حوار الأديان في القرآن الكريم (إشكاليات الحوار وآفاق التواصل)

 

 

الشيخ عارف هنديجاني فرد

 

 

أولاً : المنهج القويم وثوابت الحوار

 

 

قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ... ﴾ [1] .

إنّ القوامية في الحياة هي شرط نجاح كل مشروع يستهدف سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. ولعل التفسير الأقرب، وقد يكون الأنسب للقوامية هنا، هو المنهجية القويمة التي لا بدّ من اتباعها في سبيل إحقاق حق وإزهاق باطل، وكما يُلاحظ أيضاً أن أقوم تأتي على وزن أفعل التي تفيد الجزم في أن أحداً لا يأتي بمثل هذه المنهجيّة لكونها صادرة عن الله تعالى العالِم بما يصلح العباد والبلاد، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [2] فأقوم تعني أنه يمكن أن يأتي الإنسان بشيء فيه الحياة والسلامة، ولكن الحياة القصوى، فيما تحتاج إليه من مشاريع حياة، ونماذج خلاص، لا تكون إلاّ من خلال القرآن الهادي إلى أقصى ما يمكن أن يحقق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، وقد أجمع المفسرون على أن أقوم هي أفعل تفضيل بمعنى الأكثر ثباتاً واعتدالاً واستقامة، فيكون المعنى أن القرآن أقوم مما يهدي إليه غيره من الكتب، كما يرى العلامة الطباطبائي، ويمثل أقصر الطرق وأفضل طرق الاستقامة والثبات والهداية كما يرى آية الله مكارم الشيرازي في تفسير الأمثل.

 

وطالما أن حديثنا في هذا الفصل يتناول حوار الأديان في القرآن، فإنّ مقتضى هذا البحث أن تكون له منهجيته القرآنية للكشف عمّا يعنيه حوار الأديان، وهل هو حوار فعلاً؟ أم أنه صِدام؟ كما ذهب هانتغتون في صدام الحضارات [3] ، أو كما نقل فوكوياما في نهاية التاريخ [4] ، إلى غير ذلك من النظريات التي ذهبت إلى القول بأن القرآن لا يستبطن نظريّة حوارية، بل يدعو إلى الحرب والجهاد، وإلى إعداد القوّة لترهيب الناس، وقد بينّا في تمهيدنا السابق مختصر القول في مزاعم هؤلاء، ومدى ما هم عليه من خطأ في الرؤية والمنهج، إذ إنّ أقلّ ما يقال في هؤلاء أنهم وقعوا في التباس، ولم يهتدوا إلى المنهجيّة القويمة التي تسمح لهم بإطلاق الحكم في مجال الحوار القرآني. ولا شكّ في أنّ اختلاف المناهج يختلف باختلاف الرؤى والأهداف، والمنهج، كما يرى الباحثون، هو الطريق المؤدّي إلى الغرض المطلوب من خلال دراسة المصاعب... ويعني في الفكر العلمي المعاصر الطريق المؤدّي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل وتحدّد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة... وبشكل عام، فإنّ المنهج العلمي يمكن وصفه بأنّه فنّ التنظيم الصحيح لسلسلة الأفكار العديدة، إمّا من أجل الكشف عن الحقيقة، حين نكون بها جاهلين، أو من أجل البرهنة عليها للآخرين حين نكون بها عارفين.. [5] .

 

كما سبق الكلام أيضاً أن التنوع والتعدد هو سمة الخلق في الدنيا والآخرة، بل هو حقيقة كونية لا شكّ فيها، وأن التعدّد والتنوّع مثلما أنه قائم موجود في عوالم الوجود كلها، وهو ظاهر في عالم النبات والحيوان والإنسان، بل هو، كما يرى العلماء، معجزة الله في خلقه، وهو من مظاهر الإبداع والإعجاز في الخلق والتكوين، ومثلما أن هذا التنوّع ظاهر في الكائنات، فهو ظاهر أيضاً في خلق الإنسان، في شكله ولونه ولغته، إضافة إلى عواطفه وأحاسيسه ومشاعره وأفكاره، وهذا يقتضي حتماً أن يكون الإنسان متنوعاً في رؤيته وعقيدته، هذا، فضلاً عن كونه مفطوراً على أنه محتاج، ولا يستقلّ بنفسه، كما بيّن الفلاسفة في مدنهم الفاضلة [6] . لذا، فإن منهجية البحث العلمي تقتضي ملاحظة ما فطر عليه الإنسان، سواء في تنوعه من حيث الشكل، أم من حيث المضمون، ناهيك عمّا خصّ به الإنسان من تنوّع في المهمات والوظائف، باعتبار أنه لا يعقل أن نبحث فيما خصّ به الإنسان من حوار وتفاعل ديني وإنساني بمعزل عن السنن الكونية والاجتماعية الحاكمة لحركة الإنسان.

 

إنّ دراسة الحوار في القرآن، لا بدّ أن ترتكز إلى القواعد العامة، والثوابت القائمة في عالم الخلق والوجود، كيما يتسنّى للباحث أن ينتهي إلى فكرة واضحة عن الحوار، بحيث يكون له رأيه المنسجم مع هذه الثوابت، فلو كان القرآن يدعو إلى الصدام، وإلى أن يكون الناس في صراع ونزاع لما جاءت النصوص الإلهية تدعو إلى التسابق بالخيرات، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ... ﴾  [7] .

 

ثم إنّه ما معنى أن يكون الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا؟ فهل لذلك من معنى غير أن القرآن يدعو إلى التعارف والتلاقي من منطلق أنهم مختلفون، ومتنوعون، ولا بدّ أن ينتهوا في ظلّ هذا التنوّع إلى تكاملهم لما تقدّم ذكره من أنّ التكامل معلول للاستباق، وهذه هي أهم ثابتة يمكن الانطلاق منها في تأسيس وترشيد عمليات العقل لاستخلاص الموقف الإسلامي اتجاه قضية الحوار.

 

فالقول بأن القرآن يدعو إلى الصدام والصراع، هو قول مخالف لما جاء به القرآن، لأنه يضرب أهمّ ما فطر عليه الإنسان من تمايز وتنوّع، ويؤسّس لعلاقات صراعية بين البشر على قاعدة أن البقاء للأقوى، هذا فضلاً عمّا تؤسّس له من شرائع وقوانين مخالفة لما فطر عليه الإنسان في أصل وجوده، وقد عهد الإنسان في تاريخه هذه الشرائع الجائرة المسمّاة بشريعة الغاب التي يكون فيها الإنسان رهين القوّة والفوضى... وأسير العصبيّة، والعرقية، والحزبية التي تحوّل الإنسان إلى شيطان في أفكاره وسلوكه وعقيدته...!؟

 

كما أنّ من القواعد والثوابت التي يُركن إليها في حقيقة الحوار القرآني، هي ما يمكن تسميته بنظرية الدفع في القرآن، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً ... ﴾ [8] . إذ إنّ هذه الآية تؤسس لثابتة حوارية باعتبارها سنّة فطريّة هادفة إلى إحياء الإنسان بالدفع القائم أساساً على ملاحظة حقيقة التنوّع والاختلاف بين البشر، فلو كان معنى الدفع هو الصدام لما قال الله تعالى: تعاونوا، وتعارفوا، وتسابقوا، وسارعوا، إلى غير ذلك من مفردات قرآنية يمكن تفسيرها في إطار ثوابت الخلق وما جعلت عليه الكائنات من تميّز وتنوّع في الظاهر والباطن. ولهذا، فإنه يمكن الاستفادة من الدفع القرآني في تظهير معنى الحوار باعتباره أصلاً من الأصول التي لا بدّ من قيام الناس به في ضوء ما أمر الله به ونهى عنه لتكون لهم الحياة، كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ... ﴾ [9] .

 

أما الصدام الحضاري، فهو على خلاف ذلك تماماً فهو مبنيٌّ أصلاً على تجاهل الهدف من الخلق والوجود، ونقول تجاهل بهدف البرهنة على هذه الحقيقة، لا بهدف الكشف عنها، لأنها ظاهرة محسوسة، وقد تجاهلها الكثيرون في بحوثهم الحضارية والإنسانية رغبة منهم في إثارة الصدام بين البشر، وتعزيز روح الانقسام على النحو الذي يؤدي إلى أن يكون الناس على تناقض فيما يقومون به من وظائف، وفيما يؤدّونه من أعمال، وفيما يلتزمون به من قضايا في الفكر والعقيدة والأخلاق.

 

والتدافع، كما نلاحظ في سياق الآية، يأتي بلحاظ كون الإنسان واعياً بأهداف الخلق، ومنتمياً إلى الله تعالى فيما يصدر عنه من رأي، أو مجادلة مع الآخرين، سواء أكانوا مؤمنين أم كافرين، ولعلّ هذا ما يُستفاد من الأسبقية التاريخية التي تلحظها الآية المباركة: إذ إنّ المُعطى الديني هو الأساس في الحوار، وإذا كان ثمّة أبعاد أخرى للتحاور، فهي إنّما تأتي بالتبع، ومن شأن التدافع أن يُجلّي هذا المعنى الديني من خلال الحوار، فيكون الهدف هو حماية الدين والعقيدة والشريعة التي ينتمي إليها الإنسان [10] . أما أن يُقال بأنّ الصدام الحضاري تفرضه طبيعة البشر فيما يختلفون فيه إلى حدّ التناقض، فذلك ليس من الدين في شيء، سواء أكان الدين آتياً بالمعنى الفطري، أم آتياً في سياق النظرية الدينية التي يصدر عنها الإنسان في جميع شؤونه. فإذا كان المعنى الديني، بما هو أساس في نظرية التدافع، يفرض الاختلاف على البشر بلحاظ كونهم ينتمون إلى شرائع مختلفة [11] ، فذلك لا يصلح لأن يكون دليلاً على الصدام الثقافي والحضاري، وقبل ذلك الديني، لأنّ الإنسان، كما بينّا، بحكم انتمائه إلى الدين، ينبغي عليه أن يكون مستوعباً لهدفيّة الخلق وما تفترضه من تكامل في صيرورة التحولات الإيمانية والإنسانية، وهذا هو معنى أن يتدافع البشر في طريق الخير والحق والعدل، فلا يكون التدافع مانعاً من ذلك لكونه يأتي في سياق الرؤية الدينية والسنن الفطرية.

 

ولهذا، فإنّ ما تقتضيه منهجية الدين أولاً وقبل كل شيء، أن يكون الإنسان قائماً بالأمر الإلهي على النحو الذي يمكّنه من السير في طريق التكامل، وهذا ما تفيده دلالة السياق في الآية المباركة كونها لحظت الصوامع والبيع والصلوات والمساجد، ما يؤكّد لنا أن النظرية الدينية سبيلها التدافع وليس الصدام، الاستباق وليس التقاتل.

 

وإذا كان لا بدّ من القتال والتقاتل، فإنّه آخر ما يتوسّل إليه من الدفع إذا لم ينجح غيره من قبيل آخر الدواء الكيّ، وكما يقول العلامة الطباطبائي: «ففيه إقدام على فناء البعض لبقاء البعض وتحمّل المشقّة في سبيل راحة سنّة جارية في المجتمع الإنساني، بل في جميع الموجودات التي لها نفسية ما واستقلال ما...» [12] . وعليه، فإنه لا معنى لقول القائل بأنّ الدفع هو مظهر للصراع الحضاري، بل هو سنّة الله تعالى الجارية في الخلق، والتي لا بدّ من الاعتبار بها، والامتثال لها في كل وجوهها، ومن التأسيس عليها في المنهج لبحث موضوع الحوار الديني بحيث تكون طريقاً توصلها إلى الغرض المطلوب اكتشافه أو البرهنة عليه. لذا، فإنّ مقتضى المنهجية في الحوار أن يتلمّس الباحث، وخاصة في الدراسات الإسلامية، الثوابت التي لا بدّ من الانطلاق منها للكشف عن الحقيقة، أو للبرهنة عليها، لأنه يستحيل أن يكون القرآن قد دعا إلى الصدام في الوقت عينه الذي يدعو فيه إلى التكامل والتعارف.

 

ولهذا فإنّ ما يُروّج له بعض الباحثين ممن اختمرتهم الأصوليات السلبية من أن منهج القرآن هو التأسيس للصراع، أو الصدام في ضوء ما تمّ تأويله من الآيات، لا يستقيم له معنى في ظلّ القواعد والثوابت الحاكمة في توجيه الرؤية الدينية، وهذه القواعد منها ما هو متعلّق بالتكوين والإيجاد، ومنها ما هو متعلق بالشرائع وتنوّع المناهج، فإذا ما تمّ الارتكاز إلى هذه الثوابت في التأسيس للحوار في الأديان، فإنّه يمكن الوصول إلى نتائج ذات جدوى فيما يتعلق بالنظرية القرآنية وما تقدّمه من رؤية لتحقيق الغاية المرجوّة في وصول الإنسان إلى كماله، الذي يفترض أن يكون مؤسساً على حقائق التكوين والتشريع معاً. إنّ المنهجية القويمة التي أرشد إليها القرآن، هي منهجية مرتكزة إلى حقيقة ما تجلّى به الإنسان في فطرته وطبيعة خلقه، حيث بيّن الله تعالى، وهو الخالق للإنسان والعالِم بما توسوس به نفسه، أنّ التنوّع (التعدّد) في الخلق، أو في الشرائع فيما لو أتى في سياق ما هدى الله له، لا بدّ أن يؤدّي إلى الكمال الإنساني. فالقول بأنّ منشأ الصراع والصدام هو ما عليه الناس من اختلاف، لا يستند إلى دليل ويناقض القوانين والقواعد والتأسيسات، لأنه يصادر النصوص ويفرض مسبقاً أن الحوار غير ممكن بين البشر لما هم عليه من تعدد وتنوّع، سواء في الخصائص والميّزات، أم في الأديان والشرائع، في حين أن مقتضى المنهجية الإسلامية، هو الكشف عن هذه الحقيقة الإلهية في طبيعة الخلق، وعمّا هو عليه الإنسان من مبادئ وقوانين، فيما ينتمي إليه من دين بحيث يكون ممكناً التأسيس للحوار الديني المؤدّي في النهاية إلى أن يكون الإنسان متحققاً بالكمال، مستوعباً لحركة الرسل والأنبياء في تاريخ الأديان.

إنّ كلمتنا في المنهج القويم، تقوم على ضرورة استيعاب المُعطى الديني في ضوء تعدّد الإنسان وتنوّعه، وقبل ذلك لا بدّ من استلهام جملة الثوابت والقواعد القرآنية التي تؤسس لحركة الإنسان في الحياة، وتعطيه كامل أبعاده فيما يتحوّل فيه من دين ودنيا.

 

 

 

 

 

ثانياً: أهل الكتاب في القرآن

 

 

إنّ ما تقدّم في كلمة المنهج هادفٌ إلى تبيان حقيقة التنوع في الخلق والاعتقاد، سواء في مجال التكوين، أم في مجال التشريع، هذا التنوّع يقتضي أن لا يكون الحوار في القرآن آتياً بخلاف ما فطر عليه الخلق، بحيث يكون ناقضاً له، وقد بيّن علماء التفسير ضرورة التسليم لإرادة الله تعالى التشريعية المنبعثة عن إرادته التكوينية.

يقول العلامة الطباطبائي: «الإسلام دين الحق بمعنى أنه سنّة التكوين والطريقة التي تنطبق عليها الخلقة وتدعو إليها الفطرة، ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [13] » [14] .

 

إذن، الإسلام هو دين الفطرة، وقد تواتر الرسل والأنبياء إلى الأمم للهداية إلى هذا الدين، وللخروج بالناس من الظلمات إلى النور، وذلك بهدف أن يكون الانسجام تاماً بين ما فطر عليه الإنسان، وبين ما يقوم به من أعمال، ويلتزم به من إيمان، ويؤدّيه من وظائف ومهام لا بدّ أن تكون متنوعة، تبعاً لما هو عليه الإنسان من تنوّع في مظاهره الداخلية والخارجية، وقد بيّن علماء الإسلام أن هذا التنوّع، كما سبق القول، لم يأتِ من خارج الإرادة الإلهية، وإنّما جاء وفقاً لما أراده الله تعالى. ولهذا، نجد القرآن حافلاً بالأمثلة والآيات المتنوعة التي تدعو الإنسان إلى التأمل والتفكير والاعتبار بما خلقه الله تعالى، وكما يقول الإمام علي (عليه السلام): «سبحانه... بل ظهر للعقول بما أَرَانا من علامات التّدبر المُتقن والقضاء المبرم» [15] .

 

ولا شكّ أيضاً في أن الحوار الديني في القرآن، سواء الحوار مع الملائكة، أم مع الشيطان، أم مع الأنبياء والرسل، أم مع أهل الإيمان، أم مع أهل الكتاب، جاء متناسباً تماماً مع ما جعل عليه الناس من اختلاف في الوجهات والهيئات والشرائع والمناسك والمناهج، كما قال الله تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ [16] ، وقال الله تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ﴾ [17] .

 

وانطلاقاً من ذلك، نرى أن الحوار مع أهل الكتاب يأتي في سياق هذا التنوّع في الحوار الهادف إلى تعليم الناس وإرشادهم إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه من إيمان وتسليم لله تعالى، بحيث يكون منهم الالتزام في طريق الإيمان، والتسابق في الخيرات لتحقيق الكمال، الذي لا يتحقق إلاّ من خلال هذا التسابق والتعارف بين البشر، ذلك أنه يستحيل أن يتحقق هذا الكمال فيما لو كان الناس نسخة واحدة وشكلاً واحداً، وعلى رؤية واحدة، وكما يقول العلامة مطهري في المجتمع والتاريخ: «إنّ الناس إنّما جعلوا على هذا التفاوت والاختلاف والتنوع لأجل تحقيق كمالاتهم، إذ لو كانوا شيئاً واحداً، وعقلاً واحداً، وعلى خصائص ومميزات واحدة، لاستحال عليهم التكامل، فلم يرد الله لهم أن يكونوا نسخاً معملية، بحيث يكون لهم اللون والرائحة والشكل الواحد، كما هو حال جميع الصناعات المادية التي تنتج على شكل واحد وتكون لها خصائص ومميزات واحدة..» [18] .

 

لقد أرشد الله تعالى في الحوار القرآني مع أهل الكتاب، إلى حقائق إيمانية كبرى، وأعظم هذه الحقائق هو الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله تعالى، مبيناً لهم أن الخط التواصلي في طريق الإيمان ليس لأحد أن يدّعي أنه ينتهي في هذا الزمان أو ذاك، بل الله تعالى هو الذي يحكم بما يريد، وقد أراد سبحانه وتعالى أن يتواصل أهل الكتاب مع هذا الخطّ النبوي ليكونوا جزءاً من التواصل الإنساني في تاريخ الأديان. ولهذا، نجد أن القرآن في حواره مع اليهود والنصارى بما هم أهل كتاب يدعوهم إلى التفكير بحقيقة أن بعث الأنبياء والرسل هو بيد الله تعالى، ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [19] ، وكما قال الله تعالى: ﴿ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... ﴾ [20] ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدعو إلى الاعتبار في خطّ الرسالات بهدف التواصل والاعتبار والاستهداء في طريق الحق، ليكون لهم الفوز في الدنيا والآخرة. أما أن يدّعي أهل الكتاب أنهم على كل شيء، وأن الهداية كل الهداية في أن يكون الناس هوداً أو نصارى، وأن إرادة الله تعالى هي رهن إرادتهم بحيث يكون لهم الخيار في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا، فذلك كلّه ليس من الحق في شيء، ولا جاءت به رسل، ولا نزل به وحي، وإنّما هو ادعاء باطل ذهب إليه كثيرون من أهل الكتاب، وكان موضع جدل وحوار معهم في القرآن، إذ إنّ هناك الكثير من الآيات التي تجادل أهل الكتاب وتدعوهم بالحكمة والمنطق إلى أن لا يتعاملوا بعنصرية مع ما يوحى إليهم، وهنا تجدر الإشارة إلى أن أهل الكتاب في عرف القرآن هم اليهود والنصارى، وهم إنّما خوطبوا بالجمع لكونهم ينتمون إلى قومية واحدة، وهذا ما بيّنه العلامة الطباطبائي بقوله: «إنّ الطائفتين ترجعان إلى أصل واحد وهو شعب إسرائيل بعث إليهم موسى وعيسى (عليهما السلام) ... ووجه الكلام معهم لاشتراكهم في الخصيصة القومية وهو التحكم والقول بغير حق.. وعدم التقيّد بالعهود والمواثيق..» [21] ، ورغم أن لأهل الكتاب هذه الخصوصية، فإننا نجد اليهود لا يرون تشريع شريعة بعد التوراة لذهابهم إلى امتناع النسخ والبداء، وقد بيّن القرآن هذا المعنى فيما انتهت إليه كل طائفة من دعوى، ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ﴾ [22] ، ما يدلّل على أن أهل الكتاب قد أخطأوا الهدف وادّعوا ما لم ينزل الله به سلطاناً قبل بعثة النبي ، هذا فضلاً عمّا كانوا عليه من تعصّب ديني وقبلي، انتهى بهم إلى أن يكونوا فرقاً ومذاهب، كما قال الله تعالى: ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون ﴾ [23] .

 

إنّ القرآن فيما يعرض له من حوارات مع أهل الكتاب، يكشف عن أنهم يتعاملون مع الوحي في ضوء رؤية خاصة بالإيمان، ويعبرون عن الوحي بلغة خاصة ومفاهيم تتوافق وأمزجتهم ومصالحهم الدنيوية، ولا يصدرون في دينهم عمّا جاء به الأنبياء، وخاصة في مجال التوحيد، حيث يرون أن الله تعالى قد فضّلهم على العالمين لكونهم بني إسرائيل، لا لكونهم مؤمنين ويقومون بالشريعة بحسب ما أُمروا به، وكانت النتيجة أن ذهبت كل طائفة إلى ما يحلو لها من قول في الألوهية، فقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصرانية المسيح ابن الله، مع ما تبع ذلك من تأويلات في الصفات الإلهية، وإذا كانت هذه المذاهب تدلّ على شيء، فإنّها تدلّ على مدى خروج هؤلاء عن الخط التواصلي، الذي أراد الله تعالى له أن يستمر مع الأنبياء ليكون الناس جميعاً على مستوى الخطاب الإلهي، ما أدّى بهم إلى التحول عن كونهم عباداً لله تعالى ليكونوا آلهةً فيما يزعمونه من اعتقاد، ويفتخرون به من عالمية وتمايز عن البشر، وهذا ما كان موضع انتقاد ورفض من أنبياء بني إسرائيل، ولو أنهم عقلوا عن الله تعالى، واستجابوا لنداء الحياة، لما آل أمرهم في الاعتقاد والعمل إلى الحزبية والعصبيّة، وقد سجّل القرآن الكثير من مزاعم أهل الكتاب، وكشف عن أنهم عملوا بخلاف ما تقتضيه الحكمة الإلهية من الخلق والتنوّع، فضلاً عمّا تقتضيه الحكمة من تعدّد الشرائع والمناسك، فهم ـ أي أهل الكتاب ـ بدل من أن يتسابقوا بالخيرات، ويسارعوا إلى مغفرة من ربهم بمتابعة خط الأنبياء، انقلبوا على الأعقاب، وحالوا دون الأمر الإلهي، فكان لهم ما أرادوا من هوان وذلّ وصغار بما أقدموا عليه من انقسام وعمل بخلاف السنن الفطرية، وهذا ما أدّى إلى أن تكون الشرائع المختلفة بل المتناقضة، فغامت الآفاق، وانقطع حبل التواصل مع النبوة الخاتمة، وادّعى كل من اليهود والنصارى أن التاريخ الديني ينتهي عند ما يرونه من حق فاستحال الرتق، ولم تجرِ على أذلالها السُّنن، وكان ما كان من خطاب قرآني، ونداء إلهي لأهل الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... .

 

إنّه النداء الهادف إلى إعادة وصل ما انقطع مع النبوة، حيث نرى كيف أن القرآن قد أكثر من كلمات التواصل والحوار مع أهل الكتاب دون أن يُغفل ذكر التوراة والإنجيل، باعتبارهما كتابين سماويين أراد الله لبني إسرائيل أن يتكاملوا من خلالهما في صيرورة التحوّل باتجاه الله تعالى، لا أن يقتصر الأمر على ما تمّ ادعاؤه من معنى ديني إيماني، هذا المعنى الذي ذهبت فيه بنو إسرائيل مذاهب شتّى حالت دون أن يكون لهم أدنى التكامل في طريق الإيمان، هذا فضلاً عمّا تسبّبت به هذه المذاهب من تحولات إنسانية واجتماعية وثقافية مخالفة لسنن الله تعالى وما تحتّمه من اعتبار وتنوّع إنساني هادف إلى تكامل الإيمان فيما يختاره الله تعالى للبشر من شرائع وأحكام وتعاليم يهتدون بها إلى سبل السلامة في الدين والدنيا.

 

 

أ - حوار القرآن مع اليهود

 

 

إذا كان القرآن هو الكلمة الخاتمة والكاملة والنهائية في التاريخ الديني للبشر، كما بيّن تعالى في آية إكمال الدين [24] ، فإنّ هذه النهائية لم تستبعد أهل الكتاب عن أن يكونوا موضوعاً لخطاب الله تعالى، بل إنّ القرآن هيمن على الرسالات السماوية، وشكّل امتداداً حقيقياً وصادقاً لها، هذا وقد برز الحوار القرآني مع أهل الإيمان على مستويات مختلفة من الخطاب، تعرّض لها على الشكل الآتي:

 

أولاً: هناك مستوى الخطاب مع بني إسرائيل فيما كانوا عليه مع النبي موسى (عليه السلام) من إيمان وكفر، وغير ذلك من الحالات والتقلبات النفسية والعقلية والاجتماعية، وقد بيّنت الآيات القرآنية هذا المستوى بما عرض له القرآن من أحوالهم وما كانوا عليه من جحود وقتل للأنبياء، ومعاندة للحق، وعبادة للعجل، واستعباد الفراعنة لهم، ثم تحريرهم من العبودية، ونجاتهم من الغرق، وإنزال المنّ والسلوى عليهم، ثم كرههم للآخرين، ولعل الغاية القرآنية من وراء ذلك هي بيان حقيقة هؤلاء الناس، بحيث تهتدي الإنسانية إلى ما هم عليه من فساد في دينهم، هذا فضلاً عن إظهار النعمة التي أنعم الله بها عليهم،، إذ ترى في سورة البقرة الكثير من الآيات التي تكرّر النعم الإلهية عليهم، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ... ﴾ [25] .

 

ثانياً: هناك مستوى من الخطاب يتوجه فيه الله تعالى إلى أهل الكتاب، وقد بينّا أن أهل الكتاب في عرف القرآن هم اليهود والنصارى لكونهم من أمة واحدة، وتجمعهم قومية واحدة، وغالباً ما نرى مسحة اللين التي تميّز الخطاب مع أهل الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿  قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... ﴾ وكما في قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ... ﴾ [26] .

 

ثالثاً: مستوى الخطاب مع اليهود والنصارى، وقد جاء هذا الخطاب تارة بالجمع، وطوراً بالمفرد، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ... ﴾ [27] ، وقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ ... ﴾ [28] .

 

رابعاً: خطاب القرآن مع المسلمين في كيفية التعامل مع الآخرين، سواء أكانوا مؤمنين، وأهل كتاب، أم غير مؤمنين، وهو خطاب ذو شقّين، خطاب لقتالهم لكونهم كافرين ولا يؤمنون بالله تعالى، وخطاب عدم تولّيهم لكونهم أولياء بعضهم البعض، إضافة إلى خطاب القرآن للمسلمين بأن لا يسألوا نبيّهم كما سأل أصحاب موسى (عليه السلام)، كما في قوله تعالى: ﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ... ﴾ [29] .

 

إذن، هناك مستويات من الخطاب القرآني مع الإنسان، ويكفي أن نعرض في هذا البحث لمستوى الخطاب الأول، حيث يتمّ فيه استحضار اليهود من تاريخهم الديني، من زمان موسى (عليه السلام) إلى زمان وعصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ هو خطاب يستحضر النعم الإلهية، ويبيّن ما كان عليه بنو إسرائيل من مستويات إيمانية وعملية فيما كانوا يؤمنون به ويعملون له من أهداف لا تتجاوز المصالح الخاصة والمنافع الدنيوية، حيث بيّن القرآن كيف أنهم استهزؤوا بالنبي موسى (عليه السلام)، وكذّبوه وعاندوه، ولم يؤمنوا بما جاء به أنبياء بني إسرائيل لما كانوا عليه من عناد وفساد في دينهم ودنياهم، وقد استمر هذا الخطاب لهم مع النبي عيسى (عليه السلام)، ولكنهم لمايدخل الإيمان قلوبهم واتهموا النبي عيسى (عليه السلام) وطاردوه إلى غير ذلك مما قصّه القرآن بشأن أوضاعهم مع الأنبياء. وهكذا نتابع الخطاب لهم في عصر الرسالة الإسلامية مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ [30] .

 

إنّ القرآن يستحضر اليهود من تاريخهم من خلال اليهود المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكونهم امتداداً حقيقياً لآبائهم، وهو خطاب قرآني في الزمان والتاريخ لقوله تعالى: ﴿ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [31] ، ﴿ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [32] . وهكذا، فإنّ القرآن لم يميز بين اليهود الذين كانوا مع النبي موسى (عليه السلام) قبل مئات السنين وبين اليهود المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا، نجد أن القرآن فيما زعموه عن قربان تأكله النار يرد عليهم مقالتهم ويسألهم عن قتل الأنبياء، كما قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [33] .

 

فاليهود الذين عاصروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقتلواالأنبياء، وإنّما الذي قام بفعل القتل هم الآباء والأجداد، فنُسب الفعل بالقتل إلى المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مما يدلّ على أن الأبناء هم امتداد للأجداد والآباء، وهذه حقيقة قرآنية لا بدّ أن تلحظ في سياق الخطاب القرآني مع اليهود، لأنه خطاب كاشف عن حقائق الأمور، وهو لا يستحضر التاريخ الديني لمجرّد الحديث عن فعل تاريخي [34] ، وإنما يستحضره بهدف وعي حركة الإيمان في تاريخ البشر، وبهدف التعرف إلى ما يكون عليه الإنسان من تحولات في الزمن، سواء في الماضي، أم في الحاضر، أم في المستقبل، لما لهذا الوعي، وكذلك التعرف، من أثر في تحديد ملامح التحولات الإيمانية والإنسانية، التي بيَّن القرآن أنها واحدة وممتدة في حياة الإنسان وإن اختلفت في الأسماء والأشكال، ولكنها تبقى واحدة في الجوهر، وهذا ما كشفت عنه العلوم الإنسانية الحديثة فيما ذهبت إليه من أن أكثرية الأحياء تتشكّل من الأموات، ولعلّنا في غنى عمّا ذهب إليه العلماء في هذا الشأن طالما أن الإمام الصادق (عليه السلام) قد بيّن هذا المعنى وكشف عن مضمونه حينما سأل أحدهم عمّا إذا كان ينزل في الكوفة، وعمّا إذا كان رأى أحداً من قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) فأجابه: ما رأيت منهم أحداً. فردّ الإمام (عليه السلام) قائلاً: ليست قتلة الإمام (عليه السلام) فقط هم الذين باشروا الفعل وقاموا به، وإنما هم أولئك الذين سمعوا بذلك ورضوا به حتى يوم القيامة [35] ، ونحن إنّما ننقل هذا الكلام بالمعنى لكونه يؤسّس له في سياق الرؤية القرآنية على نحو يبيّن أن الفعل الإنساني، سواء السلبي أم الإيجابي، ليس مجرّد فعل في التاريخ، وإنّما هو فعل في الزمن وله امتداداته في النفوس قبل الواقع، ولهذا، فإنه ليس من الغرابة في شيء أن يُعطي القرآن هذا البعد للحدث التاريخي الناشئ عن كون الإنسان ينتمي إلى عقلية وروحية مؤثّرة في الزمن، وباعثة على الفعل في كل زمان.

 

لقد كشف القرآن أن اليهود في تاريخهم الديني قد تميّزوا بهذه الروحية الفاسدة في علاقاتهم الإنسانية، وفي علاقاتهم مع الأنبياء، رغم كل النعم الإلهية التي مَنَّ الله تعالى بها عليهم [36] ، ولكن النتيجة كانت استمرار الفساد في الأرض وقتل الأنبياء بغير حق، إلى غير ذلك مما كشف عنه القرآن لجهة عدم الوفاء بالعهد، والكفر بما أنزل الله تعالى على نبيّه محمد ، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ... ﴾ [37] .

 

إذن، مستوى الخطاب الأول، هو استحضار اليهود من تاريخهم، وقد تكرّر الخطاب لبني إسرائيل ليكونوا على مستوى الرسالة الجديدة، فيؤمنوا بها، وينطلقوا على أساسها في تحقيق التواصل مع أهل الإيمان، بحيث يدركوا أن التواصل الديني في الزمان مع الأنبياء هو شأن إلهي، وليس لهم أن يحدّدوا أو يفرضوا طريقة الإيمان على أحد فضلاً عن أنفسهم، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، والخلق كلهم عياله وعباده، وقد أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وليس من معنى لتكرار الخطاب إلى اليهود إلاّ التأكيد على حيوية هذا الخطاب الإلهي الهادف إلى ترشيدهم وتزكيتهم على النحو الذي يجعل منهم مجتمعاً إنسانياً تليق به رسالة السماء.

 

كما أن التكرار هادف أيضاً إلى تحقيق اليهود بالرؤية الإيمانية الجديدة للخروج بهم من كهوف العرقية والعصبية والمذهبية، إلى رحاب حاكمية جديدة جاء بها الإسلام، لكي يكون لهم معنى الامتداد في الحياة والدين، فلا يكونوا مجتمعاً مغلقاً، هذا فضلاً عمّا يعنيه النداء من تصحيح لمسار الحركة الدينية بعد أن تحولت مع اليهود إلى مجرّد حركة مصالح وتجارات لتحصيل مكاسب من قبل الأحبار، الذين استغلّوا الدين والناس لمآربهم بعد أن اتخذوا أرباباً من دون الله تعالى يعبدهم الناس، ويحرّمون لهم الحلال، ويحلّلون لهم الحرام، فجاء الخطاب الإلهي لترشيد هذا المجتمع من خلال تذكيره بالعهود والمواثيق وجملة النعم التي مَنَّ الله بها عليهم، وهذا إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على مدى العناية الإلهية بالإنسان من خلال تتابع الخطاب وتكرار النداء ليكون على مستوى ما خصّ به هذا الإنسان من معنى ودور وهدف لعله يتمكن من إعادة تواصله مع تاريخ النبوة والرسالة، بحيث يكون له معنى في صيرورة تحوله الإنساني، ليس فقط من خلال إعادة التفكير فيما كان عليه الإنسان في ماضيه وحاضره، وإنّما في تحوّله نحو المستقبل ليكون في الدائرة الإنسانية الكبرى، والتي هي في الحقيقة دائرة الدين والأنبياء والرسل، تمهيداً لتحقيق رؤية شاملة حول الكون والإنسان والحياة والدين بما هو سبيل للإنسانية وليس لليهود وحسب.

 

إنّ القرآن من خلال تواصل الخطاب يُظهر مدى العناية الإلهية بالإنسان، ولكن اليهود، كعادتهم، لم يستوعبوا خطاب النبوّة جيداً، ومارسوا العناد في تقبّل الدعوة الجديدة، رغم إيمان الكثيرين منهم بها، كما جاء في الثناء الإلهي على المؤمنين من أهل الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿ لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ [38] . فهذه شهادة لمن آمن بالله وأقام الصلاة، وآتى الزكاة من أهل الكتاب، ما يعني ضرورة الاعتبار للخطاب الإلهي في الدائرة الشاملة لأهل الإيمان، إذ لم يكونوا جميعاً على حالة واحدة، بل آمن الكثيرون منهم، واستجابوا للنداء الإلهي فيما أمرهم به ونهاهم عنه، سواء في مجال الاعتقاد، أم في مجال العمل. أما قوله تعالى: ﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [39] ، فهو قول ناظر إلى حقيقة ما هم عليه من ضيق في تقبّل الرسالة الجديدة، وهنا جاء الخطاب والكلام الإلهي، بلفظ اليهود والنصارى، وليس بلفظ أهل الكتاب لما يتضمنه هذا التعبير من لين واعتبار لشأنيّة الكتب المنزلة على الأنبياء، وهو لم يأتِ بلحاظ كون أهل الكتاب يؤمنون بالرسالة، وإنّما بلحاظ كونهم آمنوا بالكتاب، كما أنه ناظر إلى استحالة أن يتحوّل اليهود والنصارى عمّا هم عليه من تنكّر للدين الجديد، وذلك يتبدّى لنا من خلال ما تتضمنه آيات أخرى بأن اليهود والنصارى لم يكونوا على وفاق في تاريخهم، بل على رفض تام وكامل، باعتبار أن اليهود لم يؤمنوا بعيسى (عليه السلام)، ويزعمون أن المسيح المذكور في التوراة لم يأتِ بعد!! وإذا كانوا ـ أي اليهود ـ والنصارى ـ قد اختلفوا إلى حدّ التناقض فيما زعمه كل فريق من إيمان واعتقاد، فمن الطبيعي أن لا يقبلوا الدين الجديد ورسالة الإسلام [40] ، وخاصة بعد أن زعموا أنه لن يدخل الجنّة إلاّ مَن كان هوداً أو نصارى. فهم، فيما تناقضوا فيه وآلوا إليه، لم يعد بمقدورهم استيعاب الرسالة الجديدة المختلفة تماماً عمّا في أيديهم من الكتاب والأحكام، فكان أن التبس الدين عليهم، ما أدّى في النتيجة إلى خروجهم عن خطّ الامتداد الرسالي ليكونوا أسرى ما صنعته أيديهم من دين ودنيا.

 

إنّ قوله تعالى: ﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى ... ﴾، كاشف عن جوهر ما يختزنه القرآن من تاريخ ونفوس وتقلبات وأحوال كلها تنبّئ بأنّ اليهود ليسوا في المستوى العقلي والديني، فضلاً عن النفسي، الذي يؤهّلهم لأن يكونوا مجتمعاً إنسانياً فاعلاً ومنفتحاً على الإنسانية الكبرى وعلى العالمية الإلهية، التي تجلّت برحمة الإسلام، ورحمة نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) المرسل رحمة للعالمين، فاليهود بما هم امتداد للآباء والأجداد لم يكونوا راضين عن أنبيائهم ورسلهم، فكيف يمكن أن يُنتظر منهم أن يكونوا راضين أو مؤمنين برسالة الإسلام؟ وبالتالي، فهم ليسوا قادرين بسبب أطماعهم وما نشأوا عليه من تفاعلات عصبية وعرقية على التماس المعنى الديني الحقيقي، ولا على الاعتبار بالخطاب الإلهي لوضعه في الدائرة العالمية للإنسان، وهذا كله، أدى إلى أن يتحوّل اليهود عن مسار الإنسانية ليفوزوا باللعن الإلهي على نحو ما بيّن الله تعالى: ﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [41] .

 

عموماً يمكن القول: إنّ حوار القرآن مع اليهود أخذ حيّزاً كبيراً من الآيات القرآنية، وخاصة سورة البقرة، التي ذبحوها وما كادوا يفعلون، فهي حوت الكثير من صفاتهم وأعمالهم، سواء مع النبي موسى (عليه السلام)، أم مع غيره من أنبياء بني إسرائيل، أم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تجربته مع يهود المدينة الذين خاطبهم القرآن في سياق واحد من حيث كونهم امتداداً لأسلافهم، وقد أظهر القرآن هذا التشابه لدرجة أنه يمكن أن يسأل المرء بأنه إذا كان الخطاب موجّهاً بظاهره إلى يهود المدينة، مع العلم بأن النعم المشار إليها منحها الله لآبائهم، لا لهم، فلماذا يخاطب يهود المدينة به؟

 

والجواب، كما يقول العلاّمة مغنية، هو أن النعمة على الآباء هي نعمة على الأبناء كما سبق أن ذكرنا، ولهذا فإن القرآن في حواره وندائه إلى اليهود لم يلحظ الاعتبار الزمني، لكونه العالم بما خلق. وإذا كان الزمن الماضي قد تمّ لحاظه في الخطاب القرآني، فكذلك المستقبل هو أيضاً يلحظ في إطار الرؤية الدينية بعدما أكّد القرآن على حقيقة التشابه في القلوب، وإنّ أي حوار مع أهل الإيمان لا بدّ أن يكون مرتكزه وقاعدته هذه الثابتة، فلا يُقال: إنّ الإنسان قد تغيّر، والحياة قد تبدّلت، وأصبحت الإنسانية في زمن جديد ووعي جديد، لأنّ التغيّر إن حصل، فهو إنّما يكون في الصور والأشكال. أما الباطن والقلوب، فهو مستمر في التحقق، ويبقى له تأثيره وامتداده، تماماً كما هو حاصل اليوم، حيث نجد الإنسانية في أوج تحضّرها، ولكنها لا تزال تتحدّث عن العصبيات والعرقيات وصدام الحضارات إلى غير ذلك مما يؤكّد قول اليهود والنصارى: ﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ... ﴾! والحق يقال: إنّ أكثر الأديان والأحزاب على هذه النزعة، ولا خصوصية لليهود والنصارى في ذلك...وقد استنكر القرآن هذه النزعة، داعياً إلى تجاوزها من خلال الوعي والإيمان لتحقيق التعايش الديني مع كل الأديان، هذا فضلاً عمّا دعا إليه القرآن من إيمان بكل الرسل والأنبياء بحيث لا يفرّق بين أحد منهم، باعتبارهم يؤدّون عن الله تعالى، ويبلّغون رسالاته إلى عباده ليكون للإنسانية كمالها. وإذا كان اليهود قد أخفقوا في مقاربة الخطاب الإلهي لهم فيما دعاهم إليه من إيمان وإخلاص وتجاوز لكل عصبية وعرقية، ليكون لهم الامتداد الرسالي والإنساني، فإنّ هذا الإخفاق كان ولا يزال سببه عناد اليهود وطلبهم للدنيا، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ... ﴾ [42] ، فهم اختاروا بملء إرادتهم الحياة بما تعنيه من كذب ونفاق وفساد، والمصلحة الشخصية بكل ما تعنيه من مكاسب، وهذا ما كانوا عليه في عصر النبي موسى (عليه السلام)، واستمروا عليه إلى عصر النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسيستمرّون على ذلك إلى يوم القيامة، ما يعني أن تأسيسات القرآن ليست تاريخية وحسب، وإنّما هي تأسيسات لاحظت طبيعة هذا الجنس من البشر [43] ، فإذا كانوا قد كفروا بتوراتهم، وقتلوا أنبياءهم، فهل يُعقل أو ينتظر منهم أن يؤمنوا بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟، ولم يكن من سبب لذلك، كما يقول المفسرون، سوى المنفعة الذاتية والحرص على الحياة...

 

وإذا كان القرآن قد أسّس لرؤية ثابتة في حركة الإنسان ووعيه للأحداث، فيما أرشد إليه من وقائع وأحداث وسُنن في التاريخ، فإن هذا لا يعني مطلقاً أن القرآن يؤسس للصدام بين البشر، ويمنح فرصة التنازع والصراع بين الأديان، وإنّما هو فيما يرتكز إليه من ثوابت في الحوار، يدعو إلى استمرار المجادلة بالحسنى، وكل حجاج القرآن من هذا النوع، لأنه الخطاب النهائي والكامل والهادف إلى أن يكون الناس على تعايش وتعارف وتقوى في ما يؤسسون له من علاقات، ويرسمونه من أهداف، ويتفاعلون معه من قضايا دينية وسياسية واجتماعية. فالقرآن يدعو إلى الحوار بين الأديان، وقد اقتضت هذه الدعوة للحوار أن يكون الإنسان على وعي بالتاريخ، وبما كان عليه أهل الإيمان في تاريخهم، ذلك أنه من غير الممكن تجاهل الصيرورة التاريخية للبشر وما كانوا عليه في تاريخهم، فيما لو كان الهدف التأسيس لحوار هادف وفاعل وبنّاء، وهذا ما أوضحه القرآن جليّاً، ودعا إلى التأمّل والتدبّر فيه ملياً، بهدف أن يكون البشر على بصيرة مما كانوا عليه، ومما هم صائرون إليه. أما أن ندعو إلى التعايش السلمي، ونتغاضى عن تحوّلات الإنسان التاريخية وعمّا كان عليه من دين ووعي في حركته الإنسانية، فذلك مما لا يمكن الركون إليه، أو الارتكاز عليه لما تقدّم قوله من أن التعايش والتعارف إنّما يكون منتجاً ومفيداً فيما لو كان مستنداً إلى سنن التاريخ وتفاعل الأحداث، ولاحظاً لتجارب البشر، باعتبار أن العقل كما يقول أمير المؤمنين : «هو حفظ التجارب، وخير ما جرّبت ما وعظك». فالقول بأن التعايش والتعارف يبقى سبيله وخير طريق له أن تجتمع الأمم والأديان، وأن تُعقد اللقاءات لمجرّد اللقاءات، فهذا وإن كان ظاهره يعتبر حواراً وتفاعلاً، إلاّ أن شيئاً من الإيمانية لن يتحقق وخاصة مع امتدادات بني إسرائيل في كل زمان، أو مع مَن تشابهت قلوبهم في الاعتقاد والعمل، وكما يقول العلاّمة مغنية في كلام علمي رصين ينطوي على حكمة وتبصّر بالحوار القرآني وما يدعو إليه من تعارف وتعايش، يقول: «إنّ التفاوض بالطرق السلمية، والرضوخ للحق لا يتحقق على وجهه الأكمل إلاّ إذا كانت جميع الأطراف، أطراف الحوار، المعنية مؤمنة بالحق لوجه الحق، ومُحال أن يهتدي إلى خير، ويرجي منه الخير من لا يؤمن إلاّ بذاته، ولا يهتمّ إلاّ بمصالحه» [44] .

