonnies) من مؤسسي (علم الاجتماع الوصفي). ويبدو هذا الأثر بوضوح في دراسته للبروتستانتية على أنها (أخلاق) أي بناء نفسي مستقل عن تاريخ البروتستانتية، وفي دراسته للرأسمالية على أنها (روح) أي كبناء نفسي مستقل عن تاريخ الرأسمالية، أي أن فيبر يدرس موضوعات مثالية يحاول الحصول على (معانيها) أو (ماهياتها) المستقلة عن ظروفها المادية أي عن الأوضاع التاريخية، كما يبدو هذا الأثر أيضا في الملحق الخاص عن (الطوائف البروتستانتية وروح الرأسمالية) ومحاولته تحليل التجارب المباشرة التي عاشها في الولايات المتحدة الأمريكية عن كيفية ممارسة الأمريكيين للدين ولرأس المال وكيف يعبدون الله في رأس المال ويعبدون رأس المال باسم الله. ويبدو أثر المنهج الفينومينولوجي ثالثاً في دراساته للبواعث (Motivations) التي تحدد أنماط السلوك الديني لا الوقائع التي تظهر فيها هذه الأنماط. إنه يدرس السلوك من حيث أنه (نماذج مثالية) (Types Ideaux) لا من حيث تحققه في الزمان والمكان تحدده ظروف تاريخية معينة.
وسنحاول عرض أفكاره بعد إضافة مادة جديدة من التراث الإسلامي القديم ومن حياة المسلمين المعاصرة تقريبا للإفهام حتى يمكن إخراج نتائج فيبر من المادة الخاصة التي درسها والتي يصعب على غير البروتستانت الدخول فيها، وفي نفس الوقت سنجري معه حواراً كالذي أجريناه من قبل مع ياسبرز آخذين منه موقفا حتى نتعدى مرحلة العرض والتعريف إلى مرحلة النقد والتمحيص وحتى يمكننا بعد ذلك أن ننتقل إلى مرحلة الخلق والابتكار.
2- الظاهرة وتعليلها
لاحظ فيبر أن الرأسمالية انتشرت أولا في البلاد البروتستانتية. وأن حركة التصنيع المواكبة للرأسمالية أشد انتشارا في شمال ألمانيا منها في جنوبها، وفي شمال فرنسا منها في جنوبها، وفي شمال انجلترا وأيرلندا منها في جنوبهما، ويعلل ذلك بوجود أكثرية من البروتستانت -وفقا للإحصائيات- في الشمال عن الجنوب، بالإضافة إلى أن أصحاب رؤوس الأموال في البلاد الغربية معظمهم من البروتستانت وأن البروتستانت بهذا المعنى هم يهود أوروبا أو يهود الطوائف المسيحية أو كما تقول الإحصائيات هم أقباط مصر لولعهم بالتجارة والمال. والبروتستانت هم أصحاب رؤوس الأموال ورؤساء مجالس الإدارات، يرثون ذلك جيلا عن جيل، وفي التعليم ترتفع نسبة ذهاب البروتستانت إلى المدارس الصناعية والمعاهد الفنية كثيرا عن نسبة الكاثوليك الذين تعلو نسبتهم في المدارس الثانوية العامة لدراسة الإنسانيات، يتجه البروتستانت نحو المصانع أما الكاثوليك فيتجهون نحو الحرفية (L’Artisanat) ويظهر البروتستانت نشاطا واضحا نحو العقلانية الاقتصادية أما الكاثوليك في ألمانيا فلا يشاركون في التجارة أو إقامة المشروعات مع أن المعروف هو نشاط الأقليات الزائد وتعويض نقصها الكمي في تأثيرها الكيفي كما هو الحال في الطائفة اليهودية في كل قومية.
ما هو السبب إذن في ظهور الرأسمالية في المناطق البروتستانتية أو ظهور البروتستانتية في المناطق الصناعية المتقدمة؟
يرى فيبر أن السبب في ذلك أن التحرر الديني الذي تمثله البروتستانتية يتلوه تحرر اقتصادي تمثله الرأسمالية، ومادامت البروتستانتية مذهبا يدعو إلى الحرية فإن الرأسمالية هي الوليد الطبيعي لها لأنها تقوم على الحرية في علاقات الإنتاج أما الكاثوليكية فهي دعوة محافظة منعزلة عن العالم مثلها الأعلى في الاعتكاف وفي النظر إلى السماء وهي تربي دعاتها على اللامبالاة بالنسبة للماديات بعكس الزهد البروتستانتي الذي يقوم على النظر في الذات الباطنة وعلى فهم العالم والدراية به.
فإلى أي حد يعتبر هذا التعليل صحيحاً؟
أولا: الواقع أن البروتستانتية هي رد فعل على المسيحية في الخمسة عشر قرنا السابقة عليها والتي عُرفت بعدها باسم الكاثوليكية، وكلاهما لا يؤثران في شيء في الحياة الاقتصادية كفعل مباشر لأن الحياة الاقتصادية تخضع لظروف أي ولأوضاع معينة. لقد نشأت البروتستانتية لكسر الزيف الديني وإزاحة الأقنعة وإثبات حرية الإيمان والفهم والتفسير للكتاب ورفض لكل سلطة متوسطة بين الإنسان والله، وفي نفس الوقت رفض الجباية الضريبية التي كان على الألمان دفعها لروما أي أن الإصلاح الديني كان في نفس الوقت عودة إلى نقاء الدين الأول وصفاء الضمير وتحررا اجتماعيا قوميا من سلطة مركزية استغلت الشعوب باسم الدين وفرضت الضرائب باسم التقوى وتحت شعار الإيمان. هناك صلة إذن بين الدين والاقتصاد، ولكنها صلة أقرب إلى الاستغلال منها إلى التأثير وكانت الدعوة إلى التحرر الديني والاجتماعي دعوة لرفض الاستغلال والسيطرة وليست دعوة إلى سيطرة جديدة باسم رأس المال والنشاط الاقتصادي الحر للأفراد.
ثانيا: هناك فرق شاسع بين البروتستانتية الألمانية عند لوثر، والبروتستانتية الفرنسية عند كالفن، والبروتستانتية السويسرية عند زفنجلي (Zwingli)...الخ.
