الحياة الأسرية: بين الصفاء والتعكير
الأسرة بنية وكيان يتكون من عدة أفراد، يتبادلون قيما وسلوكات تمكنهم من نسج روابط تسهل عليهم عملية الاندماج والتواصل في النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للمحيط والوسط الذي نعيش داخله.
“الأسرة هي النواة الأولى للحضارة” مقولة للمؤرخ والفيلسوف الأمريكي ويل ديرون.
إن خبايا وأسرار وسلوكات وقضايا ومشاكل الأسرة، لا تطرح بشكل مكثف ومستمر في عقودنا الأخيرة إلا عبر المسلسلات والأفلام والمجلات والصحف.
هذه الوسائل والقنوات التواصلية، فتحت الآفاق لعرض وتحليل مجموعة من المواضيع والطابوهات التي كان يتعذر نقاشها وتداولها بين أفراد الأسرة والمجتمع برمته.
لهذا تظل الحياة الأسرية في تفاعلها وديناميتها مرهونة بمشاحنات ونزاعات وسوء فهم قد يعتري العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة.
فالواقع الحالي، وما يكتنفه من ضغوطات واكراهات تنعكس وبشكل مباشر على فضاء الأسرة وعلى تفاعل أفرادها داخله.
بالتالي فالأسرة اليوم، تعيش حالة شرود واختراق من طرف العالم الخارجي، فالتقدم التيكنولوجي والتواصلي، أَفْقَر وهَمَّش دور الأسرة كفاعل رئيسي وأساسي في تطور وتقدم المجتمع.
وفي سياق آخر، فتبسيط وتهوين المشاكل والعراقيل التي تعترض الصفاء الأسري، ضروري لامتصاص الميولات والانفعالات والأحاسيس المدمرة التي بإمكانها تمزيق أوصال وأواصر النسيج الأسري.
1. الحياة الأسرية والتركيز على الذات
كثيرة هي التوصيفات والتعريفات التي أعطيت لمفهوم الأسرة، كل هذه المحددات والتعريفات تؤكد على كون الأسرة هي تكتل موحد ومتماسك.
لكن هذه التحديدات غالبا ما تتغافل أو تلغي وتهمش القيمة الذاتية لكل فرد داخل الأسرة، وكذا تلغي تطلعاته واحتياجاته الخاصة، بمعزل عن الأسرة.
إن مهمة ودور الحياة لأسرية النموذجية هو قدرتها على تحديد وتقاسم وتشارك الأفكار وتبادل الآراء.
فالأسرة آلية وأداة لتحجيم النزوعات الذاتية المريضة والمضطربة.
فالاعتداد بالذات وتأكيدها ضرورة وحاجة نفسية، لا يجب تجاوزها أو إلغاءها كمعطى ذاتي وواقعي داخل فضاء الأسرة.
ولكي نحد من التوترات والنزاعات المحتملة داخل الفضاء الأسري، يجب ضبط الانفعالات وتبسيط المشاكل والمعيقات التي تعوق طريقنا في اتخاد وانتقاء الحلول والاقتراحات المناسبة والمُرضية لجميع أطراف الأسرة، طبعا مع الحفاظ على استقلاليتنا وكينونتنا الفردية، لأن هذا العنصر محوري في التوازن والتكامل الذاتي.
فالتكتل الأسري والإرادة الجماعية لأفراده، لا تلغي خصوصية وحرية الفرد في تفكيره وتطلعاته وأهدافه.
فأنت عزيزي القارئ، الوحيد المسؤول على متطلباتك واختياراتك، ولا أحد غيرك يستطيع تحمل نتائج اختياراته.
لهذا وذاك فلا أحد له الحق في فرض وصاية على أهدافك وتطلعاتك الذاتية، بالتالي لا يجب أن نتأثر أو ننفعل من محيطنا القريب (الأسرة) إن لم يكن راضيا أو رافضا لإنجاز أو عمل نكون مقتنعين ومؤمنين بفعاليته ومصداقيته.
في بعض الحالات، قد يكون اشراك أفراد الأسرة في مشكل أو سوء تفاهم، غير سليم وصحي، على اعتبار أن ذلك قد يكون له عواقب شاملة على جميع أفراد الأسرة.
في هذه الحالة والوضع، يجب على الفرد أن يتحرى العقلانية والواقعية في تقدير أسباب وتداعيات المشكل أو النزاع، على المستوى الفردي والأسري.
فحين نشرك الأسرة في مشكل شخصي معقد، هذا الاشراك قد يزيد في تعميق المشكل وتفاقمه، لهذا يستحسن أن نتحمل مسؤولية حل المشكل دون اعلام الآخرين (الأسرة)، لكي نتجنب الضغوطات والإكراهات التي يمكن أن يمارسها محيط الأسرة علينا.