 

إنّ حوار القرآن مع اليهود، ليس حواراً خاصاً، كما أنه ليس حواراً في التاريخ، بحيث يُقال: إنّ ما عرض له القرآن مع اليهود إنّما يُحفظ ولا يُقاس، كما أنه ليس حواراً في التاريخ على نحو التجربة الخاصة بقومٍ، أو بشعب، بل يُقال: إنّه حوار قائم على البعد الإيماني في النصّ التاريخي، لأنّ ما يكسبه الإنسان شيء، وما يبلّغه الأنبياء عن ربّهم شيء آخر، وإذا كان الأنبياء قد عرضوا للتجربة التاريخية، فذلك إنما كان منهم بهدف ملاحظة هذه التجارب في بعدها الأزلي، باعتبار أنّ القرآن ليس كتاباً للتسلية، وإنما هو كتاب إلهي منتظم في إطار الرؤية الكونية لخلق العالم والإنسان. وقد تقدّم الكلام في معنى أن تكون الإرادة التشريعية منبعثة عن الإرادة التكوينية ...

 

 

 

 

 

ب - حوار القرآن مع أهل الكتاب

 

 

إنّ من مستويات الحوار القرآني التي عرضنا لها في المبحث السابق، مستوى الحوار مع أهل الكتاب، وهو حوار له قيمته أيضاً في القرآن، وقد تجلّى في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... ﴾، كما أشرنا أيضاً إلى أنّ هناك فرقاً كبيراً لا بدّ من اعتباره في المباحث القرآنية، وهو أن الخطاب إلى اليهود والنصارى في الآيات القرآنية يختلف في كثير من المداليل عن الخطاب الذي جاء بصيغة يا أهل الكتاب لما سبق وأشرنا إليه من أن خطاب يا أهل الكتاب ينطوي على شيء من التسامح واللين، بخلاف الخطاب الخاص بكل من اليهود والنصارى، ويمكن ملاحظة هذا المعنى فيما جاء في قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [45] .

 

فهذا الخطاب لليهود، أو للنصارى، كما سنبيّن لاحقاً، لا بدّ أن يختلف في معناه ومدلولاته عن قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... ﴾. إضافة إلى هذا الفرق، هناك فروق أخرى تتعلق بالتولّي والتبرّي، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ... ﴾ [46] إلى غيرها من الآيات التي تميّز أو تجمع بين اليهود والنصارى، وغالباً ما نجد القرآن يُفرد للنصارى تمايزاً خاصاً في كثير من الآيات، وخصوصاً الذين آمنوا ولم يستكبروا على دعوة الحق، يقول العلاّمة الآملي: «حيث يرد الكلام في القرآن عن الدين المشترك أو الكلام على إعلان اللين وأمثال ذلك يذكر اليهود والنصارى بصفة أهل الكتاب، لأن هذه الصفة لها جاذبية بسبب حبّ الإنسان للكتب السماوية، ولكن حين يكون الكلام على إعلان الاستياء والتبرّي، فإنهم يذكرون بصفة اليهود أو النصارى...» [47] .

 

ولا شكّ في أن استعراض جملة من الآيات التي عرضت لأهل الكتاب من شأنه أن يكشف عن معنى اللين في خطاب يا أهل الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ ... ﴾ [48] ، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ... ﴾ [49] ، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ... ﴾ [50] ، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ... ﴾ [51] ، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ... ﴾ [52] ، فهذا جزء من آيات قرآنية تكشف عن معنى وروح الخطاب لهم الذي يختلف تماماً عن قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ... ﴾ [53] ، وهنا نلاحظ كيف أنهم ذكروا بهذه الصفة، لأن الكلام بشأن التبرّي، وسبب هذا، كما يرى المفسرون، هو أن المحبّة هي جامعة للأمة والشعب، والذي يكنّ لهم محبة في قلبه تظهر لديه أرضية الميل لهم، لأن الحب والبغض يمنع من النظر والحكم الصحيح، حتى قيل: «حبّ الشيء يُعمي ويُصم...» وبسبب أثر المحبة في علاقات الشعوب والأمم قال الله تعالى: ﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ... ﴾ [54] .

 

ويظهر مما تقدّم لمتدبّر، أن صفة أهل الكتاب تميّز الحوار القرآني عمّا خصّ به كُلاًّ من اليهود والنصارى في هذا الخطاب على نحو يتبيّن فيه أن للحوار جدواه فيما لو كان مع أهل الكتاب، إذ لم يرد في القرآن إطلاقاً الخطاب بصيغة يا أيها اليهود تعالوا، أو يا أيها النصارى تعالوا، وإن كان المتسالَم عليه بين أهل التفسير أن أهل الكتاب في عرف القرآن هم اليهود والنصارى، إلاّ أننا لا نجد إفراداً للخطاب، بحيث يُفهم منه التسامح أو اللين معهم، وإذا كان لا بدّ من الإشارة القرآنية لذلك، فإنّ الخطاب والكلام يأتي بصيغة مختلفة تماماً، كما في قوله تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ... ﴾ [55] ، فهذا الكلام الإلهي ينطوي على تمايز هائل باعتبار مدلول الكلام. إذ إنّ هناك فرقاً كبيراً بين قوله تعالى: ﴿ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً ﴾، و﴿ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً ﴾، وهذا التمايز إنّما يمكن استيعابه وفهمه في سياق القبول للدعوة الإسلامية من قبل الكثير من أهل الكتاب، فجاء هذا التميز ليُعطي النصّ بعده الحقيقي بأن النصارى هم أكثر مودّة للمسلمين وأسمع لدعوتهم الحقة [56] . فلا يُقال بأن الخطاب القرآني قد أقرّ اليهود والنصارى على ما هم عليه من اعتقاد خارج ما جاء به الإسلام، بل الحق أن يُقال بأنّ الكثيرين من النصارى قد آمنوا بالإسلام وبالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من موقع إيمانهم بالمسيح (عليه السلام)، وبكل الأنبياء، اعتقاداً منهم بأن نبوّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي الخاتمة. أما إذا لم يحصل هذا الأمر واستمر أهل الكتاب على دينهم وإيمانهم بأن الله كلّم الناس بالأنبياء، وبأن آخر الأنبياء كان عيسى (عليه السلام)، فهذا مما أرشدهم القرآن إلى خلافه، داعياً إيّاهم إلى الإسلام من دون إكراه، وقد تجلّت دعوته بالنداء إلى الكلمة السواء، الكلمة العادلة، وقد استحقوا أن يكونوا موضوعاً لهذا الخطاب من موقع اعتقادهم وإيمانهم، فلا ينبغي أن يدّعي أحد من الناس أن النظرية الموجودة اليوم ليست هي المخاطبة بالنداء، ولا هي المقصودة بالحوار، لأن في هذا الادعاء ما يُسيء إلى أصحابه، لأنهم يتجاهلون تماماً أن القرآن قد عايش وتعايش مع أهل الكتاب، وتعرّض لمجادلات عنيفة من اليهود والنصارى من دون وجه حق، ولكن رأي القرآن أبقى على روحية الحوار، ودعا إلى المجادلة بالتي هي أحسن، على قاعدة قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [57] .

 

إنّ مسحة اللين، وصبغة التسامح في الخطاب القرآني مع أهل الكتاب، تكشف عمّا جاء به الإسلام من رؤية لطبيعة العلاقات الإنسانية وما ينبغي أن تكون عليه هذه العلاقات من إيجابية وتسامح ومحبة، خلافاً لمن يزعم أن القرآن يدعو إلى الصدام! فإذا كان القرآن قد نهى عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، فذلك إنما جاء في سياق الاعتبار لما هم عليه من اختلاف في الرؤية والمنهج، فضلاً عن الدين والعقيدة وغير ذلك مما هم عليه من ولاء لبعضهم البعض، وهذا الولاء هو الذي يدفع بهم إلى أن يكونوا على عصبيات وقوميات مانعة من التواصل والتعارف، وهادفة إلى استثمار الدين والإيمان في مصالح الدنيا ومكاسبها، بخلاف ما جاء به الأنبياء، ودعوا إليه من تواصل وتعارف.

 

لقد أوضح القرآن، كما بينّا سابقاً، أن الأصل في العلاقات الإنسانية هو الحوار والتعارف والتعايش باعتبار أن الإنسان أخو الإنسان، كما قال الإمام علي (عليه السلام): «الناس صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق» [58] ، هذا كلام مستنطق من قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ... ﴾ [59] ، ومن قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [60] .

 

ولا شك في أن الهدف من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، هو تعزيز روحية التعارف، وحماية كرامة الإنسان، وتحصين مساره الإنساني بما يؤهله لأن يكون إنساناً متواصلاً في الزمان والتاريخ ومتمماً لحركته في الحياة، ومنجزاً لدوره ووظيفته التي خُلق لأجلها، وهذا هو جوهر ما يلحظه الخطاب القرآني مع أهل الكتاب، وغيرهم، حيث بيّن القرآن بالكثير من آياته أن الاختلاف والتعدد والتنوّع ليس مانعاً من التواصل، ولا حائلاً دون التعارف، وإنّما هو الهادف إلى ذلك والمنظم له شرط أن يكون الإنسان قائماً به على حقه، ومرتكزاً فيه على أصله، ومنطلقاً فيه على هداه. وهذا ما تتابع عليه الرسل والأنبياء، فكانوا جميعاً يبلّغون عن الله تعالى، ويدعون إلى سلوك طريق الحق والهدى كما جاء به الأنبياء، فكانوا جميعاً يبلّغون عن الله تعالى، ويدعون إلى سلوك طريق الحق والهدى كما جاء به الأنبياء، وليس على قاعدة الهوى، باعتبار أن هدى الله هو الهدى، وليس بعد الحق إلا الضلال. وعليه، فإن مَن كان منطقه لا يدخل الجنة إلاّ مَن كان هوداً أو نصارى، أو كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا... لا يمكن أن يكون مؤتمناً على إدارة عملية الحوار بين البشر، ولا على استيعاب حركة النبوة في التاريخ والزمان، وهذا هو لسان حال كل الفرق والمذاهب قديماً وحديثاً، حيث أن كل فرقة أو مذهب يدّعي أن الحق معه دون سواه، وأن الجنّة رهينة عقيدته ودعوته، وإذا كان القرآن قد سمّى اليهود والنصارى فيما زعموه من عصبية في دعوتهم، فإنّ ذلك لا يستفاد منه حصرية المعنى، وإنما هو يشمل كل عصبية في تاريخ الإنسان، وكل حمية جاهلية في تاريخ الأديان، ولهذا، فإنّ القرآن في آياته يمنع من ذلك، ويدعو إلى الكلمة السواء، بحيث يتواصل الإنسان بأخيه الإنسان ويتحقق الكمال، فلا يكون الدين سبباً للفرقة، وإنّما سبباً للتوحّد في إطار وعي كامل وشامل للهدف الذي خلق من أجله الإنسان.

 

وكيف كان، فإنّ معنى الحوار مع أهل الكتاب، أن يؤخذ بالأيدي إلى المساحات المشتركة بين أهل الإيمان ليكونوا على بيّنة من أمورهم في الدين والدنيا، بحيث يتعرفوا إلى أهم الأصول والثوابت والمرتكزات التي لا بدّ من التعرّف إليها من القرآن والاهتداء بها في طريق الحياة، ولعل أهم أصل يمكن التوقّف عنده هو ما بيّنه القرآن عن كرامة الإنسان وأخوّة الإنسان، وهو أصل ثابت في التكوين والتشريع، ولا بدّ من الارتكاز إليه في صياغة أطروحات الحياة، سواء الدينية أم الإنسانية، وهذا هو جوهر ما جاءت به الأنبياء، أن يهتدي الإنسان إلى ما يعطيه كامل أبعاده في الحياة، وإنّ أي دين لم يأتِ إلاّ ليرشّد تحولات الإنسان باتجاه أهدافه السامية دونما اعتبار للونه وشكله واختلاف رؤيته، ذلك أن الله تعالى لم يهتم في أصل خلقة الإنسان بالأسماء والأشكال، وإنما بالعقيدة الصحيحة التي يصدر عنها في سلوكه، فالإنسان بمعزل عمّا يتخذه لنفسه من انتماء، أو أسماء، هو عبدٌ لله تعالى وله كرامته وإنسانيته، وقد خلقه في أحسن تقويم ليكون هادفاً وساعياً في طريق تحقيق الكمال، لا بهدف أن يتسافل في الدرك الأسفل، كما قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ... ﴾ [61] .

 

فالإنسان أخو الإنسان أحبّ أم كره [62] ، فإذا ما تواصلت الشعوب والأمم، وتصادقت في ضوء هذه الحقيقة التي ميّز الله تعالى بها الناس، فإنّ ذلك من شأنه أن يحفظ للإنسان كرامته وحريته، فالإنسان فيما فطر عليه من مبادئ وقوانين وعقل، وفيما بلّغ من تشريع وأحكام قادر على القيام بهذا الأمر لتحقيق التكامل من خلال حوار إنساني يرتكز إلى أصول الإيمان الكبرى. وإذا فرض أن الناس لم يتعارفوا وتصارعوا، فذلك لا يكون منهم آتٍ بوحي من التأسيسات والثوابت القرآنية التي يلتقي عليها أهل الإيمان، وإنما هو يأتي في سياق اختيارات البشر في هذا السبيل، كما رأينا فيما سبق أن الصدام الحضاري، أو الديني، إنّما هو ناشئ عن كون الناس لا يعقلون عن الله، ولا يرجعون إليه فيما اختاره لهم من شرائع ومناهج، ولايصدرون عن كلمة سواء، عادلة، وكانت النتيجة الصراع والصدام والخروج عن الأصول الحاكمة، سواء في فطرة الإنسان التي فطر عليها، أو فيما تؤول إليه طرق تعاملهم مع النصوص والشرائع التي يفترض بأهل الإيمان أن يقوموا بها أحسن قيام كما أمر الله تعالى. وإذا كان قد حصل الإخفاق في تاريخ اليهود والنصارى، فيما زعمه كل طرف لنفسه، وفيما ادّعاه كل طرف من حق دون غيره، وفيما تصارموا به على مستوى المناهج والمناسك والأهداف، فهو إنّما حصل لكونهم قد هجروا رسالات السماء، ولم يقوموا بالتوراة والإنجيل حق قيام، فآل أمرهم إلى أن يكونوا على تناقض في العقائد والأهداف، وهذا ما تجلّى بقول اليهود ليست النصارى على شيء، وقول النصارى ليس اليهود على شيء. وهذه الدعاوى هي منشأ كل صراع وصدام بين البشر أن يدّعي كل طرف لنفسه كل الحق في مقابل الآخرين، وهنا السؤال: هل يُعقل أن يكون اليهود والنصارى، وهم أهل إيمان وينتمون إلى الإيمان الإبراهيمي الكبير، هم مَن يدعون إلى الصدام وإقفال باب الحوار بين أهل الإيمان أنفسهم؟ وماذا يُنتظر من الآخرين الذين لا ينتمون إلى دين، فهل يصدر عنهم ما يُفيد التنكّر للآخرين، كما قالت اليهود والنصارى؟

 

إنّ الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، يمكن استفادتها من القرآن الكريم، حيث نرى أن اليهود والنصارى في منطقهم الحواري يُوصدون الأبواب على سائر البشر، ويمنعون من التلاقي والحوار حتى في المجال الديني، ناهيك عمّا يلجؤون إليه من أساليب متناقضة لتسويغ منطق العزلة، فنراهم مثلاً يدّعون أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، رغم أن إبراهيم (عليه السلام) كان حنيفاً مسلماً، كما بيّن القرآن، متهماً إياهم بالمحاججة بغير علم، وهذا يكشف عمّا كان عليه هؤلاء من حوار زائف ومضلل يرومون من خلاله تشويه الخطاب الديني واستخدامه في ممارسة القهر والطغيان على الناس ليكونوا هوداً أو نصارى. وهنا تكمن الغرابة أن يتحوّل الدين إلى مصدر تضليل وتفريق بدل أن يكون سبباً لجمع الكلمة وتوحيد الناس، والحق يُقال: إنه لم يسبق لأحد ممن لا ينتمون إلى دين، أو رسالة سماوية أن اعتمد هذا الأسلوب الحواري، الذي لا يستند إلى المنطق في تسويغ المصالح على أساس ديني، حتى المشركين، فإنّنا نجد منهم المعارضة الصريحة لمنطق الإيمان، ويعارضون الرسل والأنبياء، ويدّعون ما لم ينزل الله به سلطاناً، ولكنهم مع ذلك لا يمارسون أساليب الخداع بالطريقة التي مارسها الكثير ممن زعموا أنهم ينتمون إلى الأنبياء!؟

 

لقد قدم القرآن رؤية واضحة عمّا كان عليه اليهود والنصارى في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخاصة حول اليهود وما كانوا عليه من مكر وخداع وادعاءات دينية مزيّفة، فكانوا، كما بيّن القرآن، أشدّ عداوة للذين آمنوا، حيث تلبّسوا بالمشركين في مكة وغيرها لمواجهة الإسلام في وقت كان يُفترض فيهم أن يكونوا إلى جانب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما دعا إليه من دين وإيمان، ولكنهم اختاروا التآمر على التعاون، وساعدوا المشركين بالمال والسلاح، كما فعل بني قينقاع بعد معركة بدر، ويهود بني النظير بعد معركة أُحد، ويهود بنو قريضة بعد معركة الأحزاب [63] ، ما يدلّل على أن اليهود كانوا أشدّ عداوة ليس فقط لأهل الإيمان، بل للإنسانية، مرتكزين في ذلك إلى عصبيتهم وعرقيتهم. ولهذا، فإنه لم يصدر منهم أي حوار صادق مع الأنبياء فضلاً عن أنفسهم. ولا شكّ في أن الغرابة لا تنقضي فيما لو علمنا أن تاريخ الصدام بين البشر، هو ذو منشأ ديني ساهم فيه اليهود إلى حدّ كبير، وكل مَن ذهب إلى القول بالصراع الحضاري بين البشر، هو يرتكز في ذلك إلى تسويغات دينية سبق لليهود أن قدّموها في تسويغ صراعاتهم الدينية والعصبية والعرقية مع الشعوب الأخرى، فهم لم يكونوا إطلاقاً على وضوح في الرؤية الإيمانية لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان الرسالي. فخرجوا من كونهم أهل حوار، ليكونوا سبباً في الصدام بين البشر، ولهذا نجد القرآن الكريم يصفهم بالظالمين حيثما ذكروا، وكيفما ذكروا، كما قال الله تعالى في آخر الآيات التي عرض فيها لأقوال وأحوال اليهود: ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ﴾. وهذا ما لم نلحظه في الخطاب مع أهل الكتاب، ولا مع النصارى، بل خصّ به اليهود لكونهم مردوا على الظلم ولم يُعهد منهم في تاريخهم الديني أن أنصفوا الناس من أنفسهم حتى أولئك الذين ينتمون إليهم في القومية، ونعني بهم النصارى، الذين مارسوا معهم أبشع أنواع الظلم، وغير خفيّ على أحد ما كان منهم من أفعال مشينة بحق الأنبياء، وخاصة النبي عيسى (عليه السلام) وأمّه الصدّيقة مريم (عليها السلام).

 

وهكذا، فإنّ القرآن في خطابه المتكرر إلى بني إسرائيل، ومن ثمّ إلى اليهود، والنصارى، ومن ثمّ إلى أهل الكتاب، وخاصة فيما يعرض له من آيات في كيفية تعامل المسلمين مع أهل الكتاب، أو مع اليهود والنصارى، نلاحظ أنّ هذا الخطاب يوجّه الإنسانية إلى الحوار من خلال استيحاء الفعل التاريخي للبشر وما انتهوا إليه من تجارب، وهذا التوجيه يرتكز إلى ثوابت أساسية أراد الله تعالى لها أن تكون حاكمة ومُعاشة لدى مَن يعيش مع هذا الخطاب الإلهي، ويمتثل له في ما جاء به من أوامر ونواهٍ وحوارات مع أهل الأديان، ومن هذه الثوابت أن يعلم أهل الإيمان أن مَن يوصف بالظلم دائماً ليس كمثل مَن يخاطبه الله بالحسنى، ويدعوه إلى كلمة سواء، وهذا ما يمكن استفادته من خطاب القرآن مع أهل الكتاب، حيث قال الله تعالى: ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [64] ، فلم يأتِ القرآن على الظلم في خطاب يا أهل الكتاب، في حين أن اليهود ما ذكروا في آية إلاّ وكان آخرها: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾، أو ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾. وهذا يتطلّب من أهل الإيمان، ومن كل مَن ينتمي إلى الدين الحنيف أن يكون مستوعباً لخطاب القرآن مع البشر باعتباره خطاباً عالمياً، ويُعطي كل إنسان حقه فيما كان له من تاريخ وإيمان في ضوء حركته التاريخية، ومن خلال تفاعل الأحداث وصيرورة التحولات الإنسانية التي انتهت إلى أن يكون الإسلام ـ القرآن ـ هو الكلمة النهائية في تاريخ البشرية. لذا، فإن الارتكاز إلى هذا الخطاب من شأنه أن يمنح الإنسان فرصة وإمكانية أن يهتدي إلى ما يؤسس له القرآن من تعارف وتعايش في ضوء المبادئ التشريعية العامة التي جاء بها القرآن، وهي التي سمّيناها بالثوابت، إذ إنّه من شأن الاهتداء بهذه المبادئ الثوابت أن يهتدي الإنسان إلى إيجاد مسوّغات إقامة علاقات مسالمة تكون قاعدة للتواصل... بعيداً عن مخزونات التاريخ والأحداث والتجارب التي ما عرض لها القرآن إلاّ لتكون نوراً يضيء الطريق لعلاقات سليمة، لا بهدف أن تشكل عوائق في طريق الحوار بين البشر، فإذا كان القرآن قد أظهر التمايز بين اليهود والنصارى من جهة، وبين أهل الكتاب من جهة ثانية، فذلك ليس من أجل وضع الحدود والسدود، ولا من أجل إيجاد مناطق معزولة في الدائرة الإنسانية الكبرى، وإنّما من أجل التبصّر في مجالات التحولات الإنسانية، وبكل ما اعترض هذه التحولات من عوائق دينية كان لليهود الدور الأكبر في ابتداعها للحيلولة دون أن يكون للإنسان تواصله الديني والإنساني والحضاري.

 

إنّ اليهود كانوا أكثر ظلماً وأشدّ عداوة بما أقدموا عليه من ممارسات اتجاه أهل الإيمان، وهذا ما عرض له القرآن تبياناً لحقيقة أمرهم، وتحذيراً منهم ليكون المجتمع الإنساني بمأمن من غوائلهم ومكائدهم، وقد حصل أن جاء الإسلام وانتصر عليهم ليؤكد أن الظلم سواء أكان مصدره أهل الإيمان، أم غيرهم من بني البشر، لا بدّ أن تكون له نهاية وخيبة، كما قال الله تعالى: ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ﴾  [65] .

 

إنّ ثوابت الحوار القرآني تدلّل على أن الإنسان المسلم يمكنه أن يتّعظ بالتجارب، وأن يترصّد الأحداث، وأن يتبصّر بالنفوس، ليهتدي إلى ما ينبغي أن يتحوّل إليه في مسيره الإيماني، وإذا كان من هذه الثوابت المبادئ أن يكرّم الإنسان، وأن يتعارف ويتواصل مع الإنسانية، وأن يستمرّ في حمل الأمانة، فهذا مما تقتضيه عالمية الرسالة الإسلامية، التي أقرّت بحرية الاعتقاد واحترام الخصوصيات للبشر بحيث يكون لكل جماعة ما تبتغيه من تحوّل إنساني وإيماني على قاعدة: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾، وهي قاعدة تمنح المجتمعات الإنسانية حرية التحوّل الإنساني وفاقاً لما يعتقده الإنسان من دين ورؤية وهدف، وهذا كله يبقى مشروطاً بأن لا يكون الظلم والتظالم سبيلاً إلى الحوار، أو إلى التحقق في الوجود على النحو الذي يؤدّي إلى أن يكون الناس متغالبين مقهورين في علاقاتهم الدينية وتحوّلاتهم الإنسانية.

 

إنّ القرآن يؤسس لهذا المعنى، ويدعو إلى الحوار لا مع أهل الكتاب وحسب، وإنّما مع الإنسان كل إنسان بمعزل عن لونه وعرقه وجنسه، لما تقدم ذكره من أن الإنسان أخو الإنسان، وللجميع حق الكرامة الإنسانية، وحق التعارف والتواصل في ضوء الرؤى الإيمانية والثوابت والمبادئ العامة التي أسس لها القرآن في ضوء قوانين الخلق والوجود والتنوع البشري...

 

وتأسيساً على ما تقدّم، نرى أنه لا يمكن أن يتعايش البشر إلاّ في إطار الرؤية الدينية الجامعة، والأصول الإيمانية الكبرى التي جعلت من الحوار أساساً ومرتكزاً لكل تحوّل إيجابي في حياة الإنسان، فأهل الأديان جميعاً، ورغم ما تمايزوا به في إطار التجربة التاريخية، وفي ظلّ ما هم عليه من تمايز في الرؤية الدينية، فهم جميعاً يمتدون في الزمان والمكان والتاريخ ليكون لهم الخلاص والنجاة، وليس عليهم سوى أن يعتبروا بالماضي، وأن يستخلصوا العبر من تجاربهم، حتى تكون لهم الهداية في طريق تواصلهم الإنساني.

وإذا كان للحوار القرآني أن يسلّط الضوء على مفردات الخطاب لبني إسرائيل أو لأهل الكتاب، أو لليهود والنصارى، أو للذين آمنوا، فذلك كله يأتي به القرآن، متنوعاً ومختلفاً ليكشف لأهل الإيمان أن الذي تكون له الحياة، وتكون به الحياة هو ما أسس له الأنبياء ودعوا إلى امتثاله، وما على المسلم الذي توجّه إليه الخطاب إلاّ أن يكون في دائرة هذا الامتثال، بعد أن يكون قد استوفى كامل شروط الوعي والتحقق في التجربة التاريخية، بحيث يعلم أن مقتضى الكرامة والحرية، كما جاء بها القرآن، أن لا يكون المسلم في تجربته مشابهاً لما كان عليه أسلافه من عصبية وعرقية وأهواء تمنعه من التواصل مع أهل الإيمان، أو تدفع به إلى الرؤية المغلقة التي تؤول به إلى الصدام والتصارع مع الآخرين.

 

إنّ الإنسان المسلم مدعوّ للحوار في إطار الرؤية الدينية والمبادئ التشريعية العامة التي هي أساس كل حوار، ومن هذه المبادئ احترام الخصوصيات الثقافية للشعوب، والدعوة بالحسنى إلى سبيل الله، بعيداً عن التعصّب والإكراه، كما قال الله تعالى: ﴿ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [66] .

 

 

 

 

خلاصة واستنتاج

 

 

لا شكّ في أن وجوه الحوار في القرآن جاءت مختلفة ومتعددة، وقد بينّا في ما سبق من بحوث أن الخطاب الإلهي مع أهل الكتاب ليس واحداً، كما أنه رغم كل ما جاء به من نقد، وعبّر عنه من استياء في الحوار مع بني إسرائيل، أو مع أهل الكتاب، أو مع اليهود والنصارى، أو مع المسلمين، نراه يقدّم رؤية واضحة للحوار على قاعدة الإنسانية وأصول الإيمان الكبرى، وهذا ما يمكن ملاحظته واستيعابه من المبادئ التشريعية العامة، أو ما أسميناه بالثوابت القرآنية التي لا بدّ من الانطلاق منها في تأسيس قواعد الحوار الإنساني للبناء عليها في صيرورة التحوّل التاريخي، الذي كان ولا يزال له التأثير الكبير على مجريات الأمور في حياة البشر، وإذا كان القرآن قد لحظ هذا الجانب التاريخي فيما قصّهُ عن تاريخ الصراعات بين الأنبياء وأقوامهم، فإنّ ذلك، كما رأينا، لم يكن بهدف استحضار التاريخ لمجرّد التذكير، وإنّما هو يهدف إلى الاعتبار والاستفادة من تجارب الأمم والشعوب، لأنّ السنن التاريخية، كالسنن الكونية، لا يمكن تجاوزها وعدم الاكتراث لها، كونها سنناً حاكمة، كما قال الله تعالى: ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾ [67] . وقوله تعالى: ﴿ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [68] .

 

إنّ ما يعرض له القرآن من حوارات مع الإنسان، يُظهر مدى الاعتبار القرآني للحوار في أجواء التواصل الإنساني، وهذا ما يمكن استنطاقه من الآيات القرآنية المباركة، بدءاً من حمل الأمانة وما تقتضيه من حرية ومسؤولية، مروراً بما تقتضيه حقيقة الاستخلاف في الأرض، وانتهاءً لما يؤول إليه الإنسان من مصير في صيرورة تحوّله نحو خالقه ليكون له الفوز العظيم أو الخسران المبين. فالإنسان في خطّ تواصله على هذه الأرض لم يخلق عبثاً ولم يترك سدًى، وإنّما هو مخلوق مكرّم، وله قيمة وإرادة أن يستجيب لنداء الحوار، تماماً كما كان له إرادة وحرية أن يشهد بقوله «بلى» حينما أشهده الله تعالى بقوله: ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ... ﴾  [69] ، ومن هنا نرى الأيام التي خلت وعبرها الإنسان ليس من الضروري أبداً أن تكون من الماضي، أو أن تصبح ماضياً، لأن المبادئ والثوابت كما جاءت بها الأديان، هي التي ترسم مسارات الأحداث، وتحدّد ملامح التحولات الإنسانية، سواء في الماضي، أم في الحاضر، أم في المستقبل.

 

وهذا ما قدّمه القرآن فيما عرض له من رؤى وتحوّلات في التاريخ الديني للبشر، فهو يؤكّد على ضرورة التواصل مع التاريخ والأحداث والتجارب للاعتبار بها في خطّ التواصل الإنساني، بحيث يكون للإنسان معناه في الزمن والتاريخ، فلا يخرج عن كونه هو الذي استخلف في الأرض للعمل وفاقاً لإرادة الله تعالى، كما قال الله تعالى: ﴿ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [70] .

 

لقد بينّا في بحوثنا السابقة أن من أهداف خلق الإنسان، من ذكر وأنثى، أن يتواصل ويتعارف، وقد هداه الله النجدين إما شاكراً وإمّا كفوراً، هذا فضلاً عمّا خصّ به الإنسان من نعم إلهية ظاهرة وباطنة للقيام بالدور المناط به في ضوء ما آتاه من لدن الله تعالى من هدى لكي لا يضلّ ولا يشقى، وهو من حيث هو إنسان وخليفة لله في الأرض، لا يسعه إلاّ أن يكدح في طريق الحق لتحقيق التكامل الإنساني، فلا تكون النعوت والأوصاف والتميزات الزمانية والمكانية والدينية قيداً له عن أن يتواصل مع بني نوعه بعيداً عن أسر الأعراق والعصبيات والأجناس، لأنّ الله تعالى لم يميز بين البشر على أساس ذلك، وإنّما خلقوا للعبادة، وخصّوا بالإنسانية، وكما قلنا: إنّ الإنسان قادر فيما فطر عليه وأُهِّلَ له على تحقيق تمايزه في الدائرة الإنسانية الكبرى من خلال التعارف والتواصل في ضوء ما جاء به الأنبياء والرسل من تعاليم وأحكام وقوانين لهدايته وإخراجه من الظلمات إلى النور بما يرشدونه إليه ويعلِّمونه إيّاه في طريق أمانته وشهادته...

 

والحق يقال: إنه ليس من فراغ، ولا من عدم، أن يأتي الخطاب الإلهي للإنسان بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [71] ، فهو خطاب ناظر إلى أن البشر لا بدّ أن يكونوا على مستوى هذا الهدف الإلهي، فينطلقوا في طريق الإيمان لتحقيق هذا الهدف، كما أن الخطاب كاشف عن أن معنى الكرامة والتفاضل إنما يكون بالتقوى التي هي ميزان التفاضل بين البشر، وما كان للبشر من دراية بهذه التقوى لولا أن الأنبياء قد دلّوا عليها وأرشدوا إليها من خلال ما جاؤوا به من أوامر ونواهٍ وأحكام وقوانين إلهية يهتدي الإنسان من خلالها إلى سبل نجاته في الدين والدنيا.

 

إن الناس لم يخلقوا لأجل أن يتصارعوا في الدين والدنيا، وإنّما ليتسابقوا بالخيرات، ويتعارفوا بالحق ويشقّوا أمواج الفتن بسنن النجاة كما أمرهم الله تعالى، فلا يكونوا أهل صراع وتنافس في الباطل، بل أهل حوار وتعارف. أما إذا لم يكن منهم ذلك، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق في بناء علاقاتهم الدينية والإنسانية، فإنهم لا يلبثون أن يسقطوا في الصراع والصدام، لأنه النتيجة الحتمية والطبيعية لتخلّف البشر عن أمر الله تعالى، وعن الاحتكام للسنن التاريخية الحاكمة، والتي سبق لها أن عملت بالأقوام السابقين حينما تخلّفوا عن إعمال القوانين والمبادئ الإلهية والشروط الموضوعية. فإذا ما حصل هذا فإنّ النتيجة، كما قلنا، ستكون الصدام والصراع والتنازع الذي يفضي في النتيجة إلى التخلف عن المهام الإنسانية الكبرى، التي أوكلها الله للإنسان للقيام بها، وهذا ما سبق لنا أن تحدّثنا عنه فيما عرض له القرآن من معنى الدفع، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ ... ﴾ [72] حيث بيّن تعالى أن الدفع ليس صداماً بقدر ما هو سنّة فطرية من شأنها أن تصحح مسار التعارف الإنساني، وتمنع من خروج الإنسان عن ما تقتضيه سنن الخلق والوجود، فضلاً عن سنن التاريخ.

 

من هنا، فإنّ نظرية الدفع لجهة ما تعنيه من تشريع للجهاد كخيار نهائي للحفاظ على شعائر الدين والإيمان بما ترمز إليه من حياة في تاريخ البشر، إنّما هي وسيلة من وسائل الحفاظ على المجتمع الإنساني، لكي لا تطاله يد الطغيان والفوضى والتنازع بالشكل الذي يؤدّي بالإنسان إلى أن يكون مستغرقاً في صراعاته، وهي نظرية ليست خياراً بقدر ما هي ضرورة تحتّمها ظروف المجتمع وتحوّلاته الفطرية التي تنشأ عن مخالفة القوانين والمبادئ الإلهية. ولهذا، فإنه يمكن القول بأن الصراع والصدام، إنما يكون من جهة الناس، وليس من جهة ما جاء به الأنبياء، كما أنها ليست من مقتضيات سنن الخلق والوجود على النحو الذي يفهم منه أنها سنّة تحتمها حقائق التعدد والتنوع في الخلق والتكوين. إنها خيار نهائي في تحوّلات الصراعات البشرية المتناقضة، والتي تدفع بأهل الإيمان إلى أن يكونوا على مستوى حمل الأمانة، والقيام بشؤون الخلافة، ويبقى قوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾، هو الذي يحدّد مسار التعارف بين البشر، بحيث لا يتحول التعارف إلى صراع وصدام، بل يبقى في إطار الهدف الأسمى الذي خلق الإنسان لأجله، وجاءت الأنبياء والرسالات للهداية إليه، والتعبير عنه فيما يؤدونه من مهام رسالية في كل زمان ومكان. ذلك أن التقوى المشار إليها في قوله تعالى، لا تعني إطلاقاً ما يأتي به الإنسان من أعمال عبادية في حياته الخاصة، بل هي تقوى من نوع آخر، يقول شمس الدين: «إن الهدف الأعمق من تنوع الجنس البشري هو التعارف، ومعيار التفاضل في هذا المجال هو التقوى العملية في السلوك مع الآخر، والوفاء بالالتزامات التي يفرضها نظام العلاقات الإنسانية في الاجتماع الانساني داخل المجتمع الوطني، وعلى المستوى الدولي. فالتقوى لا تعني ممارسة المسلم لعباداته ومعاملاته، بل تقوى الإنسان المسلم وغير المسلم في ممارسة علاقاته مع الناس وفق مبدأ العدالة والإنصاف القائم على الاعتراف للأمة بحقوقه...» [73] .

 

إنّ معنى التقوى، بما هي أداء سليم للعلاقات، إنما تعني ملاحظة الأخوة الإنسانية، التي يفترض مراعاتها في طريقة التواصل والتعاون، سواء مع المسلمين، أم مع غيرهم ممن لا ينتمون إلى الإسلام، ومن هنا، نرى أن الخطاب الإلهي إلى بني إسرائيل، أو إلى أهل الكتاب، أو إلى اليهود والنصارى، يقوم على هذه الثابتة الإنسانية والأساسية التي نصّ عليها القرآن في مبادئه وتشريعاته العامة...

 

نهاية القول: إنّ أهل الكتاب كما بيّن القرآن تقع عليهم مسؤولية التحول الديني والإنساني في خطّ التواصل الرسالي، فإذا لم يستجيبوا لنداء الله تعالى فيما أمرهم به ونهاهم عنه ودعاهم إليه في طريق تواصلهم وتعارفهم على مستوى الإيمان، فضلاً عن الحياة العامة، واستمروا بالدعوة تحت عناوين دينية وقبائلية وعصبية، تماماً كما جرى مع اليهود حينما لم يمتثلوا لأمر الله تعالى، سواء في عصر نبيهم موسى (عليه السلام) أم في عصر رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أدّى بهم ما كانوا عليه من عناد وفساد وعبثية دينية إلى التنافر والصدام مع النصارى والمسلمين معاً، بل مع المجتمع الإنساني كله، وحيث وطأت أقدامهم، وحطّت رحالهم! فلن يأمن أحد من شرورهم، هذا فضلاً عمّا أسّسوا له من صراعات دينية في التاريخ. وإذا كان التصادم والصراع هو سمة المرحلة التي عايش فيها الإسلام اليهود في الجزيرة العربية، فذلك إنما يمكن فهمه ولحاظه في ضوء ما تمتّ مخالفته من قواعد وثوابت ومبادئ تشريعية، وقد أدّت هذه المخالفة إلى تحويل الصراع عن كونه صراعاً تدافعياً ليكون صراعاً دينياً، وصداماً وجودياً حتّم على دولة الإسلام الأولى أن تُخرج اليهود من المدينة بما كسبت أيديهم، كما قال الله تعالى: ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [74] .

 

كما يمكن القول أيضاً: إنّ تاريخ الأديان حافل بالصراعات الدينية بسبب النزاعات والعصبيات التي كانت تحول دون التقوى في العمل، سواء في المجال العبادي، أم في المجال السياسي، ولا زال الإنسان الرسالي يعاني حتى يومنا هذا من شرور ومعاصي اليهود، وهذا ما لا غرابة فيه لكون اليهود بما كانوا عليه من أهواء وعناد وفساد وتحريف للدين امتدوا في تاريخ الإنسانية، فكان لهم فعلهم في تاريخ الإسلام، كما كان لهم فعلهم في تاريخ المسيحية، وها هم اليوم يمتدون بأوصافهم، ويفسدون في الأرض، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل!

 

وكما قلنا سابقاً، إنّ السنن التاريخية لا بدّ أن تعمل فيهم في الحاضر والمستقبل كما عملت فيهم في الماضي، إذ إنهم لم يعتبروا بالتجربة، ولم يتواصلوا ويتعارفوا على أساس التقوى، بل اختاروا الصدام والقتال، وهذا ما لا يمكن أن يكون دليلاً على ما يدَّعيه البعض من أن الأديان تُقرّ الصدام الحضاري بين البشر، بل هو دليل على أن الناس، وخاصة مَن أساء للأديان، هم الذين اختاروا الصدام، تماماً كما اختاروا أن يكونوا عصاةً لله تعالى فيما أمرهم به ونهاهم عنه. وبالتالي، فإنّ الخيار لا بدّ أن يؤدّي إلى الخسارة الدنيوية والأخروية، كما أن نجاح أهل الكتاب فيما يزعمونه من صراع ديني وحضاري، لا يمكن اعتباره دليلاً على صحة ما يذهبون إليه في دينهم، وإنّما هو نجاح مؤقّت لا تبرّره الشرائع، ولا تدعو إليه الأديان، لأنه يقوم على القهر، والإكراه في الدين، خلافاً لما أمر الله به ونهى عنه، وهذا مثلما أنه ينطبق على أهل الكتاب، فإنه ينطبق على غيرهم، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، وقد حصل في التاريخ أن مارس المسلمون القهر تحت عناوين دينية وحضارية، إلا أن ذلك لم يدم طويلاً، وكانت الخسارة محققة للمسلمين، لأنهم أساؤوا الفهم للنظرية الإسلامية فيما لجأوا إليه من تطبيقات عملية اعتقدوا أنها تحمل خصائص النظرية، ولكنها في الحقيقة كانت تحمل خصائص ومميزات أهل السلطة والسلطان.

 

إذن، القرآن يُقدم رؤيته الحضارية والثقافية، وقبل ذلك الدينية في سياق رؤية متكاملة لحقيقة ما عليه الناس من فروق وتفاوت في القدرات والكفايات، وقد دعا إلى الحوار والمجادلة بالحسنى، وإدارة الخلافات وفاقاً للأخوة الإنسانية، فيما لو انعدمت الرؤية الدينية، بحيث يؤدّي الأمر إلى تنافس بنّاء في المصالح والأهداف، فإذا ما تخلّف الناس عن ذلك، فإنهم يكونون قد خالفوا أمر الله وادّعوا زوراً وبهتاناً انتماءهم إلى الأديان. ولا شك في أن القرآن يقدّم للناس هذه الرؤية ليكونوا على بيّنة من أمرهم فيما يلجؤون إليه من أعمال، وفيما يؤدونه من شعائر وفرائض دينية، كما بيّن القرآن أيضاً معنى أن يتخلّف اليهود والنصارى عن نداء الحق، فدعا إلى عدم اتخاذهم أولياء لكونهم قد جانبوا الصواب، واختاروا أن يكونوا على غير سبيل الهداية. حيث قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾  [75] ، وليس ما يذهب إليه هذا الفريق أو ذاك، من أهل الإيمان، وبذلك يكون القرآن قد وضع الأسس السليمة لإدارة عملية الحوار والتعارف لإقامة المجتمع الإنساني السليم، الذي يتكامل فيه الناس على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، وكما قال الله تعالى: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [76] . أما إذا ادعى كل فريق أن الهدى في جانبه، وأن الحق رائده دون غيره من أهل الأديان، فإن الأمر يكون كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾ [77] ، إلى غير ذلك من الآيات التي توضح السبيل إلى ما يريده الله تعالى من عباده فيما أمرهم به ونهاهم عنه، سواء في التوراة أم في الإنجيل أم في القرآن.

 

 

 

 

ثالثاً: حوار القرآن ومنطق التكفير

 

 

 

تمهيد

 

 

يتساءل كثيرون، ممن يبحثون في الشؤون الدينية، عمّا إذا كان ممكناً إجراء الحوار مع أهل الإيمان في ضوء منطق التكفير الذي تنطوي عليه بعض الآيات القرآنية بحق اليهود والنصارى؟ ويرى هؤلاء أن هذا المنطق يسجّل موقفاً عدائياً من أهل الكتاب [78] ، وهنا يكمن السؤال الأساسي، ما هي جدوى الحوار والقرآن يحكم مسبقاً بكفر من لا يحتكم إلى رسالة الإسلام، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [79] . كما يتساءل البعض أيضاً عمّا إذا كانت النصرانية التي توجّه إليها القرآن بالنقد، هي النصرانية المعاشة اليوم، وهناك الكثير من الآباء الذين طرحوا هذه التساؤلات، وكان آخرهم المطران جورج خضر، وغيره من المطارنة الذين أثاروا الجدل حول هذا النقد القرآني للمسيحية [80] ، وقد تقدّم الكلام في أن القرآن استحضر تاريخ بني إسرائيل، وأهل الكتاب بكل ما ذهبوا إليه في مجال العقيدة ليجادلهم، ويبيّن تهافت الآراء والمعتقدات الدينية لديهم. والقرآن، كما نعلم، لم يستحضر التاريخ لمجرد عرض الرأي، وإنما بهدف الاستناد إلى طبيعة وحقيقة ما تقتضيه السنن التاريخية، بحيث يتمكّن الإنسان المؤمن من الاعتبار بها والانطلاق منها في صياغة رؤيته الدينية والإنسانية في ضوء ما جاء به الرسل والأنبياء، وبما أن القرآن هو الكلمة النهائية والكاملة في التاريخ الديني، فإنّه لا بدّ من تبيان أهم المقولات التي سادت في حياة أهل الإيمان، وخاصة أهل الكتاب ليكون المؤمن على بيّنة من أمر دينه، لعله بذلك يهتدي إلى سبل السلام. فالقرآن يحاور لا بهدف التكفير أو اللعن، بل بهدف إظهار ما كان عليه اليهود والنصارى في تاريخهم الديني، وإثارة دفائن العقول للتدبر والتعقّل فيما تعنيه العقيدة والشريعة في حياة الإنسان، وفيما جاء به الأنبياء لهدايته من قوانين وتعاليم ووصايا، وهو هدف، كما بيّن القرآن، سعى إليه الأنبياء جميعاً، وكلّموا به الإنسان في التوراة والإنجيل والقرآن، وقبل ذلك في صحف إبراهيم (عليه السلام).