فبينما تولد البروتستانتية الألمانية عند لوثر على حرية المسيحي كما كتب لوثر في ندائه الشهير (حرية المسيحي) وعلى العبودية لله وحده كما عبر عن ذلك في (الاختيار المجبر) (Du serfarbitre) وبتحديد ماهيات البشر مسبقا وبتقرير مصيرهم (Predestination) من قبل. وكيف يمكن إرجاع ظاهرة اقتصادية واحدة مثل الرأسمالية أو التنظيم العقلي للعمل الحر إلى عقيدتين مختلفتين من حيث الجوهر؟ وكيف يتفق البروتستانت في ألمانيا والبروتستانت في فرنسا على ما بينهما من اختلاف في الأسس النظرية للعقيدة في نشاط اقتصادي واحد؟ ألا يدل ذلك على أن النشاط الاقتصادي الواحد له أسس أخرى غير العقيدة؟
ثالثا: لا يوجد بروتسانتي واحد ممثل لجميع البروتستانت ولا كاثوليكي واحد ممثل لجميع الكاثوليك، وافتراض ذلك فيه تجني على العلم وعلى الواقع على السواء. فلا يمكن إصدار حكم عام على أنصار طائفة من تحليل سلوك أحد أفرادها، فليس كل المسلمين توكليين، وليس كل البروتستانت من أحرار الفكر، وليس كل الكاثوليك محافظين. إن أمثال مثل هذه الأحكام التي تطلق على مجموعات من الأفراد لهم خصائص معينة خُطّت إلى الأبد فيقال: الشرقيون أو الغربيون أو المسلمون أو المسيحيون، أو البروتستانت أو الكاثوليك، أمثال هذه الأحكام تصدر عن عنصرية مسبقة وعن تحيز سابق وعن قسمة للناس بين أبيض وأسود، خيّر وشرير، آري وسامي، متقدم ومتأخر، متعلم وجاهل، عقلي وأسطوري، وهي القسمة التي وقع فيها فيبر وياسبرز، وهتلر، وشبنجلر، وكل مفكري الغرب ودعاة عنصريته وأسطورة تفوقه، وهي بقايا عنصرية القرن التاسع عشر عند رينان وليون جوتييه التي هي في الحقيقة تعبير فكري عن أشكال الاستعمار القديم والغزو العسكري.
رابعا: لقد نشأت الرأسمالية النقدية والرأسمالية التجارية قبل ظهور البروتستانتية في القرن الخامس عشر، وكانت مدن إيطاليا وجمهورياتها ممثلة لهذه الصور المبكرة للرأسمالية الصناعية في القرن التاسع عشر بل كانت أكثر ازدهارا في الجنوب على سواحل البحر الأبيض منه في الشمال باستثناء هولندا وانجلترا، وكانت الحركة التجارية أساساً في الجنوب بعد عصر الاستكشافات الجغرافية والاستعمار الهولندي والأسباني والبرتغالي قبل نشأة البروتستانتية.
خامسا: كيف يمكن تفسير النشاط الاقتصادي في البلاد الاشتراكية التي رفضت أن يكون الدين كاثوليكيا كان أم بروتستانتيا واحدا من موجهاتها الفكرية وحلّت محله الأيديولوجية وهي دين العصر؟ كيف يمكن تفسير هذا النشاط الاقتصادي بالعامل الديني بوجه عام وبالبروتستانتية بوجه خاص؟ كيف يمكن أن يكون الدين بتصوره التقليدي عاملا موجها للنظام الاقتصادي دون الأيديولوجية، خاصة إذا كان الدين عقيدة جامدة تؤمن بالثبات لا بالتغير، وبالأسرار والغيبيات لا بالعقل، وبالموجودات المفارقة لا بالوقائع العينية، وتنظيم السماء وتجعل ملكوتها فيها لا في الأرض، وتقوم على العجز والتعويض لا على الالتزام والممارسة الفعلية للعمل اليومي، وتؤمن بالأخلاق الفردية والتغييرات الداخلية لا بالأوضاع الاجتماعية والظروف التي تحدد أنماط السلوك؟
سادسا: إن كانت البروتستانتية هي التي رفضت الزيف الديني وأزاحت الأقنعة عن استغلال الشعوب باسم السلطة الروحية المركزية فإن الكاثوليكية أكثر وعيا بالعالم وأكثر قدرة على التعامل معه والسيطرة عليه، فالكاثوليكية مادية مقنّعة تحت ستار الروح في العقائد والإيمان بشيئيتها، وفي الطقوس، والإصرار على المظاهر الخارجية، وفي التاريخ والتشبث بكل محتوياته المادية. لذلك كان الكاثوليك أكثر تبشيرا من البروتستانت وأكثر دراية بالطرق الملتوية، ولذلك أيضا استمر الاستعمار من البلاد الأوروبية الكاثوليكية (هولندا، أسبانيا، البرتغال) مدة أطول من الاستعمار على يد الدول البروتسانتية (ألمانيا وفقدان مستعمراتها إبان الحرب العالمية الأولى).
سابعا: إن محاولة تفسير ظاهرة اقتصادية بعلة خلقية أو دينية هو في الحقيقة تجني على الواقع وعلى العلم على السواء. فالظواهر الموضوعية لها عللها الموضوعية وأية محاولة لتفسيرها تفسيرا ذاتيا هي محاولة يُقصد منها التستر عليها وتأكيدها كما أن كل محاولة لتفسير الظواهر الاقتصادية بإرجاعها إلى أمزجة الشعوب وطبائعها على اختلاف الطوائف والأجناس لتكشف عن نظرية عنصرية يتحد فيها الدين والعنصرية معا، المسيحية والآرية.
لقد ظهرت الرأسمالية في المناطق الأكثر تصنيعا كما لاحظ عالم الاجتماع بوكله (Buckle) وكما لاحظ الشاعر كيتس (Keats) والناقد ماثيو ارنولد (M. Arnold) مثل الفوبرتال والرور أي في ظروف اقتصادية معينة، ولكن فيبر يحيل ذلك إلى نظرة عنصرية ويجعل ظهورها في هذه المناطق نتيجة لتميزها بمستوى حضاري رفيع، فالشمال أكثر تقدما من الجنوب ولكن الحقيقة أن التصنيع نفسه هو الدافع لتغيير العقلية. قد يكون العامل الديني أحد العوامل الموجهة ولكن الدين في هذه الحالة يكون أقرب إلى الأيديولوجيا أي تصورا للعالم كما حاول كلاج (Klages) ودلتاي (Dilthey) وياسبرز نفسه من قبل، ولكن فيبر يجعله العامل الوحيد ويغفل ما سواه مثل الهجرة وتغير المكان، والتجارة البحرية، وخيرات المستعمرات ونشأة المدن الساحلية، ثم اكتشاف الآلة أخيرا. لا يمكن تفسير الرأسمالية إذن بعامل واحد هو العامل الديني لأنها ظاهرة تاريخية، وليدة الأوضاع تخضع لظروف موضوعية لم يأخذها فيبر في الاعتبار.