باعتبار أننا المقررون والفاعلون والمسؤولون عن نتائج انجازاتنا واختياراتنا.
2. المرونة النفسية عماد الحياة الأسرية
للجو الأسري نكهة وطعم خاص يصعب تعويضه أو تغييره، فالسلوك الشخصي للفرد يتبلور ويتطور من فضاء الأسرة إلى فضاءات ومجالات أخرى (محيط العمل) بشكل مغاير ومختلف.
إن طبيعة العلاقات بين أفراد الأسرة تختلف عن نوعية العلاقات بين الفرد وزملائه وأصدقائه خارج فضاء الأسرة.
فغالبا ما نتساهل ونتسامح مع أفراد أسرتنا، فنبرز لهم التجاوب والقبول والتفاعل الإيجابي.
ويظهر هذا السلوك الإيجابي بين أفراد الأسرة، عندما تطفو إلى السطح خلافات ونزاعات بين أفراد الأسرة الواحدة، ففي غالب الأحيان يتم حل المشاكل والنزاعات الأسرية القائمة عن طريق التسامح وتجاوز الأخطاء والهفوات.
فلربما قد يطول أمد هذا الخلاف والنزاع الأسري، لكن من غير المسموح أن نحقد على أقاربنا أو نعاديهم مهما تقوَّلوا وفعلوا فينا.
فهذه السلوكات والتصرفات النفسية الإيجابية التي يخضع لها الفرد داخل محيطه الأسري حين وقوع نزاع أو خصام، نسميها مرونة وليونة في انفعالاتنا النفسية.
ويمكن أن نرجع هذا التساهل والاستكانة في مواجهة أفراد الأسرة عند وقوع سوء فهم أو نزاع، إلى كون الفرد اكتشف العالم ووعي به داخل فضاء الأسرة ومجالها، مما يكون له الأثر على أحكامنا وانفعالاتنا، التي يغيب عنها الموضوعية، لتبقى غارقة في الذاتية والعاطفية البعيدة عن آليات الواقعية ومقتضياتها.
فهذه الآلية المعتمدة في حل وفك النزاعات الأسرية، تنهج الوسطية والاعتدال بغية تهدئة الأجواء وتحقيق الاستقرار الأسري على المستوى القريب والبعيد.
3. الاعتراف والتقدير والحياة الأسرية
في الغالب لا نركز في أعمالنا ومشاريعنا المستقبلية إلا على المعيقات والعراقيل الممكن أن تواجهنا، وننسى المقومات والامكانيات الحالية التي نتوفر عليها.
فهل سنكون مرتاحين وراضين عن أنفسنا رفقة أقاربنا في المشاريع والأفكار المستقبلية التي تخصنا؟
نعتقد أن للأسرة دور محوري ورئيسي في تقوية وإغناء تجاربنا ومبادراتنا ومشاريعنا المستقبلية، باعتبار أن الأسرة وأفرادها هم الناس الأكثر رغبة وحبا في تفوقك ونجاحك.
لهذا فهم على استعداد لمشاركتك هواجسك وأفكارك، وهم قادرون على إفادتك ومساعدتك في تخطي الصعاب والكبوات والمشقات التي قد تصادفك في طريق التطور والتقدم.
إن الاعتراف الأسري مهم وداعم لأفرادها، فهو وسيلة لتدعيمنا وباعث على جدب وتفعيل الهدوء والانتشاء النفسي للفرد داخل محيطه الأسري.
صحيح أننا لا نختار أسرنا، ولكن هل نفضل وننزع دائما للعيش طلقاء وأحرار خارج القفص الأسري؟ وهل يستطيع أحد الاستغناء عن الاعتراف الأسري وتقديره؟
إن الجو والحياة الأسرية ليست دائما وبالضرورة حياة متماسكة وحياة استقرار وتآلف، بل إن سيرورة الحياة وتطور الأفراد، يجعل الحياة غير مفروشة بالورود والمفاجآت السارة، بل هي في الأول والأخير عراك وصدام للإرادات والرغبات الإنسانية، لهذا فالأسرة محرك استثنائي لثقتنا في أنفسنا ولتجديد تطلعاتنا وآمالنا وتنمية مؤهلاتنا وقدراتنا الذاتية.
الأهم هو توظيف واستثمار الفضاء والجو الأسري كعنصر من العناصر المحفزة والدافعة لإرادتك وطموحك نحو التوفق والنجاح وطرق أبواب الهناء والسعادة.
إن الحرص والمحافظة على الحياة والجو الأسري هانئا ومتواصلا مع آمالنا وأهدافنا عامل استراتيجي وتكتيكي في تحقيق الثقة والاعتداد بالذات وبقدراتها.