 

ومن هنا، نرى أن التكفير الذي عرض له القرآن في بعض الآيات ليس موقفاً عدائياً من أهل الكتاب، كما رأى المطران بسترس، أو غيره من الآباء، إذ كيف يكون ذلك صحيحاً، والقرآن في ندائه يقول: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ... ﴾؟

 

إن الكفر الذي تتحدّث عنه الآيات، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ ... ﴾ [81] ، هو كفر الذين احتبستهم الأماني، وادّعوا أن الجنّة هي حكرٌ على مَن كان يهودياً أو نصرانياً، ورأوا في إبراهيم (عليه السلام) ما لم يره فيه الله تعالى من دين وانتساب، فقالوا: إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، أو قالوا: كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، وغير ذلك مما جادل فيه أهل الكتاب دونما التفات إلى التحققات التاريخية لهم، وبمعزل عمّا إذا كانت النصرانية اليوم هي غير النصرانية التي خاطبها القرآن ودعا إلى الحوار معها، باعتبار أن القرآن صادق، ولا ينطق عن الهوى فيما جاء به من أوصاف في الاعتقاد والعمل، وآياته تنطق بالحق فيما زعمته كل ديانة أو فرقة في العقيدة والشريعة والأخلاق، ولا شكّ في أن كل محاججة قرآنية، سواء مع بني إسرائيل، أم مع اليهود، أم مع النصارى، أم مع غيرهم ممن كانت لهم شبهة كتاب، أم مع الصابئة الذين عرضت لهم بعض الآيات، كل محاججة إنما كانت تهدف إلى إقامة الحوار والمجادلة بالحسنى، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ [82] .

 

إذن، التكفير إنما يطال تلك الفرق التي لم تهتدِ إلى حق، واستمرت في الدعوة إلى الباطل، وقالت على الله تعالى غير الحق فيما رأته من دين وعقيدة، هذا فضلاً عمّا لجأت إليه بعض الفرق والديانات من تحريف وتقتيل، إضافة إلى قتل الأنبياء وتكذيبهم فيما جاؤوا به عن الله تعالى. أما أن يقال: إن التكفير يشكل موقفاً عدائياً مسبقاً بين أهل الإيمان، فذلك قول غير صحيح، وتنقصه الأدلة والبراهين، وقد ناقش القرآن الكثير من المعتقدات، مقدماً الأدلة والبراهين الساطعة على عدم صحتها، فلو كان القول بكفرهم موقفاً عدائياً لما استحضروا من التاريخ، ولما نوقشوا في تاريخ الإسلام، ولما استمرت الدعوة إلى الحوار مع أهل الكتاب، وبما أن هذا كله قد حصل، فهو خير دليل على ما يتضمّنه القرآن من روحية حوار ومنطق سديد وسليم في الدفاع عن العقيدة الحقة التي ينبغي على أهل الإيمان أن يهتدوا إليها في كل عصر وزمان، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ [83] .

 

فالله تعالى يقول: إن الإسلام هو الحق، وهو الهدى، وليس بعد الحق إلا الضلال، ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [84] .

 

وإذا كان للتكفير من معنى حقيقي وجوهري، فإنه يمكن لحاظ هذا المعنى في سياق الرؤية الدينية الكاملة، التي تشخّص الأقوال والأحوال، وتظهر مدى العناد الذي مارسه بعض أهل الكتاب، أو فريق منهم في مواجهة دعوة الحق التي جاء بها الإسلام، لأن المحاججة القرآنية دفعت بالكثيرين من اليهود والنصارى إلى الإيمان بالرسالة الجديدة، والأخذ بها عقيدة وعملاً، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ... ﴾ [85] . في حين أن الفريق الذي رفض الدعوة وعاند في قبول الحق، وأعلن العداء للإسلام والقرآن، فهذا الفريق اختار بإرادته أن يكون كافراً وفاسقاً وظالماً، وهذا ما يشخّصه القرآن ويبيّنه في جملة من الآيات المباركة التي تراوح فيها الوصف بين أن يكون الإنسان جاحداً أو معانداً، أو مكابراً، أو منافقاً، أو كافراً، أو فاسقاً، أو ظالماً، إلى غير ذلك من الآيات التي تميّز بين أهل الكتاب بالأوصاف، وتفصل بينهم فيما زعموه من قول وفعل، في الاعتقاد أو في غيره، وقد تجلّى هذا الأمر فيما عرضنا له عن الخطاب القرآني المتنوع مع أهل الكتاب تارة، ومع اليهود والنصارى طوراً، وثالثاً مع بني إسرائيل الذين خوطبوا بأن لا يكونوا أول كافر به، كما قال الله تعالى: ﴿ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ... ﴾ [86] . ثم إن طبيعة الحوار القرآني ليست قائمة على مبدأ الرفض للآخر لما هو معلوم عن جوهر رسالة الإسلام لجهة كونها حافظة ومهيمنة على ما جاء به الرسل والأنبياء، ما يحتّم أن تكون رسالة هادية وكاشفة عن الحق والهدى ليكون الإنسان على بصيرة من نفسه ودينه، فإذا ما أخذنا التكفير على أنه أسلوب رفض وإلغاء، فإننا نكون قد جانبنا الحقيقة، وقلنا بغير علم، ذلك أنّ ما وصف به أهل الكتاب، أو اليهود، أو بنو إسرائيل، إنما هو ناظر إلى أعمالهم وما هم عليه من رؤى وأفكار تطال الدين والمجتمع والإنسان، كما أنه لاحظ لطبيعة تحولات أهل الكتاب، وليس مجرد حكم يطلقه القرآن عليهم، أو أنه يراد لهم أن يكونوا على ما هم عليه، بل هم الذين اختاروا الكفر على الإيمان، ﴿ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [87] .

 

 

 

 

 

أ - الحوار والقتال في القرآن

 

 

يعرض القرآن الكريم للحوار في مجموعة من الآيات التي توقفنا عندها ملياً في بحوثنا السابقة، ولكن السؤال الذي يطرحه بعض الباحثين هو: كيف يمكن التوفيق بين الدعوة إلى الحوار وبين الآيات التي تأمر بقتال أهل الكتاب، وتضعهم في مصاف المشركين، أو على الأقل تجعلهم على شبه بهم. وخاصة في الآيات التي عرضت لهم فيما زعموه بأفواههم، كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [88] .

 

يقول العلاّمة مكارم الشيرازي: «في الآيات محل البحث بيان لوجه الشبه من أهل الكتاب والمشركين، ولا سيما اليهود والنصارى، وهذا الشبه لانحرافهم عن التوحيد، وميلهم إلى نوع من الشرك في العقيدة، ونوع من الشرك في العبادة» [89] .

 

وغير خفي أن الأمر بقتال أهل الكتاب كما جاء في الكتاب العزيز لا يمكن فهمه إلاّ من خلال دلالة السياق، حيث نجد أن الأمر بالقتال لم يأتِ مباشرة، وإنّما جاء معلَّلاً بحيث يفهم منه أن سبب القتال وعلّته هو أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يدينون دين الحق، فهم لكونهم كذلك، سواء أكانوا أهل كتاب، أم لم يكونوا يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية، وهذا ما عرضت له سورة التوبة فيما قدّمته لجهة البراءة من المشركين، ومقاتلة أئمة الكفر، ثم الأمر بقتال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، كما قال الله تعالى: ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [90] ، وكما رأينا أن علّة قتالهم هي أنهم لا يؤمنون بالله تعالى، ولا باليوم الآخر... وهذا الأمر يشمل كل أهل الكتاب لكون من بيانية وهي للجنس وليست تبعيضية، كما يقول علماء التفسير. تماماً كما في قوله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ﴾ [91] .

 

يذهب العلامة الطباطبائي في الميزان [92] ، والزمخشري في الكشاف [93] ، والطوسي في التبيان [94] ، والطبرسي في مجمع البيان [95] ، إلى أنّ الآية، وإن كانت تشير إلى شبَه بين أهل الكتاب وبين المسلمين إلاّ أنها من جهة أخرى تشير إلى شبه بينهم وبين المشركين، وكما يقول الزمخشري ويوافقه الطباطبائي، إنّ الآية تنفي الإيمان بالله عنهم لأن اليهود مثنية والنصارى مثلثة، وإيمانهم باليوم الآخر لأنهم فيه على خلاف ما يجب، وتحريم ما حرّم الله ورسوله، لأنهم لا يحرِّمون ما حرّم في الكتاب والسنّة [96] ، وقد أكمل العلامة الطباطبائي هذا المعنى بالمزيد من الرؤية الموضوعية، فرأى أن الله تعالى ينسب إليهم في كلامه أنهم يُثبتونه إلهاً، وكيف لا؟ وهو يعدهم أهل الكتاب، وما هو إلاّ الكتاب السماوي النازل من عند الله على رسول من رسله ويحكي عنهم القول أو لازم القول بالألوهية في مئات الآيات من آيات كتابه. إنّ المراد بعدم إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر عدم تلبّسهم بالإيمان المقبول عند الله تعالى، وبعدم تحريمهم ما حرّم الله ورسوله وعدم مبالاتهم في التظاهر باقتراف المناهي التي يُفسد التظاهر بها المجتمع البشري، وبعدم تديّنهم بدين الحق، عدم استنانهم بسنّة الحق المنطبقة على الخلقة والكون [97] .

 

ويبقى الفرق فيما بين المشركين وأهل الكتاب، هو أن الله تعالى أمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وهنا يكمن الفارق الأساسي والجوهري أن قتالهم لا يكون بهدف اقتلاعهم كالمشركين، وإنّما بهدف إعطاء فرصة للعيش معهم فيما لو احترموا الإسلام ولم يتأمّروا ضده، وعلامة هذا الأمر، كما يرى العلاّمة مكارم الشيرازي، هي أن يوافقوا على دفع الجزية للمسلمين [98] ، وفي غير هذه الحال، فإنّ الإسلام أمر بقتالهم، وقد ذكرنا آنفاً أن سياق الآية جاء في سياق البراءة من المشركين في سورة التوبة ما يؤكّد أن الأحكام لا بدّ أن تلحظ في سياق واحد، وهذا ما لم يلتفت إليه كثير من المفسرين [99] ، إذ لم نجد أحداً منهم يعرض لهذا الأمر على النحو الذي يميز بين أن يكون الأمر بالقتال حكماً خاصاً، أو حكماً عاماً، باعتبار أن الإسلام في مبادئه التشريعية يؤسس لحرب دفاعية، ولا يحب الاعتداء، بل ينهى عنه، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [100] ، وقال الله تعالى: ﴿ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾  [101] ، إلى غير ذلك من الآيات التي أسس فيها القرآن للحرب الدفاعية، وهذا ما لحظه شمس الدين في بحوثه عن الجهاد في الإسلام، مبيناً أن الحرب إنما تكون شرعية فيما لو كانت دفاعية، وأن الآيات دالة بظهورها على أن كفّ الكفّار عن حرب المسلمين والعدوان عليهم يجعل من الممكن إقامة حالة سلام بين المسلمين وبينهم [102] ، كما هو مفاد الآية (91) من سورة النساء منطوقاً ومفهوماً، كما قال الله تعالى: ﴿ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ  ... ﴾ [103] .

 

إذن، بعض المفسرين لم يميّز بين أن يكون الأمر بالقتال حكماً خاصاً أو عاماً، باستثناء العلاّمة مغنية، الذي رأى أن الأمر بقتال المشركين إنما كان حكماً خاصاً لسبب خاص، وهو أن المجتمع الإسلامي كان في بدء تكوينه، وأن المشركين كانوا طابوراً خامساً يكيدون للإسلام وأهله، فاقتضت المصلحة إخراجهم من الجزيرة أو قتلهم، والأمر هنا بقتال أهل الكتاب أمر خاص بالذين كانوا في الجزيرة لسبب خاص أيضاً وهو أن أهل الكتاب كانوا يتحالفون مع المشركين على محاربة المسلمين، كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم [104] . وهنا يتبدّى لنا الموقف الحاسم فيما تعنيه الآية من أمر بالقتال، ومما يعزّز رأي مغنية بأن الأمر هو حكم خاص لسبب خاص، هو ما تؤسس له آيات سورة الممتحنة التي تبيّن الحكم فيما يتعلق بالموقف من المجتمعات غير المسلمة، سواء أكانت مؤمنة أم غير مؤمنة، مشركين أم أهل كتاب، حيث قال الله تعالى: ﴿ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [105] .

 

هذا هو المبدأ التشريعي العام الذي يُحتكم إليه في ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين المجتمع الإسلامي، والمجتمعات الأخرى. وإذا كان لا بدّ من القتال، فإنما يكون بعلّة العدوان وليس بعلّة الكفر، كما قال الله تعالى في خطابه للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [106] ، ما يعني الاستعداد لقبول عرض السلام، لإقرار حالة السلام بين المسلمين وغيرهم، فإنّ وجوب قبول الدعوة إليه، إن كان عادلاً، هو مبدأ من مبادئ التشريع الدفاعي العسكري في الإسلام [107] . وهذا احتمال ظاهر في آية القتال وعدم الاعتداء، كما يرى الأيرواني في أن المقاتلة إنما تكون لمن يقاتل دون المسالم المستعدّ للصلح» [108] ولم يخالف في هذا إلاّ الفقيه الفاضل المقداد في كنز العرفان، الذي رأى أن القول بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كفّ عمّن كفّ عنه ممنوع، بل كان ينتظر الفرصة وحصول الشرايط» [109] .

 

مما تقدم، نستطيع القول: إنه لا معنى لأن يقتحم البعض الأمر بالقتال ليستنتج أنه لا معنى للحوار في ظلّ الدعوة إلى القتال، وكلّنا يعلم أن المسلمين في تشريع الجهاد، أو فيما اصطلح عليه بفقه الجهاد يقسّمون الجهاد إلى ثلاثة أقسام، الأول هو قتال الكفّار، والثاني هو قتال أهل الكتاب، والثالث هو قتال أهل البغي [110] ، وقد بينّا أن قتال أهل الكتاب إنّما يكون حكماً خاصاً، وهم مخيّرون بين قبول الإسلام ودفع الجزية، فإن بذلوها حرّم قتالهم، وكما يرى المطران بسترس: «إنه منذ البداية اعترفت الشريعة الإسلامية بالمسيحيين في تميزهم لا كأفراد وحسب، بل كجماعة، لذلك وجد في المجتمع الإسلامي على مدى العصور نوع من التعددية الدينية، ولكن هذه التعددية تفترض تراتبية ما. لقد أمنت منظومة «أهل الذمّة» حرية العبادة والحرية للمسيحيين، لكنها اشترطت لذلك ولاءً سياسياً كاملاً وتضمنت نوعاً من الخضوع» [111] .

 

لقد بيّن علماء الأصول أنه لا بدّ من معرفة المطلق والمقيّد فيما جاء به القرآن من أحكام، وإذا كان حكم القتال أو الجهاد قد أطلق فإنّ قيده هو ﴿ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [112] ، إذ لا يجوز القتال لمجرّد الكفر كما هو صريح آية ﴿ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [113] ، إضافة إلى أن الإسلام لا يقدّس الحرب، وإنّما يدعو إلى السلام، وإلى احترام كرامة الإنسان وحريته فيما يريد التعبير عنه، كما قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [114] ، وقال الله تعالى: ﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [115] ، فالإسلام لا يكره أحداً على اعتناقه، ويؤسس لعلاقات تفاعلية مع المجتمعات الأخرى، سواء أكانت مؤمنة أم غير مؤمنة، كافرة، أم معاهدة، وإذا كان القرآن قد أكثر من استعمال مفردات الكفر أو الفسق، أو الظلم، فذلك إنما جاء في سياقات مختلفة للتدليل على مذاهب القوم فيما هم عليه من آراء ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تكن هذه المفردات لأجل إظهار أو تأكيد مشروعية القتال لأهل الكتاب أو لغيرهم، لأنّ الحوار والسلام هو الأساس في منظومة الهداية القرآنية، والقتال هو الاستثناء، كما قال الله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ... ﴾ [116] .

 

إنّ آيات القرآن التي تدعو إلى الحوار والجدال والدعوة بالحسنى، منطوقاً ومفهوماً، تثبت أن الحوار هو السبيل الوحيد للإهتداء إلى سبل السلامة في الحياة، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... ﴾، لهو خير دليل على ذلك، كما أن هذه الآية تؤكّد أن أهل الكتاب حتى ولو كانوا مؤمنين هم على خيار أن يقيموا على دينهم ويؤدّوا الجزية، وبين أن يقبلوا الإسلام، وقد ظهر من النصارى حسن إجابة في التاريخ الإسلامي، وكانوا موضع عناية القرآن، كما قال الله تعالى ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ... ﴾ [117] ، أو قوله تعالى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ﴾ [118] ، وهذا كما بينّا، بخلاف المشركين، فإنهم لم يكُن يُقبل منهم إلا قبول الدعوة، وكما يقول العلاّمة الطباطبائي (قده)، فكثرة المؤمنين منهم لا تدلّ على حسن الإجابة [119] ، ولعل منطوق ومفهوم قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ﴾ ناظر إلى هذا المعنى، رغم كل آيات القرآن التي عرضت لليهود دون النصارى في سياق واحد، أو تلك الآيات التي عرضت لأهل الكتاب والمشركين في سياق واحد بلحاظ المغايرة بينهم كما في قوله تعالى: ﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ ... ﴾ [120] .

 

غاية القول: إنه لا تناقض بين الحوار والقتال في القرآن، لأن القتال هو لردّ العدوان، وليس لفرض الرأي، أو لأسلمة الأمم، كما يدّعي بعض الباحثين فيما زعمه من تقديس للحروب في تاريخ الإسلام والمسلمين، وإنّ أدنى تأمّل فيما عرض له القرآن من آيات تحثّ على السلام، لا بدّ أن يكشف عن أبعاد الحوار القرآني، بحيث تظهر الأمور على النحو الذي يؤكّد لذي عقل بأن الإسلام هو دين عالمية الرحمة، وليس دين السيف والقتال. فإذا قلنا: إنّ في القرآن حواراً وقتالاً، فليس ثمة تناقض بين الأمر بقتال المعتدين، وبين المجادلة لهم ليكفّوا عن عدوانهم، سواء الفكري، أم المادي، وهذا الفهم يمكن التأسيس عليه لكون ما جاء في القرآن من توصيفات لأهل الكتاب، أو للمسلمين، أو لغيرهم، من كفر وفسق وظلم لا يشكّل مبرراً لحربهم، وكما قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ [121] . وهنا لا ندري كيف نوفّق بين تفسير الزمخشري الذي رأى أن اللام في «الفاسقون» هي لام الجنس، والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب [122] ، وبين ما ذهب إليه العلاّمة الطباطبائي (قده)، الذي رأى أنه لا يبعد أن تكون لام العهد الذكري [123] .

 

ونحن نرى أن الأحسن أن تكون للجنس لكون السياق في دلالة الآيات يظهر ذلك، فيكون المعنى ظاهر الدلالة على الكفر وأنه الفسق، فهم لكفرهم فاسقون، ومثلما أن هذا ينطبق على أهل الكتاب، فإنه ينطبق على المسلمين أيضاً فيما لو كفروا بما أنزل الله من البيّنات، وكما يرى علماء التفسير أنه إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره [124] ، وهذا ما لحظه الراغب في مفرداته [125] ، فرأى أن الفسق يقابل الإيمان وليس الكفر، كما قال الله تعالى: ﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً ... ﴾ [126] ، هذا كله يدلّل على أن مفهوم ومنطوق آيات القرآن في مجال الرؤية الحوارية لا يتعارض مع الأمر بالقتل لكون التوصيف ينطبق على كل مَن يكفر بآيات الله تعالى، فهل يُعقل أن يكون تحقق الكفر، أو الفسق، أو الظلم في أمة، أو في جماعة؛ سبباً وعلّة لقتالهم؟ فما يكون معنى الحوار إذاً؟ والدعوة إلى الحوار قائمة لهداية الناس وإخراجهم من الشرك إلى التوحيد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الكفر إلى الإيمان. فالقتال هو للمعتدي بهدف أن تنتظم حياة المجتمع، فتكفّ أيدي المعتدي، ويستعد لقتاله لمنعه من العدوان، كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ... ﴾ [127] ، ولا شكّ أيضاً في أن ما يذهب إليه بعض الباحثين من اعتبارٍ لآيات القتال، فهو إنما يؤخذ به استثناءً، سواء في مواجهة أهل الكتاب، أم غيرهم ممن لم يؤمن وكفر بآيات الله تعالى، وعلى هذا المعنى يمكن أن نذهب إلى تفسير الكثير من الآيات القرآنية بحيث يؤخذ بالاتجاه الموضوعي لفهم الكفر أو الفسق أو الظلم في القرآن الكريم، فلا يكون موضوعه أمة بعينها، وإنّما الكفر، أو الفسق، أو الظلم بعينه، فإذا فُهم معنى المصطلح وما يُراد به، وما هو مغزى إطلاقه، فإنّه حينئذٍ يمكن استيعاب المدلول العام من خلال استنطاق الآيات لمعرفة المؤدّى الذي تحمله، فلا يُقال: إن القرآن يكفّر أهل الكتاب، فكيف يدعو إلى التحاور معهم، بل يُقال: إن الكفر معناه القرآني يقع على أنواع وأنحاء عدّة [128] ، وهذه الأنحاء قد تطال أهل الكتاب، وقد تطال أهل الإسلام، فلا يكون المعنى خاصاً بقوم أو جماعة ليُقال بأن الإسلام يأمر بقتال أهل الكتاب، باعتبار أن التشريع في الإسلام ليس له خاصية أن يكون لقوم وإنّما هو للعالمين، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [129] وقال الله تعالى: ﴿ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ... ﴾ [130] ، إلى غيرها من الآيات التي تدلّل على معنى وميزة هذا التشريع الإلهي لجهة كونه لاحظاً للإنسانية كلها، فمثلما أن الحوار مع الجميع؛ فكذلك القتال هو مع الجميع فيما لو حصل الاعتداء.

 

وإذا كان المسلمون قد أخفقوا في تجاربهم التاريخية، فإنّ الإسلام لا يحمل وزر هذه التجارب وما انطوت عليه من تفسيرات وتأويلات للآيات القرآنية، وخاصة بحق أهل الكتاب. والحق يُقال: إن تاريخ المسلمين فيه من الكفر والفسوق والمظالم ما لا يمكن أن يُقاس بما عند غيرهم، ما يعني ضرورة التدبُّر في المعطى القرآني ليكون الإنسان على بيّنة مما يدعو إليه ويتحاور من أجله حتى تكون له روحية الإيمان في مواجهة الكفر والفسوق والظلم، وهذا ما أردنا التأكيد عليه في هذا البحث لإثبات أن الحوار القرآني هو الأساس في حركة الإيمان في مواجهة كل أنواع الكفر من أي جهة كانت [131] ، وإلى أي فئة انتمت، فالكفر هو الكفر، وقد قال رسول الله : «ألا لا ترجعنَّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض...» [132] .

 

وهذا كلام للمسلمين، ذو دلالة عامة، والمورد لا يخصص الوارد، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، بحيث يفهم الإنسان أن الخطاب القرآني هو خطاب للإنسان في كل زمان ومكان، سواء أكان مسلماً، أم غير مسلم، وفي هذا السياق القرآني يمكن فهم الدعوة إلى الحوار، وكذلك الأمر بقتال مَن لا يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يدين دين الحق.. ليس في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل في كل زمان ومع كل رسول، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [133] ، والآية ـ كما يرى العلاّمة الطباطبائي (قده) ـ تشير إلى مخالفة أهل الكتاب، فريق منهم، للحق من حيث كتمانهم بشارة التوراة وعدم إيمانهم بمن يصدق ما معهم [134] ، وهذا دليل على تواصل الرسالات والرسل، وعلى ضرورة أن يكون الحوار متواصلاً مع أهل الكتاب وغيرهم من منطلق أن القتال إنما يكون لمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يدين بدين الحق ثم يعتدي، وهذا هو خطاب النبوة في كل زمان ومكان. وعليه تواتر الأنبياء والرسل، فإذا كانت أوامر الآيات تخص أهل الكتاب فيما يكون منهم، فليس معنى ذلك تخصيص الخطاب بهم، لكونهم إذا آمنوا وأسلموا لله أمرهم، فلا يكون ثمة معنى لقتالهم بل يحرم ذلك، كما بيّن العلماء في فقه الجهاد، وفي تفسير الآيات. والله العالم والمسدّد للصواب، والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

ب - الحوار والخسران في القرآن

 

 

تقدّم الكلام في أن الحوار القرآني مقدّمٌ على القتال والجهاد في سبيل الله، بل هو أساس وجوهر النظرية القرآنية، الداعية إلى التعارف والتواصل والتعايش بين الأديان، وإذا كان من معنى للجهاد، فهو ردّ المعتدي والإعداد والاستعداد مادياً وروحياً لمنعه من الاعتداء، كما قال الله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [135] .

 

كما بينّا أيضاً، أن القتال للمعتدين لا يكون لمجرّد الكفر كما هو صريح الآية الآنفة، بل يكون بعلّة العدوان، ﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾  [136] .

 

وانطلاقاً مما تقدّم، يمكن القول بأن صريح الكثير من الآيات المباركة، إضافة إلى ما يُنبئ به ظاهر الكثير من الآيات هو الدعوة إلى الحوار الهادف إلى بناء المجتمعات الإنسانية على أسس عقلية وروحية، بحيث تكون القناعة بالعقيدة هي الأساس والمبدأ، وليس الإكراه عليها، كما قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ... ﴾ [137] ، إلى غيرها من الآيات التي تنطوي على دعوة الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن لإظهار الحق والعمل بمقتضيات الاعتقاد السليم بالله ورسله، كما جاء به الأنبياء والرسل حتى تكون الطاعة لله وحده.

 

إنّ الله تعالى لا يريد ظلماً بالعباد، ويريد لهم أن يخرجوا من الظلمات إلى النور بما أوحي إليهم على لسان أنبيائه ورسله تحقيقاً للهدف الذي خلقوا من أجله، سواء أكان للعبادة والمعرفة، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [138] ، أم للتعارف والتعايش، كما قال الله تعالى: ﴿ لِتَعَارَفُواْ ﴾ [139] ، ولأجل هذا تواتر الرسل وأُنزلت الكتب، وهذا هو مفاد كل الآيات القرآنية التي تتعرض لحوار الرسل والأنبياء مع أقوامهم، حيث كان لسان حالهم جميعاً يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [140] .

 

لقد تبيّن لنا في المبحث السابق كيف أن العلماء والفقهاء قد اختلفوا حول ما إذا كانت آية السيف قد نسخت آية الصفح والعفو عن أهل الكتاب؟ ورأينا كيف أنهم اختلفوا في منطوق الآيات ومفهومها على نحو لم يتميّز فيه الناسخ من المنسوخ، ولا المطلق من المقيّد، وذلك كلّه إنّما كان بسبب مذاهب القوم فيما هم عليه من فهم وتفسير بعيداً عن الرؤية الموضوعية، التي ينبغي أن تكون هي السبيل للكشف عن مدلول الآيات من خلال منهج بياني تترتّب فيه الآيات حسب نزولها لمعرفة ظروف الزمان والمكان، إضافة إلى معرفة أسباب النزول من حيث هي قرائن لابست نزول الآية دون أن يفوت المفسّر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه [141] ، وهذا الاتجاه الموضوعي، فيما لو اعتمد، يسمح للباحث، أو المفسّر باستقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده للوصول إلى دراسة وعرض الظاهرة الأسلوبية على كل نظائرها في الكتاب الحكيم، وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة ثم سياقها العام في القرآن كله التماساً لسرّه البياني، وكشفاً عن معناه الحقيقي. ولا شكّ في أن هذا المنهج هو الذي سنعتمده لتبيان معنى الحوار وما إذا كان له من مؤدّى في دنيا الإنسان وآخرته، لأنّ القرآن في بيانه العام يُحكِم القول بأن الدين عند الله هو الإسلام [142] ، ﴿  وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [143] .

 

فإذا كان للحوار من مؤدّى إيجابي بلحاظ كونه الأساس في المنظومة الإسلامية، فذلك ليس معناه أن الحوار مطلوب لمجرّد الحوار، أو لمجرّد أن يكون الإنسان متعارفاً، بل لا بدّ أن يكون على تقوى عملية، سواء في حواره ومجادلته، أم في تواصله وتعارفه، وإلاّ استحال الحوار إلى فوضى وعبثية، باعتبار أن القرآن يدعو إلى الحوار على أساس أن يكون الإنسان على كلمة سواء، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... ﴾، وهذه الكلمة لا تكون كذلك إلاّ إذا جاءت في سياقها القرآني، وليس في أي سياق آخر يختاره الإنسان، وقد اختار القرآن أن تكون في سياق ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [144] .

 

إذن القرآن حدد إطار الحوار في الكلمة السواء، ودعا إلى الامتثال لدعوة جميع الأنبياء فيما يبلّغونه عن الله تعالى، وقد تواتر الأنبياء ودعوا إلى عبادة الله وتوحيده والتسليم له، بحيث يكون الإسلام دين البشرية، كما هو دين الأنبياء جميعاً، كما قال الله تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [145] ، وكما قال الله تعالى في وحيه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن خلاله إلى المسلمين: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [146] .

 

إن جميع الأنبياء كانوا على دين الإسلام، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [147] ، وهذا الإسلام، فيما ينطوي عليه من أُصول إيمانية كبرى [148] لم يختلف بين نبيّ وأخر، كما أنه لم يكن موضوعاً للحوار بين أهل الأديان لكونهم جميعاً يؤمنون بالله ووحدانيته، والوحي وعصمته، والبعث وجزائه، وقد سلف القول منا أن هذه الأصول الايمانية لا ينبغي أن تكون مجالاً للحوار، بل منطلقاً له، لأن هذه الأصول هي مما يستقلّ العقل بمعرفته وليست مجالاً للتقليد [149] ، وإن كان ثمة اختلافات في تفاصيل ما ذهب إليه أهل الأديان، فذلك مما لا تأثير له على حقيقة الإيمان فيما لو كان قائماً على تنزيه الله تعالى، بحيث لا تكون هناك أدران وشوائب على ما يذهبون إليه من توحيد، سواء في الوحدانية، أم في العبادة، فالدين واحد كما يرى العلاّمة الطباطبائي (قده)، لا اختلاف فيه، ولم يأمر العباد إلاّ به، وهو الإسلام الذي هو التسليم للحق الذي هو حق الاعتقاد، وحق العمل [150] ، وبعبارة أخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف والأحكام، وهو ـ أي البيان ـ وإن اختلف كماً وكيفاً في شرائع أنبيائه ورسله على ما يحكيه الله تعالى في كتابه، غير أنه ليس في الحقيقة إلا أمراً واحداً، وإنما اختلاف الشرائع بالكمال والنقص دون التضاد والتنافي والتفاضل بينها بالدرجات، ويجمع الجميع أنها تسليم وإطاعة لله تعالى فيما يريده من عباده على لسان رسله  [151] .

 

لقد حصر الله تعالى الأديان كلها بالإسلام، والسر في هذا، كما يرى مغنية، أن جميع أديان الأنبياء تتضمن الدعوة الإسلامية في حقيقتها وجوهرها، عنينا بذلك الإيمان بالله والوحي والبعث، والتنوع والاختلاف إنما هو في الفروع والأحكام، لا في أصول العقيدة والإيمان [152] .

 

قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [153] .

وقال الله تعالى: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [154] .

وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ﴾ [155] .

وقال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [156] .

 

فالآيات، كما نلاحظ، ناظرة في ظاهرها إلى أمرين هامين:

الأول: هو تحقق الخسارة في الآخرة لمن يبتغي غير الإسلام ديناً.

والثاني: هو تحقق الكفر لمن يفرق بين الأنبياء والرسل. والمنهج الموضوعي، في فهم منطوق الآيات ومفهومها يقتضي ملاحظة معنى الخسارة التي اقتصر فيها التعبير على الآخرة دون الدنيا. وهنا السؤال، هل معنى هذا أن مَن يبتغِ غير الإسلام ديناً يمكن أن يكون فائزاً في الدنيا؟ أم أن الخسارة في الآخرة تفترض مسبقاً أن يكون الإنسان خاسراً في الدنيا أيضاً، كما هو مفاد قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [157] ، أضف إلى ما تقدم قوله تعالى: ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [158] ، فهذه الآيات تفيد في منطوقها ومفهومها أن الخسارة تلحق الإنسان في آخرته وليس في دنياه، لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن سياق سورة آل عمران في الآية 85، يختلف عن سياق سورة المائدة، في الآية (5)، باعتبار أن الأولى جاءت في سياق الحديث عن الإيمان بالرسل والأنبياء وما أنزل إليهم من ربهم، في حين أن الثانية جاءت في سياق الحديث عما أُحّل من الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب، فهي لم تكن في سياق الحديث عن أصول الإيمان، وعما يقتضيه الإسلام من توحيد وعمل، مما يدلل على أن ظهور الآية ـ آية المائدة لاحظ للفروع أيضاً، بحيث يفهم من سياق آياتها أنها تفيد الخسارة لمن يكفر بالإيمان في الآخرة دون أن تعني الفوز في الدنيا كما يفيد السياق أيضاً أن تارك الفروع، أو أركان الدين، هو ممن يتحقق له الخسارة في الآخرة، فضلاً عن الدنيا، لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فلا يعقل أن يكون الإنسان خاسراً للآخرة، وفائزاً في الدنيا، وذلك من منطلق أن الإسلام كل واحد ومن يكفر بالإيمان كما أفادت آية المائدة، فهو كافر بالإسلام، وبكل آيات الله تعالى التي ألقاها إلى أنبيائه دون الآيات التكوينية الدالة على الوحدانية وما يزاملها من المعارف الإلهية على حد تعبير العلاّمة الطباطبائي (قده) [159] .

 

إنّ الكفر بالإيمان وما يلحق به من خسران في الآخرة، سواء أكان في الأصول، أم في الفروع له مؤدى الخسران لكونه قائماً على ابتغاء غير الإسلام ديناً عقيدة وشريعة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [160] ، والمراد بالآيات هنا آيات الوحي والبينات الإلهية، التي يقتضي الإسلام، بما هو إيمان،القيام بها للفوز بالمغفرة والرضوان. أما أن يكفر الإنسان بالإيمان، أو أن يبتغي غير الإسلام ديناً، سواء في الفروع، أم في الأصول، فذلك مما يجعله خاسراً، ويعبد الله تعالى على حرف، وكما يقول العلاّمة الطباطبائي (قده): «إنّ الكفر بالإيمان يؤول إلى ترك العمل بما يعلم الإنسان أنه حق كتولي المشركين، والإختلاط بهم، والشركة في أعمالهم مع العلم بحقية الإسلام وترك الأركان الدينية من صلاة وصوم وزكاة وحج مع العلم بثبوتها أركاناً للدين... فالكفر بالإيمان إنما يصدق على الإنسان فيما إذا ترك ما يقتضيه إيمانه، ويتعلق به علمه ودام عليه، وأما إذا ستر مرة أو مرتين من غير أن يدوم عليه فلا يصدق عليه الكفر، وإنما هو فسق أتى به» [161] .

 

وعليه، فإن معنى الخسران في الآخرة، سواء جاء في سياق أصول الدين أم في فروعه، كما في سياق الآية الخامسة من سورة المائدة، فهو خسران دنيوي أيضاً، ولكن الله تعالى لم يعهد به إلى الإنسان، لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾، ويبقى على الإنسان أن يقوم بالدعوة إلى الحق، وسلوك سبيل الرشد والحوار بحيث يترك أمر الحساب إلى الله تعالى، لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [162]  فإذا ما أضفنا الآيات إلى بعضها البعض فيما تفيده من خسران في الآخرة، فإنه يظهر لنا من السياق القرآني العام، بحسب المنهج البياني، أن الإسلام لا يدعو إلى البناء على هذا الخسران في اتخاذ المواقف الدنيوية في التعامل مع أهل الكتاب، أو غير أهل الكتاب لما تقتضيه الدعوة القرآنية في مجادلة بالحسنى، إلا الذين ظلموا، ودعوة إلى الكلمة السواء، وهنا تجدر الإشارة إلى رؤية ذهب إليها بعض المفسرين فيما يعود إلى الخسران في الآخرة، وهي أن الله تعالى يحصر الوظيفة الخلاصية للعقيدة في إطارها المحدد وهو الأخرة، ولم يرتّب هذا على الموقف الدنيوي، يقول شمس الدين: «إن الإسلام لا يحكم بصورة جازمة أن كل من لم يعتنق الإسلام فهو هالك ولا نجاة له. بل يميز بين مستويين، مستوى القاصرين، ومستوى المقصرين، مستوى من بلغته الدعوة الإسلامية وعقلها وجحدها. وهذا هو المقصّر، ومستوى من لم تبلغه الدعوة أو بلغته ولم يعقلها لا لتقصير منه، بل لسبب من الأسباب الأخرى..» [163] .

 

وهذه رؤية يمكن البناء عليها، ولكنها تحتاج إلى مزيد تدبير واستنطاق للآيات القرآنية اللاحظة لمعنى الخسارة في الآخرة، وذلك من منطلق أن الإسلام لم يكره أحداً على العقيدة،ودعا إلى الحوار والتعارف على أساس التقوى في القول والعمل، فإذا لم يؤدِّ الحوار إلى أن يكون الناس على دين الإسلام، سواء في الظاهر أم في الباطن على ما أفاده الطريحي من تقسيم الإسلام إلى ضربين، أحدهما دون الإيمان، وهو الاعتراف باللسان، والثاني: هو أن يكون مع الاعتراف معتقداً وافياً بالفعل نحو أسلمت لربّ العالمين [164] ، فلا مسوّغ لأن يكون الإكراه هو البديل للدعوة بالحسنى، أو للحوار بين الناس، وتبقى آيات الممتحنة (8 ـ 9) هي الحاكمة في إطار تحديد الخسران المبين، أو الفوز العظيم، لكون القرآن يؤسس في عقيدته وشريعته لانتظام المجتمع الإنساني وفاق دين الإسلام فيما انطوى عليه من عقيدة وشريعة ونظام حكم، فإذا لم يؤدِّ الحوار إلى هذا الدين ككلمة نهائية وخاتمة وكاملة، فلا يكون العدوان أو الإكراه، كما قلنا، هو السبيل لذلك، حيث إنّ الله تعالى منع منه ودعا إلى الاقتصار على المحاججة في إطار قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [165] وهذا ما يُظهر أنه ليس لأحد ممن يدعون إلى الله تعالى أن يكون محاججاً بإلحاح، أو مشاغباً بإثم، أو محاوراً بعنف، لقول علي (عليه السلام): «من بالغ في الخصومة أثم» [166] ، ومن أجل هذا أمر الله نبيه الكريم أن يترك المبطلين المعاندين وشأنهم، حيث لا مزيد من التبيان والبراهين، وإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، وبهذا نجد أن الآية تجمع بين أهل الكتاب ومشركي العرب ليكون المعنى شاملاً لكل بني البشر، سواء أكانوا كفاراً، أم مشركين، إذ العبرة هنا بالعموم، فلا تخصّ أهل الكتاب والأمّيين وحسب، بل تتعدّاهم إلى غيرهم ممن له شبهة كتاب كالمجوس، أو الصابئة وسواهم، ومما تقدم أيضاً يستفادمن ظهور الآية أنها تدعو إلى الإسلام، والقيام بالحوار على النحو الذي يؤدي إلى إقامة الحجة، ونبذ الخصومة، وهذا هو مفاد قوله تعالى: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [167] .

 

إن الإسلام هو دين الله قبل أن يكون للناس، وبعد أن كانوا فمن أقر بدين الله فهو مسلم، ومن عمل بما أمر الله فهو مؤمن، وبهذا جاء الأنبياء جميعاً، فمن اهتدى فلنفسه، ومن لم يهتدِ فعليها. وإذا كان الله تعالى لم يفرق بين أحد من أنبيائه، فذلك إنما كان في أصل الرسالة والوحي والهداية، لكنه فضل بعضهم على بعض بما آتاهم من الكمال في الشريعة حيث جاء بأفضلهم فرقاً وجمعاً، وأشرفهم أصلاً وفرعاً، وأكملهم ديناً وشرعاً، فختم بإرساله دور النبوة والرسالة، وحتم على كافة الناس اتباعه إلى يوم القيامة، وأرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً [168] ، وقد أشار إلى هذا الختم والتمام بالحصر في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ بل صرح بذلك وأكده بالتأييد، حيث قال الله تعالى: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾.

 

غاية القول: إن الحوار، كما يظهر من الآيات المباركة، لا يتناقض إطلاقاً مع ما يستتبعه ابتغاء غير الإسلام ديناً من خسران وليس على الناس إطلاقاً، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، أن يستندوا إلى الخسران في الآخرة للامتناع عن الحوار، بحيث يقول أحد إنَّ الخاسر في الآخرة هو خاسر في الدنيا، وعلى فرض أن هذا الأمر متحقق كما هو منطوق ومفهوم الكثير من الآيات، فإن هذا لا يمنع أن يكون الحوار سبيلاً إلى الهداية لدين الله تعالى، الذي هو الإسلام، فلا يقال بأن الخسارة في الآخرة تستتبع التنكر للحوار والقتال في الدنيا مع غير المسلمين، لتكون لهم الخسارة في الدنيا، لأن الله تعالى منع من الإكراه في الدين، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة، ونهى عن العدوان، وفي ضوء هذه الدعوة الإلهية يمكن التأسيس لرؤية حوارية تستبعد نهائياً مصائر العباد في الدنيا وما يمكن أن يلحق بهم من عذاب فيها، لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [169] . وقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ ... ﴾ [170] . إلى غيرها من الآيات التي تُفسح في المجال أمام الحوار والمحاججة بالطريقة التي تسمح بتبيان الحجج والبيّنات والبراهين، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [171] .

 

لا شك في أن الحوار هو سمة الكثير من الآيات القرآنية، وهو مبدأ أساس نصت عليه المبادىء التشريعية العامة، بدءاً من كرامة الإنسان: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ... ﴾ [172] . وانتهاءً بالدعوة إلى البر والقسط بحق مَن لم ينه عن الدين ولم يقاتل فيه ولم يخرج الناس من ديارهم، كما تصف آيات سورة الممتحنة (8 ـ 9)، فيما تضمنته من دعوة إلى ضرورة نبذ العنف والحوار وإقامة العدل، وعدم تولي الظالمين.

 

هذا لجهة مبدئية الحوار في الإسلام، أما لجهة الخسران المبين، فذلك أمره إلى الله تعالى، فهو البصير بعباده، وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وقد قال الله تعالى في سورة طه: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [173] . وعليه، فإنه لا معنى لأن يؤخذ على الإسلام قوله بخسارة من ابتغى غير الإسلام ديناً، لأنه دين الأنبياء جميعاً من آدم (عليه السلام) وحتى نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) [174] . وهذا ما لا ينبغي الاختلاف فيه، وإذا ما حصل، فإنّه يكون نتيجةً للبغي بعدما جاء من العلم، كما فعل أهل الكتاب، فكان التهديد لهم بالانتقام وحبط الأعمال، كما هو ظاهر الآيات في قوله تعالى: ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾. وهذا البغي، كما بيّن تعالى، لم يقتصر على أهل الكتاب وحسب، بل تعدّاهم إلى الأمّيين، كما قال الله تعالى: ﴿ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ ... ﴾. ولعلّ السبب في هذا الجمع، كما يرى العلاّمة الطباطبائي (قده)، هو كون الدين مشتركاً بينهم، وإن اختلفوا في التوحيد والشرك، ذلك أن الدين واحد، وهو مودع في الفطرة الإنسانية على وتيرة واحدة [175] .

 

وكيف ما كان، فإن ما عرضت له الآيات القرآنية من تهديد ووعيد وانتقام وخسران في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة لمن يعبد الله على حرف، أو لمن يتبع غير الإسلام دينا، لا يستفاد منه أن القرآن يؤسس لرؤية صدامية بين أهل الدين، إذ كيف يكون ذلك وقد نهى عن الاختلاف والتفريق بين الأنبياء، وإنما هو يكشف عن مسارات الأمور ومصائرها ليكون الإنسان على بينة من أمره فيما يتخذه لنفسه من أهداف، وفيما يبتغيه لدنياه وآخرته من اعتقاد وعمل، وفي جميع الأحوال، فإن مَن يفعل خيراً فلن يكفره، سواء في الماضي، أم في الحاضر، أم في المستقبل، وذلك كله يبقى شرطه وقوامه أن لا يعتدي الإنسان على أخيه الإنسان، وأن لا يفتنه عن دينه، فإذا لم يحصل ذلك، فلا يكون ثمة مسوغ للعنف، أو للإكراه في الدين، أو للامتناع عن الدعوة بالحسنى، وإلى الكلمة السواء، سواء في أمور الدين، أم في أمور الدنيا، بهدف إلحاق الأذى والخسران بمن لا يتخذ الهدى سبيلاً والإسلام ديناً، باعتبار أن الله تعالى قد جعل لهذا الدين أصلاً في الكون والخلقة والواقع الحق، وهو بصير بعباده لطيف بهم وقادر عليهم، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [176] .

 

إن الهدف من الحوار أن يهتدي الإنسان إلى سبيل سعادته في الدنيا والآخرة، كما أراد الله تعالى، فإذا لم يهتد الإنسان إلى سبيله، فلا عدوان عليه، ولا إكراه له، إلاّ أن يكون معتدياً وقائماً بالظلم، فحينها يكون رد عدوانه والاعتداد للحيلولة دون ممارسة العدوان حواراً وجهاداً، وقد أمر الله تعالى بذلك، كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ  ... ﴾ [177] . والحق يقال: إن الله تعالى أراد من إكمال الدين وتمام النعمة ومن الرضا بالإسلام ديناً أن يكون الإنسان في حوار وتعايش مع أخيه الإنسان في الدائرة الإنسانية الكبرى لعله بذلك يتحول عن كونه إنساناً متقوِّماً بالصفات الخاصة، ليكون إنساناً مسلماً متواصلاً مع خط النبوة في تاريخها الديني، كما تواصل الأنبياء والرسل فيما جاؤوا به ودعوا إليه من إيمان وإخلاص في طريق الكدح إلى الله تعالى.