3- روح الرأسمالية والمعنى المزدوج لمفهوم BERUF (الرسالة) و(المهنة)
يرى فيبر أن الرأسمالية لم تعرف إلا في الغرب وأنها ظاهرة غربية محضة. وهي ليست مجرد (العطش للربح) أو (البحث عن الفائدة) على ما يقول برنتانو (Brentano) وزمل (Zimmel) بل هي السيادة عن طريق التنظير العقلي لهذه الدوافع اللاعقلية. إنها البحث عن الفائدة المتجددة باستمرار في مؤسسة دائمة قائمة على التنظير العقلي. إنها البحث عن العائد (Rentabilité) وهو المحرك الأساسي لها. لقد وجدت الرأسمالية في الشرق القديم بصورة بدائية خاصة في التجارة. لكنها وجدت في الغرب، على ما يقول فيبر، في صورة مؤسسات ونظم: سلف، بنوك، ديون، متعهد المستعمرات، استغلال العبيد في الزراعة، لذلك عُرفَت الرأسمالية الأوروبية بأنها (قرصنة رأس المال). أما الغرب فهو الذي عرف التنظيم العقلي الرأسمالي للعمل الحر (وهو العالم الذي يضعه صمبار Sombart في المحرك الثاني) والتنبؤات بالأسواق المنتظمة. والتفرقة بين تدبير المنزل (Ménage) وبين المؤسسة (Entreprise) ووضع القواعد للمحاسبة العقلية، كما تمت التفرقة بين المنزل والمصنع ثم انصب كل ذلك في التنظيم الرأسمالي للعمل الحر. ومن هنا نشأت في الغرب وحده ما سُمي بالبرجوازية أو حتى البروليتاريا كنتيجة للتنظيم الحر للعمل وكذلك الصراع بين الطبقات، بين الدائنين والمدينين، بين الملاك والفلاحين، بين أصحاب العمل والعمال. ليست المشكلة إذن في تطور النشاط الرأسمالي المقامر أو التجاري أو الحربي أو السياسي أو الإداري بل تطور رأسمالية المؤسسة البرجوازية والتنظيم العقلي للعمل الحر. ولقد تحدد تطور الرأسمالية الغربية بتطور الإمكانيات التكنولوجية، وتعتمد عقلانيتها على إمكانية تقييم هذه العوامل التكنولوجية وعلى العلم الحديث خاصة علوم الطبيعة القائمة على الرياضة والتجريب العقلي. وقد تقدمت هذه العلوم بفضل الدوافع والمصالح الرأسمالية التي تستفيد من تطبيقاتها العلمية. لقد نشأت الرياضة في الهند ولكن الرأسمالية هي التي استغلت المعرفة العلمية تكنولوجيا.
ويقيم فيبر الفعل الاقتصادي الرأسمالي على أساس الفائدة باستغلال إمكانيات التبادل وذلك عن طريق الفرص السليمة مثل الربح ويفضله عن الحصول على هذه الفائدة بالقوة ويجعل الالتجاء إلى القوة فعلا خاصا مستقلا له قوانينه الخاصة المستقلة عن الربح الذي يتم البحث عنه تحولا عن طريق المؤسسات والنظم ولا يرى في الرأسمالية ما رآه لينين من أنها (أعلى مراحل الاستعمار) وأن الاستعمار هو النتيجة الطبيعية لها لفتح الأسواق وتصريف المنتجات والحصول على المواد الخام واستثمار رؤوس الأموال.
ويعتبر فيبر أن العلم والتكنولوجيا موجودان على أوسع نطاق في النظم الاشتراكية التي تقوم على الربح والفائدة ولا يميزان الرأسمالية في شيء. وكذلك التنظير العقلي لا يتميز به النظام الرأسمالي وحده. فالتخطيط في النظام الاشتراكي يقوم أيضا على العقلانية التي هي أساس العلم.
ويحاول فيبر تلمس الأساس النظري أو ما يسميه (روح الرأسمالية). فالرأسمالية لديه ليست هذه القائمة على الأنانية والشره والرغبة في الكسب بلا أدنى تورع أي رأسمالية (الرغبة العارمة في الذهب) (Aurisacra Fames) فهذه رأسمالية فجّة، إنما الرأسمالية هي ظاهرة جماهيرية مرتبطة بالوعي. الرأسمالية الفجة هي مرحلة سابقة على الرأسمالية النظرية، فبينما تقوم الأولى على أخلاق تتجه نحو الخارج تقوم الثانية على أخلاق تتجه نحو الداخل. الرأسمالية الواعية هي الاستعمال العقلي لرأس المال في مؤسسة دائمة والتنظيم العقلي الرأسمالي للعمل الحر.
ويعرض فيبر روح الرأسمالية في المبادئ التي وضعها بنيامين فرانكلين وهي:
1- الوقت هو المال.
2- الثقة هي المال.
3- المال بطبيعته يولّد المال.
4- الدافع الجيد هو كيفية الحصول على مال الآخرين.
5- أهمية الأفعال اليومية لكسب ثقة الناس.
6- الظهور بمظهر الرجل الشريف الورع!
روح الرأسمالية إذن هي النفعية المحضة وفضائلها تقوم على النفاق. وقد اعترف فرانكلين بذلك بقوله إن الله قد أوحى إليه بنفعية الفضائل، والله هو المنفعة. ولا تحتوي هذه الأخلاق على أي تصور للسعادة أو حتى اللذة. فالخير الأقصى لديها هو كسب المال ثم كسب مال أكثر. فالمال غاية في ذاته، موضوع متعالٍ لا عقلي. الكسب هو غاية الإنسان وذلك موجود في التوراة على ما يقول فرانكلين وارتباط الله بالأرض والمصلحة لشعب معين لا لكل الناس. روح الرأسمالية هي الشجاعة التجارية على ما يقول فوجر (Fugger) أو هي (الحصول على دهن الشمع بالمواشي والحصول على المال بالبشر)!. إن روح الرأسمالية في صراع دائم مع التقليد (Tradition) الذي لا يوجه الناس نحو كسب أكثر بل نحو إشباع حاجاتهم وكسب ما يتطلب ذلك من مال بصرف النظر عن الإنتاجية والربح وكان نتيجة لذلك تخفيض الأجور حتى يضطر العامل لزيادة ساعات العمل للمحافظة على مستوى الإنتاج. أما روح الرأسمالية فهي تخفيض الأجور وزيادة الإنتاج، وهو ما عبر عنه زمبار بتفرقته بين مبدأي إشباع الحاجات، وهو ما سماه فيبر الاقتصاد التقليدي، والربح وهو روح الرأسمالية. إن روح الرأسمالية هي البحث العقلي والمنهجي للربح وعلى هذه الروح أن تخلق رأس المال نفسه.