 

 

 

 

 

خاتمة البحث: الحوار بين المشروعية والحقّانية

 

 

هناك فرق كبير بين أن يكون الأمر ـ أي أمر ـ في الدين، أو في الدنيا، مشروعاً، وبين أن يكون حقاً، فالتنافس هو أمر مشروع، ولكنه قد لا يكون تنافساً بالخير، فلا يكون حقاً، وكذلك الحوار، فهو مطلوب ومراد بين الناس للتعارف، والإجتماع على الكلمة السواء، وكما بينا فيما سبق في بحوث هذا الكتاب، أن التنوع أو التعدد هو مشروع أيضاً، ومثلما أن التنافس في الخيرات يحتاج إلى طرفين، فكذلك الحوار يحتاج إلى طرفين أيضاً، لأن الشيء لا يتنافس مع ذاته، والإنسان لا يتحاور مع نفسه، ولهذا، قال الله تعالى: ﴿ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ ولا شك في أن هذا الخطاب ـ النداء ـ ليس خطاباً مجرداً عن أن يكون له أهداف وغايات. فإذا لم ينته الحوار إلى نهاياته المرجوة، والتي لأجلها جاء هذا الخطاب، فلا يكون خطاباً منتجاً ومؤدياً إلى النتائج التي يريد الله تعالى أن تكون كلمة سواء سبيلاً إليها، وهي قوله تعالى: ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ... ﴾ [178] . أما إن استقر الأمر عند الكلمة السواء، والحوار عند مستوى اللقاء لمجرد المحاججة، فلا يكون الحوار قد حقق هدفاً أو أنتج حقاً، وإن كان هو في نفسه مشروعاً ولكن يبقى شرط حقانيته أن يصل الحوار إلى ما ارتضاه الله تعالى من دين وحق. وقد سبق لعلماء المسلمين قاطبة، فقهاء وفلاسفة وعلماء كلام أن طرحوا التساؤل الآتي: هل ينظر الإسلام إلى التنوع في المجتمع البشري، سواء التنوع بمعناه التكويني، أم بمعناه التشريعي والعقدي، هل ينظر إليه على أنه مشروع أم لا؟

 

وكانت الإجابة، أنه يجب أن نفرق بين مشروعية الوجود، وبين حقانية الوجود [179] ، والحق يقال: إن المسلمين يعتقدون أن كل ما يخالف الإسلام في قليل أو كثير. في عقيدته وشريعته هو ليس حقاً، بل باطل، فالكلام هنا ليس في إعطاء صفة الحق وصفة الواقعية للمختلف، بل في إعطاء صفة المشروعية بمعنى هل يشرع له أن يكون موجوداً، أو لا يشرع له أن يكون موجوداً؟

 

لقد تبين لنا في سياق ما ذهبنا إليه في شأن التنوع في الوجود، أو في موضوع حوار الأديان من منظور قرآني، أن الإسلام يُعطي شرعية الوجود في العقائد والمذاهب والاتجاهات الفكرية المخالفة له، كما قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾، وهذه الشرعية إنما أعطيت بهدف أن يتكامل البشر، بحيث يتسابقون في الخيرات، ويصل كل خلق إلى كماله، وقد يسر الله كل شيء لما خلق له، بمعنى آخر، نقول: إن الشرعية لم تعط لمجرد الشرعية، وإنما ليكون الإنسان مدركاً لطبيعة المهام الموكلة إليه فيما استخلف فيه في الأرض وفيما حمّل من أمانة، فإذا لم يكن هذا الإنسان على مستوى الرسالة والأمانة وحقيقة الاستخلاف، فإنه يكون قد قصّر عن مسؤولياته واستحال أمره إلى خلاف ما خلق لأجله من معرفة وتعارف. وانطلاقاً من ذلك، نرى أنه لا يمكن للإنسان أن يمنح نفسه شرعية الوجود، وحق الوجود، أو أن يختار في إطار رؤيته الخاصة، لقوله تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ﴾. ومثلما أن ظاهر هذه الآية يفيد معنى الخلق والاختيار في مجال النبوة، فكذلك هو يستبطن معنى الخلق والاختيار في ما جعل عليه الإنسان من خلق وتنوع في الخلق والعقيدة وسائر ما هو عليه الإنسان من تفاوت واستعدادات وقدرات تحتم على الإنسان أن يكون كادحاً لتكميل ذاته ومجتمعه وكل ما يحيط به من كون وحياة.

 

إن تاريخ الأديان شهد صراعات حادة بين أهل الإيمان، وقد تراوح هذا الصراع تاريخياً بين المناظرات الدينية تأكيداً لكل دين أنه الحق دون غيره، وبين الحرب والقتال رفضاً وعناداً، كما حصل مع اليهود في رفضهم لعيسى (عليه السلام)، ومع المسيحين في رفضهم للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والإسلام، وكما حصل مع المسلمين الذين اختلفوا في دينهم، وتفرقوا شيعاً ومذاهبَ، فكانوا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [180] .

 

والحق يقال: إن أهل الإيمان في تاريخهم لم يعقلوا عن الله تعالى فيما أتاهم من رسل ورسالات، ولم يستوعبوا معنى أن يكون لهم شرائع ومناهج ومناسك تؤهلهم ليكونوا على مستوى الدين، الذي هو الإسلام، هذا فضلاً عما أساؤوا فيه إلى حقيقة خلقهم وتنوعهم، فاتخذوا من ذلك وسيلة للتناحر والصدام، بدلاً من أن يكون ذلك سبيلاً إلى الكمال، بحيث يكونوا عباداً لله تعالى، وليس عبيداً لأرباب منافعهم وأحبار مذاهبهم...!؟

 

نعم، إن الإسلام يُعطي شرعية للآخرين، ويدعوا الناس جميعاً، بما هم عليه من تنوع في الخلق والاعتقاد، إلى التوحد في الإسلام، لأنه الكلمة الكاملة والنهائية في التاريخ الديني، ومن شأن التعارف والتعاون على البر والتقوى أن يؤدي إلى أن يكون الناس تعبيراً عن فطرتهم وشهادتهم التي كانت منهم في عالم كونهم قبل أن يكونوا، ومصداقاً لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [181] . والتقوى هنا ليست مجرد أن يعي الإنسان حقيقة خلقه، بل أن يتقي الله في علمه وعمله ...

 

إن قولنا بأن الإسلام هو الحق، لا يستوجب حتماً أن يكون الآخرون على باطل فيما لو كانوا مستوعبين لحقيقة الخلق والوجود، وللأهداف الكبرى التي خلقوا من أجلها، فالناس جعلوا على هذا التنوع، ودعوا إلى الحوار والتعاون والتعارف لا لأجل أن يستقل كل فريق عن الآخر، وكل دين عن الآخر، وإنما لأجل التعارف واستيعاب مشروعية وجودهم في سبيل الحق، فإذا لم تؤدِّ بهم هذه المشروعية إلى الحق والتكامل، فلا بد أن يتحقق الخسران بحقهم، وهذا ما تم التركيز عليه في مبحث الحوار والخسران في القرآن، حيث رأينا أن الإنسان له قيمة وشرعية الوجود فيما جعل عليه من دين وشريعة، ولكن لكي يحقق الهدف المنشود، ويصل إلى الغاية من وجوده، فلا يسعه إلاّ أن يكون مسلماً، كما كان كل الأنبياء والرسل بحيث يتحقق له تواصله مع الأخرين، ليكون له معنى الإسلام ديناً ودنيا، وبذلك يمكن للإنسان أن يكتسب شرعية الحق، كما اكتسب مشروعية الوجود. أما أن يستقل بنفسه، وفيما اختاره من دين وشريعة، اعتقاداً منه بشرعية ما يراه حقاً وديناً وشريعة، فذلك مما يعتبره الإسلام تحزباً وقولاً بغير علم. كما زعم الكثيرون من أهل الكتاب وغيرهم ممن لا يدينون دين الحق، وقد بين تعالى أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولكن منحهم شرعية الوجود والتنوع، وخلقهم للتراحم فيما بينهم بحيث يؤدون عنه ما أمرهم به ونهاهم عنه للفوز في الدنيا والآخرة، ولإيصال البشر جميعاً إلى مستوى العبودية الحقة، وقد أثبتت التجارب البشرية والدينية على وجه الخصوص، أن أهل الإيمان فيما اعتمدوه من وسائل، وسعوا إليه من أهداف، ولجأوا إليه من نزاعات وحروب بهدف إظهار شرعية وجودهم ودينهم في مقابل الآخرين، لم يفلحوا في شيء من ذلك، وكانت النتيجة تحولهم من كونهم أهل الحق دون سواهم، ليكونوا على تعاون أو تعارض، وفي أحيان كثيرة على اعتراف بالآخر، وهذا ما ساعد كثيراً على بلورة مفاهيم جديدة سبق للأديان أن عبرت عنها، ولكن سوء الفهم، والاستبداد بالرأي، ومخالفة الأنبياء، كل ذلك كان مانعاً من التعقل عن الله تعالى ورسله وأنبيائه، وهذا ما يؤسف له ويعجب منه أنهم عقلوا عن التجربة، ولم يعقلوا عن أمر الله ونهيه، بعد أن تسوروا المحراب، وتجاوزوا دعوة الله تعالى لهم في أن يكونوا إخوة في الإنسانية، إن لم يكونوا إخوة في الدين، كما قال الإمام علي: «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».

 

غاية القول: إن الحوار بين الأديان، في ظل الإسلام، وبوحي منه، له أهداف، وقد من الله تعالى على الإنسان فيما جعله عليه من تمايز في الخلق والوجود، وسخر له السموات والأرض، وجعل له الأرض ذلولاً، وحبب إليه الإيمان، وكره إليه الكفر الفسوق والعصيان، ودعاه إلى دينه وشريعته لعله بذلك يستطيع تجاوز عقبات الحياة، وإيحاءات الشيطان، وملاذ الدنيا وشهواتها، فيتخذ من دين الله تعالى أساساً لرؤيته وحركته لتحقيق تكامله، فإذا لم يكن على مستوى الوعي بالرسل والرسالات، وما تواتر من أنبياء وأئمة يهدون إلى الحق، وإذا لم يتعرّف إلى حقيقة ما جعل عليه من مشروعية فيما قصد به من تنوع في ذات نفسه وفي واقعه، فإنه لن تكون له حقانية الوجود التي خصّها الله بالإسلام والإيمان، باعتباره دين الله تعالى: كما قال: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [182] . وليس معنى أن يكون الإنسان متحققاً بمشروعية الوجود، أن تكون له حقانية الوجود، لقوله تعالى: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [183] ، وكما بيّن الفقهاء أن خسارته في الآخرة، فيما لو تحققت فهي متنوعة أيضاً بما يخص به كل إنسان من امتياز في ضوء ما كان عليه في دنياه، وما اكتسبه من أعمال، وما ابتغاه من دين وشريعة، لأن الله ليس بظلام للعبيد، ومن يفعل خيراً فلن يكفره. وهكذا، فإن الحوار في الأديان له هذا المعنى، أن يتحول الإنسان وفاقاً لأمر الله ونهيه، وأن لا يستقر به الحوار حيث تميز في وجوده واعتقاده، بل عليه أن يتابع الخطى في طريق الله تعالى ليكون من الشاهدين مع الذين أسلموا لله رب العالمين، كما قال الله تعالى: ﴿ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [184] .

 

والحمد لله ربّ العالمين

أنجز هذا الكتاب يوم شهادة الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) الواقع في اليوم الأخير من صفر / 1435 هـ.

الشيخ عارف هنديجاني فرد

 

 

 

المصادر والمراجع

 

 

1- القرآن الكريم.

2- نهج البلاغة.

3- ابن أبي حديد، شرح نهج البلاغة، دار الأندلس، (لا تاريخ).

4- ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار المعارف، مصر، (لا ت).

5- ابن هشام، تحقيق عبد السلام هارون، مؤسسة الرسالة، دمشق، (لا تاريخ).

6- أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين، دار النهار، بيروت، 1994م.

7- الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر، بيروت، (لا ت).

8- الآملي، جوادي، ولاية الإنسان في القرآن، دار الصفوة، بيروت، 1993م.

9- الآملي، جوادي، ولاية الفقيه، دار الهادي، بيروت، 1993م.

10- الإيرواني، باقر، تفسير آيات الأحكام، قم، 1428هـ.

11- البحراني، هاشم، البرهان في تفسير القرآن، دار الهادي، بيروت، 1992م.

12- الحكيم، محمد باقر، علوم القرآن، مؤسسة الهادي، قم، 1419هـ.

13- الخراساني، محمد عدلي كاظم، فوائد الأصول، تقريرات الميرزا النائيني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1409هـ.

14- الخميني، روح الله، مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1996م.

15- الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1974م.

16- الدامغاني، الحسين بن محمد، قاموس القرآن، أو إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، دار العلم للملايين، بيروت، 1985م.

17- الزمخشري، جار الله محمود بن عمر، تفسير الكشاف، دار الكتب العلمية، بيروت، 2009م.

18- الشيرازي، صدر الدين، المبدأ والمعاد، دار المصطفى، قم، 1999م.

19- الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 2007م.

20- الصدوق، أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1993م.

21- الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1991م.

22- الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1415هـ.

23- الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، دار الوفاء، بيروت، (لا ت).

24- الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، مكتبة الإعلام الإسلامي، قم، (لا.ت).

25- الغديري، عيسى إبراهيم، القاموس الجامع للمصطلحات الفقهية، دار المحجة البيضاء، 1998م.

26- الفارابي، أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة، دار المشرق، بيروت، 1986م.

27- الفضلي، عبد الهادي، أصول البحث العلمي، دار المؤرخ العربي، 1992م.

28- الفضلي، عبد الهادي، مدخل إلى علم الكلام، دار الوفاء، بيروت، 1999م.

29- الفيض الكاشاني، محسن بن مرتضى، نوادر الأخبار فيما يتعلق بأصول الدين، مؤسسة مطالعات، قم، 1374هـ.ش.

30- الكتاب المقدس، دار المشرق، بيروت، 1988م.

31- المازندراني، محمد بن علي بن شهر آشوب، متشابه القرآن ومختلفه، انتشارات بيدار، قم، 1410هـ.

32- المسيري، عبد الوهاب، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، القاهرة: 1999م.

33- المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1990م.

34- النشار، علي سامي، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، القاهرة، (لا.ت).

35- اليزدي، محمد تقي المصباح، الإيديولوجية المقارنة، ترجمة الخاقاني عبد المنعم، دار المحجة البيضاء، بيروت، 1992م.

36- اليزدي، محمد تقي المصباح، العقيدة الإسلامية، دار الحق، بيروت، 1993م.

37- اليزدي، محمد تقي المصباح، معارف القرآن، تعريب محمد عبد المنعم الخاقاني، الدار الإسلامية، بيروت، 1983م.

38- إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية، دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي، عالم المعرفة، عدد 183.

39- بسام مرتضى، المسيح بين الإنجيل والقرآن، دار الحق، بيروت، 1994م.

40- جمال الدين المقداد، السيوري، كنز العرفان في تفسير القرآن، قم، 1380هـ.

41- جورج خضر، العلاقات الإسلامية المسيحية، قراءة في الراهن والمستقبل، مركز الدراسات الاستراتجية، بيروت، 1994م.

42- جورج قرم، تعدد الأديان وأنظمة الحكم، دار النهار، بيروت، 1992م.

43- جعيّط، هشام، الفتنة، دار الطليعة، بيروت، 1995م.

44- ديورانت، ول، قصة الحضارة، دار الجيل، بيروت، 1998م.

45- سبحاني، جعفر، سيد المرسلين، دار البيان العربي، بيروت، 1992م.

46- سليم بسترس، كيرلس، الإسلام والمسيحية، مركز الدراسات الاستراتيجية بيروت، 1994م.

47- شريف هاشم، الإسلام والمسيحية، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1982م.

48- شلبي، أحمد، مقارنة الأديان، اليهودية المسيحية، مكتبة النهضة المصرية، ط12، لا تاريخ.

49- شمس الدين، محمد مهدي، الإسلام والغرب، مؤسسة الإمام شمس الدين، بيروت، 2004م.

50- شمس الدين، محمد مهدي، بين الجاهلية والإسلام، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت، 1983م.

51- شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماع السياسي الإسلامي، المؤسسة الدولية للنشر، بيروت، 1999م.

52- عمار بوحوش، مناهج البحث العلمي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1999م.

53- غارودي، روجيه، الأصوليات المعاصرة، دار الفيحاء، باريس، 1992م.

54- فوكوياما، فرنسيس، نهاية التاريخ. ترجمة حسين الشيخ، دار العلوم العربية، بيروت، 1994م.

55- كاظم محمدي، محمد دشتي، المعجم المفهرس لإلفاظ نهج البلاغة، دار الأضواء، بيروت، 1986م.

56- محمود بن شريف، اليهود في القرآن، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1986م.

57- مصطفى، مسلم، معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، دار القلم، دمشق، 1999م.

58- مطهري، مرتضى، الإسلام وإيران، عطاء وإسهام، دار الحق، بيروت، 1993م.

59- مطهري، مرتضى، الإنسان في القرآن، دار التيار الجديد، بيروت، 1993م.

60- مطهري، مرتضى، الإنسان والإيمان، دار التيار الجديد، بيروت، 1985م.

61- مطهري، مرتضى، التوحيد، دار الهادي، بيروت، 1999م.

62- مطهري، مرتضى، المجتمع والتاريخ، دار الهدى، بيروت، 1996م.

63- مطهري، مرتضى، المفهوم التوحيدي للعالم، دار التيار الجديد، بيروت، 1985م.

64- مطهري، مرتضى، الهدف السامي، مكتبة الفقيه، الكتب، 1986م.

65- مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، دار العلم للملايين، بيروت، 1991م.

66- مغنية، محمد جواد، فقه الإمام الصادق، دار التيار الجديد، بيروت، 1984م.

67- مناهج التفسير، جمعية القرآن الكريم، لبنان، 2012م.

68- موريس بوكاي، دراسة الكتب المقدسة، دار الأفكار، بيروت، 1991م.

69- هانتغتون، صموئيل، الإسلام والغرب، آفاق الصدام، ترجمة مجدي شرشر، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995م.

70- هويدي، فهمي، العلاقات الإسلامية المسيحية، مركز الدراسات الاستراتجية، الحوار كما يراه علماء الأزهر، بيروت، 1994م.

71- هيغل، الموسوعة، موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، 1983م.

72- ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، للقاهرة، 1998م.

 

[1] سورة الإسراء، الآية: 9.

[2] سورة الأنعام. الآية: 161.

[3] يرى «هانتغتون»، أن التباينات بين الحضارات ليست حقيقية وحسب، بل إنها أساسية. فالحضارات تختلف عن بعضها البعض بفعل التاريخ واللغة والثقافة والتقاليد، والأكثر أهمية عامل الدين، فأصحاب الحضارات المختلفة يعتنقون معتقدات مختلفة عن العلاقة بين الله والإنسان، وبين الفرد والجماعة، وبين المواطن والدولة... وهذه الاختلافات نتاج عدة قرون، ولن تختفي تلك التباينات في القريب، فهي أكثر أصولية من الاختلافات بين الإيديولوجيات والأنظمة السياسية، وتعني الاختلافات وقوع التصادم فعلاً ولا يعني الصدام حدوث عنف بالضرورة؛ ومع ذلك، وعلى مدار قرون ولدت الاختلافات بين الحضارات أكثر الصراعات طويلة الأمد وأشدّها عنفاً.

را: هانتغتون، صموئيل، الإسلام والغرب، آفاق الصدام، ترجمة مجدي شرشر، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 1995، ص12.

[4] را: فوكوياما، فرنسيس، نهاية التاريخ، ترجمة الدكتور حسين الشيخ، دار العلوم العربية، بيروت، ط1994، ص165.

[5] را: عمار، بوحوش، مناهج البحث العلمي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1999، ص103.

[6] انظر الفارابي، أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة، دار المشرق، بيروت، 1986، ص117، وقال: مع الملاّ صدرا، المبدأ والمعاد، دار المصطفى، بيروت، 1999، ص365.

[7] سورة البقرة، الآية: 148.

[8] سورة الحج، الآية: 40.

[9] سورة الأنفال، الآية: 24.

[10] يرى العلامة الطباطبائي أن تشريع القتال في الإسلام، إنّما هو لحفظ المجتمع الديني من شرّ أعداء الدين المهتمّين بإطفاء نور الله، فلولا ذلك لانهدمت المعابد الدينية والمشاعر الإلهية ونسخت العبادات والمناسك.

را: تفسير الميزان، م. س، ج14، ص387.

[11] را: السيد محمد مصطفى، خارطة المفاهيم القرآنية، دمشق، 2011، ط1، ص35.

[12] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م.س، ج4، ص387.

[13] سورة الروم، الآية: 30.

[14] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م.س، ج16، ص183.

[15] الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، م، س، الخطبة: 62.

[16] سورة المائدة، الآية: 48.

[17] سورة البقرة، الآية: 148.

[18] مطهري، مرتضى، المجتمع والتاريخ، م، س، ص47.

[19] سورة الأنعام، الآية: 124.

[20] سورة المائدة، الآية: 75.

[21] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م. س، ج3، ص133.

[22] سورة البقرة، الآية: 113.

[23] سورة المؤمنون، الآية: 53.

[24] قال الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾ [المائدة: 3] .

[25] سورة البقرة، الآيات: 40 ، 47، 122.

[26] سورة آل عمران، الآية: 199.

[27] سورة المائدة، الآية: 51.

[28] قال الله تعالى: ﴿  قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الجمعة: 6] .

[29] سورة البقرة، الآيتان: 108 ـ 109.

[30] سورة البقرة، الآيتان: 40 ـ 41.

[31] قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 118] . فالذين لا يعلمون وتمادوا في العناد من أهل مكة قالوا لرسول الله ﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعاً ﴾ ﴿ .. أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ ... ﴾ واليهود قالوا لموسى ﴿ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ﴾، وقالت النصارى لعيسى : ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ﴾. وهكذا تشابهت القلوب في الزمان والتاريخ والإنسان..!؟

[32] قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 33] ، قوله يُضاهئون يشابهون، والمعنى أن قول اليهود والنصارى يشبه قول المشركين العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله وقول الوثنيين من قدامى الرومان واليونان والبوذيين وغيرهم...

انظر: مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، م. س، ج1، ص33.

[33] سورة آل عمران، الآية: 183.

[34] يقول غارودي: «إنّ الله، في القرآن كما في التوراة والإنجيل، يكلّم الإنسان في التاريخ، وإنّ كبار المفسّرين للقرآن يذكرون الظروف التاريخية التي نزلت فيها كل آية، والمقصود هو جواب عيني من الله عن مسألة كانت أمة النبي تطرحها عليه. إن هذه التاريخانية لا تنقص من قيمة الرسالة الشمولية والأبدية، فكل تنزيل من تنزلات الأزلي في التاريخ، يتضمن مبدأ عمل صالح لكل الشعوب وكل العصور ولكنه يرتدي شكلاً خاصاً مرتبطاً بظروف هذا العصر وهذا البلد.

را: غارودي، روجيه، الأصوليات المعاصرة، دار الفيحاء، باريس، ط1، 1992، ص88.

[35] جاء في البرهان، محمد بن الأرقط، عن أبي عبد الله : قال لي تنزل الكوفة؟ قلت نعم، قال: فترون قتلة الحسين بين أظهركم؟ قال: قلت جعلت فداك ما رأيت أحداً منهم، قال: فإذا أنت لا ترى القاتل إلاّ مَن قتل أو مَن ولي القتل ألم تسمع إلى قول الله تعالى: ﴿  قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 183] ، قال فكان بين الذين خوطبوا بهذا القول وبين القائلين خمسماية سنة فسمّاهم الله قاتلين برضاهم بما صنع أولئك، إذ لم يكن بين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعيسى (عليه السلام) رسول، إنما رضوا مثل أولئك فسمّوا قاتلين.

را: البحراني، هاشم، البرهان في تفسير القرآن، دار الهادي، بيروت، ط4، 1992، ج1، ص328.

[36] من هذه النعم، كثرة الأنبياء فيهم، وتشريفهم بالتوراة والزبور، وتحريرهم من فرعون، ونجاتهم من الغرق، وإعطاؤهم المُلك والسلطان في عهد سليمان، وغير ذلك مما يستوجب الإيمان، والشكر وعدم الجحود والكفر.

[37] سورة البقرة، الآية: 41.

[38] سورة النساء، الآية: 162.

[39] سورة البقرة، الآية: 120.

[40] قوله تعالى: ﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ يختزن مدلولات كثيرة عن اليهود والنصارى، فهو فضلاً عمّا يرشد إليه من حالات نفسية وعصبية، يفيد أيضاً أنه لا يجوز إرضاء اليهود والنصارى بحال من الأحوال، لأنه تعالى علّق رضاهم بأن يصير الإنسان يهودياً أو نصرانياً، وإذا استحال ذلك استحال رضاؤهم، وهذا هو مفاد قوله تعالى: ﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111] .

[41] سورة البقرة، الآية: 90.

[42] سورة البقرة، الآية: 96.

[43] يقول غارودي: «باختصار، إنّ كل آية في القرآن هي حوار إلهي عن مسألة ملموسة... وهذا لا يُلقي الشكّ إطلاقاً على الطابع الإلهي للتنزيل هذا.. فجواب مسألة تاريخية هو من وحي إلهي...، هو قدوة وليس مادة مجرّدة.

را: غارودي، الأصوليات المعاصرة، م. س، ص93 ـ 94.

[44] انظر: مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، م. س، ج1، ص159.

[45] سورة الجمعة، الآيتان: 6 ـ 7.

[46] سورة المائدة، الآية: 51.

[47] را: جوادي آملي، عبد الله، ولاية الفقيه، دار الهادي، بيروت، ط1، 1993، ص24.

[48] سورة آل عمران، الآية: 65.

[49] سورة آل عمران، الآية: 70.

[50] سورة آل عمران، الآية: 71.

[51] سورة آل عمران، الآية: 99.

[52] سورة المائدة، الآية: 15.

[53] سورة المائدة، الآية: 51.

[54] سورة المائدة، الآية: 51.

[55] سورة المائدة، الآية: 82.

[56] يقول العلاّمة الطباطبائي(ره): «لقد تمّ الكلام في أن النصارى هم أكثر الأمم مودة للمسلمين وأسمع لدعوتهم... وإنّما عدّهم الله سبحانه أقرب مودّة للمسلمين لما وقع من إيمان طائفة منهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ﴾، لكن لو كان إيمان طائفة يرجح هذه النسبة إلى جميعهم كان من الواجب أن تعدّ اليهود والمشركين كمثل النصارى... لمكان أن ينسب إسلام طائفة من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، وإسلام عدة من مشركي العرب وهم عامة المسلمين اليوم، فتخصيص النصارى بمثل قوله: ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ ... ﴾، دون اليهود والمشركين يدلّ على حسن إقبالهم على الدعوة الإسلامية، وإجابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنهم على خيار بين أن يقيموا على دينهم ويؤدّوا الجزية، وبين أن يقبلوا الإسلام،، أو يحاربوا، وهذا بخلاف المشركين، فإنّهم لم يكن يقبل منهم إلاّ قبول الدعوة، فكثرة المؤمنين منهم لا يدلّ على حسن الإجابة، على ما كابد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جفوتهم ولاقاه المسلمون على أيديهم من قسوة وغلظة... كما أن من جملة العلل التي بيّنها الله سبحانه قرب النصارى من قبول الدعوة الحقّة بأنّ فيهم قسّيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون... أما اليهود، فقد استكبروا، ومثلهم المشركون..

را: الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، م. س، ج7، ص80 ـ 81، ولا شكّ في أن كلام الطباطبائي في تفسير مودّة النصارى يحتاج إلى مزيد تأمّل وتدبّر...

[57] سورة البقرة، الآية: 256.

[58] الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، الكتاب: 35.

[59] سورة الإسراء، الآية: 70.

[60] سورة الحجرات، الآية: 13.

[61] سورة التين، الآيات: 4 ـ 6.

[62] يقول العلاّمة آملي: «إن هذا الحديث حق إذا لم يكن له سند فهو كلام صحيح، لأن الناس ما داموا لا يؤذون ولايقتلون ولا يشرّد بعضهم بعضاً يعتبرون أخوة».

را:، آملي، عبد الله، ولاية الفقيه، م. س، ص265.

[63] انظر: سبحاني، جعفر، سيرة سيّد المرسلين، م. س، ج1، ص476.

[64] سورة آل عمران، الآية: 64.

[65] سورة طه، الآية: 111.

[66] سورة الممتحنة، الآيتان: 8 ـ 9.

[67] سورة الأحزاب، الآية: 62.

[68] سورة يونس، الآيتان: 102 ـ 103.

[69] سورة الأعراف، الآية: 172.

[70] سورة الأعراف، الآية: 129.

[71] سورة الحجرات، الآية: 13.

[72] سورة الحج، الآية: 40.

[73] انظر: شمس الدين، محمد مهدي، الإسلام والغرب، مؤسسة الإمام شمس الدين، بيروت، ط1، 2004، ص100 ـ 101.

[74] سورة البقرة، الآية95.

[75] سورة البقرة، الآية: 120.

[76] سورة المطففين، الآية: 26.

[77] سورة المؤمنون، الآية: 71.

[78] انظر: المطران، كيرلس بسترس، العلاقات الإسلامية المسيحية، م. س، ص257.

[79] سورة المائدة، الآية: 44. فالآية نزلت في بني إسرائيل، ولكن المورد لا يخصص الوارد بمقتضى القاعدة الأصولية.

[80] يقول المطران خضر: ثم كيف تنطبق تسمية النصارى على المسيحيين وكتاب هؤلاء يقول: وفي أنطاكية سمي التلاميذ أول مرة مسيحيين»، (أعمال الرسل 11؛ 26) وذلك في النصف الأول من القرن الميلادي الأول، وإذا بقيت تسمية «الناصرين» شائعة في القرن الثاني هنا، وثمة في بلاد الشام... فإذا صحّت نظريتنا يكون مسيحييو اليوم غير معنيّين بما يقوله القرآن عن النصارى إلا بما كان مشتركاً بينهما، هذا ما يجب تبيانه عند كل آية، فالحجة، لا يمكن أن تذهب هكذا: أنتم المسلمين تقولون كذا وكذا لأن القرآن يقول عنّا، كذا، ولكن الاستدلال هو هكذا: إذا كنتم أنتم المسلمين تقولون كذا وكذا تكونون المقصودين في القرآن. المسلمة ليست تالياً، النصارى هم المسيحيون. وهذا قول المفسرين الذين كتبوا جميعاً في بلاد الفتح وشاهدوا المسيحيين واستنتجوا أنه لا بدّ لهم أن يكونوا هم النصارى المذكورين في التنزيل القرآني.

را: جورج خضر، العلاقات الإسلامية المسيحية، م. س، ص215.

[81] سورة البقرة، الآية: 105.

[82] سورة العنكبوت، الآية: 46.

[83] سورة البقرة، الآية: 120.

[84] سورة آل عمران، الآية: 85.

[85] سورة المائدة، الآية: 82.

[86] سورة البقرة، الآية: 41.

[87] سورة البقرة، الآية: 108.

[88] سورة التوبة، الآية: 30.

[89] الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 2007، ج5، ص193.

[90] سورة التوبة، الآية: 29.

[91] سورة الحج، الآية: 30.

[92] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م. س، ج9، ص249.

[93] الزمخشري، جار الله محمود بن عمر، الكشاف، م. س، ج2، ص554.

[94] الطوسي، محمد بن حسن، التبيان في تفسير القرآن، مكتبة الإعلام الإسلامي، قم، ج5، ص202.

[95] الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ج5، ص40.

[96] الزمخشري، الكشاف، م. س، ج2، ص254.

[97] الطباطبائي، تفسير الميزان، م. س، ج9، ص250.

[98] الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل، م. س، ج5، ص193.

[99] نقول: لعل التحالف مع المشركين والتآمر على المسلمين من المشركين وأهل الكتاب كان سبباً للأمر بقتالهم، وهذا ما نرى فيه حكماً خاصاً، هذا رأي مغنية.

[100] سورة البقرة، الآية: 190.

[101] سورة البقرة، الآية: 193.

[102] شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماعي السياسي الإسلامي، المؤسسة الدولية، بيروت، ط2، 1999، ص105.

[103] سورة النساء، الآية: 91.

[104] يقول معنية: «إن محور سورة التوبة يقوم على غزوة تبوك... وقد بلغ النبي أن الروم، وهم في الشام على أطراف الجزيرة يجمعون الجيوش للانقضاض على الإسلام وأهله، وكانت كل القرائن والدلائل تؤكّد أن أهل الكتاب في الجزيرة كانوا عيناً وعوناً للروم النصارى على المسلمين، وأنهم يتآمرون معهم على النبي ومن اتبعه من المؤمنين، ومن أجل هذا كان الحكم فيهم القتل أو إلقاء السلاح والخضوع لحكم الإسلام مع إعطاء الجزية...

را: مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، م. س، ج4، ص32.

[105] سورة الممتحنة، الآيتان: 8 ـ 9.

[106] سورة الأنفال، الآية: 61.

[107] شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماع السياسي، م. س، ص105.

[108] را: الأيرواني، باقر، تفسير آيات الاحكام، قم، ط3، 1428هـ، ج1، ص242.

[109] را: عبد الله السيوري، جمال الدين المقداد، كنز العرفان في تفسير القرآن، قم، 1380، ط2، ص316.

[110] مغنية، محمد جواد، فقه الإمام الصادق ، دار التيار الجديد، بيروت، ط5، 1984، ج2، ص263.

[111] بسترس، كيرلس، العلاقات المسيحية الإسلامية، مركز الدراسات الاستراتيجية، م. س، ص267.

[112] سورة البقرة، الآية: 193.

[113] يرى السيد الخوئي في البيان، أن الآيات القرآنية الآمرة بالقتال إنما وردت في جهاد المشركين... وأما أهل الكتاب فلا يجوز قتالهم إلاّ مع وجود سبب آخر من قتالهم للمسلمين، لقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 256] . وكلام السيد جاء في سياق الردّ على مَن ذهب إلى القول بأن قوله تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾. [البقرة، الآية: 109] قد نسخ بآية السيف، حيث روي عن ابن عباس وقتادة والسعدي، ذلك واختاره أبو جعفر النحاس، وآية السيف هي قوله تعالى: ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 129] ، وقد ناقش السيد الخوئي هذا الرأي مبيناً أنه لا يمكن القول بنسخ الآية الأولى بالآية الثانية، لأنّ الالتزام بالنسخ هنا، كما يرى السيد يتوقف على الالتزام بأمرين فاسدين، الأول: أن يكون ارتفاع الحكم الموقت بانتهاء وقته نسخاً، وهذا واضح الفساد، فإن النسخ إنما يكون في الحكم الذي لم يصرح فيه لا بالتوقيت ولا بالتأييد... فالنسخ هو رفع الحكم الثابت الظاهر بمقتضى الإطلاق في الدوام وعدم اختصاص بزمان مخصوص، وعلى هذا الأساس يكون دور الآية، آية السيف بيان الوقت والغاية للحكم المذكور في الآية الأولى دون أن تكون ناسخة له.

أما الثاني، فهذا أن يكون أهل الكتاب ممن أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتالهم، وذلك باطل؛ فآية السيف لا تأمر بقتال أهل الكتاب بشكل مطلق حتى تصبح معارضة لآية الصفح، وإنما هي تأمر بقتالهم عند عدم دفع الجزية. وعليه، فإنه لا يجوز قتال أهل الكتاب فيما لو لم يبدأوا بقتال، أو لم يحدثوا الفتنة التي هي أشدّ من القتل، أو لم يمتنعوا عن إعطاء الجزية، فإذا لم يأتوا بشيء من ذلك، فإنه يكتفي بالصفح والعفو عنهم كما جاء في آية الصفح المدعى نسخها، فتكون الآية الثانية مقيدة لإطلاق الأولى لا ناسخة لها.

را: الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1974، ص289. وقا: مع الحكيم، محمد باقر، علوم القرآن، مؤسسة الهادي، قم، ج1، ص208. فالسيد الحكيم يعقّب على رأي السيد الخوئي، ويقول بقيد آية السيف لإطلاق آية الصفح، هنا تبدو لنا أهمية علم الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيّد في علوم القرآن، وهنا يطرح التساؤل الكبير حول مذاهب من قال بالنسخ لآية، وهي ليست كذلك!!!

[114] سورة البقرة، الآية: 256.

[115] سورة يونس، الآية: 99.

[116] سورة البقرة، الآية: 216.

[117] قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83] .

[118] سورة المائدة، الآية: 82.

[119] انظر: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، ج6، ص79.

[120] سورة البقرة، الآية: 105.

[121] سورة البقرة، الآية: 99.

[122] انظر: الزمخشري، الكشاف، م. س، ج1، ص171، وقا: مع الطباطبائي، الميزان، ج1، ص228.

[123] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص. ن.

[124] الزمخشري، الكشاف، م. س، ج1، ص171.

[125] يقول الراغب الأصفهاني: «الفسق أعم من الكفر، والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير ولكن تعورف فيما كان كثيراً... وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق، فلأنه أضلّ بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة، قال الله تعالى: ﴿ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ [الكهف: 50] . فالفاسق أعم من الكافر، والظالم أعمّ من الفاسق...».

را: معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر، بيروت، لا ت، ص394. وقا: مع ابن منظور في لسان العرب، دار المعارف، مصر، لا ـ ت) ج5، ص3414.

[126] سورة السجدة، الآية: 18.

[127] سورة الأنفال، الآية: 60.

[128] جاء في لسان العرب عن أهل العلم أن الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار بألا يعرف الله أصلاً، ولا يعترف به، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق، من لقيَ ربه بشيء من ذلك لم يغفر له، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء».

را: لسان العرب، م. س، ج5، ص3898. وقا: مع: الدامغاني، قاموس القرآن، م. س، ص115.

[129] سورة الأنبياء، الآية: 107.

[130] سورة الأنعام، الآية: 19.

[131] الكفر أنواع: هناك كفر الحجود، وهو إنكار وجود الله تعالى، وكفر بالألوهية، كأن يعتقد المرء بأن الله موجود إلاّ أنه ليس بإله، وهناك كفر بالوحدانية، كأن يعتقد أن الله ليس بواحد، وهذا هو الشرك. وهناك الكفر بالنبوّة أو المعاد، بأن لا يعتقد بهما. والكفر بكل ضرورة يؤدي بها إلى إنكار رسالة محمد ، وهناك الارتداد، المرتدّ الفطري، والمرتدّ الملّي، ثم الكفر بالنعمة، ثم كفر البراءة.

انظر: الشيخ الغديري، عيسى إبراهيم، القاموس الجامع للمصطلحات الفقهية، دار المحجة البيضاء، ط1، 1998، ص482.

[132] را: ابن منظور، لسان العرب، م. س، ص2404.

[133] سورة البقرة، الآية: 101.

[134] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م. س، ج6، ص79.

[135] سورة البقرة، الآية: 190.

[136] سورة البقرة، الآية: 193.

[137] سورة البقرة، الآية: 256.

[138] سورة الذاريات، الآية: 56.

[139] قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13] .

[140] سورة البقرة، الآية: 21.

[141] لقد اعتمد هذا المنهج الأستاذ الخولي المصري في كتابه «التفسير البياني للقرآن الكريم» وهو منهج بديع يشبه منهج الطباطبائي من حيث الموضوعية، وتفسير القرآن بالقرآن، والنقطة البارزة في هذا المنهج هي استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده في القرآن.

انظر: مناهج التفسير، جمعية القرآن الكريم للتوجيه، لبنان، ط1، 2012، ص142.

[142] قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19] .

[143] سورة آل عمران، الآية: 85.

[144] سورة آل عمران، الآية: 64.

[145] سورة البقرة، الآية: 132.

[146] سورة يونس، الآية: 73.

[147] سورة آل عمران، الآية: 19.

[148] إن ظاهر قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ ظاهر أنه ما أرسل نبي من الأنبياء إلاّ وكانت أصول الإيمان بالله تعالى وتوحيده، والوحي والبعث، وهي أصول لا تتبدل، ولا تعدّل، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد...».

[149] روي عن رسول الله أنه قال: «أصل ديني العقل». والإسلام يرتكز على الألوهية والنبوة، ومنهما تنبع تعاليمه وأحكامه، والسبيل إلى معرفتها، هو العقل، وقد بين علماء العقيدة أن الله يُعرف بالعقل عن طريق الكون وآياته، والنبي يُعرف بالعقل عن طريق المعجزة.

را: مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، م.س، ج1، ص47.

[150] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان، م.س، ج3، ص139.

[151] م. ع، ص140.

[152] مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، م.س، ج3، ص27.

[153] سورة آل عمران، الآية: 84.

[154] سورة آل عمران، الآية: 85.

[155] سورة النساء، الآية: 150.

[156] سورة النساء، الآية: 152.

[157] سورة الحج، الآية: 11.

[158] سورة المائدة، الآية: 5.

[159] الطباطبائي، تفسير الميزان، م.س، ج3، ص140.

[160] سورة آل عمران، الآية: 19.

[161] الطباطبائي، م.س، ج6، ص210 ـ 211.

[162] سورة الرعد، الآية: 40.

[163] شمس الدين، محمد مهدي، المسيحية في المفهوم الثقافي الإسلامي المعاصر، الإسلام والغرب، م.س، ص43.

[164] الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، دار الوفاء، بيروت، ج2، (لا ـ ت). ص408.

[165] سورة آل عمران، الآيتان: 18 ـ 20.

[166] الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، م.س، الكتاب12.

[167] سورة آل عمران، الآية: 84.

[168] انظر: الخراساني، محمد عدلي كاظمي، فوائد الأصول، تقريران الميرزا النائيني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1409، ج1، ص3.

[169] سورة آل عمران، الآية: 20.

[170] سورة البقرة، الآية: 137.

[171] سورة البقرة، الآية: 111.

[172] سورة الإسراء، الآية: 71.

[173] سورة طه، الآية: 82.

[174] إن الدين المقبول عند الله هو الإسلام المهيمن على كل الأديان، والذي انتمى إليه كل الأنبياء، وهذا الاسلام هو أشبه ما يكون بالمرحلة الدراسية العليا التي لا تكون إلا بعد دراسة مقدمات ومراحل يعبرها الطالب. فإذا جرى الامتحان، فإنه يجري بما انتهى إليه الطالب ليفوز بالنجاح، وهذا لا يعني أنه لا قيمة للمراحل العلمية التي قطعها، بل لها قيمة، وقيمتها تكمن في كونها مستوعبة في الدراسة النهائية؛ إلاّ أنه لا يقبل للنجاح والفوز إلا دراسة الدروس والكتب المقررة في المرحلة النهائية. وهكذا الإسلام، فهو الكلمة والكتاب النهائي ولا بد من الفوز بعد النجاح فيه، وهذا هو مفاد وظاهر قوله تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة: 48] .

[175] الطباطبائي، الميزان، م. س، ج4، ص157.

[176] سورة آل عمران، الآيتان: 56 ـ 57.

[177] سورة الأنفال، الآية: 60.

[178] سورة آل عمران، الآية: 64.

[179] قد يتساءل بعض الباحثين عما نعنيه بالمشروعية والحقانية في مجال التنوع في الخلق والعقائد، فنقول: إن الإسلام بين أن النجاة والفوز المبين إنما يكون بالإسلام والإيمان، هذا على مستوى الرؤية الفقهية، حيث ذهب الفقهاء إلى القول بأن كل شيء ما عدا الإسلام فهو باطل، لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال. أما على مستوى الكلام والفلسفة، فقد يُقال: إن التنوعات كلها حقائق، أو فيها أباطيل وفيها حقائق، لأن علم الكلام يلحظ الغاية في الوجود، ويقسم الكائنات إلى كائنات مختارة، وكائنات غير مختارة، كالسماوات والأرض وسائر ما خلق الله تعالى، وكل ما هو غير مختار في الخلق، فهو، وإن كان له مشروعية الوجود من حيث كونه غير مختار، له حقانية الوجود أيضاً تماماً كما له مشروعية الوجود لأنه لا يملك إرادة أن يكون عاصياً، كما قال الله تعالى في شأن الملائكة: ﴿ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾. لذا، فإن التساؤل إنما يطال من هو في دائرة الاختيار باعتباره مكلفاً في تنوعه أن يكون هادفاً تماماً كما حال المخلوق غير المختار الذي يقوم بفعليته طوعاً أو كرهاً، كما قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11] . إن كل مخلوق ميسر لما خلق له، وفيما جعل عليه من تنوع، وقد شاء الله تعالى أن يكون الإنسان خليفة له، وهو ميسر لما خلق له في تنوعه، وبما أنه يملك إرادة الاختيار، وتلقى من ربه كلمات، فلا يسعه إلاّ أن يكون مستوفياً لشروط حقانية الوجود حتى لا يكون من الخاسرين، وهذا ما يمتاز به الإنسان فيما خص به من تكوين وتشريع عن سائر المخلوقات، وهو مسؤول عن هذا الاختيار طالما أنه حمل الأمانة وقام بأعباء الخلافة... وهذا هو مؤدى قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾.