ولما أدت الزيادة الكمية في العمالة إلى تخفيض الزيادة الكيفية في الإنتاج لجأ فيبر إلى مفهوم الـ (Beruf) الذي يعني في نفس الوقت رسالة (Vocation) ومهنة (Métier)(2). فالعمل هو في نفس الوقت رسالة ومهنة، ولا يهم في الرسالة الأجر المرتفع أو المنخفض كما أنها ليست حصيلة لهذه الأجر بل هي حصيلة التربية وخاصة التربية الدينية. فالتربية الدينية هي أفضل وسيلة للتربية الاقتصادية إذ يصبح العمل إلزاما خلقيا ويزيد الإنتاج ويتم إخراجه من العمل الروتيني التقليدي. ويستغل فيبر هذا المعنى المزدوج أحسن استغلال لجعل العمل رسالة والرسالة عمل كما استعمل هيجل من قبل فعل (Aufheben) الذي يعني هدم وبناء، نفي وإثبات، سلب وإيجاب. وهما الحركتان اللتان تكونان روح الجدل، وهي الفكرة التي عبر عنها فشته صراحة في (رسالة الإنسان) واستعماله لفظا واحدا هو (Bestimmung) لربط الإنسان بمصيره ورسالته ودعوته وطبيعته وإمكانياته. يأخذ فيبر الفكرة الدينية ويحولها إلى فكرة اقتصادية محضة لإعطاء الرأسمالية دفعة روحية جديدة بالالتجاء إلى الدين. ويلجأ فيبر لتأصيل هذا المفهوم إلى لوثر إثر توما الإكويني الذي جعل الرسالة من نظام الطبيعة مع أنها مشيئة الله. فقد نادى لوثر بالإيمان وحده (Sola Fides) والرسالة لديه إحساس بهذا الإيمان كرسالة في الحياة ودعوة يتم تحقيقها في العالم والتخلي عن المهام الصغيرة الشخصية. فتحقيق الحاجة المهنية هو حب للجار يقتضيه تقسيم العمل، وتحقيق لإرادة الله وبالتالي تكون للمهن المباحة نفس القيمة أمام الله. لقد استطاع لوثر تبرير النشاط الدنيوي تبريرا خلقيا وهو الدرس المستفاد من الإصلاح الديني وهو أن النشاط الديني هو النشاط الدنيوي، العمل للآخرة هو العمل للدنيا وهي الدعوة المضادة لدعوة بسكال وروحه التأملية وكراهيته للنشاط الدنيوي واعتباره تحايلا وخداعا، كما تفترق أيضا عن النفعية والحيل الفقهية والتملق والوصولية عند الجزويت.
والحقيقة أنه لا يمكن اعتبار لوثر مسئولا عن الرأسمالية أو اعتباره من دعائمها، فقد هاجم لوثر الربا والمؤسسات الاستغلالية المركزية ولكنه أعطى المهنة أساسا دينيا أخلاقيا كما طلب المسيح في صلاته الربانية (أعطنا قوتنا اليومي)، لذلك قدّس البروتستانت العمل اليدوي وكوّنوا طائفة (الآباء العمال) الذين يعملون طيلة الأسبوع ويخصصون اليوم السابع للرب فلا توجد خدمة دينية منفصلة عن العالم، لذلك شرّع البروتستانت زواج الآباء وخرج منهم العلماء والأدباء والمفكرون والباحثون. الرسالة عند لوثر هي تحقيق للمشيئة الإلهية أي أنها لم تتعد الفكرة التقليدية التي دعا إليها الصوفية الألمان من أمثال تاولر.
غرض فيبر إذن هو أن تصبح الأفكار الدينية قوى تاريخية محركة وذلك لإعطاء الرأسمالية دفعة جديدة وجدها في الدين، فأعطى الدين تفسيرا رأسماليا وأعطى الرأسمالية تفسيرا دينيا كما تفعل الاتجاهات اليمينية في الغرب وكما يرفع الأمريكيون البيض لافتات عليها (أيها المسيح أنقذنا من هؤلاء السود!).
يأخذ فيبر إذن هذا المفهوم الذي وجده عند لوثر ويجعل منه المفتاح السحري الذي يفسر به كل شيء: العلم والسياسة والاقتصاد والدين. فالدين هو إحساس برأس المال عند الأغنياء والعمل هو رسالة عند الفقراء، وبذلك يعطي فيبر الرأسمالية أساسا دينيا روحيا ويرفع عنها شبهة المادية الفجة القائمة على مجرد الرغبة في الربح ويعتبر ذلك النظام السابق على الرأسمالية أو الرأسمالية المبكرة أو الشكل الأول للرأسمالية (Précapitalisme). الرأسمالية روحية تقوم على رسالات السماء ودعوات الأنبياء وقد خُطّت مهنة الإنسان إلى الأبد ولا يمكنه تغييرها ويرفض جعل المهنة انعكاسا للأوضاع الاقتصادية أو البناء الفوقي لها. فالعامل قد خُلِق عاملا منذ الأزل وصاحب رأس المال خُلِق سيدا إلى الأبد (لو عيّن الله لك هذا الطريق الذي تستطيع أن تكسب فيه أكثر من أي طريق آخر ثم رفضته وقبلت الطريق الآخر فإنك تعارض إحدى غايات رسالتك وترفض أن تكون خادم الله وترفض قبول هباته أو استعمالها لخدمته). يجعل فيبر التربية الدينية وسيلة لقبول الأمر الواقع وتثبيته وبذلك يصبح الدين (أفيون الشعب) كما لاحظ ماركس. فما يرمي إليه فيبر بالفعل هو زيادة الإنتاج لزيادة الربح عند أصحاب رؤوس الأموال مع ضمان بقاء العمال على الولاء لأن العمل رسالة لهم في الحياة ومهنة! مع أن الإحساس بالرسالة في الحياة لا يوقع في الاستغلال إلا إذا كانت الدولة كلها ملتزمة بنظام لا يقوم على استغلال طبقة لطبقة أو سيادة الأقلية للأغلبية، وبذلك تكون الرسالة رسالة تحرر للجميع وتنمية للموارد الاقتصادية وتوزيعا للدخل القومي بما يتناسب مع طبيعة العمل وحده.
4- العقلانية والعنصرية الغربية
يدرس فيبر ظاهرة الصلة بين الدين والرأسمالية كظاهرة أوروبية محضة ظهرت في الحضارة الغربية وبالتالي فهي إحدى مقوماتها، وهي في نفس الوقت ظاهرة عامة لها قيمة شاملة تعم كل زمان ومكان وذلك لأن الحضارة الغربية هي مركز الإنسانية ونموذجها الفريد، فهي التي أعطت العلم وهي التي أسسته (بالرغم من انتقال بعض المعطيات العلمية للغرب من الحضارتين الإسلامية والهندية على حد قوله). كل حضارة تنصب في حضارة الغرب تقوم بوظيفة النقل لا بمهمة الاستيعاب والتنظير باستثناء الحضارة اليونانية التي استطاعت إعطاء الأسس الرياضية، وذلك لأن الهندسة في الهند لم تعرف البرهنة العقلية كما لم تعرف علومها الطبيعية المنهج التجريبي وهو أحد مكاسب عصر النهضة. لا توجد كيمياء عقلية إلا في الغرب، ولا سياسة عقلية إلا في الغرب لأن كل السياسات الأسيوية ينقصها المنهج الذي أقامه أرسطو والمفاهيم العقلية التي أنتجها الغرب، ولا توجد عقلية قانونية إلا في الغرب: (إنه الغرب وحده الذي يعرف بناء مثل القانون الكنسي!).
يرى فيبر أن التنظير يرجع إلى عاملين: الأول صفة وراثية في الشعوب الغربية وبالتالي يمكن خلق نوع جديد من الدراسات البيولوجية عن الجهاز العصبي، وعلم نفس الأجناس، ومن ثم لا يختلف فيبر مع النظريات العنصرية البيولوجية التي تدرس الأجناس من حيث صفاتها الحيوية وتكوينها البيولوجي الوراثي.
والعامل الثاني هو الدين وبوجه خاص البروتستانتية التي أعطت لونا معينا من السلوك العقلي ضد (العقبات الروحية) التي تمثل في القوى السحرية الدينية. فالبروتستانتية لديه هي إحدى الصور المبكرة للمذهب العقلي. والحقيقة أن البروتستانتية ليست اتجاها عقليا محضا بل اتجاه إيماني صريح كان أهم ما يميزها هو مذهب التقوى أو القنوط (Piétisme) فهي تريد الوصول إلى الله عن طريق الإيمان وحده دون الأعمال أي أنها رجوع إلى الأوغسطينية القديمة، وهي في جوهرها نظرية إشراقية على عكس الكاثوليكية التي يمكن أن تعطي أساسا نظريا للإيمان كما حدث على يد توما الإكويني وغيره من الفلاسفة المسيحيين في العصر الوسيط المتأخر وهي التي يمكن أن تدّعي صفة العقلانية لأنها تخصصت في تبرير العقائد تبريرا عقليا.
ومع ذلك لم تكن العقلانية في الحضارة الغربية صفة دائمة فيه. فإن كانت قد ألهت العقل في القرنين السابع عشر والثامن عشر فإنها رفضته في القرنين التاسع عشر والعشرين بل إن رفض العقل كان صفة مستمرة في العصر الوسيط عند أوغسطين وبونافنتير وقبيل العصر الحديث عند هامان وتاولو وايكهارت وكل التراث الصوفي واغناطيوس اللويلي حتى الصوفيين المحدثين. وفي العصور الحديثة استثنى ديكارت الحياة العملية من الشك وتطبيق المنهج الرياضي ونادى بالأخلاق المؤقتة كما استثنى الكتب المقدسة والعقائد الكنسية ونظم الحكم والعادات والتقاليد وهو ما رفضه سبينوزا بعد ذلك. وجاء كانط فرفض كل دليل عقلي على وجود الله ونادى بالإيمان وحده كسبيل للخلاص فكان بذلك معبرا عن روح البروتستانتية ومذهب القنوط نموذجها الفريد وجاء كيركجارد فهدم العقل وآمن بالتناقض ثم الحركة الرومانسية والإيمان بالاندفاع والعاطفة (Drum und strang) وشوبنهور وإيمانه بإرادة الحياة وأخيرا نيتشه وهدم العقل، وبرجسون ونقده للمعرفة العقلية وإيثاره الحدس وكل الفلسفات الوجودية المعاصرة تقريبا ورفضها للمعرفة العقلية حتى أصبح شعار العصر هو (اللامعقول) كما ظهر في الفن والمسرح والرواية والرسم والموسيقى والشعر والنحت... الخ. فأين هو التنظير الأوروبي وما يتميز به الغرب من عقلانية كصفة وراثية فيه؟
5- الروح الطائرة والمادية المقنعة
تعني الروح الطائرة كل مفهوم أو سلوك ديني يعزل الفرد عن الأرض ويجعل عالمه في السماء مرة باسم التعالي ومرة باسم الزهد. وتعني المادية المقنعة حدوث الفكر والسلوك على مستوى المادة وهو الموقف الطبيعي للإنسان ثم تغطية ذلك بالروح الطائرة عن وعي أو تستر أو تسرب للمادة داخلها وذلك للفراغ الداخلي في هذه الروحانية وثقل المادة الطبيعي الذي يفرض نفسه.
فالبروتستانتية طائفة تقوم على الزهد وفي نفس الوقت دعامة للرأسمالية القائمة على حب المال لذاته!! فكيف يتم ذلك؟
يقوم فيبر بتفسير الزهد تفسيرا رأسماليا ليوفق بينه وبين روح الرأسمالية ويرى أولا أن الدين قد أدان التمتع بالملكية والثروة والغنى دون أن يدين ذلك في ذاته، والزهد يرفض التمتع بالغنى ولكن لا يرفض التعامل معه. ثانيا يوصي الدين بالالتزام بالوقت وبأن ضياع الوقت هو أول الخطايا وهذا ما قاله بنيامين فرانكلين مع أن الوقت هو المال! ثالثا يوصي الدين بالعمل المستمر كما تريد الرأسمالية والعمل الطويل برهان على الزهد لأن العمل تعبير عن التقوى وإعلاء للغرائز وهو غاية الحياة التي حددها الله. الزهد إذن والرأسمالية شيء واحد (فالزاهد يرى أن قيمة العقل في السعي وراء الثورة باعتبارها غاية في ذاتها وفي نفس الوقت دليل على المباركة الإلهية للثروة كثمرة للعمل المهني، وكذلك التقدير الديني للعمل المستمر المنظم المضني في مهنة دنيوية وسيلة رفيعة للزهد ودليل ساطع على الإيمان الصحيح!).
ويجعل فيبر من الزهد مقدمة للتنظير العقلي وسيادة الأخلاق العلمانية: عندما يتحول الزهد من خلية الزهّاد في الحياة المهنية وتبدأ سيادة الأخلاق العلمانية فإنه يشارك في بناء العالم الرائع في النظام الاقتصادي الحديث وبذلك تكون (أحد عناصر الرأسمالية الحديثة والمعاصرة هو السلوك العقلي القائم على مفهوم المهنة الصادرة عن روح الزهد المسيحي).
والحقيقة أن هناك صلة بين الزهد والرأسمالية وهي صلة داخلة في تطور المسيحية التاريخي ومصيرها بعد انتشارها في الإمبراطورية الرومانية. أراد فيبر إثبات أن الرأسمالية. وهي أهم نتاج غربي، وليدة المسيحية والبروتستانتية بالذات، فعل الغربيين أن يدينوا بالولاء للمسيحية لأنها هي العقيدة الأم التي خرجت منها الرأسمالية. وقد يكون فيبر مصيبا في ذلك إلا أن هذا الوليد خرج كرد فعل وليس كفعل. فالمسيحية التي دعت إلى ملكوت السماوات انقلبت إلى التمسك بالعالم، والتي دعت إلى الروح انقلبت إلى الحرص على المادة. فالمادية الأوروبية وليدة الروحانية المسيحية كرد فعل لا كفعل، بل إن كل التيارات التي انشقت عن المسيحية، الإلحاد، العلمية، العقلانية، المذهب الحسي، كل ذلك وليد المسيحية كرد فعل لا كفعل، فالإلحاد رد فعل على التشبيه والتجسيم في الفكر الإلهي، والعلمية رد فعل على المعجزات والخرافة، والعقلانية رد فعل على الإيمان وتبريراته القولية، والحس رد فعل على الغيبيات...الخ، ولا تفترق الكاثوليكية عن البروتستانتية في ذلك لأن كليهما يتبع مصير المسيحية وتغلب الرومانية عليها وانقلاب الروح إلى مادة، والعطاء إلى أخذ، والسلام إلى حرب، والتشبث بالعالم كرد فعل على الإنجيل. وبالتالي فالمثل الأعلى للزهد هو في الحقيقة زهد مقنع، زهد يقدم فيه المبشر للأفريقي الإنجيل باليمين ويسلب منه الأرض باليسار، ويسبق فيه التبشير الاستعمار، فقد كان المبشرون سابقين على الجنود وأصحاب رؤوس الأموال. وكان معروفا في العصر الوسيط منافسة الكنيسة والدولة من أجل الاحتكارات واستثمارات رؤوس الأموال، وكانت الكنيسة من أكبر عملاء الجمهوريات التجارية الإيطالية في القرون الوسطى.
وتظهر المادية المقنعة في كل المؤسسات الدينية في العصر الوسيط، فكان رجال الدين يسكنون القصور المحلاة بالذهب والفضة والمتاخمة للكنائس والقباب حتى يشعروا بالرومانية الزاهدة. وفي القدّاس لا تظهر الروح إلا من خلال المادة، ولا يتم الحضور الإلهي إلا من خلال الخبز المقدس، ولا يُقدّس الكتاب إلا بتجليده بالذهب والفضة وتقبيله وحمله على الأعناق، ولا توجد عقائد إلا كحوادث تاريخية ووقائع عينية في التجسد والخلاص والمعجزات. وقد يكون الراهب أكثر مادية من العلماني لأن الراهب قد أصدر حكمين، الأول مقنع بقوله: العالم مادة. والثاني صريح في قوله: أفضل الروح، مع أن العلماني روحي؛ لأنه لم يقل إن العالم مادة ويجب تفضيل الروح عليه بل جعل العالم ميدانا للنشاط الإنساني العام بكل ما فيه من طاقات لا يمكن تصنيفها في أحد العنصرين: الروح أو المادة. وقد قال روسو من قبل إن الذي أنشأ مفهوم السرقة هو أول إنسان وضع يده على شيء وقال هذا ملكي؛ لأن السارق هو في الحقيقة من يود إرجاع الأمور إلى نصابها وإرجاع الشيء المسروق إلى الطبيعة.
ويلاحظ فيبر عن حق أن أنصار مذهب القنوط هم في الغالبية العظمى من التجار وقد يكون السبب في ذلك هو عملية التعويض النفسي التي يراها التقى الزاهد في تقواه لتغطية مامون (Mammon) (إله المال) فهكذا يفسر القديس فرنسيس الاسيسي تحوله إلى المسيحية. كما يلاحظ فيبر أيضا وجود كبار التجار والقانتين في نفس الوقت، إذ لديهم الإحساس بالتقوى بنفس الشدة التي لِحِسِّهم التجاري كما كان الحال عند كبار الصحابة في الإسلام، فهم يرضون الدنيا والآخرة معا في تجاور وتآلف وانسجام. كذلك يلاحظ فيبر أن تحريم الربا عند اليهود والمسيحيين والمسلمين على السواء لم يمنع هذه الطوائف من التعامل به والتحايل عليه ولتحليله وتبرير عدم تعارضه مع التقوى. ويلاحظ فيبر كذلك انتشار الدعوة للتقوى والقنوط في الطبقات البرجوازية الصاعدة. وكلما زاد الشعور بالغنى زاد الإحساس الديني وتصبح الوصية تلك التي قالها فزلي (Wesley) (كسب ما يمكن كسبه وادخار ما يمكن إعطاؤه) ولذلك يلاحظ على رجال الدين البخل والإحساس المرهف بالمال ولا غرو أنهم يقودون حملات التبرعات وجمع الأموال تحقيقا لهذه الرغبة في صورة زهد وتقوى. كل ذلك له تفسيره في التستر على المادية بالروحية حتى تصير الروح هي الشكل والمادة هي المضمون ويقع الشعور في عملية الأسر المادي ثم في عملية التعويض الروحي. فلكي يبرر التاجر ماديته روحيا ينتسب إلى جماعة دينية أو يقوم بأعمال البر والإحسان وقد لاحظ فيبر وهو في الولايات المتحدة الأمريكية أن الانضمام إلى الكنيسة يتضمن أعباء مالية ضخمة فيدخل المؤمنون الأثرياء في أغلى الكنائس ثمنا فخرا وزهوا أو طلبا للنفع والثقة، ويزداد الثمن مع ازدياد مستوى المعيشة. الكنائس في الولايات المتحدة نوع من الـ (Business) أو التفاخر بالزي حين القدّاس. ويقبل المؤمنون العماد لإنشاء بنك في منطقة كلها من العماديين فالانضمام إلى طائفة هو الضمان المطلق للحصول على الصفات الخلقية للرجل النبيل (Gentleman)، ويعطي ثقة العملاء ويضمن النجاح في الأعمال. لقد ارتبط الدين والرأسمالية معا في العقلية الانتهازية (Opportunisme) التي تميزت بها البرجوازية المتوسطة، فوسائل النجاح توجد (فيما وراء الخير والشر) على حد تعبير نيتشه. فالدين وممارسته في الولايات المتحدة لا يفترق عن الديمقراطية وممارستها هناك في غلبة التداخل بين الروابط والمؤسسات والمصالح التي تحدد اللون السياسي للدولة، ولا فرق بين أن ينتسب المؤمن إلى طائفة دينية وبين أن ينضم إلى شركة أو مؤسسة فكلاهما تنظيم عقلي جماعي. هذا ما لا حظه فيبر وعبر عنه في دراسته الثانية عن (الطوائف البروتسانتية وروح الرأسمالية).