[180] سورة الروم، الآية: 32.

[181] سورة البقرة، الآية: 21.

[182] سورة آل عمران، الآية: 19.

[183] سورة آل عمران، الآية: 85.

 

[184] سورة البقرة، الآية: 131.

ال

 

 

أولاً : المنهج القويم وثوابت الحوار

 

 

قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ... ﴾ [1] .
إنّ القوامية في الحياة هي شرط نجاح كل مشروع يستهدف سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. ولعل التفسير الأقرب، وقد يكون الأنسب للقوامية هنا، هو المنهجية القويمة التي لا بدّ من اتباعها في سبيل إحقاق حق وإزهاق باطل، وكما يُلاحظ أيضاً أن أقوم تأتي على وزن أفعل التي تفيد الجزم في أن أحداً لا يأتي بمثل هذه المنهجيّة لكونها صادرة عن الله تعالى العالِم بما يصلح العباد والبلاد، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [2] فأقوم تعني أنه يمكن أن يأتي الإنسان بشيء فيه الحياة والسلامة، ولكن الحياة القصوى، فيما تحتاج إليه من مشاريع حياة، ونماذج خلاص، لا تكون إلاّ من خلال القرآن الهادي إلى أقصى ما يمكن أن يحقق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، وقد أجمع المفسرون على أن أقوم هي أفعل تفضيل بمعنى الأكثر ثباتاً واعتدالاً واستقامة، فيكون المعنى أن القرآن أقوم مما يهدي إليه غيره من الكتب، كما يرى العلامة الطباطبائي، ويمثل أقصر الطرق وأفضل طرق الاستقامة والثبات والهداية كما يرى آية الله مكارم الشيرازي في تفسير الأمثل.

وطالما أن حديثنا في هذا الفصل يتناول حوار الأديان في القرآن، فإنّ مقتضى هذا البحث أن تكون له منهجيته القرآنية للكشف عمّا يعنيه حوار الأديان، وهل هو حوار فعلاً؟ أم أنه صِدام؟ كما ذهب هانتغتون في صدام الحضارات [3] ، أو كما نقل فوكوياما في نهاية التاريخ [4] ، إلى غير ذلك من النظريات التي ذهبت إلى القول بأن القرآن لا يستبطن نظريّة حوارية، بل يدعو إلى الحرب والجهاد، وإلى إعداد القوّة لترهيب الناس، وقد بينّا في تمهيدنا السابق مختصر القول في مزاعم هؤلاء، ومدى ما هم عليه من خطأ في الرؤية والمنهج، إذ إنّ أقلّ ما يقال في هؤلاء أنهم وقعوا في التباس، ولم يهتدوا إلى المنهجيّة القويمة التي تسمح لهم بإطلاق الحكم في مجال الحوار القرآني. ولا شكّ في أنّ اختلاف المناهج يختلف باختلاف الرؤى والأهداف، والمنهج، كما يرى الباحثون، هو الطريق المؤدّي إلى الغرض المطلوب من خلال دراسة المصاعب... ويعني في الفكر العلمي المعاصر الطريق المؤدّي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل وتحدّد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة... وبشكل عام، فإنّ المنهج العلمي يمكن وصفه بأنّه فنّ التنظيم الصحيح لسلسلة الأفكار العديدة، إمّا من أجل الكشف عن الحقيقة، حين نكون بها جاهلين، أو من أجل البرهنة عليها للآخرين حين نكون بها عارفين.. [5] .

كما سبق الكلام أيضاً أن التنوع والتعدد هو سمة الخلق في الدنيا والآخرة، بل هو حقيقة كونية لا شكّ فيها، وأن التعدّد والتنوّع مثلما أنه قائم موجود في عوالم الوجود كلها، وهو ظاهر في عالم النبات والحيوان والإنسان، بل هو، كما يرى العلماء، معجزة الله في خلقه، وهو من مظاهر الإبداع والإعجاز في الخلق والتكوين، ومثلما أن هذا التنوّع ظاهر في الكائنات، فهو ظاهر أيضاً في خلق الإنسان، في شكله ولونه ولغته، إضافة إلى عواطفه وأحاسيسه ومشاعره وأفكاره، وهذا يقتضي حتماً أن يكون الإنسان متنوعاً في رؤيته وعقيدته، هذا، فضلاً عن كونه مفطوراً على أنه محتاج، ولا يستقلّ بنفسه، كما بيّن الفلاسفة في مدنهم الفاضلة [6] . لذا، فإن منهجية البحث العلمي تقتضي ملاحظة ما فطر عليه الإنسان، سواء في تنوعه من حيث الشكل، أم من حيث المضمون، ناهيك عمّا خصّ به الإنسان من تنوّع في المهمات والوظائف، باعتبار أنه لا يعقل أن نبحث فيما خصّ به الإنسان من حوار وتفاعل ديني وإنساني بمعزل عن السنن الكونية والاجتماعية الحاكمة لحركة الإنسان.

إنّ دراسة الحوار في القرآن، لا بدّ أن ترتكز إلى القواعد العامة، والثوابت القائمة في عالم الخلق والوجود، كيما يتسنّى للباحث أن ينتهي إلى فكرة واضحة عن الحوار، بحيث يكون له رأيه المنسجم مع هذه الثوابت، فلو كان القرآن يدعو إلى الصدام، وإلى أن يكون الناس في صراع ونزاع لما جاءت النصوص الإلهية تدعو إلى التسابق بالخيرات، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ... ﴾  [7] .

ثم إنّه ما معنى أن يكون الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا؟ فهل لذلك من معنى غير أن القرآن يدعو إلى التعارف والتلاقي من منطلق أنهم مختلفون، ومتنوعون، ولا بدّ أن ينتهوا في ظلّ هذا التنوّع إلى تكاملهم لما تقدّم ذكره من أنّ التكامل معلول للاستباق، وهذه هي أهم ثابتة يمكن الانطلاق منها في تأسيس وترشيد عمليات العقل لاستخلاص الموقف الإسلامي اتجاه قضية الحوار.

فالقول بأن القرآن يدعو إلى الصدام والصراع، هو قول مخالف لما جاء به القرآن، لأنه يضرب أهمّ ما فطر عليه الإنسان من تمايز وتنوّع، ويؤسّس لعلاقات صراعية بين البشر على قاعدة أن البقاء للأقوى، هذا فضلاً عمّا تؤسّس له من شرائع وقوانين مخالفة لما فطر عليه الإنسان في أصل وجوده، وقد عهد الإنسان في تاريخه هذه الشرائع الجائرة المسمّاة بشريعة الغاب التي يكون فيها الإنسان رهين القوّة والفوضى... وأسير العصبيّة، والعرقية، والحزبية التي تحوّل الإنسان إلى شيطان في أفكاره وسلوكه وعقيدته...!؟

كما أنّ من القواعد والثوابت التي يُركن إليها في حقيقة الحوار القرآني، هي ما يمكن تسميته بنظرية الدفع في القرآن، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً ... ﴾ [8] . إذ إنّ هذه الآية تؤسس لثابتة حوارية باعتبارها سنّة فطريّة هادفة إلى إحياء الإنسان بالدفع القائم أساساً على ملاحظة حقيقة التنوّع والاختلاف بين البشر، فلو كان معنى الدفع هو الصدام لما قال الله تعالى: تعاونوا، وتعارفوا، وتسابقوا، وسارعوا، إلى غير ذلك من مفردات قرآنية يمكن تفسيرها في إطار ثوابت الخلق وما جعلت عليه الكائنات من تميّز وتنوّع في الظاهر والباطن. ولهذا، فإنه يمكن الاستفادة من الدفع القرآني في تظهير معنى الحوار باعتباره أصلاً من الأصول التي لا بدّ من قيام الناس به في ضوء ما أمر الله به ونهى عنه لتكون لهم الحياة، كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ... ﴾ [9] .

أما الصدام الحضاري، فهو على خلاف ذلك تماماً فهو مبنيٌّ أصلاً على تجاهل الهدف من الخلق والوجود، ونقول تجاهل بهدف البرهنة على هذه الحقيقة، لا بهدف الكشف عنها، لأنها ظاهرة محسوسة، وقد تجاهلها الكثيرون في بحوثهم الحضارية والإنسانية رغبة منهم في إثارة الصدام بين البشر، وتعزيز روح الانقسام على النحو الذي يؤدي إلى أن يكون الناس على تناقض فيما يقومون به من وظائف، وفيما يؤدّونه من أعمال، وفيما يلتزمون به من قضايا في الفكر والعقيدة والأخلاق.

والتدافع، كما نلاحظ في سياق الآية، يأتي بلحاظ كون الإنسان واعياً بأهداف الخلق، ومنتمياً إلى الله تعالى فيما يصدر عنه من رأي، أو مجادلة مع الآخرين، سواء أكانوا مؤمنين أم كافرين، ولعلّ هذا ما يُستفاد من الأسبقية التاريخية التي تلحظها الآية المباركة: إذ إنّ المُعطى الديني هو الأساس في الحوار، وإذا كان ثمّة أبعاد أخرى للتحاور، فهي إنّما تأتي بالتبع، ومن شأن التدافع أن يُجلّي هذا المعنى الديني من خلال الحوار، فيكون الهدف هو حماية الدين والعقيدة والشريعة التي ينتمي إليها الإنسان [10] . أما أن يُقال بأنّ الصدام الحضاري تفرضه طبيعة البشر فيما يختلفون فيه إلى حدّ التناقض، فذلك ليس من الدين في شيء، سواء أكان الدين آتياً بالمعنى الفطري، أم آتياً في سياق النظرية الدينية التي يصدر عنها الإنسان في جميع شؤونه. فإذا كان المعنى الديني، بما هو أساس في نظرية التدافع، يفرض الاختلاف على البشر بلحاظ كونهم ينتمون إلى شرائع مختلفة [11] ، فذلك لا يصلح لأن يكون دليلاً على الصدام الثقافي والحضاري، وقبل ذلك الديني، لأنّ الإنسان، كما بينّا، بحكم انتمائه إلى الدين، ينبغي عليه أن يكون مستوعباً لهدفيّة الخلق وما تفترضه من تكامل في صيرورة التحولات الإيمانية والإنسانية، وهذا هو معنى أن يتدافع البشر في طريق الخير والحق والعدل، فلا يكون التدافع مانعاً من ذلك لكونه يأتي في سياق الرؤية الدينية والسنن الفطرية.

ولهذا، فإنّ ما تقتضيه منهجية الدين أولاً وقبل كل شيء، أن يكون الإنسان قائماً بالأمر الإلهي على النحو الذي يمكّنه من السير في طريق التكامل، وهذا ما تفيده دلالة السياق في الآية المباركة كونها لحظت الصوامع والبيع والصلوات والمساجد، ما يؤكّد لنا أن النظرية الدينية سبيلها التدافع وليس الصدام، الاستباق وليس التقاتل.

وإذا كان لا بدّ من القتال والتقاتل، فإنّه آخر ما يتوسّل إليه من الدفع إذا لم ينجح غيره من قبيل آخر الدواء الكيّ، وكما يقول العلامة الطباطبائي: «ففيه إقدام على فناء البعض لبقاء البعض وتحمّل المشقّة في سبيل راحة سنّة جارية في المجتمع الإنساني، بل في جميع الموجودات التي لها نفسية ما واستقلال ما...» [12] . وعليه، فإنه لا معنى لقول القائل بأنّ الدفع هو مظهر للصراع الحضاري، بل هو سنّة الله تعالى الجارية في الخلق، والتي لا بدّ من الاعتبار بها، والامتثال لها في كل وجوهها، ومن التأسيس عليها في المنهج لبحث موضوع الحوار الديني بحيث تكون طريقاً توصلها إلى الغرض المطلوب اكتشافه أو البرهنة عليه. لذا، فإنّ مقتضى المنهجية في الحوار أن يتلمّس الباحث، وخاصة في الدراسات الإسلامية، الثوابت التي لا بدّ من الانطلاق منها للكشف عن الحقيقة، أو للبرهنة عليها، لأنه يستحيل أن يكون القرآن قد دعا إلى الصدام في الوقت عينه الذي يدعو فيه إلى التكامل والتعارف.

ولهذا فإنّ ما يُروّج له بعض الباحثين ممن اختمرتهم الأصوليات السلبية من أن منهج القرآن هو التأسيس للصراع، أو الصدام في ضوء ما تمّ تأويله من الآيات، لا يستقيم له معنى في ظلّ القواعد والثوابت الحاكمة في توجيه الرؤية الدينية، وهذه القواعد منها ما هو متعلّق بالتكوين والإيجاد، ومنها ما هو متعلق بالشرائع وتنوّع المناهج، فإذا ما تمّ الارتكاز إلى هذه الثوابت في التأسيس للحوار في الأديان، فإنّه يمكن الوصول إلى نتائج ذات جدوى فيما يتعلق بالنظرية القرآنية وما تقدّمه من رؤية لتحقيق الغاية المرجوّة في وصول الإنسان إلى كماله، الذي يفترض أن يكون مؤسساً على حقائق التكوين والتشريع معاً. إنّ المنهجية القويمة التي أرشد إليها القرآن، هي منهجية مرتكزة إلى حقيقة ما تجلّى به الإنسان في فطرته وطبيعة خلقه، حيث بيّن الله تعالى، وهو الخالق للإنسان والعالِم بما توسوس به نفسه، أنّ التنوّع (التعدّد) في الخلق، أو في الشرائع فيما لو أتى في سياق ما هدى الله له، لا بدّ أن يؤدّي إلى الكمال الإنساني. فالقول بأنّ منشأ الصراع والصدام هو ما عليه الناس من اختلاف، لا يستند إلى دليل ويناقض القوانين والقواعد والتأسيسات، لأنه يصادر النصوص ويفرض مسبقاً أن الحوار غير ممكن بين البشر لما هم عليه من تعدد وتنوّع، سواء في الخصائص والميّزات، أم في الأديان والشرائع، في حين أن مقتضى المنهجية الإسلامية، هو الكشف عن هذه الحقيقة الإلهية في طبيعة الخلق، وعمّا هو عليه الإنسان من مبادئ وقوانين، فيما ينتمي إليه من دين بحيث يكون ممكناً التأسيس للحوار الديني المؤدّي في النهاية إلى أن يكون الإنسان متحققاً بالكمال، مستوعباً لحركة الرسل والأنبياء في تاريخ الأديان.
إنّ كلمتنا في المنهج القويم، تقوم على ضرورة استيعاب المُعطى الديني في ضوء تعدّد الإنسان وتنوّعه، وقبل ذلك لا بدّ من استلهام جملة الثوابت والقواعد القرآنية التي تؤسس لحركة الإنسان في الحياة، وتعطيه كامل أبعاده فيما يتحوّل فيه من دين ودنيا.

 

 

 

ثانياً: أهل الكتاب في القرآن

 

 

إنّ ما تقدّم في كلمة المنهج هادفٌ إلى تبيان حقيقة التنوع في الخلق والاعتقاد، سواء في مجال التكوين، أم في مجال التشريع، هذا التنوّع يقتضي أن لا يكون الحوار في القرآن آتياً بخلاف ما فطر عليه الخلق، بحيث يكون ناقضاً له، وقد بيّن علماء التفسير ضرورة التسليم لإرادة الله تعالى التشريعية المنبعثة عن إرادته التكوينية.
يقول العلامة الطباطبائي: «الإسلام دين الحق بمعنى أنه سنّة التكوين والطريقة التي تنطبق عليها الخلقة وتدعو إليها الفطرة، ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [13] » [14] .

إذن، الإسلام هو دين الفطرة، وقد تواتر الرسل والأنبياء إلى الأمم للهداية إلى هذا الدين، وللخروج بالناس من الظلمات إلى النور، وذلك بهدف أن يكون الانسجام تاماً بين ما فطر عليه الإنسان، وبين ما يقوم به من أعمال، ويلتزم به من إيمان، ويؤدّيه من وظائف ومهام لا بدّ أن تكون متنوعة، تبعاً لما هو عليه الإنسان من تنوّع في مظاهره الداخلية والخارجية، وقد بيّن علماء الإسلام أن هذا التنوّع، كما سبق القول، لم يأتِ من خارج الإرادة الإلهية، وإنّما جاء وفقاً لما أراده الله تعالى. ولهذا، نجد القرآن حافلاً بالأمثلة والآيات المتنوعة التي تدعو الإنسان إلى التأمل والتفكير والاعتبار بما خلقه الله تعالى، وكما يقول الإمام علي (عليه السلام): «سبحانه... بل ظهر للعقول بما أَرَانا من علامات التّدبر المُتقن والقضاء المبرم» [15] .

ولا شكّ أيضاً في أن الحوار الديني في القرآن، سواء الحوار مع الملائكة، أم مع الشيطان، أم مع الأنبياء والرسل، أم مع أهل الإيمان، أم مع أهل الكتاب، جاء متناسباً تماماً مع ما جعل عليه الناس من اختلاف في الوجهات والهيئات والشرائع والمناسك والمناهج، كما قال الله تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ [16] ، وقال الله تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ﴾ [17] .

وانطلاقاً من ذلك، نرى أن الحوار مع أهل الكتاب يأتي في سياق هذا التنوّع في الحوار الهادف إلى تعليم الناس وإرشادهم إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه من إيمان وتسليم لله تعالى، بحيث يكون منهم الالتزام في طريق الإيمان، والتسابق في الخيرات لتحقيق الكمال، الذي لا يتحقق إلاّ من خلال هذا التسابق والتعارف بين البشر، ذلك أنه يستحيل أن يتحقق هذا الكمال فيما لو كان الناس نسخة واحدة وشكلاً واحداً، وعلى رؤية واحدة، وكما يقول العلامة مطهري في المجتمع والتاريخ: «إنّ الناس إنّما جعلوا على هذا التفاوت والاختلاف والتنوع لأجل تحقيق كمالاتهم، إذ لو كانوا شيئاً واحداً، وعقلاً واحداً، وعلى خصائص ومميزات واحدة، لاستحال عليهم التكامل، فلم يرد الله لهم أن يكونوا نسخاً معملية، بحيث يكون لهم اللون والرائحة والشكل الواحد، كما هو حال جميع الصناعات المادية التي تنتج على شكل واحد وتكون لها خصائص ومميزات واحدة..» [18] .

لقد أرشد الله تعالى في الحوار القرآني مع أهل الكتاب، إلى حقائق إيمانية كبرى، وأعظم هذه الحقائق هو الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله تعالى، مبيناً لهم أن الخط التواصلي في طريق الإيمان ليس لأحد أن يدّعي أنه ينتهي في هذا الزمان أو ذاك، بل الله تعالى هو الذي يحكم بما يريد، وقد أراد سبحانه وتعالى أن يتواصل أهل الكتاب مع هذا الخطّ النبوي ليكونوا جزءاً من التواصل الإنساني في تاريخ الأديان. ولهذا، نجد أن القرآن في حواره مع اليهود والنصارى بما هم أهل كتاب يدعوهم إلى التفكير بحقيقة أن بعث الأنبياء والرسل هو بيد الله تعالى، ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [19] ، وكما قال الله تعالى: ﴿ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... ﴾ [20] ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدعو إلى الاعتبار في خطّ الرسالات بهدف التواصل والاعتبار والاستهداء في طريق الحق، ليكون لهم الفوز في الدنيا والآخرة. أما أن يدّعي أهل الكتاب أنهم على كل شيء، وأن الهداية كل الهداية في أن يكون الناس هوداً أو نصارى، وأن إرادة الله تعالى هي رهن إرادتهم بحيث يكون لهم الخيار في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا، فذلك كلّه ليس من الحق في شيء، ولا جاءت به رسل، ولا نزل به وحي، وإنّما هو ادعاء باطل ذهب إليه كثيرون من أهل الكتاب، وكان موضع جدل وحوار معهم في القرآن، إذ إنّ هناك الكثير من الآيات التي تجادل أهل الكتاب وتدعوهم بالحكمة والمنطق إلى أن لا يتعاملوا بعنصرية مع ما يوحى إليهم، وهنا تجدر الإشارة إلى أن أهل الكتاب في عرف القرآن هم اليهود والنصارى، وهم إنّما خوطبوا بالجمع لكونهم ينتمون إلى قومية واحدة، وهذا ما بيّنه العلامة الطباطبائي بقوله: «إنّ الطائفتين ترجعان إلى أصل واحد وهو شعب إسرائيل بعث إليهم موسى وعيسى (عليهما السلام) ... ووجه الكلام معهم لاشتراكهم في الخصيصة القومية وهو التحكم والقول بغير حق.. وعدم التقيّد بالعهود والمواثيق..» [21] ، ورغم أن لأهل الكتاب هذه الخصوصية، فإننا نجد اليهود لا يرون تشريع شريعة بعد التوراة لذهابهم إلى امتناع النسخ والبداء، وقد بيّن القرآن هذا المعنى فيما انتهت إليه كل طائفة من دعوى، ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ﴾ [22] ، ما يدلّل على أن أهل الكتاب قد أخطأوا الهدف وادّعوا ما لم ينزل الله به سلطاناً قبل بعثة النبي ، هذا فضلاً عمّا كانوا عليه من تعصّب ديني وقبلي، انتهى بهم إلى أن يكونوا فرقاً ومذاهب، كما قال الله تعالى: ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون ﴾ [23] .

إنّ القرآن فيما يعرض له من حوارات مع أهل الكتاب، يكشف عن أنهم يتعاملون مع الوحي في ضوء رؤية خاصة بالإيمان، ويعبرون عن الوحي بلغة خاصة ومفاهيم تتوافق وأمزجتهم ومصالحهم الدنيوية، ولا يصدرون في دينهم عمّا جاء به الأنبياء، وخاصة في مجال التوحيد، حيث يرون أن الله تعالى قد فضّلهم على العالمين لكونهم بني إسرائيل، لا لكونهم مؤمنين ويقومون بالشريعة بحسب ما أُمروا به، وكانت النتيجة أن ذهبت كل طائفة إلى ما يحلو لها من قول في الألوهية، فقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصرانية المسيح ابن الله، مع ما تبع ذلك من تأويلات في الصفات الإلهية، وإذا كانت هذه المذاهب تدلّ على شيء، فإنّها تدلّ على مدى خروج هؤلاء عن الخط التواصلي، الذي أراد الله تعالى له أن يستمر مع الأنبياء ليكون الناس جميعاً على مستوى الخطاب الإلهي، ما أدّى بهم إلى التحول عن كونهم عباداً لله تعالى ليكونوا آلهةً فيما يزعمونه من اعتقاد، ويفتخرون به من عالمية وتمايز عن البشر، وهذا ما كان موضع انتقاد ورفض من أنبياء بني إسرائيل، ولو أنهم عقلوا عن الله تعالى، واستجابوا لنداء الحياة، لما آل أمرهم في الاعتقاد والعمل إلى الحزبية والعصبيّة، وقد سجّل القرآن الكثير من مزاعم أهل الكتاب، وكشف عن أنهم عملوا بخلاف ما تقتضيه الحكمة الإلهية من الخلق والتنوّع، فضلاً عمّا تقتضيه الحكمة من تعدّد الشرائع والمناسك، فهم ـ أي أهل الكتاب ـ بدل من أن يتسابقوا بالخيرات، ويسارعوا إلى مغفرة من ربهم بمتابعة خط الأنبياء، انقلبوا على الأعقاب، وحالوا دون الأمر الإلهي، فكان لهم ما أرادوا من هوان وذلّ وصغار بما أقدموا عليه من انقسام وعمل بخلاف السنن الفطرية، وهذا ما أدّى إلى أن تكون الشرائع المختلفة بل المتناقضة، فغامت الآفاق، وانقطع حبل التواصل مع النبوة الخاتمة، وادّعى كل من اليهود والنصارى أن التاريخ الديني ينتهي عند ما يرونه من حق فاستحال الرتق، ولم تجرِ على أذلالها السُّنن، وكان ما كان من خطاب قرآني، ونداء إلهي لأهل الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... ﴾.

إنّه النداء الهادف إلى إعادة وصل ما انقطع مع النبوة، حيث نرى كيف أن القرآن قد أكثر من كلمات التواصل والحوار مع أهل الكتاب دون أن يُغفل ذكر التوراة والإنجيل، باعتبارهما كتابين سماويين أراد الله لبني إسرائيل أن يتكاملوا من خلالهما في صيرورة التحوّل باتجاه الله تعالى، لا أن يقتصر الأمر على ما تمّ ادعاؤه من معنى ديني إيماني، هذا المعنى الذي ذهبت فيه بنو إسرائيل مذاهب شتّى حالت دون أن يكون لهم أدنى التكامل في طريق الإيمان، هذا فضلاً عمّا تسبّبت به هذه المذاهب من تحولات إنسانية واجتماعية وثقافية مخالفة لسنن الله تعالى وما تحتّمه من اعتبار وتنوّع إنساني هادف إلى تكامل الإيمان فيما يختاره الله تعالى للبشر من شرائع وأحكام وتعاليم يهتدون بها إلى سبل السلامة في الدين والدنيا.

 

 

أ - حوار القرآن مع اليهود

 

 

إذا كان القرآن هو الكلمة الخاتمة والكاملة والنهائية في التاريخ الديني للبشر، كما بيّن تعالى في آية إكمال الدين [24] ، فإنّ هذه النهائية لم تستبعد أهل الكتاب عن أن يكونوا موضوعاً لخطاب الله تعالى، بل إنّ القرآن هيمن على الرسالات السماوية، وشكّل امتداداً حقيقياً وصادقاً لها، هذا وقد برز الحوار القرآني مع أهل الإيمان على مستويات مختلفة من الخطاب، تعرّض لها على الشكل الآتي:

أولاً: هناك مستوى الخطاب مع بني إسرائيل فيما كانوا عليه مع النبي موسى (عليه السلام) من إيمان وكفر، وغير ذلك من الحالات والتقلبات النفسية والعقلية والاجتماعية، وقد بيّنت الآيات القرآنية هذا المستوى بما عرض له القرآن من أحوالهم وما كانوا عليه من جحود وقتل للأنبياء، ومعاندة للحق، وعبادة للعجل، واستعباد الفراعنة لهم، ثم تحريرهم من العبودية، ونجاتهم من الغرق، وإنزال المنّ والسلوى عليهم، ثم كرههم للآخرين، ولعل الغاية القرآنية من وراء ذلك هي بيان حقيقة هؤلاء الناس، بحيث تهتدي الإنسانية إلى ما هم عليه من فساد في دينهم، هذا فضلاً عن إظهار النعمة التي أنعم الله بها عليهم،، إذ ترى في سورة البقرة الكثير من الآيات التي تكرّر النعم الإلهية عليهم، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ... ﴾ [25] .

ثانياً: هناك مستوى من الخطاب يتوجه فيه الله تعالى إلى أهل الكتاب، وقد بينّا أن أهل الكتاب في عرف القرآن هم اليهود والنصارى لكونهم من أمة واحدة، وتجمعهم قومية واحدة، وغالباً ما نرى مسحة اللين التي تميّز الخطاب مع أهل الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿  قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... ﴾ وكما في قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ... ﴾ [26] .

ثالثاً: مستوى الخطاب مع اليهود والنصارى، وقد جاء هذا الخطاب تارة بالجمع، وطوراً بالمفرد، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ... ﴾ [27] ، وقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ ... ﴾ [28] .

رابعاً: خطاب القرآن مع المسلمين في كيفية التعامل مع الآخرين، سواء أكانوا مؤمنين، وأهل كتاب، أم غير مؤمنين، وهو خطاب ذو شقّين، خطاب لقتالهم لكونهم كافرين ولا يؤمنون بالله تعالى، وخطاب عدم تولّيهم لكونهم أولياء بعضهم البعض، إضافة إلى خطاب القرآن للمسلمين بأن لا يسألوا نبيّهم كما سأل أصحاب موسى (عليه السلام)، كما في قوله تعالى: ﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ... ﴾ [29] .

إذن، هناك مستويات من الخطاب القرآني مع الإنسان، ويكفي أن نعرض في هذا البحث لمستوى الخطاب الأول، حيث يتمّ فيه استحضار اليهود من تاريخهم الديني، من زمان موسى (عليه السلام) إلى زمان وعصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ هو خطاب يستحضر النعم الإلهية، ويبيّن ما كان عليه بنو إسرائيل من مستويات إيمانية وعملية فيما كانوا يؤمنون به ويعملون له من أهداف لا تتجاوز المصالح الخاصة والمنافع الدنيوية، حيث بيّن القرآن كيف أنهم استهزؤوا بالنبي موسى (عليه السلام)، وكذّبوه وعاندوه، ولم يؤمنوا بما جاء به أنبياء بني إسرائيل لما كانوا عليه من عناد وفساد في دينهم ودنياهم، وقد استمر هذا الخطاب لهم مع النبي عيسى (عليه السلام)، ولكنهم لمايدخل الإيمان قلوبهم واتهموا النبي عيسى (عليه السلام) وطاردوه إلى غير ذلك مما قصّه القرآن بشأن أوضاعهم مع الأنبياء. وهكذا نتابع الخطاب لهم في عصر الرسالة الإسلامية مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ [30] .

إنّ القرآن يستحضر اليهود من تاريخهم من خلال اليهود المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكونهم امتداداً حقيقياً لآبائهم، وهو خطاب قرآني في الزمان والتاريخ لقوله تعالى: ﴿ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [31] ، ﴿ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [32] . وهكذا، فإنّ القرآن لم يميز بين اليهود الذين كانوا مع النبي موسى (عليه السلام) قبل مئات السنين وبين اليهود المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا، نجد أن القرآن فيما زعموه عن قربان تأكله النار يرد عليهم مقالتهم ويسألهم عن قتل الأنبياء، كما قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [33] .

فاليهود الذين عاصروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقتلواالأنبياء، وإنّما الذي قام بفعل القتل هم الآباء والأجداد، فنُسب الفعل بالقتل إلى المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مما يدلّ على أن الأبناء هم امتداد للأجداد والآباء، وهذه حقيقة قرآنية لا بدّ أن تلحظ في سياق الخطاب القرآني مع اليهود، لأنه خطاب كاشف عن حقائق الأمور، وهو لا يستحضر التاريخ الديني لمجرّد الحديث عن فعل تاريخي [34] ، وإنما يستحضره بهدف وعي حركة الإيمان في تاريخ البشر، وبهدف التعرف إلى ما يكون عليه الإنسان من تحولات في الزمن، سواء في الماضي، أم في الحاضر، أم في المستقبل، لما لهذا الوعي، وكذلك التعرف، من أثر في تحديد ملامح التحولات الإيمانية والإنسانية، التي بيَّن القرآن أنها واحدة وممتدة في حياة الإنسان وإن اختلفت في الأسماء والأشكال، ولكنها تبقى واحدة في الجوهر، وهذا ما كشفت عنه العلوم الإنسانية الحديثة فيما ذهبت إليه من أن أكثرية الأحياء تتشكّل من الأموات، ولعلّنا في غنى عمّا ذهب إليه العلماء في هذا الشأن طالما أن الإمام الصادق (عليه السلام) قد بيّن هذا المعنى وكشف عن مضمونه حينما سأل أحدهم عمّا إذا كان ينزل في الكوفة، وعمّا إذا كان رأى أحداً من قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) فأجابه: ما رأيت منهم أحداً. فردّ الإمام (عليه السلام) قائلاً: ليست قتلة الإمام (عليه السلام) فقط هم الذين باشروا الفعل وقاموا به، وإنما هم أولئك الذين سمعوا بذلك ورضوا به حتى يوم القيامة [35] ، ونحن إنّما ننقل هذا الكلام بالمعنى لكونه يؤسّس له في سياق الرؤية القرآنية على نحو يبيّن أن الفعل الإنساني، سواء السلبي أم الإيجابي، ليس مجرّد فعل في التاريخ، وإنّما هو فعل في الزمن وله امتداداته في النفوس قبل الواقع، ولهذا، فإنه ليس من الغرابة في شيء أن يُعطي القرآن هذا البعد للحدث التاريخي الناشئ عن كون الإنسان ينتمي إلى عقلية وروحية مؤثّرة في الزمن، وباعثة على الفعل في كل زمان.

لقد كشف القرآن أن اليهود في تاريخهم الديني قد تميّزوا بهذه الروحية الفاسدة في علاقاتهم الإنسانية، وفي علاقاتهم مع الأنبياء، رغم كل النعم الإلهية التي مَنَّ الله تعالى بها عليهم [36] ، ولكن النتيجة كانت استمرار الفساد في الأرض وقتل الأنبياء بغير حق، إلى غير ذلك مما كشف عنه القرآن لجهة عدم الوفاء بالعهد، والكفر بما أنزل الله تعالى على نبيّه محمد ، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ... ﴾ [37] .

إذن، مستوى الخطاب الأول، هو استحضار اليهود من تاريخهم، وقد تكرّر الخطاب لبني إسرائيل ليكونوا على مستوى الرسالة الجديدة، فيؤمنوا بها، وينطلقوا على أساسها في تحقيق التواصل مع أهل الإيمان، بحيث يدركوا أن التواصل الديني في الزمان مع الأنبياء هو شأن إلهي، وليس لهم أن يحدّدوا أو يفرضوا طريقة الإيمان على أحد فضلاً عن أنفسهم، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، والخلق كلهم عياله وعباده، وقد أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وليس من معنى لتكرار الخطاب إلى اليهود إلاّ التأكيد على حيوية هذا الخطاب الإلهي الهادف إلى ترشيدهم وتزكيتهم على النحو الذي يجعل منهم مجتمعاً إنسانياً تليق به رسالة السماء.

كما أن التكرار هادف أيضاً إلى تحقيق اليهود بالرؤية الإيمانية الجديدة للخروج بهم من كهوف العرقية والعصبية والمذهبية، إلى رحاب حاكمية جديدة جاء بها الإسلام، لكي يكون لهم معنى الامتداد في الحياة والدين، فلا يكونوا مجتمعاً مغلقاً، هذا فضلاً عمّا يعنيه النداء من تصحيح لمسار الحركة الدينية بعد أن تحولت مع اليهود إلى مجرّد حركة مصالح وتجارات لتحصيل مكاسب من قبل الأحبار، الذين استغلّوا الدين والناس لمآربهم بعد أن اتخذوا أرباباً من دون الله تعالى يعبدهم الناس، ويحرّمون لهم الحلال، ويحلّلون لهم الحرام، فجاء الخطاب الإلهي لترشيد هذا المجتمع من خلال تذكيره بالعهود والمواثيق وجملة النعم التي مَنَّ الله بها عليهم، وهذا إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على مدى العناية الإلهية بالإنسان من خلال تتابع الخطاب وتكرار النداء ليكون على مستوى ما خصّ به هذا الإنسان من معنى ودور وهدف لعله يتمكن من إعادة تواصله مع تاريخ النبوة والرسالة، بحيث يكون له معنى في صيرورة تحوله الإنساني، ليس فقط من خلال إعادة التفكير فيما كان عليه الإنسان في ماضيه وحاضره، وإنّما في تحوّله نحو المستقبل ليكون في الدائرة الإنسانية الكبرى، والتي هي في الحقيقة دائرة الدين والأنبياء والرسل، تمهيداً لتحقيق رؤية شاملة حول الكون والإنسان والحياة والدين بما هو سبيل للإنسانية وليس لليهود وحسب.

إنّ القرآن من خلال تواصل الخطاب يُظهر مدى العناية الإلهية بالإنسان، ولكن اليهود، كعادتهم، لم يستوعبوا خطاب النبوّة جيداً، ومارسوا العناد في تقبّل الدعوة الجديدة، رغم إيمان الكثيرين منهم بها، كما جاء في الثناء الإلهي على المؤمنين من أهل الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿ لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ [38] . فهذه شهادة لمن آمن بالله وأقام الصلاة، وآتى الزكاة من أهل الكتاب، ما يعني ضرورة الاعتبار للخطاب الإلهي في الدائرة الشاملة لأهل الإيمان، إذ لم يكونوا جميعاً على حالة واحدة، بل آمن الكثيرون منهم، واستجابوا للنداء الإلهي فيما أمرهم به ونهاهم عنه، سواء في مجال الاعتقاد، أم في مجال العمل. أما قوله تعالى: ﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [39] ، فهو قول ناظر إلى حقيقة ما هم عليه من ضيق في تقبّل الرسالة الجديدة، وهنا جاء الخطاب والكلام الإلهي، بلفظ اليهود والنصارى، وليس بلفظ أهل الكتاب لما يتضمنه هذا التعبير من لين واعتبار لشأنيّة الكتب المنزلة على الأنبياء، وهو لم يأتِ بلحاظ كون أهل الكتاب يؤمنون بالرسالة، وإنّما بلحاظ كونهم آمنوا بالكتاب، كما أنه ناظر إلى استحالة أن يتحوّل اليهود والنصارى عمّا هم عليه من تنكّر للدين الجديد، وذلك يتبدّى لنا من خلال ما تتضمنه آيات أخرى بأن اليهود والنصارى لم يكونوا على وفاق في تاريخهم، بل على رفض تام وكامل، باعتبار أن اليهود لم يؤمنوا بعيسى (عليه السلام)، ويزعمون أن المسيح المذكور في التوراة لم يأتِ بعد!! وإذا كانوا ـ أي اليهود ـ والنصارى ـ قد اختلفوا إلى حدّ التناقض فيما زعمه كل فريق من إيمان واعتقاد، فمن الطبيعي أن لا يقبلوا الدين الجديد ورسالة الإسلام [40] ، وخاصة بعد أن زعموا أنه لن يدخل الجنّة إلاّ مَن كان هوداً أو نصارى. فهم، فيما تناقضوا فيه وآلوا إليه، لم يعد بمقدورهم استيعاب الرسالة الجديدة المختلفة تماماً عمّا في أيديهم من الكتاب والأحكام، فكان أن التبس الدين عليهم، ما أدّى في النتيجة إلى خروجهم عن خطّ الامتداد الرسالي ليكونوا أسرى ما صنعته أيديهم من دين ودنيا.

إنّ قوله تعالى: ﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى ... ﴾، كاشف عن جوهر ما يختزنه القرآن من تاريخ ونفوس وتقلبات وأحوال كلها تنبّئ بأنّ اليهود ليسوا في المستوى العقلي والديني، فضلاً عن النفسي، الذي يؤهّلهم لأن يكونوا مجتمعاً إنسانياً فاعلاً ومنفتحاً على الإنسانية الكبرى وعلى العالمية الإلهية، التي تجلّت برحمة الإسلام، ورحمة نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) المرسل رحمة للعالمين، فاليهود بما هم امتداد للآباء والأجداد لم يكونوا راضين عن أنبيائهم ورسلهم، فكيف يمكن أن يُنتظر منهم أن يكونوا راضين أو مؤمنين برسالة الإسلام؟ وبالتالي، فهم ليسوا قادرين بسبب أطماعهم وما نشأوا عليه من تفاعلات عصبية وعرقية على التماس المعنى الديني الحقيقي، ولا على الاعتبار بالخطاب الإلهي لوضعه في الدائرة العالمية للإنسان، وهذا كله، أدى إلى أن يتحوّل اليهود عن مسار الإنسانية ليفوزوا باللعن الإلهي على نحو ما بيّن الله تعالى: ﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [41] .

عموماً يمكن القول: إنّ حوار القرآن مع اليهود أخذ حيّزاً كبيراً من الآيات القرآنية، وخاصة سورة البقرة، التي ذبحوها وما كادوا يفعلون، فهي حوت الكثير من صفاتهم وأعمالهم، سواء مع النبي موسى (عليه السلام)، أم مع غيره من أنبياء بني إسرائيل، أم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تجربته مع يهود المدينة الذين خاطبهم القرآن في سياق واحد من حيث كونهم امتداداً لأسلافهم، وقد أظهر القرآن هذا التشابه لدرجة أنه يمكن أن يسأل المرء بأنه إذا كان الخطاب موجّهاً بظاهره إلى يهود المدينة، مع العلم بأن النعم المشار إليها منحها الله لآبائهم، لا لهم، فلماذا يخاطب يهود المدينة به؟

والجواب، كما يقول العلاّمة مغنية، هو أن النعمة على الآباء هي نعمة على الأبناء كما سبق أن ذكرنا، ولهذا فإن القرآن في حواره وندائه إلى اليهود لم يلحظ الاعتبار الزمني، لكونه العالم بما خلق. وإذا كان الزمن الماضي قد تمّ لحاظه في الخطاب القرآني، فكذلك المستقبل هو أيضاً يلحظ في إطار الرؤية الدينية بعدما أكّد القرآن على حقيقة التشابه في القلوب، وإنّ أي حوار مع أهل الإيمان لا بدّ أن يكون مرتكزه وقاعدته هذه الثابتة، فلا يُقال: إنّ الإنسان قد تغيّر، والحياة قد تبدّلت، وأصبحت الإنسانية في زمن جديد ووعي جديد، لأنّ التغيّر إن حصل، فهو إنّما يكون في الصور والأشكال. أما الباطن والقلوب، فهو مستمر في التحقق، ويبقى له تأثيره وامتداده، تماماً كما هو حاصل اليوم، حيث نجد الإنسانية في أوج تحضّرها، ولكنها لا تزال تتحدّث عن العصبيات والعرقيات وصدام الحضارات إلى غير ذلك مما يؤكّد قول اليهود والنصارى: ﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ... ﴾! والحق يقال: إنّ أكثر الأديان والأحزاب على هذه النزعة، ولا خصوصية لليهود والنصارى في ذلك...وقد استنكر القرآن هذه النزعة، داعياً إلى تجاوزها من خلال الوعي والإيمان لتحقيق التعايش الديني مع كل الأديان، هذا فضلاً عمّا دعا إليه القرآن من إيمان بكل الرسل والأنبياء بحيث لا يفرّق بين أحد منهم، باعتبارهم يؤدّون عن الله تعالى، ويبلّغون رسالاته إلى عباده ليكون للإنسانية كمالها. وإذا كان اليهود قد أخفقوا في مقاربة الخطاب الإلهي لهم فيما دعاهم إليه من إيمان وإخلاص وتجاوز لكل عصبية وعرقية، ليكون لهم الامتداد الرسالي والإنساني، فإنّ هذا الإخفاق كان ولا يزال سببه عناد اليهود وطلبهم للدنيا، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ... ﴾ [42] ، فهم اختاروا بملء إرادتهم الحياة بما تعنيه من كذب ونفاق وفساد، والمصلحة الشخصية بكل ما تعنيه من مكاسب، وهذا ما كانوا عليه في عصر النبي موسى (عليه السلام)، واستمروا عليه إلى عصر النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسيستمرّون على ذلك إلى يوم القيامة، ما يعني أن تأسيسات القرآن ليست تاريخية وحسب، وإنّما هي تأسيسات لاحظت طبيعة هذا الجنس من البشر [43] ، فإذا كانوا قد كفروا بتوراتهم، وقتلوا أنبياءهم، فهل يُعقل أو ينتظر منهم أن يؤمنوا بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟، ولم يكن من سبب لذلك، كما يقول المفسرون، سوى المنفعة الذاتية والحرص على الحياة...

وإذا كان القرآن قد أسّس لرؤية ثابتة في حركة الإنسان ووعيه للأحداث، فيما أرشد إليه من وقائع وأحداث وسُنن في التاريخ، فإن هذا لا يعني مطلقاً أن القرآن يؤسس للصدام بين البشر، ويمنح فرصة التنازع والصراع بين الأديان، وإنّما هو فيما يرتكز إليه من ثوابت في الحوار، يدعو إلى استمرار المجادلة بالحسنى، وكل حجاج القرآن من هذا النوع، لأنه الخطاب النهائي والكامل والهادف إلى أن يكون الناس على تعايش وتعارف وتقوى في ما يؤسسون له من علاقات، ويرسمونه من أهداف، ويتفاعلون معه من قضايا دينية وسياسية واجتماعية. فالقرآن يدعو إلى الحوار بين الأديان، وقد اقتضت هذه الدعوة للحوار أن يكون الإنسان على وعي بالتاريخ، وبما كان عليه أهل الإيمان في تاريخهم، ذلك أنه من غير الممكن تجاهل الصيرورة التاريخية للبشر وما كانوا عليه في تاريخهم، فيما لو كان الهدف التأسيس لحوار هادف وفاعل وبنّاء، وهذا ما أوضحه القرآن جليّاً، ودعا إلى التأمّل والتدبّر فيه ملياً، بهدف أن يكون البشر على بصيرة مما كانوا عليه، ومما هم صائرون إليه. أما أن ندعو إلى التعايش السلمي، ونتغاضى عن تحوّلات الإنسان التاريخية وعمّا كان عليه من دين ووعي في حركته الإنسانية، فذلك مما لا يمكن الركون إليه، أو الارتكاز عليه لما تقدّم قوله من أن التعايش والتعارف إنّما يكون منتجاً ومفيداً فيما لو كان مستنداً إلى سنن التاريخ وتفاعل الأحداث، ولاحظاً لتجارب البشر، باعتبار أن العقل كما يقول أمير المؤمنين : «هو حفظ التجارب، وخير ما جرّبت ما وعظك». فالقول بأن التعايش والتعارف يبقى سبيله وخير طريق له أن تجتمع الأمم والأديان، وأن تُعقد اللقاءات لمجرّد اللقاءات، فهذا وإن كان ظاهره يعتبر حواراً وتفاعلاً، إلاّ أن شيئاً من الإيمانية لن يتحقق وخاصة مع امتدادات بني إسرائيل في كل زمان، أو مع مَن تشابهت قلوبهم في الاعتقاد والعمل، وكما يقول العلاّمة مغنية في كلام علمي رصين ينطوي على حكمة وتبصّر بالحوار القرآني وما يدعو إليه من تعارف وتعايش، يقول: «إنّ التفاوض بالطرق السلمية، والرضوخ للحق لا يتحقق على وجهه الأكمل إلاّ إذا كانت جميع الأطراف، أطراف الحوار، المعنية مؤمنة بالحق لوجه الحق، ومُحال أن يهتدي إلى خير، ويرجي منه الخير من لا يؤمن إلاّ بذاته، ولا يهتمّ إلاّ بمصالحه» [44] .

إنّ حوار القرآن مع اليهود، ليس حواراً خاصاً، كما أنه ليس حواراً في التاريخ، بحيث يُقال: إنّ ما عرض له القرآن مع اليهود إنّما يُحفظ ولا يُقاس، كما أنه ليس حواراً في التاريخ على نحو التجربة الخاصة بقومٍ، أو بشعب، بل يُقال: إنّه حوار قائم على البعد الإيماني في النصّ التاريخي، لأنّ ما يكسبه الإنسان شيء، وما يبلّغه الأنبياء عن ربّهم شيء آخر، وإذا كان الأنبياء قد عرضوا للتجربة التاريخية، فذلك إنما كان منهم بهدف ملاحظة هذه التجارب في بعدها الأزلي، باعتبار أنّ القرآن ليس كتاباً للتسلية، وإنما هو كتاب إلهي منتظم في إطار الرؤية الكونية لخلق العالم والإنسان. وقد تقدّم الكلام في معنى أن تكون الإرادة التشريعية منبعثة عن الإرادة التكوينية ...

 

 

 

ب - حوار القرآن مع أهل الكتاب

 

 

إنّ من مستويات الحوار القرآني التي عرضنا لها في المبحث السابق، مستوى الحوار مع أهل الكتاب، وهو حوار له قيمته أيضاً في القرآن، وقد تجلّى في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... ﴾، كما أشرنا أيضاً إلى أنّ هناك فرقاً كبيراً لا بدّ من اعتباره في المباحث القرآنية، وهو أن الخطاب إلى اليهود والنصارى في الآيات القرآنية يختلف في كثير من المداليل عن الخطاب الذي جاء بصيغة يا أهل الكتاب لما سبق وأشرنا إليه من أن خطاب يا أهل الكتاب ينطوي على شيء من التسامح واللين، بخلاف الخطاب الخاص بكل من اليهود والنصارى، ويمكن ملاحظة هذا المعنى فيما جاء في قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [45] .

فهذا الخطاب لليهود، أو للنصارى، كما سنبيّن لاحقاً، لا بدّ أن يختلف في معناه ومدلولاته عن قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... ﴾. إضافة إلى هذا الفرق، هناك فروق أخرى تتعلق بالتولّي والتبرّي، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ... ﴾ [46] إلى غيرها من الآيات التي تميّز أو تجمع بين اليهود والنصارى، وغالباً ما نجد القرآن يُفرد للنصارى تمايزاً خاصاً في كثير من الآيات، وخصوصاً الذين آمنوا ولم يستكبروا على دعوة الحق، يقول العلاّمة الآملي: «حيث يرد الكلام في القرآن عن الدين المشترك أو الكلام على إعلان اللين وأمثال ذلك يذكر اليهود والنصارى بصفة أهل الكتاب، لأن هذه الصفة لها جاذبية بسبب حبّ الإنسان للكتب السماوية، ولكن حين يكون الكلام على إعلان الاستياء والتبرّي، فإنهم يذكرون بصفة اليهود أو النصارى...» [47] .

ولا شكّ في أن استعراض جملة من الآيات التي عرضت لأهل الكتاب من شأنه أن يكشف عن معنى اللين في خطاب يا أهل الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ ... ﴾ [48] ، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ... ﴾ [49] ، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ... ﴾ [50] ، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ... ﴾ [51] ، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ... ﴾ [52] ، فهذا جزء من آيات قرآنية تكشف عن معنى وروح الخطاب لهم الذي يختلف تماماً عن قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ... ﴾ [53] ، وهنا نلاحظ كيف أنهم ذكروا بهذه الصفة، لأن الكلام بشأن التبرّي، وسبب هذا، كما يرى المفسرون، هو أن المحبّة هي جامعة للأمة والشعب، والذي يكنّ لهم محبة في قلبه تظهر لديه أرضية الميل لهم، لأن الحب والبغض يمنع من النظر والحكم الصحيح، حتى قيل: «حبّ الشيء يُعمي ويُصم...» وبسبب أثر المحبة في علاقات الشعوب والأمم قال الله تعالى: ﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ... ﴾ [54] .

ويظهر مما تقدّم لمتدبّر، أن صفة أهل الكتاب تميّز الحوار القرآني عمّا خصّ به كُلاًّ من اليهود والنصارى في هذا الخطاب على نحو يتبيّن فيه أن للحوار جدواه فيما لو كان مع أهل الكتاب، إذ لم يرد في القرآن إطلاقاً الخطاب بصيغة يا أيها اليهود تعالوا، أو يا أيها النصارى تعالوا، وإن كان المتسالَم عليه بين أهل التفسير أن أهل الكتاب في عرف القرآن هم اليهود والنصارى، إلاّ أننا لا نجد إفراداً للخطاب، بحيث يُفهم منه التسامح أو اللين معهم، وإذا كان لا بدّ من الإشارة القرآنية لذلك، فإنّ الخطاب والكلام يأتي بصيغة مختلفة تماماً، كما في قوله تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ... ﴾ [55] ، فهذا الكلام الإلهي ينطوي على تمايز هائل باعتبار مدلول الكلام. إذ إنّ هناك فرقاً كبيراً بين قوله تعالى: ﴿ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً ﴾، و﴿ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً ﴾، وهذا التمايز إنّما يمكن استيعابه وفهمه في سياق القبول للدعوة الإسلامية من قبل الكثير من أهل الكتاب، فجاء هذا التميز ليُعطي النصّ بعده الحقيقي بأن النصارى هم أكثر مودّة للمسلمين وأسمع لدعوتهم الحقة [56] . فلا يُقال بأن الخطاب القرآني قد أقرّ اليهود والنصارى على ما هم عليه من اعتقاد خارج ما جاء به الإسلام، بل الحق أن يُقال بأنّ الكثيرين من النصارى قد آمنوا بالإسلام وبالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من موقع إيمانهم بالمسيح (عليه السلام)، وبكل الأنبياء، اعتقاداً منهم بأن نبوّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي الخاتمة. أما إذا لم يحصل هذا الأمر واستمر أهل الكتاب على دينهم وإيمانهم بأن الله كلّم الناس بالأنبياء، وبأن آخر الأنبياء كان عيسى (عليه السلام)، فهذا مما أرشدهم القرآن إلى خلافه، داعياً إيّاهم إلى الإسلام من دون إكراه، وقد تجلّت دعوته بالنداء إلى الكلمة السواء، الكلمة العادلة، وقد استحقوا أن يكونوا موضوعاً لهذا الخطاب من موقع اعتقادهم وإيمانهم، فلا ينبغي أن يدّعي أحد من الناس أن النظرية الموجودة اليوم ليست هي المخاطبة بالنداء، ولا هي المقصودة بالحوار، لأن في هذا الادعاء ما يُسيء إلى أصحابه، لأنهم يتجاهلون تماماً أن القرآن قد عايش وتعايش مع أهل الكتاب، وتعرّض لمجادلات عنيفة من اليهود والنصارى من دون وجه حق، ولكن رأي القرآن أبقى على روحية الحوار، ودعا إلى المجادلة بالتي هي أحسن، على قاعدة قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [57] .

إنّ مسحة اللين، وصبغة التسامح في الخطاب القرآني مع أهل الكتاب، تكشف عمّا جاء به الإسلام من رؤية لطبيعة العلاقات الإنسانية وما ينبغي أن تكون عليه هذه العلاقات من إيجابية وتسامح ومحبة، خلافاً لمن يزعم أن القرآن يدعو إلى الصدام! فإذا كان القرآن قد نهى عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، فذلك إنما جاء في سياق الاعتبار لما هم عليه من اختلاف في الرؤية والمنهج، فضلاً عن الدين والعقيدة وغير ذلك مما هم عليه من ولاء لبعضهم البعض، وهذا الولاء هو الذي يدفع بهم إلى أن يكونوا على عصبيات وقوميات مانعة من التواصل والتعارف، وهادفة إلى استثمار الدين والإيمان في مصالح الدنيا ومكاسبها، بخلاف ما جاء به الأنبياء، ودعوا إليه من تواصل وتعارف.

لقد أوضح القرآن، كما بينّا سابقاً، أن الأصل في العلاقات الإنسانية هو الحوار والتعارف والتعايش باعتبار أن الإنسان أخو الإنسان، كما قال الإمام علي (عليه السلام): «الناس صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق» [58] ، هذا كلام مستنطق من قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ... ﴾ [59] ، ومن قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [60] .

ولا شك في أن الهدف من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، هو تعزيز روحية التعارف، وحماية كرامة الإنسان، وتحصين مساره الإنساني بما يؤهله لأن يكون إنساناً متواصلاً في الزمان والتاريخ ومتمماً لحركته في الحياة، ومنجزاً لدوره ووظيفته التي خُلق لأجلها، وهذا هو جوهر ما يلحظه الخطاب القرآني مع أهل الكتاب، وغيرهم، حيث بيّن القرآن بالكثير من آياته أن الاختلاف والتعدد والتنوّع ليس مانعاً من التواصل، ولا حائلاً دون التعارف، وإنّما هو الهادف إلى ذلك والمنظم له شرط أن يكون الإنسان قائماً به على حقه، ومرتكزاً فيه على أصله، ومنطلقاً فيه على هداه. وهذا ما تتابع عليه الرسل والأنبياء، فكانوا جميعاً يبلّغون عن الله تعالى، ويدعون إلى سلوك طريق الحق والهدى كما جاء به الأنبياء، فكانوا جميعاً يبلّغون عن الله تعالى، ويدعون إلى سلوك طريق الحق والهدى كما جاء به الأنبياء، وليس على قاعدة الهوى، باعتبار أن هدى الله هو الهدى، وليس بعد الحق إلا الضلال. وعليه، فإن مَن كان منطقه لا يدخل الجنة إلاّ مَن كان هوداً أو نصارى، أو كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا... لا يمكن أن يكون مؤتمناً على إدارة عملية الحوار بين البشر، ولا على استيعاب حركة النبوة في التاريخ والزمان، وهذا هو لسان حال كل الفرق والمذاهب قديماً وحديثاً، حيث أن كل فرقة أو مذهب يدّعي أن الحق معه دون سواه، وأن الجنّة رهينة عقيدته ودعوته، وإذا كان القرآن قد سمّى اليهود والنصارى فيما زعموه من عصبية في دعوتهم، فإنّ ذلك لا يستفاد منه حصرية المعنى، وإنما هو يشمل كل عصبية في تاريخ الإنسان، وكل حمية جاهلية في تاريخ الأديان، ولهذا، فإنّ القرآن في آياته يمنع من ذلك، ويدعو إلى الكلمة السواء، بحيث يتواصل الإنسان بأخيه الإنسان ويتحقق الكمال، فلا يكون الدين سبباً للفرقة، وإنّما سبباً للتوحّد في إطار وعي كامل وشامل للهدف الذي خلق من أجله الإنسان.

وكيف كان، فإنّ معنى الحوار مع أهل الكتاب، أن يؤخذ بالأيدي إلى المساحات المشتركة بين أهل الإيمان ليكونوا على بيّنة من أمورهم في الدين والدنيا، بحيث يتعرفوا إلى أهم الأصول والثوابت والمرتكزات التي لا بدّ من التعرّف إليها من القرآن والاهتداء بها في طريق الحياة، ولعل أهم أصل يمكن التوقّف عنده هو ما بيّنه القرآن عن كرامة الإنسان وأخوّة الإنسان، وهو أصل ثابت في التكوين والتشريع، ولا بدّ من الارتكاز إليه في صياغة أطروحات الحياة، سواء الدينية أم الإنسانية، وهذا هو جوهر ما جاءت به الأنبياء، أن يهتدي الإنسان إلى ما يعطيه كامل أبعاده في الحياة، وإنّ أي دين لم يأتِ إلاّ ليرشّد تحولات الإنسان باتجاه أهدافه السامية دونما اعتبار للونه وشكله واختلاف رؤيته، ذلك أن الله تعالى لم يهتم في أصل خلقة الإنسان بالأسماء والأشكال، وإنما بالعقيدة الصحيحة التي يصدر عنها في سلوكه، فالإنسان بمعزل عمّا يتخذه لنفسه من انتماء، أو أسماء، هو عبدٌ لله تعالى وله كرامته وإنسانيته، وقد خلقه في أحسن تقويم ليكون هادفاً وساعياً في طريق تحقيق الكمال، لا بهدف أن يتسافل في الدرك الأسفل، كما قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ... ﴾ [61] .

فالإنسان أخو الإنسان أحبّ أم كره [62] ، فإذا ما تواصلت الشعوب والأمم، وتصادقت في ضوء هذه الحقيقة التي ميّز الله تعالى بها الناس، فإنّ ذلك من شأنه أن يحفظ للإنسان كرامته وحريته، فالإنسان فيما فطر عليه من مبادئ وقوانين وعقل، وفيما بلّغ من تشريع وأحكام قادر على القيام بهذا الأمر لتحقيق التكامل من خلال حوار إنساني يرتكز إلى أصول الإيمان الكبرى. وإذا فرض أن الناس لم يتعارفوا وتصارعوا، فذلك لا يكون منهم آتٍ بوحي من التأسيسات والثوابت القرآنية التي يلتقي عليها أهل الإيمان، وإنما هو يأتي في سياق اختيارات البشر في هذا السبيل، كما رأينا فيما سبق أن الصدام الحضاري، أو الديني، إنّما هو ناشئ عن كون الناس لا يعقلون عن الله، ولا يرجعون إليه فيما اختاره لهم من شرائع ومناهج، ولايصدرون عن كلمة سواء، عادلة، وكانت النتيجة الصراع والصدام والخروج عن الأصول الحاكمة، سواء في فطرة الإنسان التي فطر عليها، أو فيما تؤول إليه طرق تعاملهم مع النصوص والشرائع التي يفترض بأهل الإيمان أن يقوموا بها أحسن قيام كما أمر الله تعالى. وإذا كان قد حصل الإخفاق في تاريخ اليهود والنصارى، فيما زعمه كل طرف لنفسه، وفيما ادّعاه كل طرف من حق دون غيره، وفيما تصارموا به على مستوى المناهج والمناسك والأهداف، فهو إنّما حصل لكونهم قد هجروا رسالات السماء، ولم يقوموا بالتوراة والإنجيل حق قيام، فآل أمرهم إلى أن يكونوا على تناقض في العقائد والأهداف، وهذا ما تجلّى بقول اليهود ليست النصارى على شيء، وقول النصارى ليس اليهود على شيء. وهذه الدعاوى هي منشأ كل صراع وصدام بين البشر أن يدّعي كل طرف لنفسه كل الحق في مقابل الآخرين، وهنا السؤال: هل يُعقل أن يكون اليهود والنصارى، وهم أهل إيمان وينتمون إلى الإيمان الإبراهيمي الكبير، هم مَن يدعون إلى الصدام وإقفال باب الحوار بين أهل الإيمان أنفسهم؟ وماذا يُنتظر من الآخرين الذين لا ينتمون إلى دين، فهل يصدر عنهم ما يُفيد التنكّر للآخرين، كما قالت اليهود والنصارى؟

إنّ الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، يمكن استفادتها من القرآن الكريم، حيث نرى أن اليهود والنصارى في منطقهم الحواري يُوصدون الأبواب على سائر البشر، ويمنعون من التلاقي والحوار حتى في المجال الديني، ناهيك عمّا يلجؤون إليه من أساليب متناقضة لتسويغ منطق العزلة، فنراهم مثلاً يدّعون أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، رغم أن إبراهيم (عليه السلام) كان حنيفاً مسلماً، كما بيّن القرآن، متهماً إياهم بالمحاججة بغير علم، وهذا يكشف عمّا كان عليه هؤلاء من حوار زائف ومضلل يرومون من خلاله تشويه الخطاب الديني واستخدامه في ممارسة القهر والطغيان على الناس ليكونوا هوداً أو نصارى. وهنا تكمن الغرابة أن يتحوّل الدين إلى مصدر تضليل وتفريق بدل أن يكون سبباً لجمع الكلمة وتوحيد الناس، والحق يُقال: إنه لم يسبق لأحد ممن لا ينتمون إلى دين، أو رسالة سماوية أن اعتمد هذا الأسلوب الحواري، الذي لا يستند إلى المنطق في تسويغ المصالح على أساس ديني، حتى المشركين، فإنّنا نجد منهم المعارضة الصريحة لمنطق الإيمان، ويعارضون الرسل والأنبياء، ويدّعون ما لم ينزل الله به سلطاناً، ولكنهم مع ذلك لا يمارسون أساليب الخداع بالطريقة التي مارسها الكثير ممن زعموا أنهم ينتمون إلى الأنبياء!؟

لقد قدم القرآن رؤية واضحة عمّا كان عليه اليهود والنصارى في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخاصة حول اليهود وما كانوا عليه من مكر وخداع وادعاءات دينية مزيّفة، فكانوا، كما بيّن القرآن، أشدّ عداوة للذين آمنوا، حيث تلبّسوا بالمشركين في مكة وغيرها لمواجهة الإسلام في وقت كان يُفترض فيهم أن يكونوا إلى جانب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما دعا إليه من دين وإيمان، ولكنهم اختاروا التآمر على التعاون، وساعدوا المشركين بالمال والسلاح، كما فعل بني قينقاع بعد معركة بدر، ويهود بني النظير بعد معركة أُحد، ويهود بنو قريضة بعد معركة الأحزاب [63] ، ما يدلّل على أن اليهود كانوا أشدّ عداوة ليس فقط لأهل الإيمان، بل للإنسانية، مرتكزين في ذلك إلى عصبيتهم وعرقيتهم. ولهذا، فإنه لم يصدر منهم أي حوار صادق مع الأنبياء فضلاً عن أنفسهم. ولا شكّ في أن الغرابة لا تنقضي فيما لو علمنا أن تاريخ الصدام بين البشر، هو ذو منشأ ديني ساهم فيه اليهود إلى حدّ كبير، وكل مَن ذهب إلى القول بالصراع الحضاري بين البشر، هو يرتكز في ذلك إلى تسويغات دينية سبق لليهود أن قدّموها في تسويغ صراعاتهم الدينية والعصبية والعرقية مع الشعوب الأخرى، فهم لم يكونوا إطلاقاً على وضوح في الرؤية الإيمانية لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان الرسالي. فخرجوا من كونهم أهل حوار، ليكونوا سبباً في الصدام بين البشر، ولهذا نجد القرآن الكريم يصفهم بالظالمين حيثما ذكروا، وكيفما ذكروا، كما قال الله تعالى في آخر الآيات التي عرض فيها لأقوال وأحوال اليهود: ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ﴾. وهذا ما لم نلحظه في الخطاب مع أهل الكتاب، ولا مع النصارى، بل خصّ به اليهود لكونهم مردوا على الظلم ولم يُعهد منهم في تاريخهم الديني أن أنصفوا الناس من أنفسهم حتى أولئك الذين ينتمون إليهم في القومية، ونعني بهم النصارى، الذين مارسوا معهم أبشع أنواع الظلم، وغير خفيّ على أحد ما كان منهم من أفعال مشينة بحق الأنبياء، وخاصة النبي عيسى (عليه السلام) وأمّه الصدّيقة مريم (عليها السلام).

وهكذا، فإنّ القرآن في خطابه المتكرر إلى بني إسرائيل، ومن ثمّ إلى اليهود، والنصارى، ومن ثمّ إلى أهل الكتاب، وخاصة فيما يعرض له من آيات في كيفية تعامل المسلمين مع أهل الكتاب، أو مع اليهود والنصارى، نلاحظ أنّ هذا الخطاب يوجّه الإنسانية إلى الحوار من خلال استيحاء الفعل التاريخي للبشر وما انتهوا إليه من تجارب، وهذا التوجيه يرتكز إلى ثوابت أساسية أراد الله تعالى لها أن تكون حاكمة ومُعاشة لدى مَن يعيش مع هذا الخطاب الإلهي، ويمتثل له في ما جاء به من أوامر ونواهٍ وحوارات مع أهل الأديان، ومن هذه الثوابت أن يعلم أهل الإيمان أن مَن يوصف بالظلم دائماً ليس كمثل مَن يخاطبه الله بالحسنى، ويدعوه إلى كلمة سواء، وهذا ما يمكن استفادته من خطاب القرآن مع أهل الكتاب، حيث قال الله تعالى: ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [64] ، فلم يأتِ القرآن على الظلم في خطاب يا أهل الكتاب، في حين أن اليهود ما ذكروا في آية إلاّ وكان آخرها: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾، أو ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾. وهذا يتطلّب من أهل الإيمان، ومن كل مَن ينتمي إلى الدين الحنيف أن يكون مستوعباً لخطاب القرآن مع البشر باعتباره خطاباً عالمياً، ويُعطي كل إنسان حقه فيما كان له من تاريخ وإيمان في ضوء حركته التاريخية، ومن خلال تفاعل الأحداث وصيرورة التحولات الإنسانية التي انتهت إلى أن يكون الإسلام ـ القرآن ـ هو الكلمة النهائية في تاريخ البشرية. لذا، فإن الارتكاز إلى هذا الخطاب من شأنه أن يمنح الإنسان فرصة وإمكانية أن يهتدي إلى ما يؤسس له القرآن من تعارف وتعايش في ضوء المبادئ التشريعية العامة التي جاء بها القرآن، وهي التي سمّيناها بالثوابت، إذ إنّه من شأن الاهتداء بهذه المبادئ الثوابت أن يهتدي الإنسان إلى إيجاد مسوّغات إقامة علاقات مسالمة تكون قاعدة للتواصل... بعيداً عن مخزونات التاريخ والأحداث والتجارب التي ما عرض لها القرآن إلاّ لتكون نوراً يضيء الطريق لعلاقات سليمة، لا بهدف أن تشكل عوائق في طريق الحوار بين البشر، فإذا كان القرآن قد أظهر التمايز بين اليهود والنصارى من جهة، وبين أهل الكتاب من جهة ثانية، فذلك ليس من أجل وضع الحدود والسدود، ولا من أجل إيجاد مناطق معزولة في الدائرة الإنسانية الكبرى، وإنّما من أجل التبصّر في مجالات التحولات الإنسانية، وبكل ما اعترض هذه التحولات من عوائق دينية كان لليهود الدور الأكبر في ابتداعها للحيلولة دون أن يكون للإنسان تواصله الديني والإنساني والحضاري.

إنّ اليهود كانوا أكثر ظلماً وأشدّ عداوة بما أقدموا عليه من ممارسات اتجاه أهل الإيمان، وهذا ما عرض له القرآن تبياناً لحقيقة أمرهم، وتحذيراً منهم ليكون المجتمع الإنساني بمأمن من غوائلهم ومكائدهم، وقد حصل أن جاء الإسلام وانتصر عليهم ليؤكد أن الظلم سواء أكان مصدره أهل الإيمان، أم غيرهم من بني البشر، لا بدّ أن تكون له نهاية وخيبة، كما قال الله تعالى: ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ﴾  [65] .

إنّ ثوابت الحوار القرآني تدلّل على أن الإنسان المسلم يمكنه أن يتّعظ بالتجارب، وأن يترصّد الأحداث، وأن يتبصّر بالنفوس، ليهتدي إلى ما ينبغي أن يتحوّل إليه في مسيره الإيماني، وإذا كان من هذه الثوابت المبادئ أن يكرّم الإنسان، وأن يتعارف ويتواصل مع الإنسانية، وأن يستمرّ في حمل الأمانة، فهذا مما تقتضيه عالمية الرسالة الإسلامية، التي أقرّت بحرية الاعتقاد واحترام الخصوصيات للبشر بحيث يكون لكل جماعة ما تبتغيه من تحوّل إنساني وإيماني على قاعدة: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾، وهي قاعدة تمنح المجتمعات الإنسانية حرية التحوّل الإنساني وفاقاً لما يعتقده الإنسان من دين ورؤية وهدف، وهذا كله يبقى مشروطاً بأن لا يكون الظلم والتظالم سبيلاً إلى الحوار، أو إلى التحقق في الوجود على النحو الذي يؤدّي إلى أن يكون الناس متغالبين مقهورين في علاقاتهم الدينية وتحوّلاتهم الإنسانية.

إنّ القرآن يؤسس لهذا المعنى، ويدعو إلى الحوار لا مع أهل الكتاب وحسب، وإنّما مع الإنسان كل إنسان بمعزل عن لونه وعرقه وجنسه، لما تقدم ذكره من أن الإنسان أخو الإنسان، وللجميع حق الكرامة الإنسانية، وحق التعارف والتواصل في ضوء الرؤى الإيمانية والثوابت والمبادئ العامة التي أسس لها القرآن في ضوء قوانين الخلق والوجود والتنوع البشري...

وتأسيساً على ما تقدّم، نرى أنه لا يمكن أن يتعايش البشر إلاّ في إطار الرؤية الدينية الجامعة، والأصول الإيمانية الكبرى التي جعلت من الحوار أساساً ومرتكزاً لكل تحوّل إيجابي في حياة الإنسان، فأهل الأديان جميعاً، ورغم ما تمايزوا به في إطار التجربة التاريخية، وفي ظلّ ما هم عليه من تمايز في الرؤية الدينية، فهم جميعاً يمتدون في الزمان والمكان والتاريخ ليكون لهم الخلاص والنجاة، وليس عليهم سوى أن يعتبروا بالماضي، وأن يستخلصوا العبر من تجاربهم، حتى تكون لهم الهداية في طريق تواصلهم الإنساني.
وإذا كان للحوار القرآني أن يسلّط الضوء على مفردات الخطاب لبني إسرائيل أو لأهل الكتاب، أو لليهود والنصارى، أو للذين آمنوا، فذلك كله يأتي به القرآن، متنوعاً ومختلفاً ليكشف لأهل الإيمان أن الذي تكون له الحياة، وتكون به الحياة هو ما أسس له الأنبياء ودعوا إلى امتثاله، وما على المسلم الذي توجّه إليه الخطاب إلاّ أن يكون في دائرة هذا الامتثال، بعد أن يكون قد استوفى كامل شروط الوعي والتحقق في التجربة التاريخية، بحيث يعلم أن مقتضى الكرامة والحرية، كما جاء بها القرآن، أن لا يكون المسلم في تجربته مشابهاً لما كان عليه أسلافه من عصبية وعرقية وأهواء تمنعه من التواصل مع أهل الإيمان، أو تدفع به إلى الرؤية المغلقة التي تؤول به إلى الصدام والتصارع مع الآخرين.

إنّ الإنسان المسلم مدعوّ للحوار في إطار الرؤية الدينية والمبادئ التشريعية العامة التي هي أساس كل حوار، ومن هذه المبادئ احترام الخصوصيات الثقافية للشعوب، والدعوة بالحسنى إلى سبيل الله، بعيداً عن التعصّب والإكراه، كما قال الله تعالى: ﴿ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ  [66] .

 

 

خلاصة واستنتاج

 

 

لا شكّ في أن وجوه الحوار في القرآن جاءت مختلفة ومتعددة، وقد بينّا في ما سبق من بحوث أن الخطاب الإلهي مع أهل الكتاب ليس واحداً، كما أنه رغم كل ما جاء به من نقد، وعبّر عنه من استياء في الحوار مع بني إسرائيل، أو مع أهل الكتاب، أو مع اليهود والنصارى، أو مع المسلمين، نراه يقدّم رؤية واضحة للحوار على قاعدة الإنسانية وأصول الإيمان الكبرى، وهذا ما يمكن ملاحظته واستيعابه من المبادئ التشريعية العامة، أو ما أسميناه بالثوابت القرآنية التي لا بدّ من الانطلاق منها في تأسيس قواعد الحوار الإنساني للبناء عليها في صيرورة التحوّل التاريخي، الذي كان ولا يزال له التأثير الكبير على مجريات الأمور في حياة البشر، وإذا كان القرآن قد لحظ هذا الجانب التاريخي فيما قصّهُ عن تاريخ الصراعات بين الأنبياء وأقوامهم، فإنّ ذلك، كما رأينا، لم يكن بهدف استحضار التاريخ لمجرّد التذكير، وإنّما هو يهدف إلى الاعتبار والاستفادة من تجارب الأمم والشعوب، لأنّ السنن التاريخية، كالسنن الكونية، لا يمكن تجاوزها وعدم الاكتراث لها، كونها سنناً حاكمة، كما قال الله تعالى: ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾ [67] . وقوله تعالى: ﴿ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [68] .

إنّ ما يعرض له القرآن من حوارات مع الإنسان، يُظهر مدى الاعتبار القرآني للحوار في أجواء التواصل الإنساني، وهذا ما يمكن استنطاقه من الآيات القرآنية المباركة، بدءاً من حمل الأمانة وما تقتضيه من حرية ومسؤولية، مروراً بما تقتضيه حقيقة الاستخلاف في الأرض، وانتهاءً لما يؤول إليه الإنسان من مصير في صيرورة تحوّله نحو خالقه ليكون له الفوز العظيم أو الخسران المبين. فالإنسان في خطّ تواصله على هذه الأرض لم يخلق عبثاً ولم يترك سدًى، وإنّما هو مخلوق مكرّم، وله قيمة وإرادة أن يستجيب لنداء الحوار، تماماً كما كان له إرادة وحرية أن يشهد بقوله «بلى» حينما أشهده الله تعالى بقوله: ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ... ﴾  [69] ، ومن هنا نرى الأيام التي خلت وعبرها الإنسان ليس من الضروري أبداً أن تكون من الماضي، أو أن تصبح ماضياً، لأن المبادئ والثوابت كما جاءت بها الأديان، هي التي ترسم مسارات الأحداث، وتحدّد ملامح التحولات الإنسانية، سواء في الماضي، أم في الحاضر، أم في المستقبل.

وهذا ما قدّمه القرآن فيما عرض له من رؤى وتحوّلات في التاريخ الديني للبشر، فهو يؤكّد على ضرورة التواصل مع التاريخ والأحداث والتجارب للاعتبار بها في خطّ التواصل الإنساني، بحيث يكون للإنسان معناه في الزمن والتاريخ، فلا يخرج عن كونه هو الذي استخلف في الأرض للعمل وفاقاً لإرادة الله تعالى، كما قال الله تعالى: ﴿ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [70] .

لقد بينّا في بحوثنا السابقة أن من أهداف خلق الإنسان، من ذكر وأنثى، أن يتواصل ويتعارف، وقد هداه الله النجدين إما شاكراً وإمّا كفوراً، هذا فضلاً عمّا خصّ به الإنسان من نعم إلهية ظاهرة وباطنة للقيام بالدور المناط به في ضوء ما آتاه من لدن الله تعالى من هدى لكي لا يضلّ ولا يشقى، وهو من حيث هو إنسان وخليفة لله في الأرض، لا يسعه إلاّ أن يكدح في طريق الحق لتحقيق التكامل الإنساني، فلا تكون النعوت والأوصاف والتميزات الزمانية والمكانية والدينية قيداً له عن أن يتواصل مع بني نوعه بعيداً عن أسر الأعراق والعصبيات والأجناس، لأنّ الله تعالى لم يميز بين البشر على أساس ذلك، وإنّما خلقوا للعبادة، وخصّوا بالإنسانية، وكما قلنا: إنّ الإنسان قادر فيما فطر عليه وأُهِّلَ له على تحقيق تمايزه في الدائرة الإنسانية الكبرى من خلال التعارف والتواصل في ضوء ما جاء به الأنبياء والرسل من تعاليم وأحكام وقوانين لهدايته وإخراجه من الظلمات إلى النور بما يرشدونه إليه ويعلِّمونه إيّاه في طريق أمانته وشهادته...

والحق يقال: إنه ليس من فراغ، ولا من عدم، أن يأتي الخطاب الإلهي للإنسان بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [71] ، فهو خطاب ناظر إلى أن البشر لا بدّ أن يكونوا على مستوى هذا الهدف الإلهي، فينطلقوا في طريق الإيمان لتحقيق هذا الهدف، كما أن الخطاب كاشف عن أن معنى الكرامة والتفاضل إنما يكون بالتقوى التي هي ميزان التفاضل بين البشر، وما كان للبشر من دراية بهذه التقوى لولا أن الأنبياء قد دلّوا عليها وأرشدوا إليها من خلال ما جاؤوا به من أوامر ونواهٍ وأحكام وقوانين إلهية يهتدي الإنسان من خلالها إلى سبل نجاته في الدين والدنيا.

إن الناس لم يخلقوا لأجل أن يتصارعوا في الدين والدنيا، وإنّما ليتسابقوا بالخيرات، ويتعارفوا بالحق ويشقّوا أمواج الفتن بسنن النجاة كما أمرهم الله تعالى، فلا يكونوا أهل صراع وتنافس في الباطل، بل أهل حوار وتعارف. أما إذا لم يكن منهم ذلك، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق في بناء علاقاتهم الدينية والإنسانية، فإنهم لا يلبثون أن يسقطوا في الصراع والصدام، لأنه النتيجة الحتمية والطبيعية لتخلّف البشر عن أمر الله تعالى، وعن الاحتكام للسنن التاريخية الحاكمة، والتي سبق لها أن عملت بالأقوام السابقين حينما تخلّفوا عن إعمال القوانين والمبادئ الإلهية والشروط الموضوعية. فإذا ما حصل هذا فإنّ النتيجة، كما قلنا، ستكون الصدام والصراع والتنازع الذي يفضي في النتيجة إلى التخلف عن المهام الإنسانية الكبرى، التي أوكلها الله للإنسان للقيام بها، وهذا ما سبق لنا أن تحدّثنا عنه فيما عرض له القرآن من معنى الدفع، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ ... ﴾ [72] حيث بيّن تعالى أن الدفع ليس صداماً بقدر ما هو سنّة فطرية من شأنها أن تصحح مسار التعارف الإنساني، وتمنع من خروج الإنسان عن ما تقتضيه سنن الخلق والوجود، فضلاً عن سنن التاريخ.

من هنا، فإنّ نظرية الدفع لجهة ما تعنيه من تشريع للجهاد كخيار نهائي للحفاظ على شعائر الدين والإيمان بما ترمز إليه من حياة في تاريخ البشر، إنّما هي وسيلة من وسائل الحفاظ على المجتمع الإنساني، لكي لا تطاله يد الطغيان والفوضى والتنازع بالشكل الذي يؤدّي بالإنسان إلى أن يكون مستغرقاً في صراعاته، وهي نظرية ليست خياراً بقدر ما هي ضرورة تحتّمها ظروف المجتمع وتحوّلاته الفطرية التي تنشأ عن مخالفة القوانين والمبادئ الإلهية. ولهذا، فإنه يمكن القول بأن الصراع والصدام، إنما يكون من جهة الناس، وليس من جهة ما جاء به الأنبياء، كما أنها ليست من مقتضيات سنن الخلق والوجود على النحو الذي يفهم منه أنها سنّة تحتمها حقائق التعدد والتنوع في الخلق والتكوين. إنها خيار نهائي في تحوّلات الصراعات البشرية المتناقضة، والتي تدفع بأهل الإيمان إلى أن يكونوا على مستوى حمل الأمانة، والقيام بشؤون الخلافة، ويبقى قوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾، هو الذي يحدّد مسار التعارف بين البشر، بحيث لا يتحول التعارف إلى صراع وصدام، بل يبقى في إطار الهدف الأسمى الذي خلق الإنسان لأجله، وجاءت الأنبياء والرسالات للهداية إليه، والتعبير عنه فيما يؤدونه من مهام رسالية في كل زمان ومكان. ذلك أن التقوى المشار إليها في قوله تعالى، لا تعني إطلاقاً ما يأتي به الإنسان من أعمال عبادية في حياته الخاصة، بل هي تقوى من نوع آخر، يقول شمس الدين: «إن الهدف الأعمق من تنوع الجنس البشري هو التعارف، ومعيار التفاضل في هذا المجال هو التقوى العملية في السلوك مع الآخر، والوفاء بالالتزامات التي يفرضها نظام العلاقات الإنسانية في الاجتماع الانساني داخل المجتمع الوطني، وعلى المستوى الدولي. فالتقوى لا تعني ممارسة المسلم لعباداته ومعاملاته، بل تقوى الإنسان المسلم وغير المسلم في ممارسة علاقاته مع الناس وفق مبدأ العدالة والإنصاف القائم على الاعتراف للأمة بحقوقه...» [73] .

إنّ معنى التقوى، بما هي أداء سليم للعلاقات، إنما تعني ملاحظة الأخوة الإنسانية، التي يفترض مراعاتها في طريقة التواصل والتعاون، سواء مع المسلمين، أم مع غيرهم ممن لا ينتمون إلى الإسلام، ومن هنا، نرى أن الخطاب الإلهي إلى بني إسرائيل، أو إلى أهل الكتاب، أو إلى اليهود والنصارى، يقوم على هذه الثابتة الإنسانية والأساسية التي نصّ عليها القرآن في مبادئه وتشريعاته العامة...

نهاية القول: إنّ أهل الكتاب كما بيّن القرآن تقع عليهم مسؤولية التحول الديني والإنساني في خطّ التواصل الرسالي، فإذا لم يستجيبوا لنداء الله تعالى فيما أمرهم به ونهاهم عنه ودعاهم إليه في طريق تواصلهم وتعارفهم على مستوى الإيمان، فضلاً عن الحياة العامة، واستمروا بالدعوة تحت عناوين دينية وقبائلية وعصبية، تماماً كما جرى مع اليهود حينما لم يمتثلوا لأمر الله تعالى، سواء في عصر نبيهم موسى (عليه السلام) أم في عصر رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أدّى بهم ما كانوا عليه من عناد وفساد وعبثية دينية إلى التنافر والصدام مع النصارى والمسلمين معاً، بل مع المجتمع الإنساني كله، وحيث وطأت أقدامهم، وحطّت رحالهم! فلن يأمن أحد من شرورهم، هذا فضلاً عمّا أسّسوا له من صراعات دينية في التاريخ. وإذا كان التصادم والصراع هو سمة المرحلة التي عايش فيها الإسلام اليهود في الجزيرة العربية، فذلك إنما يمكن فهمه ولحاظه في ضوء ما تمتّ مخالفته من قواعد وثوابت ومبادئ تشريعية، وقد أدّت هذه المخالفة إلى تحويل الصراع عن كونه صراعاً تدافعياً ليكون صراعاً دينياً، وصداماً وجودياً حتّم على دولة الإسلام الأولى أن تُخرج اليهود من المدينة بما كسبت أيديهم، كما قال الله تعالى: ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [74] .

كما يمكن القول أيضاً: إنّ تاريخ الأديان حافل بالصراعات الدينية بسبب النزاعات والعصبيات التي كانت تحول دون التقوى في العمل، سواء في المجال العبادي، أم في المجال السياسي، ولا زال الإنسان الرسالي يعاني حتى يومنا هذا من شرور ومعاصي اليهود، وهذا ما لا غرابة فيه لكون اليهود بما كانوا عليه من أهواء وعناد وفساد وتحريف للدين امتدوا في تاريخ الإنسانية، فكان لهم فعلهم في تاريخ الإسلام، كما كان لهم فعلهم في تاريخ المسيحية، وها هم اليوم يمتدون بأوصافهم، ويفسدون في الأرض، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل!

وكما قلنا سابقاً، إنّ السنن التاريخية لا بدّ أن تعمل فيهم في الحاضر والمستقبل كما عملت فيهم في الماضي، إذ إنهم لم يعتبروا بالتجربة، ولم يتواصلوا ويتعارفوا على أساس التقوى، بل اختاروا الصدام والقتال، وهذا ما لا يمكن أن يكون دليلاً على ما يدَّعيه البعض من أن الأديان تُقرّ الصدام الحضاري بين البشر، بل هو دليل على أن الناس، وخاصة مَن أساء للأديان، هم الذين اختاروا الصدام، تماماً كما اختاروا أن يكونوا عصاةً لله تعالى فيما أمرهم به ونهاهم عنه. وبالتالي، فإنّ الخيار لا بدّ أن يؤدّي إلى الخسارة الدنيوية والأخروية، كما أن نجاح أهل الكتاب فيما يزعمونه من صراع ديني وحضاري، لا يمكن اعتباره دليلاً على صحة ما يذهبون إليه في دينهم، وإنّما هو نجاح مؤقّت لا تبرّره الشرائع، ولا تدعو إليه الأديان، لأنه يقوم على القهر، والإكراه في الدين، خلافاً لما أمر الله به ونهى عنه، وهذا مثلما أنه ينطبق على أهل الكتاب، فإنه ينطبق على غيرهم، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، وقد حصل في التاريخ أن مارس المسلمون القهر تحت عناوين دينية وحضارية، إلا أن ذلك لم يدم طويلاً، وكانت الخسارة محققة للمسلمين، لأنهم أساؤوا الفهم للنظرية الإسلامية فيما لجأوا إليه من تطبيقات عملية اعتقدوا أنها تحمل خصائص النظرية، ولكنها في الحقيقة كانت تحمل خصائص ومميزات أهل السلطة والسلطان.

إذن، القرآن يُقدم رؤيته الحضارية والثقافية، وقبل ذلك الدينية في سياق رؤية متكاملة لحقيقة ما عليه الناس من فروق وتفاوت في القدرات والكفايات، وقد دعا إلى الحوار والمجادلة بالحسنى، وإدارة الخلافات وفاقاً للأخوة الإنسانية، فيما لو انعدمت الرؤية الدينية، بحيث يؤدّي الأمر إلى تنافس بنّاء في المصالح والأهداف، فإذا ما تخلّف الناس عن ذلك، فإنهم يكونون قد خالفوا أمر الله وادّعوا زوراً وبهتاناً انتماءهم إلى الأديان. ولا شك في أن القرآن يقدّم للناس هذه الرؤية ليكونوا على بيّنة من أمرهم فيما يلجؤون إليه من أعمال، وفيما يؤدونه من شعائر وفرائض دينية، كما بيّن القرآن أيضاً معنى أن يتخلّف اليهود والنصارى عن نداء الحق، فدعا إلى عدم اتخاذهم أولياء لكونهم قد جانبوا الصواب، واختاروا أن يكونوا على غير سبيل الهداية. حيث قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾  [75] ، وليس ما يذهب إليه هذا الفريق أو ذاك، من أهل الإيمان، وبذلك يكون القرآن قد وضع الأسس السليمة لإدارة عملية الحوار والتعارف لإقامة المجتمع الإنساني السليم، الذي يتكامل فيه الناس على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، وكما قال الله تعالى: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [76] . أما إذا ادعى كل فريق أن الهدى في جانبه، وأن الحق رائده دون غيره من أهل الأديان، فإن الأمر يكون كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾ [77] ، إلى غير ذلك من الآيات التي توضح السبيل إلى ما يريده الله تعالى من عباده فيما أمرهم به ونهاهم عنه، سواء في التوراة أم في الإنجيل أم في القرآن.

 

 

ثالثاً: حوار القرآن ومنطق التكفير

 

 

 

تمهيد

 

 

يتساءل كثيرون، ممن يبحثون في الشؤون الدينية، عمّا إذا كان ممكناً إجراء الحوار مع أهل الإيمان في ضوء منطق التكفير الذي تنطوي عليه بعض الآيات القرآنية بحق اليهود والنصارى؟ ويرى هؤلاء أن هذا المنطق يسجّل موقفاً عدائياً من أهل الكتاب [78] ، وهنا يكمن السؤال الأساسي، ما هي جدوى الحوار والقرآن يحكم مسبقاً بكفر من لا يحتكم إلى رسالة الإسلام، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [79] . كما يتساءل البعض أيضاً عمّا إذا كانت النصرانية التي توجّه إليها القرآن بالنقد، هي النصرانية المعاشة اليوم، وهناك الكثير من الآباء الذين طرحوا هذه التساؤلات، وكان آخرهم المطران جورج خضر، وغيره من المطارنة الذين أثاروا الجدل حول هذا النقد القرآني للمسيحية [80] ، وقد تقدّم الكلام في أن القرآن استحضر تاريخ بني إسرائيل، وأهل الكتاب بكل ما ذهبوا إليه في مجال العقيدة ليجادلهم، ويبيّن تهافت الآراء والمعتقدات الدينية لديهم. والقرآن، كما نعلم، لم يستحضر التاريخ لمجرد عرض الرأي، وإنما بهدف الاستناد إلى طبيعة وحقيقة ما تقتضيه السنن التاريخية، بحيث يتمكّن الإنسان المؤمن من الاعتبار بها والانطلاق منها في صياغة رؤيته الدينية والإنسانية في ضوء ما جاء به الرسل والأنبياء، وبما أن القرآن هو الكلمة النهائية والكاملة في التاريخ الديني، فإنّه لا بدّ من تبيان أهم المقولات التي سادت في حياة أهل الإيمان، وخاصة أهل الكتاب ليكون المؤمن على بيّنة من أمر دينه، لعله بذلك يهتدي إلى سبل السلام. فالقرآن يحاور لا بهدف التكفير أو اللعن، بل بهدف إظهار ما كان عليه اليهود والنصارى في تاريخهم الديني، وإثارة دفائن العقول للتدبر والتعقّل فيما تعنيه العقيدة والشريعة في حياة الإنسان، وفيما جاء به الأنبياء لهدايته من قوانين وتعاليم ووصايا، وهو هدف، كما بيّن القرآن، سعى إليه الأنبياء جميعاً، وكلّموا به الإنسان في التوراة والإنجيل والقرآن، وقبل ذلك في صحف إبراهيم (عليه السلام).