لا عجب إذن أن يكون الدين أساسا نفسيا ونظريا للرأسمالية على ما لاحظ فيبر مع أنه يعرف عن الدين أنه تصور روحي للعالم وعن الرأسمالية أنها تصور مادي للعالم. لقد اجتمعت الروح والمادة معا لأن التصور الديني التقليدي الذي يجعل من الدين إيمانا بالله خارج العالم وبالروح منفصلة عن البدن أي إيمانا بالروح الطائرة الخالصة الطاهرة التي لا صلة لها بالمادة هو في الحقيقة الذي يسمح بدخول المادة كأساس له. لأنها روح مفرّغة خالية من أي مضمون تتسرب إليها المادة من الباب الخلفي بعد أن رُفضت من الباب الأمامي، لذلك نجد كل من يؤمن بالروح على هذا النحو هو في الحقيقة مادي مقنّع لأن المضمون هو المادة والروح هي الشكل والغطاء. والروح الطائرة وتسرب المادة من تحتها تجعل الإنسان عاجزا عن أن يفعل شيئا وذلك لأن الطريق مسدود أمامه فهو مشبع لا يحتاج إلى شيء فله ما يطلب من المادة وله ما يبغي من الاطمئنان الروحي، ومن ثم كان إيمانه بالعلو عجزا عن تحقيق أي شيء وتأكيدا لثنائية الروح الطائرة والمادية المقنعة.
6- المراتب الإلهية والأوضاع الطبقية
يصف فيبر البروتستانتية الزاهدة (Le protestantisme ascétique) في أربع فرق: 1- الكالفينية (Calvinisme) 2- القنوط (Piétisme) 3- المنهجية Méthodisme 4- العمادية (Baptisme) وهي الفرق الأربعة المشهورة في الزهد البروتستانتي. وترتكز كلها على عقيدة رئيسية واحدة هي لب البروتستانتية الكالفينية وهي عقيدة القضاء والقدر أو القدر المسبق (Prédestination) وهي تقوم على فكرتين: الشعور الديني بالفداء ثم استحالة أن يتحقق ذلك بالمجهود الشخصي واحتياج الأفراد إلى قوة موضوعية أخرى (هي قدرة الله). وبهذا المعنى تصبح حرية المسيحي التي نادى بها لوثر هي العبودية لله أو صوت مشيئة الله الأبدية في الإنسان، وتكون الكالفينية بهذا المعنى (تأملا دينيا متجها نحو الله لا نحو البشر. فلا يوجد الله للإنسان بل يوجد الإنسان لله). غاية الخلق إذن تحقيق العظمة الإلهية. ولا معنى للعدالة الإنسانية بالنسبة للمشيئة الإلهية لأن الله لا يخضع لقانون ولا تعلل مشيئته بل توحي إلينا فحسب، وبين الله والإنسان هناك هوّة سحيقة لا يمكن عبورها، وسيتم خلاص نصف البشرية وسيُدان النصف الآخر إلى أبد الآبدين. هذه هي الصورة التي يعطيها فيبر للطائفة البروتستانتية الأولى ليوحي من خلالها بأن الإنسان هو العاكف على ذاته الذي يشعر بحضور الله المطلق فيه ومحاولته تخليص ذاته بتحقيق إرادة الله فيه ومعونة الله له.
أما مذهب القنوط الذي يمثله شبنر (Spener) وفرانكه (Franke) وزنزندورف (Zinzendorf) فإنه يعتمد أيضا على عقيدة القضاء والقدر ويرى أن الخلاص لا يتم بمعرفة اللاهوت بل بالتقوى الباطنية. ويقدر سيادة العامل العقلي الصادر عن الزهد حيث نشعر بإعلاء القدسية الشخصية إلى مرتبة الكمال واليقين تحت سيادة القانون كما نشع بعمل العناية الإلهية من خلال الكمال.
أما المنهجية فهي حركة نشأت في انجلترا وأمريكا، في مقابل مذهب القنوط الذي نشأ في القارة الأوروبية، فتتميز بالتدين العاطفي الذي يغلب عليه أيضا طابع الزهد مع لامبالاة شديدة بالنسبة للأسس العقائدية الكالفينية بل ورفضها ويتضح من اسمها الإصرار على التنظيم المنهجي للسلوك، ولذلك تعد خطوة نحو التنظير إن لم يكن للعالم فعلي الأقل للفضائل.
أما الطوائف العمادية وأهمها المينونيون (Mennonites) (أنصار) (Menno) والمرتعشون (Quakers) فهي طائفة تقوم على الاتصال المباشر بالروح القدس وترفض الكنيسة والكهنة والطقوس، وعلى كل فرد التوبة حتى يمكنه تحقيق هذا الاتصال المباشر والعودة إلى جماعة الحواريين ورفض جميع مظاهر الوثنية، والدعوة إلى الصفاء ضد انحرافات الكنيسة ومظاهرها الخارجية.
كل هذه الطوائف تدعو إلى التطهير بالرجوع إلى الباطن وتأسيسه على العقل وهذا ما يسميه فيبر بعملية القضاء على السحر (Entzauberung) كنتيجة للقضاء والقدر والانعطاف على الذات ويراها خطوة نحو التنظير الذي يكون نقطة الالتقاء بين البروتستانتية والرأسمالية مع أنه ليس من الضروري أن يكون القضاء على الخرافة أثرا من آثار عقيدة القضاء والقدر بل قد تكون هذه العقيدة سبب من أسباب الوقوع في السحر والشعوذة كما هو الحال عند عامة المسلمين خاصة في الريف فلا فرق بين مشيئة الله ومشيئة الولي حيث يمكن التأثير على قدرة الله بالشفاعة وتقبيل حوائط مقابر الأولياء ومقابض أبوابها.
هذه الروح الطاهرة القادرة على التنظير العقلي هي السبب في نشأة التصور الهرمي للعالم سواء في اللاهوت أم في السياسة، هذا التصور الشائع في المسيحية وهو التصور التدرجي الذي يعرض العالم في صورة سلم يبدأ بالأكثر كمالا وينتهي بالأقل كمالا وتتفاوت بينهما المراتب. كلما صعدنا إلى أعلى ازداد الكمال حتى الكمال المطلق وكلما هبطنا إلى أسفل قلّ الكمال حتى النقص المطلق. وهو أيضا تدرج كوني في مادة الكون نفسه، كلما صعدنا إلى أعلى زادت الموجودات روحانية وشفافية حتى الروح الخالص والصورة المجردة، وكلما هبطنا إلى أسفل قلت الموجودات روحانية وزادت العتمة حتى المادة الخالصة. وهو تدرج أيضا في سلم القيمة، كلما صعدنا إلى أعلى زادت درجة الشرف حتى الشرف المطلق، وكلما هبطنا إلى أسفل قلت درجة الشرف حتى الخسّة المطلقة. وهو تدرج أيضا في المعرفة، كلما صعدنا إلى أعلى قوى الحدْس وزادت الشفافية وكان الاعتماد على نور البصيرة والإشراق والحدْس المباشر والاتحاد بالله، وكلما هبطنا إلى أسفل زاد الاعتماد على الحس وعلى المدركات الحسية والموضوعات المادية وكانت المسافة بين الله والإنسان بعيدة للغاية.
ثم ظهرت هذه الصلة بين المراتب الإلهية والأوضاع الطبقية في الصلة بين التفكير الديني والتفكير السياسي.
ثم تأتي نظرية العقول العشرة التي يفيض فيها العقل الأول عن الله ثم العقل الثاني عن الأول ثم الثالث عن الثاني حتى العقل العاشر، وكل عقل يدبّر فلكا حتى العقل العاشر الذي يدبر فلك الأرض. فالأجرام السماوية أيضا تتفاضل في العلو والسفل كالعقول تماما. وفي التفكير السياسي عن الرئيس يصدر وزراؤه وعن الوزراء يفيض كبار رجال الدولة وعنهم يخرج قواد الجيش حتى نصل في النهاية إلى العمال والفلاحين في أسفل السلم الاجتماعي، وما فوق فلك القمر أشرف مما تحت فلك القمر، وما تحت فلك القمر يتفاوت أيضا في سلم القيمة فهناك ست درجات من أسفل إلى أعلى: المادة، الاسطقسات، المعادن، النبات، الحيوان ثم الإنسان في القمة. وفي الإنسان تتفاضل قواه الإدراكية، من أسفل إلى أعلى، فهناك الحس ثم العقل ثم القلب، كما تتفاضل قواه الحيوية، فهناك القوة الغاذية ثم القوة الحاسة ثم القوة النزوعية ثم القوة المتخيلة ثم القوة الناطقة. وفي الاجتماع تتفاضل المدن فهناك الإنسانية الكاملة وغير الكاملة، وغير الكامل خادم للكامل، وهناك العظمى (الإنسانية) والوسطى (الأمة) والصغرى (المدينة). والقرية أقل كمالا من المدينة وبالتالي فهي خادمة لها.
ويقوي من هذا التصور السُّلّمي المتدرج تصور ثنائي آخر يزيد من حدثه وهو ثنائية الصورة والمادة، فكل درجة عليا صورة للدرجة السفلى وكل درجة سفلى مادة للدرجة العليا وتخرج من هذه الثنائية الميتافيزيقية الكونية ثنائية أخرى خلقية فهناك المدينة الفاضلة والمدينة الجاهلة ورموزها في الخير والشر، الملاك والشيطان، الجنة والنار...الخ. ويزيد من ثبات هذا التصور الحركة الدائرية للأفلاك والعود الأبدي في التاريخ والقوانين الثابتة للعمران. كما يقوى في التصور المركزي الدائري وهو المقطع الأفقي للتصور الهرمي، ويؤخذ الكائن الحي رمزا حسيا له فهناك القلب المسيطر والمنقل لحركة الدم في البدن ولحركة الأطراف.
وهذا واضح في اللاهوت عامة، فقد عبر أوغسطين وآباء الكنيسة قبله وبعده عن هذا التصور الهرمي للعالم، فهناك الحس والعقل والقلب، أو الحس والنفس والروح...الخ وهو اللاهوت الذي عبّر عنه دينيز الأريوباجي (Dénis l’aréopagite) في (التدرج السماوي) (La hiérarchie céleste) والذي ساد العصر الوسيط كله وعبّر عنه توما الإكويني في صياغاته العقلية، المادة اللامتعينة (مادة محضة) والمادة المتعينة (مادة وصورة) والموجودات المفارقة (صورة محضة).
وقد قام اللاهوت المسيحي على الأفلاطونية القديمة التي أعطته أساسه النظري القائم على التفاوت في المراتب وسلّم القيم، وكان هذا التفكير يعبر عن الارستقراطية اليونانية المعروفة، وقسمة الناس إلى أحرار وعبيد، إلى يونان وبرابرة، إلى فلاسفة وعمال. فأفلاطون هو الذي قسم العالم إلى قسمين، أحدهما كامل والآخر ناقص ورتّب الموجودات المفارقة حسب مراتب الكمال وجعل أعلاها مِثَال المُثُل وهو الخير وأدناها المادة المحضة، كما قسم الإنسان إلى قوى ثلاث تتفاضل في الكمال والشرف: العاقلة والغضبية والشهوية وتصوّر المدينة الفاضلة كما تصورها الفارابي وجعل على قمتها الملك الفيلسوف وتحته الأمراء والأجناد والفلاحون. وإنها لأكبر حادثة في تاريخ الأديان أن أخذ الوحي أساسه النظري من الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة فأصابت منه مقتلا وحوّلت الدين إلى أفلاطونية بالضرورة، وأصبح كل تصور طبيعي للدين يؤمن بالحلول لا بالمفارقة تصورا إلحاديا بالضرورة.
وعلى هذا النحو يصبح التصور الهرمي للعالم هو الأساس النفسي والميتافيزيقي للرأسمالية وتتأصل الرأسمالية داخل هذا التصور الهرمي للعالم، فتتم عبادة الله في رأس المال وتتم عبادة رأس المال في شخص الله، ولا تقتلع الرأسمالية من جذورها إلا بالقضاء على هذا التصور الهرمي للعالم وأخذ تصور واحدي للروح والطبيعة، الله والعالم، للنفس والبدن حتى يُقضى على الشعور الطبقي من جذوره النفسية وهذا لا يتم إلا بثورة جديدة في الفكر الديني ويوضع أسس جديدة للاهوت ثوري يتصف بكل المقومات النظرية للثورة. وعلى هذا النحو ينصب التراث الديني القديم في التفكير الثوري المعاصر الذي قد يكون أقرب إلى الوحي من اللاهوت الأفلاطوني القديم.
******************
الحواشي
*) باحث وأكاديمي من مصر.
. [1]- L’éthique protestante et l’esprit du capitalisme. Trad. Chavy، Paris، Plon، 1964. هذه الدراسة جزء من كتاب فيبر الكبير (مجموع المقالات في علم الاجتماع الديني. Gesamelle Ausfsatze zur Religionssoziologie) الجزء الأول منه صدر سنة 1920م (ثم أعيد طبعه للمرتين الثانية والثالثة سنة 1922م وللمرة الرابعة سنة 1947م) ويحتوي على مقالات ثلاث: الأولى الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، و(الثالثة) الأخلاق الاقتصادية لديانات العالم (الكونفوشية والتاوية)، ويشمل الجزء الثاني (الذي صدر سنة 1921م ثم أعيد طبعه سنة 1923م) الهندية والبوذية، ويشمل الجزء الثالث (الذي صدر أيضا سنة 1921م ثم أعيد طبعه سنة 1923م) اليهودية القديمة وملحقا عن الفريسيين.
2- نشر فيبر من قبل (العلم كرسالة ومهنة) Wissenschaft als Beruf وكذلك (السياسة كرسالة ومهنة) Politik als Beruf سنة 1919م.