ومن هنا، نرى أن التكفير الذي عرض له القرآن في بعض الآيات ليس موقفاً عدائياً من أهل الكتاب، كما رأى المطران بسترس، أو غيره من الآباء، إذ كيف يكون ذلك صحيحاً، والقرآن في ندائه يقول: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ... ﴾؟

إن الكفر الذي تتحدّث عنه الآيات، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ ... ﴾ [81] ، هو كفر الذين احتبستهم الأماني، وادّعوا أن الجنّة هي حكرٌ على مَن كان يهودياً أو نصرانياً، ورأوا في إبراهيم (عليه السلام) ما لم يره فيه الله تعالى من دين وانتساب، فقالوا: إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، أو قالوا: كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، وغير ذلك مما جادل فيه أهل الكتاب دونما التفات إلى التحققات التاريخية لهم، وبمعزل عمّا إذا كانت النصرانية اليوم هي غير النصرانية التي خاطبها القرآن ودعا إلى الحوار معها، باعتبار أن القرآن صادق، ولا ينطق عن الهوى فيما جاء به من أوصاف في الاعتقاد والعمل، وآياته تنطق بالحق فيما زعمته كل ديانة أو فرقة في العقيدة والشريعة والأخلاق، ولا شكّ في أن كل محاججة قرآنية، سواء مع بني إسرائيل، أم مع اليهود، أم مع النصارى، أم مع غيرهم ممن كانت لهم شبهة كتاب، أم مع الصابئة الذين عرضت لهم بعض الآيات، كل محاججة إنما كانت تهدف إلى إقامة الحوار والمجادلة بالحسنى، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ [82] .

إذن، التكفير إنما يطال تلك الفرق التي لم تهتدِ إلى حق، واستمرت في الدعوة إلى الباطل، وقالت على الله تعالى غير الحق فيما رأته من دين وعقيدة، هذا فضلاً عمّا لجأت إليه بعض الفرق والديانات من تحريف وتقتيل، إضافة إلى قتل الأنبياء وتكذيبهم فيما جاؤوا به عن الله تعالى. أما أن يقال: إن التكفير يشكل موقفاً عدائياً مسبقاً بين أهل الإيمان، فذلك قول غير صحيح، وتنقصه الأدلة والبراهين، وقد ناقش القرآن الكثير من المعتقدات، مقدماً الأدلة والبراهين الساطعة على عدم صحتها، فلو كان القول بكفرهم موقفاً عدائياً لما استحضروا من التاريخ، ولما نوقشوا في تاريخ الإسلام، ولما استمرت الدعوة إلى الحوار مع أهل الكتاب، وبما أن هذا كله قد حصل، فهو خير دليل على ما يتضمّنه القرآن من روحية حوار ومنطق سديد وسليم في الدفاع عن العقيدة الحقة التي ينبغي على أهل الإيمان أن يهتدوا إليها في كل عصر وزمان، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ [83] .

فالله تعالى يقول: إن الإسلام هو الحق، وهو الهدى، وليس بعد الحق إلا الضلال، ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [84] .

وإذا كان للتكفير من معنى حقيقي وجوهري، فإنه يمكن لحاظ هذا المعنى في سياق الرؤية الدينية الكاملة، التي تشخّص الأقوال والأحوال، وتظهر مدى العناد الذي مارسه بعض أهل الكتاب، أو فريق منهم في مواجهة دعوة الحق التي جاء بها الإسلام، لأن المحاججة القرآنية دفعت بالكثيرين من اليهود والنصارى إلى الإيمان بالرسالة الجديدة، والأخذ بها عقيدة وعملاً، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ... ﴾ [85] . في حين أن الفريق الذي رفض الدعوة وعاند في قبول الحق، وأعلن العداء للإسلام والقرآن، فهذا الفريق اختار بإرادته أن يكون كافراً وفاسقاً وظالماً، وهذا ما يشخّصه القرآن ويبيّنه في جملة من الآيات المباركة التي تراوح فيها الوصف بين أن يكون الإنسان جاحداً أو معانداً، أو مكابراً، أو منافقاً، أو كافراً، أو فاسقاً، أو ظالماً، إلى غير ذلك من الآيات التي تميّز بين أهل الكتاب بالأوصاف، وتفصل بينهم فيما زعموه من قول وفعل، في الاعتقاد أو في غيره، وقد تجلّى هذا الأمر فيما عرضنا له عن الخطاب القرآني المتنوع مع أهل الكتاب تارة، ومع اليهود والنصارى طوراً، وثالثاً مع بني إسرائيل الذين خوطبوا بأن لا يكونوا أول كافر به، كما قال الله تعالى: ﴿ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ... ﴾ [86] . ثم إن طبيعة الحوار القرآني ليست قائمة على مبدأ الرفض للآخر لما هو معلوم عن جوهر رسالة الإسلام لجهة كونها حافظة ومهيمنة على ما جاء به الرسل والأنبياء، ما يحتّم أن تكون رسالة هادية وكاشفة عن الحق والهدى ليكون الإنسان على بصيرة من نفسه ودينه، فإذا ما أخذنا التكفير على أنه أسلوب رفض وإلغاء، فإننا نكون قد جانبنا الحقيقة، وقلنا بغير علم، ذلك أنّ ما وصف به أهل الكتاب، أو اليهود، أو بنو إسرائيل، إنما هو ناظر إلى أعمالهم وما هم عليه من رؤى وأفكار تطال الدين والمجتمع والإنسان، كما أنه لاحظ لطبيعة تحولات أهل الكتاب، وليس مجرد حكم يطلقه القرآن عليهم، أو أنه يراد لهم أن يكونوا على ما هم عليه، بل هم الذين اختاروا الكفر على الإيمان، ﴿ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [87] .

 

 

 

أ - الحوار والقتال في القرآن

 

 

يعرض القرآن الكريم للحوار في مجموعة من الآيات التي توقفنا عندها ملياً في بحوثنا السابقة، ولكن السؤال الذي يطرحه بعض الباحثين هو: كيف يمكن التوفيق بين الدعوة إلى الحوار وبين الآيات التي تأمر بقتال أهل الكتاب، وتضعهم في مصاف المشركين، أو على الأقل تجعلهم على شبه بهم. وخاصة في الآيات التي عرضت لهم فيما زعموه بأفواههم، كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [88] .

يقول العلاّمة مكارم الشيرازي: «في الآيات محل البحث بيان لوجه الشبه من أهل الكتاب والمشركين، ولا سيما اليهود والنصارى، وهذا الشبه لانحرافهم عن التوحيد، وميلهم إلى نوع من الشرك في العقيدة، ونوع من الشرك في العبادة» [89] .

وغير خفي أن الأمر بقتال أهل الكتاب كما جاء في الكتاب العزيز لا يمكن فهمه إلاّ من خلال دلالة السياق، حيث نجد أن الأمر بالقتال لم يأتِ مباشرة، وإنّما جاء معلَّلاً بحيث يفهم منه أن سبب القتال وعلّته هو أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يدينون دين الحق، فهم لكونهم كذلك، سواء أكانوا أهل كتاب، أم لم يكونوا يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية، وهذا ما عرضت له سورة التوبة فيما قدّمته لجهة البراءة من المشركين، ومقاتلة أئمة الكفر، ثم الأمر بقتال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، كما قال الله تعالى: ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [90] ، وكما رأينا أن علّة قتالهم هي أنهم لا يؤمنون بالله تعالى، ولا باليوم الآخر... وهذا الأمر يشمل كل أهل الكتاب لكون من بيانية وهي للجنس وليست تبعيضية، كما يقول علماء التفسير. تماماً كما في قوله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ﴾ [91] .

يذهب العلامة الطباطبائي في الميزان [92] ، والزمخشري في الكشاف [93] ، والطوسي في التبيان [94] ، والطبرسي في مجمع البيان [95] ، إلى أنّ الآية، وإن كانت تشير إلى شبَه بين أهل الكتاب وبين المسلمين إلاّ أنها من جهة أخرى تشير إلى شبه بينهم وبين المشركين، وكما يقول الزمخشري ويوافقه الطباطبائي، إنّ الآية تنفي الإيمان بالله عنهم لأن اليهود مثنية والنصارى مثلثة، وإيمانهم باليوم الآخر لأنهم فيه على خلاف ما يجب، وتحريم ما حرّم الله ورسوله، لأنهم لا يحرِّمون ما حرّم في الكتاب والسنّة [96] ، وقد أكمل العلامة الطباطبائي هذا المعنى بالمزيد من الرؤية الموضوعية، فرأى أن الله تعالى ينسب إليهم في كلامه أنهم يُثبتونه إلهاً، وكيف لا؟ وهو يعدهم أهل الكتاب، وما هو إلاّ الكتاب السماوي النازل من عند الله على رسول من رسله ويحكي عنهم القول أو لازم القول بالألوهية في مئات الآيات من آيات كتابه. إنّ المراد بعدم إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر عدم تلبّسهم بالإيمان المقبول عند الله تعالى، وبعدم تحريمهم ما حرّم الله ورسوله وعدم مبالاتهم في التظاهر باقتراف المناهي التي يُفسد التظاهر بها المجتمع البشري، وبعدم تديّنهم بدين الحق، عدم استنانهم بسنّة الحق المنطبقة على الخلقة والكون [97] .

ويبقى الفرق فيما بين المشركين وأهل الكتاب، هو أن الله تعالى أمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وهنا يكمن الفارق الأساسي والجوهري أن قتالهم لا يكون بهدف اقتلاعهم كالمشركين، وإنّما بهدف إعطاء فرصة للعيش معهم فيما لو احترموا الإسلام ولم يتأمّروا ضده، وعلامة هذا الأمر، كما يرى العلاّمة مكارم الشيرازي، هي أن يوافقوا على دفع الجزية للمسلمين [98] ، وفي غير هذه الحال، فإنّ الإسلام أمر بقتالهم، وقد ذكرنا آنفاً أن سياق الآية جاء في سياق البراءة من المشركين في سورة التوبة ما يؤكّد أن الأحكام لا بدّ أن تلحظ في سياق واحد، وهذا ما لم يلتفت إليه كثير من المفسرين [99] ، إذ لم نجد أحداً منهم يعرض لهذا الأمر على النحو الذي يميز بين أن يكون الأمر بالقتال حكماً خاصاً، أو حكماً عاماً، باعتبار أن الإسلام في مبادئه التشريعية يؤسس لحرب دفاعية، ولا يحب الاعتداء، بل ينهى عنه، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [100] ، وقال الله تعالى: ﴿ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾  [101] ، إلى غير ذلك من الآيات التي أسس فيها القرآن للحرب الدفاعية، وهذا ما لحظه شمس الدين في بحوثه عن الجهاد في الإسلام، مبيناً أن الحرب إنما تكون شرعية فيما لو كانت دفاعية، وأن الآيات دالة بظهورها على أن كفّ الكفّار عن حرب المسلمين والعدوان عليهم يجعل من الممكن إقامة حالة سلام بين المسلمين وبينهم [102] ، كما هو مفاد الآية (91) من سورة النساء منطوقاً ومفهوماً، كما قال الله تعالى: ﴿ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ  ... ﴾ [103] .

إذن، بعض المفسرين لم يميّز بين أن يكون الأمر بالقتال حكماً خاصاً أو عاماً، باستثناء العلاّمة مغنية، الذي رأى أن الأمر بقتال المشركين إنما كان حكماً خاصاً لسبب خاص، وهو أن المجتمع الإسلامي كان في بدء تكوينه، وأن المشركين كانوا طابوراً خامساً يكيدون للإسلام وأهله، فاقتضت المصلحة إخراجهم من الجزيرة أو قتلهم، والأمر هنا بقتال أهل الكتاب أمر خاص بالذين كانوا في الجزيرة لسبب خاص أيضاً وهو أن أهل الكتاب كانوا يتحالفون مع المشركين على محاربة المسلمين، كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم [104] . وهنا يتبدّى لنا الموقف الحاسم فيما تعنيه الآية من أمر بالقتال، ومما يعزّز رأي مغنية بأن الأمر هو حكم خاص لسبب خاص، هو ما تؤسس له آيات سورة الممتحنة التي تبيّن الحكم فيما يتعلق بالموقف من المجتمعات غير المسلمة، سواء أكانت مؤمنة أم غير مؤمنة، مشركين أم أهل كتاب، حيث قال الله تعالى: ﴿ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [105] .

هذا هو المبدأ التشريعي العام الذي يُحتكم إليه في ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين المجتمع الإسلامي، والمجتمعات الأخرى. وإذا كان لا بدّ من القتال، فإنما يكون بعلّة العدوان وليس بعلّة الكفر، كما قال الله تعالى في خطابه للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [106] ، ما يعني الاستعداد لقبول عرض السلام، لإقرار حالة السلام بين المسلمين وغيرهم، فإنّ وجوب قبول الدعوة إليه، إن كان عادلاً، هو مبدأ من مبادئ التشريع الدفاعي العسكري في الإسلام [107] . وهذا احتمال ظاهر في آية القتال وعدم الاعتداء، كما يرى الأيرواني في أن المقاتلة إنما تكون لمن يقاتل دون المسالم المستعدّ للصلح» [108] ولم يخالف في هذا إلاّ الفقيه الفاضل المقداد في كنز العرفان، الذي رأى أن القول بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كفّ عمّن كفّ عنه ممنوع، بل كان ينتظر الفرصة وحصول الشرايط» [109] .

مما تقدم، نستطيع القول: إنه لا معنى لأن يقتحم البعض الأمر بالقتال ليستنتج أنه لا معنى للحوار في ظلّ الدعوة إلى القتال، وكلّنا يعلم أن المسلمين في تشريع الجهاد، أو فيما اصطلح عليه بفقه الجهاد يقسّمون الجهاد إلى ثلاثة أقسام، الأول هو قتال الكفّار، والثاني هو قتال أهل الكتاب، والثالث هو قتال أهل البغي [110] ، وقد بينّا أن قتال أهل الكتاب إنّما يكون حكماً خاصاً، وهم مخيّرون بين قبول الإسلام ودفع الجزية، فإن بذلوها حرّم قتالهم، وكما يرى المطران بسترس: «إنه منذ البداية اعترفت الشريعة الإسلامية بالمسيحيين في تميزهم لا كأفراد وحسب، بل كجماعة، لذلك وجد في المجتمع الإسلامي على مدى العصور نوع من التعددية الدينية، ولكن هذه التعددية تفترض تراتبية ما. لقد أمنت منظومة «أهل الذمّة» حرية العبادة والحرية للمسيحيين، لكنها اشترطت لذلك ولاءً سياسياً كاملاً وتضمنت نوعاً من الخضوع» [111] .

لقد بيّن علماء الأصول أنه لا بدّ من معرفة المطلق والمقيّد فيما جاء به القرآن من أحكام، وإذا كان حكم القتال أو الجهاد قد أطلق فإنّ قيده هو ﴿ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [112] ، إذ لا يجوز القتال لمجرّد الكفر كما هو صريح آية ﴿ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [113] ، إضافة إلى أن الإسلام لا يقدّس الحرب، وإنّما يدعو إلى السلام، وإلى احترام كرامة الإنسان وحريته فيما يريد التعبير عنه، كما قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [114] ، وقال الله تعالى: ﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [115] ، فالإسلام لا يكره أحداً على اعتناقه، ويؤسس لعلاقات تفاعلية مع المجتمعات الأخرى، سواء أكانت مؤمنة أم غير مؤمنة، كافرة، أم معاهدة، وإذا كان القرآن قد أكثر من استعمال مفردات الكفر أو الفسق، أو الظلم، فذلك إنما جاء في سياقات مختلفة للتدليل على مذاهب القوم فيما هم عليه من آراء ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تكن هذه المفردات لأجل إظهار أو تأكيد مشروعية القتال لأهل الكتاب أو لغيرهم، لأنّ الحوار والسلام هو الأساس في منظومة الهداية القرآنية، والقتال هو الاستثناء، كما قال الله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ... ﴾ [116] .

إنّ آيات القرآن التي تدعو إلى الحوار والجدال والدعوة بالحسنى، منطوقاً ومفهوماً، تثبت أن الحوار هو السبيل الوحيد للإهتداء إلى سبل السلامة في الحياة، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... ﴾، لهو خير دليل على ذلك، كما أن هذه الآية تؤكّد أن أهل الكتاب حتى ولو كانوا مؤمنين هم على خيار أن يقيموا على دينهم ويؤدّوا الجزية، وبين أن يقبلوا الإسلام، وقد ظهر من النصارى حسن إجابة في التاريخ الإسلامي، وكانوا موضع عناية القرآن، كما قال الله تعالى ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ... ﴾ [117] ، أو قوله تعالى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ﴾ [118] ، وهذا كما بينّا، بخلاف المشركين، فإنهم لم يكُن يُقبل منهم إلا قبول الدعوة، وكما يقول العلاّمة الطباطبائي (قده)، فكثرة المؤمنين منهم لا تدلّ على حسن الإجابة [119] ، ولعل منطوق ومفهوم قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ﴾ ناظر إلى هذا المعنى، رغم كل آيات القرآن التي عرضت لليهود دون النصارى في سياق واحد، أو تلك الآيات التي عرضت لأهل الكتاب والمشركين في سياق واحد بلحاظ المغايرة بينهم كما في قوله تعالى: ﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ ... ﴾ [120] .

غاية القول: إنه لا تناقض بين الحوار والقتال في القرآن، لأن القتال هو لردّ العدوان، وليس لفرض الرأي، أو لأسلمة الأمم، كما يدّعي بعض الباحثين فيما زعمه من تقديس للحروب في تاريخ الإسلام والمسلمين، وإنّ أدنى تأمّل فيما عرض له القرآن من آيات تحثّ على السلام، لا بدّ أن يكشف عن أبعاد الحوار القرآني، بحيث تظهر الأمور على النحو الذي يؤكّد لذي عقل بأن الإسلام هو دين عالمية الرحمة، وليس دين السيف والقتال. فإذا قلنا: إنّ في القرآن حواراً وقتالاً، فليس ثمة تناقض بين الأمر بقتال المعتدين، وبين المجادلة لهم ليكفّوا عن عدوانهم، سواء الفكري، أم المادي، وهذا الفهم يمكن التأسيس عليه لكون ما جاء في القرآن من توصيفات لأهل الكتاب، أو للمسلمين، أو لغيرهم، من كفر وفسق وظلم لا يشكّل مبرراً لحربهم، وكما قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ [121] . وهنا لا ندري كيف نوفّق بين تفسير الزمخشري الذي رأى أن اللام في «الفاسقون» هي لام الجنس، والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب [122] ، وبين ما ذهب إليه العلاّمة الطباطبائي (قده)، الذي رأى أنه لا يبعد أن تكون لام العهد الذكري [123] .

ونحن نرى أن الأحسن أن تكون للجنس لكون السياق في دلالة الآيات يظهر ذلك، فيكون المعنى ظاهر الدلالة على الكفر وأنه الفسق، فهم لكفرهم فاسقون، ومثلما أن هذا ينطبق على أهل الكتاب، فإنه ينطبق على المسلمين أيضاً فيما لو كفروا بما أنزل الله من البيّنات، وكما يرى علماء التفسير أنه إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره [124] ، وهذا ما لحظه الراغب في مفرداته [125] ، فرأى أن الفسق يقابل الإيمان وليس الكفر، كما قال الله تعالى: ﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً ... ﴾ [126] ، هذا كله يدلّل على أن مفهوم ومنطوق آيات القرآن في مجال الرؤية الحوارية لا يتعارض مع الأمر بالقتل لكون التوصيف ينطبق على كل مَن يكفر بآيات الله تعالى، فهل يُعقل أن يكون تحقق الكفر، أو الفسق، أو الظلم في أمة، أو في جماعة؛ سبباً وعلّة لقتالهم؟ فما يكون معنى الحوار إذاً؟ والدعوة إلى الحوار قائمة لهداية الناس وإخراجهم من الشرك إلى التوحيد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الكفر إلى الإيمان. فالقتال هو للمعتدي بهدف أن تنتظم حياة المجتمع، فتكفّ أيدي المعتدي، ويستعد لقتاله لمنعه من العدوان، كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ... ﴾ [127] ، ولا شكّ أيضاً في أن ما يذهب إليه بعض الباحثين من اعتبارٍ لآيات القتال، فهو إنما يؤخذ به استثناءً، سواء في مواجهة أهل الكتاب، أم غيرهم ممن لم يؤمن وكفر بآيات الله تعالى، وعلى هذا المعنى يمكن أن نذهب إلى تفسير الكثير من الآيات القرآنية بحيث يؤخذ بالاتجاه الموضوعي لفهم الكفر أو الفسق أو الظلم في القرآن الكريم، فلا يكون موضوعه أمة بعينها، وإنّما الكفر، أو الفسق، أو الظلم بعينه، فإذا فُهم معنى المصطلح وما يُراد به، وما هو مغزى إطلاقه، فإنّه حينئذٍ يمكن استيعاب المدلول العام من خلال استنطاق الآيات لمعرفة المؤدّى الذي تحمله، فلا يُقال: إن القرآن يكفّر أهل الكتاب، فكيف يدعو إلى التحاور معهم، بل يُقال: إن الكفر معناه القرآني يقع على أنواع وأنحاء عدّة [128] ، وهذه الأنحاء قد تطال أهل الكتاب، وقد تطال أهل الإسلام، فلا يكون المعنى خاصاً بقوم أو جماعة ليُقال بأن الإسلام يأمر بقتال أهل الكتاب، باعتبار أن التشريع في الإسلام ليس له خاصية أن يكون لقوم وإنّما هو للعالمين، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [129] وقال الله تعالى: ﴿ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ... ﴾ [130] ، إلى غيرها من الآيات التي تدلّل على معنى وميزة هذا التشريع الإلهي لجهة كونه لاحظاً للإنسانية كلها، فمثلما أن الحوار مع الجميع؛ فكذلك القتال هو مع الجميع فيما لو حصل الاعتداء.

وإذا كان المسلمون قد أخفقوا في تجاربهم التاريخية، فإنّ الإسلام لا يحمل وزر هذه التجارب وما انطوت عليه من تفسيرات وتأويلات للآيات القرآنية، وخاصة بحق أهل الكتاب. والحق يُقال: إن تاريخ المسلمين فيه من الكفر والفسوق والمظالم ما لا يمكن أن يُقاس بما عند غيرهم، ما يعني ضرورة التدبُّر في المعطى القرآني ليكون الإنسان على بيّنة مما يدعو إليه ويتحاور من أجله حتى تكون له روحية الإيمان في مواجهة الكفر والفسوق والظلم، وهذا ما أردنا التأكيد عليه في هذا البحث لإثبات أن الحوار القرآني هو الأساس في حركة الإيمان في مواجهة كل أنواع الكفر من أي جهة كانت [131] ، وإلى أي فئة انتمت، فالكفر هو الكفر، وقد قال رسول الله : «ألا لا ترجعنَّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض...» [132] .

وهذا كلام للمسلمين، ذو دلالة عامة، والمورد لا يخصص الوارد، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، بحيث يفهم الإنسان أن الخطاب القرآني هو خطاب للإنسان في كل زمان ومكان، سواء أكان مسلماً، أم غير مسلم، وفي هذا السياق القرآني يمكن فهم الدعوة إلى الحوار، وكذلك الأمر بقتال مَن لا يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يدين دين الحق.. ليس في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل في كل زمان ومع كل رسول، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [133] ، والآية ـ كما يرى العلاّمة الطباطبائي (قده) ـ تشير إلى مخالفة أهل الكتاب، فريق منهم، للحق من حيث كتمانهم بشارة التوراة وعدم إيمانهم بمن يصدق ما معهم [134] ، وهذا دليل على تواصل الرسالات والرسل، وعلى ضرورة أن يكون الحوار متواصلاً مع أهل الكتاب وغيرهم من منطلق أن القتال إنما يكون لمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يدين بدين الحق ثم يعتدي، وهذا هو خطاب النبوة في كل زمان ومكان. وعليه تواتر الأنبياء والرسل، فإذا كانت أوامر الآيات تخص أهل الكتاب فيما يكون منهم، فليس معنى ذلك تخصيص الخطاب بهم، لكونهم إذا آمنوا وأسلموا لله أمرهم، فلا يكون ثمة معنى لقتالهم بل يحرم ذلك، كما بيّن العلماء في فقه الجهاد، وفي تفسير الآيات. والله العالم والمسدّد للصواب، والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

ب - الحوار والخسران في القرآن

 

 

تقدّم الكلام في أن الحوار القرآني مقدّمٌ على القتال والجهاد في سبيل الله، بل هو أساس وجوهر النظرية القرآنية، الداعية إلى التعارف والتواصل والتعايش بين الأديان، وإذا كان من معنى للجهاد، فهو ردّ المعتدي والإعداد والاستعداد مادياً وروحياً لمنعه من الاعتداء، كما قال الله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [135] .

كما بينّا أيضاً، أن القتال للمعتدين لا يكون لمجرّد الكفر كما هو صريح الآية الآنفة، بل يكون بعلّة العدوان، ﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾  [136] .

وانطلاقاً مما تقدّم، يمكن القول بأن صريح الكثير من الآيات المباركة، إضافة إلى ما يُنبئ به ظاهر الكثير من الآيات هو الدعوة إلى الحوار الهادف إلى بناء المجتمعات الإنسانية على أسس عقلية وروحية، بحيث تكون القناعة بالعقيدة هي الأساس والمبدأ، وليس الإكراه عليها، كما قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ... ﴾ [137] ، إلى غيرها من الآيات التي تنطوي على دعوة الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن لإظهار الحق والعمل بمقتضيات الاعتقاد السليم بالله ورسله، كما جاء به الأنبياء والرسل حتى تكون الطاعة لله وحده.

إنّ الله تعالى لا يريد ظلماً بالعباد، ويريد لهم أن يخرجوا من الظلمات إلى النور بما أوحي إليهم على لسان أنبيائه ورسله تحقيقاً للهدف الذي خلقوا من أجله، سواء أكان للعبادة والمعرفة، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [138] ، أم للتعارف والتعايش، كما قال الله تعالى: ﴿ لِتَعَارَفُواْ ﴾ [139] ، ولأجل هذا تواتر الرسل وأُنزلت الكتب، وهذا هو مفاد كل الآيات القرآنية التي تتعرض لحوار الرسل والأنبياء مع أقوامهم، حيث كان لسان حالهم جميعاً يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [140] .

لقد تبيّن لنا في المبحث السابق كيف أن العلماء والفقهاء قد اختلفوا حول ما إذا كانت آية السيف قد نسخت آية الصفح والعفو عن أهل الكتاب؟ ورأينا كيف أنهم اختلفوا في منطوق الآيات ومفهومها على نحو لم يتميّز فيه الناسخ من المنسوخ، ولا المطلق من المقيّد، وذلك كلّه إنّما كان بسبب مذاهب القوم فيما هم عليه من فهم وتفسير بعيداً عن الرؤية الموضوعية، التي ينبغي أن تكون هي السبيل للكشف عن مدلول الآيات من خلال منهج بياني تترتّب فيه الآيات حسب نزولها لمعرفة ظروف الزمان والمكان، إضافة إلى معرفة أسباب النزول من حيث هي قرائن لابست نزول الآية دون أن يفوت المفسّر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه [141] ، وهذا الاتجاه الموضوعي، فيما لو اعتمد، يسمح للباحث، أو المفسّر باستقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده للوصول إلى دراسة وعرض الظاهرة الأسلوبية على كل نظائرها في الكتاب الحكيم، وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة ثم سياقها العام في القرآن كله التماساً لسرّه البياني، وكشفاً عن معناه الحقيقي. ولا شكّ في أن هذا المنهج هو الذي سنعتمده لتبيان معنى الحوار وما إذا كان له من مؤدّى في دنيا الإنسان وآخرته، لأنّ القرآن في بيانه العام يُحكِم القول بأن الدين عند الله هو الإسلام [142] ، ﴿  وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [143] .

فإذا كان للحوار من مؤدّى إيجابي بلحاظ كونه الأساس في المنظومة الإسلامية، فذلك ليس معناه أن الحوار مطلوب لمجرّد الحوار، أو لمجرّد أن يكون الإنسان متعارفاً، بل لا بدّ أن يكون على تقوى عملية، سواء في حواره ومجادلته، أم في تواصله وتعارفه، وإلاّ استحال الحوار إلى فوضى وعبثية، باعتبار أن القرآن يدعو إلى الحوار على أساس أن يكون الإنسان على كلمة سواء، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... ﴾، وهذه الكلمة لا تكون كذلك إلاّ إذا جاءت في سياقها القرآني، وليس في أي سياق آخر يختاره الإنسان، وقد اختار القرآن أن تكون في سياق ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [144] .

إذن القرآن حدد إطار الحوار في الكلمة السواء، ودعا إلى الامتثال لدعوة جميع الأنبياء فيما يبلّغونه عن الله تعالى، وقد تواتر الأنبياء ودعوا إلى عبادة الله وتوحيده والتسليم له، بحيث يكون الإسلام دين البشرية، كما هو دين الأنبياء جميعاً، كما قال الله تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [145] ، وكما قال الله تعالى في وحيه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن خلاله إلى المسلمين: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [146] .

إن جميع الأنبياء كانوا على دين الإسلام، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [147] ، وهذا الإسلام، فيما ينطوي عليه من أُصول إيمانية كبرى [148] لم يختلف بين نبيّ وأخر، كما أنه لم يكن موضوعاً للحوار بين أهل الأديان لكونهم جميعاً يؤمنون بالله ووحدانيته، والوحي وعصمته، والبعث وجزائه، وقد سلف القول منا أن هذه الأصول الايمانية لا ينبغي أن تكون مجالاً للحوار، بل منطلقاً له، لأن هذه الأصول هي مما يستقلّ العقل بمعرفته وليست مجالاً للتقليد [149] ، وإن كان ثمة اختلافات في تفاصيل ما ذهب إليه أهل الأديان، فذلك مما لا تأثير له على حقيقة الإيمان فيما لو كان قائماً على تنزيه الله تعالى، بحيث لا تكون هناك أدران وشوائب على ما يذهبون إليه من توحيد، سواء في الوحدانية، أم في العبادة، فالدين واحد كما يرى العلاّمة الطباطبائي (قده)، لا اختلاف فيه، ولم يأمر العباد إلاّ به، وهو الإسلام الذي هو التسليم للحق الذي هو حق الاعتقاد، وحق العمل [150] ، وبعبارة أخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف والأحكام، وهو ـ أي البيان ـ وإن اختلف كماً وكيفاً في شرائع أنبيائه ورسله على ما يحكيه الله تعالى في كتابه، غير أنه ليس في الحقيقة إلا أمراً واحداً، وإنما اختلاف الشرائع بالكمال والنقص دون التضاد والتنافي والتفاضل بينها بالدرجات، ويجمع الجميع أنها تسليم وإطاعة لله تعالى فيما يريده من عباده على لسان رسله  [151] .

لقد حصر الله تعالى الأديان كلها بالإسلام، والسر في هذا، كما يرى مغنية، أن جميع أديان الأنبياء تتضمن الدعوة الإسلامية في حقيقتها وجوهرها، عنينا بذلك الإيمان بالله والوحي والبعث، والتنوع والاختلاف إنما هو في الفروع والأحكام، لا في أصول العقيدة والإيمان [152] .

قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [153] .
وقال الله تعالى: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [154] .
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ﴾ [155] .
وقال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [156] .

فالآيات، كما نلاحظ، ناظرة في ظاهرها إلى أمرين هامين:
الأول: هو تحقق الخسارة في الآخرة لمن يبتغي غير الإسلام ديناً.
والثاني: هو تحقق الكفر لمن يفرق بين الأنبياء والرسل. والمنهج الموضوعي، في فهم منطوق الآيات ومفهومها يقتضي ملاحظة معنى الخسارة التي اقتصر فيها التعبير على الآخرة دون الدنيا. وهنا السؤال، هل معنى هذا أن مَن يبتغِ غير الإسلام ديناً يمكن أن يكون فائزاً في الدنيا؟ أم أن الخسارة في الآخرة تفترض مسبقاً أن يكون الإنسان خاسراً في الدنيا أيضاً، كما هو مفاد قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [157] ، أضف إلى ما تقدم قوله تعالى: ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [158] ، فهذه الآيات تفيد في منطوقها ومفهومها أن الخسارة تلحق الإنسان في آخرته وليس في دنياه، لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن سياق سورة آل عمران في الآية 85، يختلف عن سياق سورة المائدة، في الآية (5)، باعتبار أن الأولى جاءت في سياق الحديث عن الإيمان بالرسل والأنبياء وما أنزل إليهم من ربهم، في حين أن الثانية جاءت في سياق الحديث عما أُحّل من الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب، فهي لم تكن في سياق الحديث عن أصول الإيمان، وعما يقتضيه الإسلام من توحيد وعمل، مما يدلل على أن ظهور الآية ـ آية المائدة لاحظ للفروع أيضاً، بحيث يفهم من سياق آياتها أنها تفيد الخسارة لمن يكفر بالإيمان في الآخرة دون أن تعني الفوز في الدنيا كما يفيد السياق أيضاً أن تارك الفروع، أو أركان الدين، هو ممن يتحقق له الخسارة في الآخرة، فضلاً عن الدنيا، لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فلا يعقل أن يكون الإنسان خاسراً للآخرة، وفائزاً في الدنيا، وذلك من منطلق أن الإسلام كل واحد ومن يكفر بالإيمان كما أفادت آية المائدة، فهو كافر بالإسلام، وبكل آيات الله تعالى التي ألقاها إلى أنبيائه دون الآيات التكوينية الدالة على الوحدانية وما يزاملها من المعارف الإلهية على حد تعبير العلاّمة الطباطبائي (قده) [159] .

إنّ الكفر بالإيمان وما يلحق به من خسران في الآخرة، سواء أكان في الأصول، أم في الفروع له مؤدى الخسران لكونه قائماً على ابتغاء غير الإسلام ديناً عقيدة وشريعة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [160] ، والمراد بالآيات هنا آيات الوحي والبينات الإلهية، التي يقتضي الإسلام، بما هو إيمان،القيام بها للفوز بالمغفرة والرضوان. أما أن يكفر الإنسان بالإيمان، أو أن يبتغي غير الإسلام ديناً، سواء في الفروع، أم في الأصول، فذلك مما يجعله خاسراً، ويعبد الله تعالى على حرف، وكما يقول العلاّمة الطباطبائي (قده): «إنّ الكفر بالإيمان يؤول إلى ترك العمل بما يعلم الإنسان أنه حق كتولي المشركين، والإختلاط بهم، والشركة في أعمالهم مع العلم بحقية الإسلام وترك الأركان الدينية من صلاة وصوم وزكاة وحج مع العلم بثبوتها أركاناً للدين... فالكفر بالإيمان إنما يصدق على الإنسان فيما إذا ترك ما يقتضيه إيمانه، ويتعلق به علمه ودام عليه، وأما إذا ستر مرة أو مرتين من غير أن يدوم عليه فلا يصدق عليه الكفر، وإنما هو فسق أتى به» [161] .

وعليه، فإن معنى الخسران في الآخرة، سواء جاء في سياق أصول الدين أم في فروعه، كما في سياق الآية الخامسة من سورة المائدة، فهو خسران دنيوي أيضاً، ولكن الله تعالى لم يعهد به إلى الإنسان، لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾، ويبقى على الإنسان أن يقوم بالدعوة إلى الحق، وسلوك سبيل الرشد والحوار بحيث يترك أمر الحساب إلى الله تعالى، لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [162]  فإذا ما أضفنا الآيات إلى بعضها البعض فيما تفيده من خسران في الآخرة، فإنه يظهر لنا من السياق القرآني العام، بحسب المنهج البياني، أن الإسلام لا يدعو إلى البناء على هذا الخسران في اتخاذ المواقف الدنيوية في التعامل مع أهل الكتاب، أو غير أهل الكتاب لما تقتضيه الدعوة القرآنية في مجادلة بالحسنى، إلا الذين ظلموا، ودعوة إلى الكلمة السواء، وهنا تجدر الإشارة إلى رؤية ذهب إليها بعض المفسرين فيما يعود إلى الخسران في الآخرة، وهي أن الله تعالى يحصر الوظيفة الخلاصية للعقيدة في إطارها المحدد وهو الأخرة، ولم يرتّب هذا على الموقف الدنيوي، يقول شمس الدين: «إن الإسلام لا يحكم بصورة جازمة أن كل من لم يعتنق الإسلام فهو هالك ولا نجاة له. بل يميز بين مستويين، مستوى القاصرين، ومستوى المقصرين، مستوى من بلغته الدعوة الإسلامية وعقلها وجحدها. وهذا هو المقصّر، ومستوى من لم تبلغه الدعوة أو بلغته ولم يعقلها لا لتقصير منه، بل لسبب من الأسباب الأخرى..» [163] .

وهذه رؤية يمكن البناء عليها، ولكنها تحتاج إلى مزيد تدبير واستنطاق للآيات القرآنية اللاحظة لمعنى الخسارة في الآخرة، وذلك من منطلق أن الإسلام لم يكره أحداً على العقيدة،ودعا إلى الحوار والتعارف على أساس التقوى في القول والعمل، فإذا لم يؤدِّ الحوار إلى أن يكون الناس على دين الإسلام، سواء في الظاهر أم في الباطن على ما أفاده الطريحي من تقسيم الإسلام إلى ضربين، أحدهما دون الإيمان، وهو الاعتراف باللسان، والثاني: هو أن يكون مع الاعتراف معتقداً وافياً بالفعل نحو أسلمت لربّ العالمين [164] ، فلا مسوّغ لأن يكون الإكراه هو البديل للدعوة بالحسنى، أو للحوار بين الناس، وتبقى آيات الممتحنة (8 ـ 9) هي الحاكمة في إطار تحديد الخسران المبين، أو الفوز العظيم، لكون القرآن يؤسس في عقيدته وشريعته لانتظام المجتمع الإنساني وفاق دين الإسلام فيما انطوى عليه من عقيدة وشريعة ونظام حكم، فإذا لم يؤدِّ الحوار إلى هذا الدين ككلمة نهائية وخاتمة وكاملة، فلا يكون العدوان أو الإكراه، كما قلنا، هو السبيل لذلك، حيث إنّ الله تعالى منع منه ودعا إلى الاقتصار على المحاججة في إطار قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [165] وهذا ما يُظهر أنه ليس لأحد ممن يدعون إلى الله تعالى أن يكون محاججاً بإلحاح، أو مشاغباً بإثم، أو محاوراً بعنف، لقول علي (عليه السلام): «من بالغ في الخصومة أثم» [166] ، ومن أجل هذا أمر الله نبيه الكريم أن يترك المبطلين المعاندين وشأنهم، حيث لا مزيد من التبيان والبراهين، وإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، وبهذا نجد أن الآية تجمع بين أهل الكتاب ومشركي العرب ليكون المعنى شاملاً لكل بني البشر، سواء أكانوا كفاراً، أم مشركين، إذ العبرة هنا بالعموم، فلا تخصّ أهل الكتاب والأمّيين وحسب، بل تتعدّاهم إلى غيرهم ممن له شبهة كتاب كالمجوس، أو الصابئة وسواهم، ومما تقدم أيضاً يستفادمن ظهور الآية أنها تدعو إلى الإسلام، والقيام بالحوار على النحو الذي يؤدي إلى إقامة الحجة، ونبذ الخصومة، وهذا هو مفاد قوله تعالى: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [167] .

إن الإسلام هو دين الله قبل أن يكون للناس، وبعد أن كانوا فمن أقر بدين الله فهو مسلم، ومن عمل بما أمر الله فهو مؤمن، وبهذا جاء الأنبياء جميعاً، فمن اهتدى فلنفسه، ومن لم يهتدِ فعليها. وإذا كان الله تعالى لم يفرق بين أحد من أنبيائه، فذلك إنما كان في أصل الرسالة والوحي والهداية، لكنه فضل بعضهم على بعض بما آتاهم من الكمال في الشريعة حيث جاء بأفضلهم فرقاً وجمعاً، وأشرفهم أصلاً وفرعاً، وأكملهم ديناً وشرعاً، فختم بإرساله دور النبوة والرسالة، وحتم على كافة الناس اتباعه إلى يوم القيامة، وأرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً [168] ، وقد أشار إلى هذا الختم والتمام بالحصر في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ بل صرح بذلك وأكده بالتأييد، حيث قال الله تعالى: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾.

غاية القول: إن الحوار، كما يظهر من الآيات المباركة، لا يتناقض إطلاقاً مع ما يستتبعه ابتغاء غير الإسلام ديناً من خسران وليس على الناس إطلاقاً، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، أن يستندوا إلى الخسران في الآخرة للامتناع عن الحوار، بحيث يقول أحد إنَّ الخاسر في الآخرة هو خاسر في الدنيا، وعلى فرض أن هذا الأمر متحقق كما هو منطوق ومفهوم الكثير من الآيات، فإن هذا لا يمنع أن يكون الحوار سبيلاً إلى الهداية لدين الله تعالى، الذي هو الإسلام، فلا يقال بأن الخسارة في الآخرة تستتبع التنكر للحوار والقتال في الدنيا مع غير المسلمين، لتكون لهم الخسارة في الدنيا، لأن الله تعالى منع من الإكراه في الدين، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة، ونهى عن العدوان، وفي ضوء هذه الدعوة الإلهية يمكن التأسيس لرؤية حوارية تستبعد نهائياً مصائر العباد في الدنيا وما يمكن أن يلحق بهم من عذاب فيها، لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [169] . وقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ ... ﴾ [170] . إلى غيرها من الآيات التي تُفسح في المجال أمام الحوار والمحاججة بالطريقة التي تسمح بتبيان الحجج والبيّنات والبراهين، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [171] .

لا شك في أن الحوار هو سمة الكثير من الآيات القرآنية، وهو مبدأ أساس نصت عليه المبادىء التشريعية العامة، بدءاً من كرامة الإنسان: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ... ﴾ [172] . وانتهاءً بالدعوة إلى البر والقسط بحق مَن لم ينه عن الدين ولم يقاتل فيه ولم يخرج الناس من ديارهم، كما تصف آيات سورة الممتحنة (8 ـ 9)، فيما تضمنته من دعوة إلى ضرورة نبذ العنف والحوار وإقامة العدل، وعدم تولي الظالمين.

هذا لجهة مبدئية الحوار في الإسلام، أما لجهة الخسران المبين، فذلك أمره إلى الله تعالى، فهو البصير بعباده، وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وقد قال الله تعالى في سورة طه: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [173] . وعليه، فإنه لا معنى لأن يؤخذ على الإسلام قوله بخسارة من ابتغى غير الإسلام ديناً، لأنه دين الأنبياء جميعاً من آدم (عليه السلام) وحتى نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) [174] . وهذا ما لا ينبغي الاختلاف فيه، وإذا ما حصل، فإنّه يكون نتيجةً للبغي بعدما جاء من العلم، كما فعل أهل الكتاب، فكان التهديد لهم بالانتقام وحبط الأعمال، كما هو ظاهر الآيات في قوله تعالى: ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾. وهذا البغي، كما بيّن تعالى، لم يقتصر على أهل الكتاب وحسب، بل تعدّاهم إلى الأمّيين، كما قال الله تعالى: ﴿ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ ... ﴾. ولعلّ السبب في هذا الجمع، كما يرى العلاّمة الطباطبائي (قده)، هو كون الدين مشتركاً بينهم، وإن اختلفوا في التوحيد والشرك، ذلك أن الدين واحد، وهو مودع في الفطرة الإنسانية على وتيرة واحدة [175] .

وكيف ما كان، فإن ما عرضت له الآيات القرآنية من تهديد ووعيد وانتقام وخسران في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة لمن يعبد الله على حرف، أو لمن يتبع غير الإسلام دينا، لا يستفاد منه أن القرآن يؤسس لرؤية صدامية بين أهل الدين، إذ كيف يكون ذلك وقد نهى عن الاختلاف والتفريق بين الأنبياء، وإنما هو يكشف عن مسارات الأمور ومصائرها ليكون الإنسان على بينة من أمره فيما يتخذه لنفسه من أهداف، وفيما يبتغيه لدنياه وآخرته من اعتقاد وعمل، وفي جميع الأحوال، فإن مَن يفعل خيراً فلن يكفره، سواء في الماضي، أم في الحاضر، أم في المستقبل، وذلك كله يبقى شرطه وقوامه أن لا يعتدي الإنسان على أخيه الإنسان، وأن لا يفتنه عن دينه، فإذا لم يحصل ذلك، فلا يكون ثمة مسوغ للعنف، أو للإكراه في الدين، أو للامتناع عن الدعوة بالحسنى، وإلى الكلمة السواء، سواء في أمور الدين، أم في أمور الدنيا، بهدف إلحاق الأذى والخسران بمن لا يتخذ الهدى سبيلاً والإسلام ديناً، باعتبار أن الله تعالى قد جعل لهذا الدين أصلاً في الكون والخلقة والواقع الحق، وهو بصير بعباده لطيف بهم وقادر عليهم، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [176] .

إن الهدف من الحوار أن يهتدي الإنسان إلى سبيل سعادته في الدنيا والآخرة، كما أراد الله تعالى، فإذا لم يهتد الإنسان إلى سبيله، فلا عدوان عليه، ولا إكراه له، إلاّ أن يكون معتدياً وقائماً بالظلم، فحينها يكون رد عدوانه والاعتداد للحيلولة دون ممارسة العدوان حواراً وجهاداً، وقد أمر الله تعالى بذلك، كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ  ... ﴾ [177] . والحق يقال: إن الله تعالى أراد من إكمال الدين وتمام النعمة ومن الرضا بالإسلام ديناً أن يكون الإنسان في حوار وتعايش مع أخيه الإنسان في الدائرة الإنسانية الكبرى لعله بذلك يتحول عن كونه إنساناً متقوِّماً بالصفات الخاصة، ليكون إنساناً مسلماً متواصلاً مع خط النبوة في تاريخها الديني، كما تواصل الأنبياء والرسل فيما جاؤوا به ودعوا إليه من إيمان وإخلاص في طريق الكدح إلى الله تعالى.

 


 

 

 

 

 

خاتمة البحث: الحوار بين المشروعية والحقّانية

 

 

هناك فرق كبير بين أن يكون الأمر ـ أي أمر ـ في الدين، أو في الدنيا، مشروعاً، وبين أن يكون حقاً، فالتنافس هو أمر مشروع، ولكنه قد لا يكون تنافساً بالخير، فلا يكون حقاً، وكذلك الحوار، فهو مطلوب ومراد بين الناس للتعارف، والإجتماع على الكلمة السواء، وكما بينا فيما سبق في بحوث هذا الكتاب، أن التنوع أو التعدد هو مشروع أيضاً، ومثلما أن التنافس في الخيرات يحتاج إلى طرفين، فكذلك الحوار يحتاج إلى طرفين أيضاً، لأن الشيء لا يتنافس مع ذاته، والإنسان لا يتحاور مع نفسه، ولهذا، قال الله تعالى: ﴿ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ ولا شك في أن هذا الخطاب ـ النداء ـ ليس خطاباً مجرداً عن أن يكون له أهداف وغايات. فإذا لم ينته الحوار إلى نهاياته المرجوة، والتي لأجلها جاء هذا الخطاب، فلا يكون خطاباً منتجاً ومؤدياً إلى النتائج التي يريد الله تعالى أن تكون كلمة سواء سبيلاً إليها، وهي قوله تعالى: ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ... ﴾ [178] . أما إن استقر الأمر عند الكلمة السواء، والحوار عند مستوى اللقاء لمجرد المحاججة، فلا يكون الحوار قد حقق هدفاً أو أنتج حقاً، وإن كان هو في نفسه مشروعاً ولكن يبقى شرط حقانيته أن يصل الحوار إلى ما ارتضاه الله تعالى من دين وحق. وقد سبق لعلماء المسلمين قاطبة، فقهاء وفلاسفة وعلماء كلام أن طرحوا التساؤل الآتي: هل ينظر الإسلام إلى التنوع في المجتمع البشري، سواء التنوع بمعناه التكويني، أم بمعناه التشريعي والعقدي، هل ينظر إليه على أنه مشروع أم لا؟

وكانت الإجابة، أنه يجب أن نفرق بين مشروعية الوجود، وبين حقانية الوجود [179] ، والحق يقال: إن المسلمين يعتقدون أن كل ما يخالف الإسلام في قليل أو كثير. في عقيدته وشريعته هو ليس حقاً، بل باطل، فالكلام هنا ليس في إعطاء صفة الحق وصفة الواقعية للمختلف، بل في إعطاء صفة المشروعية بمعنى هل يشرع له أن يكون موجوداً، أو لا يشرع له أن يكون موجوداً؟

لقد تبين لنا في سياق ما ذهبنا إليه في شأن التنوع في الوجود، أو في موضوع حوار الأديان من منظور قرآني، أن الإسلام يُعطي شرعية الوجود في العقائد والمذاهب والاتجاهات الفكرية المخالفة له، كما قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾، وهذه الشرعية إنما أعطيت بهدف أن يتكامل البشر، بحيث يتسابقون في الخيرات، ويصل كل خلق إلى كماله، وقد يسر الله كل شيء لما خلق له، بمعنى آخر، نقول: إن الشرعية لم تعط لمجرد الشرعية، وإنما ليكون الإنسان مدركاً لطبيعة المهام الموكلة إليه فيما استخلف فيه في الأرض وفيما حمّل من أمانة، فإذا لم يكن هذا الإنسان على مستوى الرسالة والأمانة وحقيقة الاستخلاف، فإنه يكون قد قصّر عن مسؤولياته واستحال أمره إلى خلاف ما خلق لأجله من معرفة وتعارف. وانطلاقاً من ذلك، نرى أنه لا يمكن للإنسان أن يمنح نفسه شرعية الوجود، وحق الوجود، أو أن يختار في إطار رؤيته الخاصة، لقوله تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ﴾. ومثلما أن ظاهر هذه الآية يفيد معنى الخلق والاختيار في مجال النبوة، فكذلك هو يستبطن معنى الخلق والاختيار في ما جعل عليه الإنسان من خلق وتنوع في الخلق والعقيدة وسائر ما هو عليه الإنسان من تفاوت واستعدادات وقدرات تحتم على الإنسان أن يكون كادحاً لتكميل ذاته ومجتمعه وكل ما يحيط به من كون وحياة.

إن تاريخ الأديان شهد صراعات حادة بين أهل الإيمان، وقد تراوح هذا الصراع تاريخياً بين المناظرات الدينية تأكيداً لكل دين أنه الحق دون غيره، وبين الحرب والقتال رفضاً وعناداً، كما حصل مع اليهود في رفضهم لعيسى (عليه السلام)، ومع المسيحين في رفضهم للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والإسلام، وكما حصل مع المسلمين الذين اختلفوا في دينهم، وتفرقوا شيعاً ومذاهبَ، فكانوا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [180] .

والحق يقال: إن أهل الإيمان في تاريخهم لم يعقلوا عن الله تعالى فيما أتاهم من رسل ورسالات، ولم يستوعبوا معنى أن يكون لهم شرائع ومناهج ومناسك تؤهلهم ليكونوا على مستوى الدين، الذي هو الإسلام، هذا فضلاً عما أساؤوا فيه إلى حقيقة خلقهم وتنوعهم، فاتخذوا من ذلك وسيلة للتناحر والصدام، بدلاً من أن يكون ذلك سبيلاً إلى الكمال، بحيث يكونوا عباداً لله تعالى، وليس عبيداً لأرباب منافعهم وأحبار مذاهبهم...!؟

نعم، إن الإسلام يُعطي شرعية للآخرين، ويدعوا الناس جميعاً، بما هم عليه من تنوع في الخلق والاعتقاد، إلى التوحد في الإسلام، لأنه الكلمة الكاملة والنهائية في التاريخ الديني، ومن شأن التعارف والتعاون على البر والتقوى أن يؤدي إلى أن يكون الناس تعبيراً عن فطرتهم وشهادتهم التي كانت منهم في عالم كونهم قبل أن يكونوا، ومصداقاً لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [181] . والتقوى هنا ليست مجرد أن يعي الإنسان حقيقة خلقه، بل أن يتقي الله في علمه وعمله ...

إن قولنا بأن الإسلام هو الحق، لا يستوجب حتماً أن يكون الآخرون على باطل فيما لو كانوا مستوعبين لحقيقة الخلق والوجود، وللأهداف الكبرى التي خلقوا من أجلها، فالناس جعلوا على هذا التنوع، ودعوا إلى الحوار والتعاون والتعارف لا لأجل أن يستقل كل فريق عن الآخر، وكل دين عن الآخر، وإنما لأجل التعارف واستيعاب مشروعية وجودهم في سبيل الحق، فإذا لم تؤدِّ بهم هذه المشروعية إلى الحق والتكامل، فلا بد أن يتحقق الخسران بحقهم، وهذا ما تم التركيز عليه في مبحث الحوار والخسران في القرآن، حيث رأينا أن الإنسان له قيمة وشرعية الوجود فيما جعل عليه من دين وشريعة، ولكن لكي يحقق الهدف المنشود، ويصل إلى الغاية من وجوده، فلا يسعه إلاّ أن يكون مسلماً، كما كان كل الأنبياء والرسل بحيث يتحقق له تواصله مع الأخرين، ليكون له معنى الإسلام ديناً ودنيا، وبذلك يمكن للإنسان أن يكتسب شرعية الحق، كما اكتسب مشروعية الوجود. أما أن يستقل بنفسه، وفيما اختاره من دين وشريعة، اعتقاداً منه بشرعية ما يراه حقاً وديناً وشريعة، فذلك مما يعتبره الإسلام تحزباً وقولاً بغير علم. كما زعم الكثيرون من أهل الكتاب وغيرهم ممن لا يدينون دين الحق، وقد بين تعالى أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولكن منحهم شرعية الوجود والتنوع، وخلقهم للتراحم فيما بينهم بحيث يؤدون عنه ما أمرهم به ونهاهم عنه للفوز في الدنيا والآخرة، ولإيصال البشر جميعاً إلى مستوى العبودية الحقة، وقد أثبتت التجارب البشرية والدينية على وجه الخصوص، أن أهل الإيمان فيما اعتمدوه من وسائل، وسعوا إليه من أهداف، ولجأوا إليه من نزاعات وحروب بهدف إظهار شرعية وجودهم ودينهم في مقابل الآخرين، لم يفلحوا في شيء من ذلك، وكانت النتيجة تحولهم من كونهم أهل الحق دون سواهم، ليكونوا على تعاون أو تعارض، وفي أحيان كثيرة على اعتراف بالآخر، وهذا ما ساعد كثيراً على بلورة مفاهيم جديدة سبق للأديان أن عبرت عنها، ولكن سوء الفهم، والاستبداد بالرأي، ومخالفة الأنبياء، كل ذلك كان مانعاً من التعقل عن الله تعالى ورسله وأنبيائه، وهذا ما يؤسف له ويعجب منه أنهم عقلوا عن التجربة، ولم يعقلوا عن أمر الله ونهيه، بعد أن تسوروا المحراب، وتجاوزوا دعوة الله تعالى لهم في أن يكونوا إخوة في الإنسانية، إن لم يكونوا إخوة في الدين، كما قال الإمام علي: «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».

غاية القول: إن الحوار بين الأديان، في ظل الإسلام، وبوحي منه، له أهداف، وقد من الله تعالى على الإنسان فيما جعله عليه من تمايز في الخلق والوجود، وسخر له السموات والأرض، وجعل له الأرض ذلولاً، وحبب إليه الإيمان، وكره إليه الكفر الفسوق والعصيان، ودعاه إلى دينه وشريعته لعله بذلك يستطيع تجاوز عقبات الحياة، وإيحاءات الشيطان، وملاذ الدنيا وشهواتها، فيتخذ من دين الله تعالى أساساً لرؤيته وحركته لتحقيق تكامله، فإذا لم يكن على مستوى الوعي بالرسل والرسالات، وما تواتر من أنبياء وأئمة يهدون إلى الحق، وإذا لم يتعرّف إلى حقيقة ما جعل عليه من مشروعية فيما قصد به من تنوع في ذات نفسه وفي واقعه، فإنه لن تكون له حقانية الوجود التي خصّها الله بالإسلام والإيمان، باعتباره دين الله تعالى: كما قال: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [182] . وليس معنى أن يكون الإنسان متحققاً بمشروعية الوجود، أن تكون له حقانية الوجود، لقوله تعالى: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [183] ، وكما بيّن الفقهاء أن خسارته في الآخرة، فيما لو تحققت فهي متنوعة أيضاً بما يخص به كل إنسان من امتياز في ضوء ما كان عليه في دنياه، وما اكتسبه من أعمال، وما ابتغاه من دين وشريعة، لأن الله ليس بظلام للعبيد، ومن يفعل خيراً فلن يكفره. وهكذا، فإن الحوار في الأديان له هذا المعنى، أن يتحول الإنسان وفاقاً لأمر الله ونهيه، وأن لا يستقر به الحوار حيث تميز في وجوده واعتقاده، بل عليه أن يتابع الخطى في طريق الله تعالى ليكون من الشاهدين مع الذين أسلموا لله رب العالمين، كما قال الله تعالى: ﴿ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [184] .

والحمد لله ربّ العالمين
أنجز هذا الكتاب يوم شهادة الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) الواقع في اليوم الأخير من صفر / 1435 هـ.
الشيخ عارف هنديجاني فرد

 


 

 

 

 

المصادر والمراجع

 

 

1- القرآن الكريم.
2- نهج البلاغة.
3- ابن أبي حديد، شرح نهج البلاغة، دار الأندلس، (لا تاريخ).
4- ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار المعارف، مصر، (لا ت).
5- ابن هشام، تحقيق عبد السلام هارون، مؤسسة الرسالة، دمشق، (لا تاريخ).
6- أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين، دار النهار، بيروت، 1994م.
7- الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر، بيروت، (لا ت).
8- الآملي، جوادي، ولاية الإنسان في القرآن، دار الصفوة، بيروت، 1993م.
9- الآملي، جوادي، ولاية الفقيه، دار الهادي، بيروت، 1993م.
10- الإيرواني، باقر، تفسير آيات الأحكام، قم، 1428هـ.
11- البحراني، هاشم، البرهان في تفسير القرآن، دار الهادي، بيروت، 1992م.
12- الحكيم، محمد باقر، علوم القرآن، مؤسسة الهادي، قم، 1419هـ.
13- الخراساني، محمد عدلي كاظم، فوائد الأصول، تقريرات الميرزا النائيني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1409هـ.
14- الخميني، روح الله، مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1996م.
15- الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1974م.
16- الدامغاني، الحسين بن محمد، قاموس القرآن، أو إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، دار العلم للملايين، بيروت، 1985م.
17- الزمخشري، جار الله محمود بن عمر، تفسير الكشاف، دار الكتب العلمية، بيروت، 2009م.
18- الشيرازي، صدر الدين، المبدأ والمعاد، دار المصطفى، قم، 1999م.
19- الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 2007م.
20- الصدوق، أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1993م.
21- الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1991م.
22- الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1415هـ.
23- الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، دار الوفاء، بيروت، (لا ت).
24- الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، مكتبة الإعلام الإسلامي، قم، (لا.ت).
25- الغديري، عيسى إبراهيم، القاموس الجامع للمصطلحات الفقهية، دار المحجة البيضاء، 1998م.
26- الفارابي، أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة، دار المشرق، بيروت، 1986م.
27- الفضلي، عبد الهادي، أصول البحث العلمي، دار المؤرخ العربي، 1992م.
28- الفضلي، عبد الهادي، مدخل إلى علم الكلام، دار الوفاء، بيروت، 1999م.
29- الفيض الكاشاني، محسن بن مرتضى، نوادر الأخبار فيما يتعلق بأصول الدين، مؤسسة مطالعات، قم، 1374هـ.ش.
30- الكتاب المقدس، دار المشرق، بيروت، 1988م.
31- المازندراني، محمد بن علي بن شهر آشوب، متشابه القرآن ومختلفه، انتشارات بيدار، قم، 1410هـ.
32- المسيري، عبد الوهاب، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، القاهرة: 1999م.
33- المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1990م.
34- النشار، علي سامي، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، القاهرة، (لا.ت).
35- اليزدي، محمد تقي المصباح، الإيديولوجية المقارنة، ترجمة الخاقاني عبد المنعم، دار المحجة البيضاء، بيروت، 1992م.
36- اليزدي، محمد تقي المصباح، العقيدة الإسلامية، دار الحق، بيروت، 1993م.
37- اليزدي، محمد تقي المصباح، معارف القرآن، تعريب محمد عبد المنعم الخاقاني، الدار الإسلامية، بيروت، 1983م.
38- إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية، دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي، عالم المعرفة، عدد 183.
39- بسام مرتضى، المسيح بين الإنجيل والقرآن، دار الحق، بيروت، 1994م.
40- جمال الدين المقداد، السيوري، كنز العرفان في تفسير القرآن، قم، 1380هـ.
41- جورج خضر، العلاقات الإسلامية المسيحية، قراءة في الراهن والمستقبل، مركز الدراسات الاستراتجية، بيروت، 1994م.
42- جورج قرم، تعدد الأديان وأنظمة الحكم، دار النهار، بيروت، 1992م.
43- جعيّط، هشام، الفتنة، دار الطليعة، بيروت، 1995م.
44- ديورانت، ول، قصة الحضارة، دار الجيل، بيروت، 1998م.
45- سبحاني، جعفر، سيد المرسلين، دار البيان العربي، بيروت، 1992م.
46- سليم بسترس، كيرلس، الإسلام والمسيحية، مركز الدراسات الاستراتيجية بيروت، 1994م.
47- شريف هاشم، الإسلام والمسيحية، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1982م.
48- شلبي، أحمد، مقارنة الأديان، اليهودية المسيحية، مكتبة النهضة المصرية، ط12، لا تاريخ.
49- شمس الدين، محمد مهدي، الإسلام والغرب، مؤسسة الإمام شمس الدين، بيروت، 2004م.
50- شمس الدين، محمد مهدي، بين الجاهلية والإسلام، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت، 1983م.
51- شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماع السياسي الإسلامي، المؤسسة الدولية للنشر، بيروت، 1999م.
52- عمار بوحوش، مناهج البحث العلمي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1999م.
53- غارودي، روجيه، الأصوليات المعاصرة، دار الفيحاء، باريس، 1992م.
54- فوكوياما، فرنسيس، نهاية التاريخ. ترجمة حسين الشيخ، دار العلوم العربية، بيروت، 1994م.
55- كاظم محمدي، محمد دشتي، المعجم المفهرس لإلفاظ نهج البلاغة، دار الأضواء، بيروت، 1986م.
56- محمود بن شريف، اليهود في القرآن، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1986م.
57- مصطفى، مسلم، معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، دار القلم، دمشق، 1999م.
58- مطهري، مرتضى، الإسلام وإيران، عطاء وإسهام، دار الحق، بيروت، 1993م.
59- مطهري، مرتضى، الإنسان في القرآن، دار التيار الجديد، بيروت، 1993م.
60- مطهري، مرتضى، الإنسان والإيمان، دار التيار الجديد، بيروت، 1985م.
61- مطهري، مرتضى، التوحيد، دار الهادي، بيروت، 1999م.
62- مطهري، مرتضى، المجتمع والتاريخ، دار الهدى، بيروت، 1996م.
63- مطهري، مرتضى، المفهوم التوحيدي للعالم، دار التيار الجديد، بيروت، 1985م.
64- مطهري، مرتضى، الهدف السامي، مكتبة الفقيه، الكتب، 1986م.
65- مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، دار العلم للملايين، بيروت، 1991م.
66- مغنية، محمد جواد، فقه الإمام الصادق، دار التيار الجديد، بيروت، 1984م.
67- مناهج التفسير، جمعية القرآن الكريم، لبنان، 2012م.
68- موريس بوكاي، دراسة الكتب المقدسة، دار الأفكار، بيروت، 1991م.
69- هانتغتون، صموئيل، الإسلام والغرب، آفاق الصدام، ترجمة مجدي شرشر، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995م.
70- هويدي، فهمي، العلاقات الإسلامية المسيحية، مركز الدراسات الاستراتجية، الحوار كما يراه علماء الأزهر، بيروت، 1994م.
71- هيغل، الموسوعة، موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، 1983م.
72- ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، للقاهرة، 1998م.

 


 

 

[1] سورة الإسراء، الآية: 9.
[2] سورة الأنعام. الآية: 161.
[3] يرى «هانتغتون»، أن التباينات بين الحضارات ليست حقيقية وحسب، بل إنها أساسية. فالحضارات تختلف عن بعضها البعض بفعل التاريخ واللغة والثقافة والتقاليد، والأكثر أهمية عامل الدين، فأصحاب الحضارات المختلفة يعتنقون معتقدات مختلفة عن العلاقة بين الله والإنسان، وبين الفرد والجماعة، وبين المواطن والدولة... وهذه الاختلافات نتاج عدة قرون، ولن تختفي تلك التباينات في القريب، فهي أكثر أصولية من الاختلافات بين الإيديولوجيات والأنظمة السياسية، وتعني الاختلافات وقوع التصادم فعلاً ولا يعني الصدام حدوث عنف بالضرورة؛ ومع ذلك، وعلى مدار قرون ولدت الاختلافات بين الحضارات أكثر الصراعات طويلة الأمد وأشدّها عنفاً.
را: هانتغتون، صموئيل، الإسلام والغرب، آفاق الصدام، ترجمة مجدي شرشر، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 1995، ص12.
[4] را: فوكوياما، فرنسيس، نهاية التاريخ، ترجمة الدكتور حسين الشيخ، دار العلوم العربية، بيروت، ط1994، ص165.
[5] را: عمار، بوحوش، مناهج البحث العلمي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1999، ص103.
[6] انظر الفارابي، أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة، دار المشرق، بيروت، 1986، ص117، وقال: مع الملاّ صدرا، المبدأ والمعاد، دار المصطفى، بيروت، 1999، ص365.
[7] سورة البقرة، الآية: 148.
[8] سورة الحج، الآية: 40.
[9] سورة الأنفال، الآية: 24.
[10] يرى العلامة الطباطبائي أن تشريع القتال في الإسلام، إنّما هو لحفظ المجتمع الديني من شرّ أعداء الدين المهتمّين بإطفاء نور الله، فلولا ذلك لانهدمت المعابد الدينية والمشاعر الإلهية ونسخت العبادات والمناسك.
را: تفسير الميزان، م. س، ج14، ص387.
[11] را: السيد محمد مصطفى، خارطة المفاهيم القرآنية، دمشق، 2011، ط1، ص35.
[12] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م.س، ج4، ص387.
[13] سورة الروم، الآية: 30.
[14] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م.س، ج16، ص183.
[15] الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، م، س، الخطبة: 62.
[16] سورة المائدة، الآية: 48.
[17] سورة البقرة، الآية: 148.
[18] مطهري، مرتضى، المجتمع والتاريخ، م، س، ص47.
[19] سورة الأنعام، الآية: 124.
[20] سورة المائدة، الآية: 75.
[21] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م. س، ج3، ص133.
[22] سورة البقرة، الآية: 113.
[23] سورة المؤمنون، الآية: 53.
[24] قال الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾ [المائدة: 3] .
[25] سورة البقرة، الآيات: 40 ، 47، 122.
[26] سورة آل عمران، الآية: 199.
[27] سورة المائدة، الآية: 51.
[28] قال الله تعالى: ﴿  قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الجمعة: 6] .
[29] سورة البقرة، الآيتان: 108 ـ 109.
[30] سورة البقرة، الآيتان: 40 ـ 41.
[31] قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 118] . فالذين لا يعلمون وتمادوا في العناد من أهل مكة قالوا لرسول الله ﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعاً ﴾ ﴿ .. أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ ... ﴾ واليهود قالوا لموسى ﴿ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ﴾، وقالت النصارى لعيسى : ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ﴾. وهكذا تشابهت القلوب في الزمان والتاريخ والإنسان..!؟
[32] قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 33] ، قوله يُضاهئون يشابهون، والمعنى أن قول اليهود والنصارى يشبه قول المشركين العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله وقول الوثنيين من قدامى الرومان واليونان والبوذيين وغيرهم...
انظر: مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، م. س، ج1، ص33.
[33] سورة آل عمران، الآية: 183.
[34] يقول غارودي: «إنّ الله، في القرآن كما في التوراة والإنجيل، يكلّم الإنسان في التاريخ، وإنّ كبار المفسّرين للقرآن يذكرون الظروف التاريخية التي نزلت فيها كل آية، والمقصود هو جواب عيني من الله عن مسألة كانت أمة النبي تطرحها عليه. إن هذه التاريخانية لا تنقص من قيمة الرسالة الشمولية والأبدية، فكل تنزيل من تنزلات الأزلي في التاريخ، يتضمن مبدأ عمل صالح لكل الشعوب وكل العصور ولكنه يرتدي شكلاً خاصاً مرتبطاً بظروف هذا العصر وهذا البلد.
را: غارودي، روجيه، الأصوليات المعاصرة، دار الفيحاء، باريس، ط1، 1992، ص88.
[35] جاء في البرهان، محمد بن الأرقط، عن أبي عبد الله : قال لي تنزل الكوفة؟ قلت نعم، قال: فترون قتلة الحسين بين أظهركم؟ قال: قلت جعلت فداك ما رأيت أحداً منهم، قال: فإذا أنت لا ترى القاتل إلاّ مَن قتل أو مَن ولي القتل ألم تسمع إلى قول الله تعالى: ﴿  قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 183] ، قال فكان بين الذين خوطبوا بهذا القول وبين القائلين خمسماية سنة فسمّاهم الله قاتلين برضاهم بما صنع أولئك، إذ لم يكن بين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعيسى (عليه السلام) رسول، إنما رضوا مثل أولئك فسمّوا قاتلين.
را: البحراني، هاشم، البرهان في تفسير القرآن، دار الهادي، بيروت، ط4، 1992، ج1، ص328.
[36] من هذه النعم، كثرة الأنبياء فيهم، وتشريفهم بالتوراة والزبور، وتحريرهم من فرعون، ونجاتهم من الغرق، وإعطاؤهم المُلك والسلطان في عهد سليمان، وغير ذلك مما يستوجب الإيمان، والشكر وعدم الجحود والكفر.
[37] سورة البقرة، الآية: 41.
[38] سورة النساء، الآية: 162.
[39] سورة البقرة، الآية: 120.
[40] قوله تعالى: ﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ يختزن مدلولات كثيرة عن اليهود والنصارى، فهو فضلاً عمّا يرشد إليه من حالات نفسية وعصبية، يفيد أيضاً أنه لا يجوز إرضاء اليهود والنصارى بحال من الأحوال، لأنه تعالى علّق رضاهم بأن يصير الإنسان يهودياً أو نصرانياً، وإذا استحال ذلك استحال رضاؤهم، وهذا هو مفاد قوله تعالى: ﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111] .
[41] سورة البقرة، الآية: 90.
[42] سورة البقرة، الآية: 96.
[43] يقول غارودي: «باختصار، إنّ كل آية في القرآن هي حوار إلهي عن مسألة ملموسة... وهذا لا يُلقي الشكّ إطلاقاً على الطابع الإلهي للتنزيل هذا.. فجواب مسألة تاريخية هو من وحي إلهي...، هو قدوة وليس مادة مجرّدة.
را: غارودي، الأصوليات المعاصرة، م. س، ص93 ـ 94.
[44] انظر: مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، م. س، ج1، ص159.
[45] سورة الجمعة، الآيتان: 6 ـ 7.
[46] سورة المائدة، الآية: 51.
[47] را: جوادي آملي، عبد الله، ولاية الفقيه، دار الهادي، بيروت، ط1، 1993، ص24.
[48] سورة آل عمران، الآية: 65.
[49] سورة آل عمران، الآية: 70.
[50] سورة آل عمران، الآية: 71.
[51] سورة آل عمران، الآية: 99.
[52] سورة المائدة، الآية: 15.
[53] سورة المائدة، الآية: 51.
[54] سورة المائدة، الآية: 51.
[55] سورة المائدة، الآية: 82.
[56] يقول العلاّمة الطباطبائي(ره): «لقد تمّ الكلام في أن النصارى هم أكثر الأمم مودة للمسلمين وأسمع لدعوتهم... وإنّما عدّهم الله سبحانه أقرب مودّة للمسلمين لما وقع من إيمان طائفة منهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ﴾، لكن لو كان إيمان طائفة يرجح هذه النسبة إلى جميعهم كان من الواجب أن تعدّ اليهود والمشركين كمثل النصارى... لمكان أن ينسب إسلام طائفة من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، وإسلام عدة من مشركي العرب وهم عامة المسلمين اليوم، فتخصيص النصارى بمثل قوله: ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ ... ﴾، دون اليهود والمشركين يدلّ على حسن إقبالهم على الدعوة الإسلامية، وإجابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنهم على خيار بين أن يقيموا على دينهم ويؤدّوا الجزية، وبين أن يقبلوا الإسلام،، أو يحاربوا، وهذا بخلاف المشركين، فإنّهم لم يكن يقبل منهم إلاّ قبول الدعوة، فكثرة المؤمنين منهم لا يدلّ على حسن الإجابة، على ما كابد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جفوتهم ولاقاه المسلمون على أيديهم من قسوة وغلظة... كما أن من جملة العلل التي بيّنها الله سبحانه قرب النصارى من قبول الدعوة الحقّة بأنّ فيهم قسّيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون... أما اليهود، فقد استكبروا، ومثلهم المشركون..
را: الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، م. س، ج7، ص80 ـ 81، ولا شكّ في أن كلام الطباطبائي في تفسير مودّة النصارى يحتاج إلى مزيد تأمّل وتدبّر...
[57] سورة البقرة، الآية: 256.
[58] الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، الكتاب: 35.
[59] سورة الإسراء، الآية: 70.
[60] سورة الحجرات، الآية: 13.
[61] سورة التين، الآيات: 4 ـ 6.
[62] يقول العلاّمة آملي: «إن هذا الحديث حق إذا لم يكن له سند فهو كلام صحيح، لأن الناس ما داموا لا يؤذون ولايقتلون ولا يشرّد بعضهم بعضاً يعتبرون أخوة».
را:، آملي، عبد الله، ولاية الفقيه، م. س، ص265.
[63] انظر: سبحاني، جعفر، سيرة سيّد المرسلين، م. س، ج1، ص476.
[64] سورة آل عمران، الآية: 64.
[65] سورة طه، الآية: 111.
[66] سورة الممتحنة، الآيتان: 8 ـ 9.
[67] سورة الأحزاب، الآية: 62.
[68] سورة يونس، الآيتان: 102 ـ 103.
[69] سورة الأعراف، الآية: 172.
[70] سورة الأعراف، الآية: 129.
[71] سورة الحجرات، الآية: 13.
[72] سورة الحج، الآية: 40.
[73] انظر: شمس الدين، محمد مهدي، الإسلام والغرب، مؤسسة الإمام شمس الدين، بيروت، ط1، 2004، ص100 ـ 101.
[74] سورة البقرة، الآية95.
[75] سورة البقرة، الآية: 120.
[76] سورة المطففين، الآية: 26.
[77] سورة المؤمنون، الآية: 71.
[78] انظر: المطران، كيرلس بسترس، العلاقات الإسلامية المسيحية، م. س، ص257.
[79] سورة المائدة، الآية: 44. فالآية نزلت في بني إسرائيل، ولكن المورد لا يخصص الوارد بمقتضى القاعدة الأصولية.
[80] يقول المطران خضر: ثم كيف تنطبق تسمية النصارى على المسيحيين وكتاب هؤلاء يقول: وفي أنطاكية سمي التلاميذ أول مرة مسيحيين»، (أعمال الرسل 11؛ 26) وذلك في النصف الأول من القرن الميلادي الأول، وإذا بقيت تسمية «الناصرين» شائعة في القرن الثاني هنا، وثمة في بلاد الشام... فإذا صحّت نظريتنا يكون مسيحييو اليوم غير معنيّين بما يقوله القرآن عن النصارى إلا بما كان مشتركاً بينهما، هذا ما يجب تبيانه عند كل آية، فالحجة، لا يمكن أن تذهب هكذا: أنتم المسلمين تقولون كذا وكذا لأن القرآن يقول عنّا، كذا، ولكن الاستدلال هو هكذا: إذا كنتم أنتم المسلمين تقولون كذا وكذا تكونون المقصودين في القرآن. المسلمة ليست تالياً، النصارى هم المسيحيون. وهذا قول المفسرين الذين كتبوا جميعاً في بلاد الفتح وشاهدوا المسيحيين واستنتجوا أنه لا بدّ لهم أن يكونوا هم النصارى المذكورين في التنزيل القرآني.
را: جورج خضر، العلاقات الإسلامية المسيحية، م. س، ص215.
[81] سورة البقرة، الآية: 105.
[82] سورة العنكبوت، الآية: 46.
[83] سورة البقرة، الآية: 120.
[84] سورة آل عمران، الآية: 85.
[85] سورة المائدة، الآية: 82.
[86] سورة البقرة، الآية: 41.
[87] سورة البقرة، الآية: 108.
[88] سورة التوبة، الآية: 30.
[89] الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 2007، ج5، ص193.
[90] سورة التوبة، الآية: 29.
[91] سورة الحج، الآية: 30.
[92] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م. س، ج9، ص249.
[93] الزمخشري، جار الله محمود بن عمر، الكشاف، م. س، ج2، ص554.
[94] الطوسي، محمد بن حسن، التبيان في تفسير القرآن، مكتبة الإعلام الإسلامي، قم، ج5، ص202.
[95] الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ج5، ص40.
[96] الزمخشري، الكشاف، م. س، ج2، ص254.
[97] الطباطبائي، تفسير الميزان، م. س، ج9، ص250.
[98] الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل، م. س، ج5، ص193.
[99] نقول: لعل التحالف مع المشركين والتآمر على المسلمين من المشركين وأهل الكتاب كان سبباً للأمر بقتالهم، وهذا ما نرى فيه حكماً خاصاً، هذا رأي مغنية.
[100] سورة البقرة، الآية: 190.
[101] سورة البقرة، الآية: 193.
[102] شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماعي السياسي الإسلامي، المؤسسة الدولية، بيروت، ط2، 1999، ص105.
[103] سورة النساء، الآية: 91.
[104] يقول معنية: «إن محور سورة التوبة يقوم على غزوة تبوك... وقد بلغ النبي أن الروم، وهم في الشام على أطراف الجزيرة يجمعون الجيوش للانقضاض على الإسلام وأهله، وكانت كل القرائن والدلائل تؤكّد أن أهل الكتاب في الجزيرة كانوا عيناً وعوناً للروم النصارى على المسلمين، وأنهم يتآمرون معهم على النبي ومن اتبعه من المؤمنين، ومن أجل هذا كان الحكم فيهم القتل أو إلقاء السلاح والخضوع لحكم الإسلام مع إعطاء الجزية...
را: مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، م. س، ج4، ص32.
[105] سورة الممتحنة، الآيتان: 8 ـ 9.
[106] سورة الأنفال، الآية: 61.
[107] شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماع السياسي، م. س، ص105.
[108] را: الأيرواني، باقر، تفسير آيات الاحكام، قم، ط3، 1428هـ، ج1، ص242.
[109] را: عبد الله السيوري، جمال الدين المقداد، كنز العرفان في تفسير القرآن، قم، 1380، ط2، ص316.
[110] مغنية، محمد جواد، فقه الإمام الصادق ، دار التيار الجديد، بيروت، ط5، 1984، ج2، ص263.
[111] بسترس، كيرلس، العلاقات المسيحية الإسلامية، مركز الدراسات الاستراتيجية، م. س، ص267.
[112] سورة البقرة، الآية: 193.
[113] يرى السيد الخوئي في البيان، أن الآيات القرآنية الآمرة بالقتال إنما وردت في جهاد المشركين... وأما أهل الكتاب فلا يجوز قتالهم إلاّ مع وجود سبب آخر من قتالهم للمسلمين، لقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 256] . وكلام السيد جاء في سياق الردّ على مَن ذهب إلى القول بأن قوله تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾. [البقرة، الآية: 109] قد نسخ بآية السيف، حيث روي عن ابن عباس وقتادة والسعدي، ذلك واختاره أبو جعفر النحاس، وآية السيف هي قوله تعالى: ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 129] ، وقد ناقش السيد الخوئي هذا الرأي مبيناً أنه لا يمكن القول بنسخ الآية الأولى بالآية الثانية، لأنّ الالتزام بالنسخ هنا، كما يرى السيد يتوقف على الالتزام بأمرين فاسدين، الأول: أن يكون ارتفاع الحكم الموقت بانتهاء وقته نسخاً، وهذا واضح الفساد، فإن النسخ إنما يكون في الحكم الذي لم يصرح فيه لا بالتوقيت ولا بالتأييد... فالنسخ هو رفع الحكم الثابت الظاهر بمقتضى الإطلاق في الدوام وعدم اختصاص بزمان مخصوص، وعلى هذا الأساس يكون دور الآية، آية السيف بيان الوقت والغاية للحكم المذكور في الآية الأولى دون أن تكون ناسخة له.
أما الثاني، فهذا أن يكون أهل الكتاب ممن أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتالهم، وذلك باطل؛ فآية السيف لا تأمر بقتال أهل الكتاب بشكل مطلق حتى تصبح معارضة لآية الصفح، وإنما هي تأمر بقتالهم عند عدم دفع الجزية. وعليه، فإنه لا يجوز قتال أهل الكتاب فيما لو لم يبدأوا بقتال، أو لم يحدثوا الفتنة التي هي أشدّ من القتل، أو لم يمتنعوا عن إعطاء الجزية، فإذا لم يأتوا بشيء من ذلك، فإنه يكتفي بالصفح والعفو عنهم كما جاء في آية الصفح المدعى نسخها، فتكون الآية الثانية مقيدة لإطلاق الأولى لا ناسخة لها.
را: الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1974، ص289. وقا: مع الحكيم، محمد باقر، علوم القرآن، مؤسسة الهادي، قم، ج1، ص208. فالسيد الحكيم يعقّب على رأي السيد الخوئي، ويقول بقيد آية السيف لإطلاق آية الصفح، هنا تبدو لنا أهمية علم الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيّد في علوم القرآن، وهنا يطرح التساؤل الكبير حول مذاهب من قال بالنسخ لآية، وهي ليست كذلك!!!
[114] سورة البقرة، الآية: 256.
[115] سورة يونس، الآية: 99.
[116] سورة البقرة، الآية: 216.
[117] قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83] .
[118] سورة المائدة، الآية: 82.
[119] انظر: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، ج6، ص79.
[120] سورة البقرة، الآية: 105.
[121] سورة البقرة، الآية: 99.
[122] انظر: الزمخشري، الكشاف، م. س، ج1، ص171، وقا: مع الطباطبائي، الميزان، ج1، ص228.
[123] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص. ن.
[124] الزمخشري، الكشاف، م. س، ج1، ص171.
[125] يقول الراغب الأصفهاني: «الفسق أعم من الكفر، والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير ولكن تعورف فيما كان كثيراً... وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق، فلأنه أضلّ بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة، قال الله تعالى: ﴿ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ [الكهف: 50] . فالفاسق أعم من الكافر، والظالم أعمّ من الفاسق...».
را: معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر، بيروت، لا ت، ص394. وقا: مع ابن منظور في لسان العرب، دار المعارف، مصر، لا ـ ت) ج5، ص3414.
[126] سورة السجدة، الآية: 18.
[127] سورة الأنفال، الآية: 60.
[128] جاء في لسان العرب عن أهل العلم أن الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار بألا يعرف الله أصلاً، ولا يعترف به، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق، من لقيَ ربه بشيء من ذلك لم يغفر له، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء».
را: لسان العرب، م. س، ج5، ص3898. وقا: مع: الدامغاني، قاموس القرآن، م. س، ص115.
[129] سورة الأنبياء، الآية: 107.
[130] سورة الأنعام، الآية: 19.
[131] الكفر أنواع: هناك كفر الحجود، وهو إنكار وجود الله تعالى، وكفر بالألوهية، كأن يعتقد المرء بأن الله موجود إلاّ أنه ليس بإله، وهناك كفر بالوحدانية، كأن يعتقد أن الله ليس بواحد، وهذا هو الشرك. وهناك الكفر بالنبوّة أو المعاد، بأن لا يعتقد بهما. والكفر بكل ضرورة يؤدي بها إلى إنكار رسالة محمد ، وهناك الارتداد، المرتدّ الفطري، والمرتدّ الملّي، ثم الكفر بالنعمة، ثم كفر البراءة.
انظر: الشيخ الغديري، عيسى إبراهيم، القاموس الجامع للمصطلحات الفقهية، دار المحجة البيضاء، ط1، 1998، ص482.
[132] را: ابن منظور، لسان العرب، م. س، ص2404.
[133] سورة البقرة، الآية: 101.
[134] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م. س، ج6، ص79.
[135] سورة البقرة، الآية: 190.
[136] سورة البقرة، الآية: 193.
[137] سورة البقرة، الآية: 256.
[138] سورة الذاريات، الآية: 56.
[139] قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13] .
[140] سورة البقرة، الآية: 21.
[141] لقد اعتمد هذا المنهج الأستاذ الخولي المصري في كتابه «التفسير البياني للقرآن الكريم» وهو منهج بديع يشبه منهج الطباطبائي من حيث الموضوعية، وتفسير القرآن بالقرآن، والنقطة البارزة في هذا المنهج هي استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده في القرآن.
انظر: مناهج التفسير، جمعية القرآن الكريم للتوجيه، لبنان، ط1، 2012، ص142.
[142] قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19] .
[143] سورة آل عمران، الآية: 85.
[144] سورة آل عمران، الآية: 64.
[145] سورة البقرة، الآية: 132.
[146] سورة يونس، الآية: 73.
[147] سورة آل عمران، الآية: 19.
[148] إن ظاهر قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ ظاهر أنه ما أرسل نبي من الأنبياء إلاّ وكانت أصول الإيمان بالله تعالى وتوحيده، والوحي والبعث، وهي أصول لا تتبدل، ولا تعدّل، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد...».
[149] روي عن رسول الله أنه قال: «أصل ديني العقل». والإسلام يرتكز على الألوهية والنبوة، ومنهما تنبع تعاليمه وأحكامه، والسبيل إلى معرفتها، هو العقل، وقد بين علماء العقيدة أن الله يُعرف بالعقل عن طريق الكون وآياته، والنبي يُعرف بالعقل عن طريق المعجزة.
را: مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، م.س، ج1، ص47.
[150] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان، م.س، ج3، ص139.
[151] م. ع، ص140.
[152] مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، م.س، ج3، ص27.
[153] سورة آل عمران، الآية: 84.
[154] سورة آل عمران، الآية: 85.
[155] سورة النساء، الآية: 150.
[156] سورة النساء، الآية: 152.
[157] سورة الحج، الآية: 11.
[158] سورة المائدة، الآية: 5.
[159] الطباطبائي، تفسير الميزان، م.س، ج3، ص140.
[160] سورة آل عمران، الآية: 19.
[161] الطباطبائي، م.س، ج6، ص210 ـ 211.
[162] سورة الرعد، الآية: 40.
[163] شمس الدين، محمد مهدي، المسيحية في المفهوم الثقافي الإسلامي المعاصر، الإسلام والغرب، م.س، ص43.
[164] الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، دار الوفاء، بيروت، ج2، (لا ـ ت). ص408.
[165] سورة آل عمران، الآيتان: 18 ـ 20.
[166] الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، م.س، الكتاب12.
[167] سورة آل عمران، الآية: 84.
[168] انظر: الخراساني، محمد عدلي كاظمي، فوائد الأصول، تقريران الميرزا النائيني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1409، ج1، ص3.
[169] سورة آل عمران، الآية: 20.
[170] سورة البقرة، الآية: 137.
[171] سورة البقرة، الآية: 111.
[172] سورة الإسراء، الآية: 71.
[173] سورة طه، الآية: 82.
[174] إن الدين المقبول عند الله هو الإسلام المهيمن على كل الأديان، والذي انتمى إليه كل الأنبياء، وهذا الاسلام هو أشبه ما يكون بالمرحلة الدراسية العليا التي لا تكون إلا بعد دراسة مقدمات ومراحل يعبرها الطالب. فإذا جرى الامتحان، فإنه يجري بما انتهى إليه الطالب ليفوز بالنجاح، وهذا لا يعني أنه لا قيمة للمراحل العلمية التي قطعها، بل لها قيمة، وقيمتها تكمن في كونها مستوعبة في الدراسة النهائية؛ إلاّ أنه لا يقبل للنجاح والفوز إلا دراسة الدروس والكتب المقررة في المرحلة النهائية. وهكذا الإسلام، فهو الكلمة والكتاب النهائي ولا بد من الفوز بعد النجاح فيه، وهذا هو مفاد وظاهر قوله تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة: 48] .
[175] الطباطبائي، الميزان، م. س، ج4، ص157.
[176] سورة آل عمران، الآيتان: 56 ـ 57.
[177] سورة الأنفال، الآية: 60.
[178] سورة آل عمران، الآية: 64.
[179] قد يتساءل بعض الباحثين عما نعنيه بالمشروعية والحقانية في مجال التنوع في الخلق والعقائد، فنقول: إن الإسلام بين أن النجاة والفوز المبين إنما يكون بالإسلام والإيمان، هذا على مستوى الرؤية الفقهية، حيث ذهب الفقهاء إلى القول بأن كل شيء ما عدا الإسلام فهو باطل، لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال. أما على مستوى الكلام والفلسفة، فقد يُقال: إن التنوعات كلها حقائق، أو فيها أباطيل وفيها حقائق، لأن علم الكلام يلحظ الغاية في الوجود، ويقسم الكائنات إلى كائنات مختارة، وكائنات غير مختارة، كالسماوات والأرض وسائر ما خلق الله تعالى، وكل ما هو غير مختار في الخلق، فهو، وإن كان له مشروعية الوجود من حيث كونه غير مختار، له حقانية الوجود أيضاً تماماً كما له مشروعية الوجود لأنه لا يملك إرادة أن يكون عاصياً، كما قال الله تعالى في شأن الملائكة: ﴿ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾. لذا، فإن التساؤل إنما يطال من هو في دائرة الاختيار باعتباره مكلفاً في تنوعه أن يكون هادفاً تماماً كما حال المخلوق غير المختار الذي يقوم بفعليته طوعاً أو كرهاً، كما قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11] . إن كل مخلوق ميسر لما خلق له، وفيما جعل عليه من تنوع، وقد شاء الله تعالى أن يكون الإنسان خليفة له، وهو ميسر لما خلق له في تنوعه، وبما أنه يملك إرادة الاختيار، وتلقى من ربه كلمات، فلا يسعه إلاّ أن يكون مستوفياً لشروط حقانية الوجود حتى لا يكون من الخاسرين، وهذا ما يمتاز به الإنسان فيما خص به من تكوين وتشريع عن سائر المخلوقات، وهو مسؤول عن هذا الاختيار طالما أنه حمل الأمانة وقام بأعباء الخلافة... وهذا هو مؤدى قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾.
[180] سورة الروم، الآية: 32.
[181] سورة البقرة، الآية: 21.
[182] سورة آل عمران، الآية: 19.
[183] سورة آل عمران، الآية: 85.
[184] سورة البقرة، الآية: 131.

المصدر: https://www.qurankarim.org/books/contentsimages/htmlfiles/hewar-aladyan/hewar-aladyan3.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك