الإسلام بين الرؤية الوثنية واليقين هل الإسلام دين قابل للإصلاح؟
أحمد دلول
عند محاولتنا تقييم صفات دين ما، عبر محطاته التاريخية المختلفة، وفي بقع انتشاره الجغرافية المتعددة، يمكننا أن نجرؤ على القول: بأنّ صفات الدين لا تكمن بالضرورة في الدين نفسه، بقدر ما تكمن في ذات من يقرؤه.
وفي الحقيقة هناك شبه إجماع على وجود الدين تاريخيا كحقيقة موضوعية. فنحن نُقرّ بوجود الأنبياء باختلاف رسالاتهم، ولكن الخلاف يكمن في كيفية قراءة تلك الرسالات وتأويلها، وفي الحكم على مدى جدواها أو عبثيتها، وجمالها أو قبحها، ونبلها أو وضاعتها، ومن ثم إثبات أو نفي علاقتها بالمُقدّس.
وهنا يمكننا تشبيه الدّين بالفن المُركّب، إذ لا بد من إخضاعه للذوق والحَدْس والوجدان، قبل إبداء الرغبة في استساغته وقبوله أو نبذه ورفضه. وهنا – في خانة الذوق والحَدْس والوجدان – يكمن الهامش الواسع والمناخ الخصب، لدفء الحميمية الشخصية ولبروز الفردانية الذاتية وتميزها. مما يفتح الباب واسعا للتأويل والسجال والاختلاف، حول ماهية الدين وغرضه وفحواه.
يمكننا كذلك تشبيه الدين بلوحة عجائبية تشغل حيّزا مكانيا ضخما، ذات عبق تاريخي وقدسي، وذات تفاصيل ورموز وطلاسم، يختلف شكلها وفحواها تبعا للذوق وللخبرة الفنية المسبقة لمن يراها، وتبعا لقرب الرائي أو بعده عنها، وكذلك تبعا للزاوية التي يطل منها عليها. وهكذا، فليس من الغرابة أن يكون هناك مذاهب وفرق وتيارات متعددة ومختلفة، حتى ضمن الدين الواحد. وهذا بلا شك أمر محمود، إذ إن في الاختلاف يكمن الغنى، ولكن ليس أيما اختلاف.
وبما أنّ المشهد العام في العالم الإسلامي هو مشهد مضطرب، ومفعم بالتناقضات وفاقد للتناغم، فإنّ غالبية الناس قد أشاحوا بوجوههم عن كل ما عدا تلك اللوحة العجائبية، حتى أنهم اقتربوا منها إلى درجة الالتصاق بها، من فرط حبهم لها، مبدين دهشتهم من جاذبية عبقها وجمال خامتها وسحر ألوانها، محاولين أن ينقلوا تلك الدهشة للآخرين، مع أنهم في الحقيقة لم يروا اللوحة إلا بشكل مجزّأ، ولم يتلقفوا منها أي مظهر من شمولية المعنى. مع أنهم لو تحرروا من خوفهم وابتعدوا عنها لمسافة كافية، لرأوها بكليتها. وحينها لن يكون المشهد بالضرورة مخيبا للآمال، لمن كانوا يمتلكون الخلفية الذوقية للفن، أعني؛ الخلفية الروحية للدين.
لقد أصبح الدّين في حالات كثيرة، مرتبطا بالخوف والرّهبة، وكذلك بالرغبة، أكثر من ارتباطه بالفهم العقائدي أو الروحانية. لذلك إذا أردتَ أن تتبعك الكثرة من الناس في العالم العربي، أو أن يُصّوِتوا لك، وأن ينقادوا وراءك ويأتمروا لأمرك، لدرجة أنهم قد يرفعون السلاح ويقاتلون، حتى أهلهم وناسهم من أجلك، فما عليك سوى أن ترفع شعارا إسلاميا برَّاقا. ولا يهم، حتى ولو كنتَ أنت الشيطان نفسه. ولسوف أتعجب إن كان هناك من يتهمني بنوع من الشطح والمبالغة، بعد أن كشف لنا ربيعُنا العربي المستورَ.
يمكننا تشبيه الدّين بالفن المُركّب، إذ لا بد من إخضاعه للذوق والحَدْس والوجدان، قبل إبداء الرغبة في استساغته وقبوله أو نبذه ورفضه
لذلك، فإنه في واقعنا الرّاهن، بات أحيانا من السذاجة أن يراهن أعداؤنا على دعم حركات غير إسلامية أو أحزاب تتبنى، أو بالأحرى تتقنع بالعلمانية أو الليبرالية أو حتى الوطنية أو القومية. وهم لو فعلوا، فسيكون ذلك ضمن نهج يغلب عليه الطابع التكتيكي وليس الاستراتيجي؛ أي إنه سيكون ضمن إطار مُحدَد وآني. وإن صحَّ العكس، فذلك من مبدأ خوف من يُضرِم النار، على نفسه منها. وعلى أي حال، فقد بات من الجلي تماما، أن أعداءنا قد أيقنوا، بأن "الإسلام هو الحل" أي حلهم هم، وبأن الدين هو حصانهم الرابح، الذي لا يقوى على مواجهته أحد، أو الذي لا يستطيع هزيمته أحد. فبدلا من مواجهته، ساروا معه وسايروه وتقربوا منه، إلى أن أمسكوا بزمامه، أو كادوا. إنهم يحاربوننا فيما يحاربوننا، باسم المُقدَس؛ مُقدَسنا!
وهذا في الحقيقة ليس بالأمر الجديد كلّيا، فقد خبرنا الكثير من الحركات الإسلامية التي أمكن اختراقها، أو تم توظيفها لكي تكون أداة طيعة لكبح تطورنا أو لزعزعة أمننا، منذ عقود طويلة خلت، وصولا إلى "عفريت" دواعش الربيع العربي، والكثيرين ممن يحملون فكرهم، والذين لم يعد خافيا على أي عاقل، أمر تمويلهم ودعمهم.
ولذلك، فإنّ تصنيف الحركات الإرهابية دوليا، هو تصنيف لا تنقصه المرونة والليونة أو حتى الهلامية، وذلك تبعا لقاموس المصالح والمنفعة السائد في عالمنا. تلك المصالح التي تقع في أحيان كثيرة على الطرف النقيض من مصالحنا، وهناك بالضبط يتموضع الإسلام غالبا. وللأمانة والصدق في التناول أقول: إن الأزمة لم تعد تقتصر على الإسلام السياسي فحسب، لا بل أصبحت تمتد وتتسع، لتتغلغل في وجدان الغالبية من المؤمنين. ولا غرابة، فالدين هو غالبا حمَّال أوجه، وعندما تدخل الأمة في مراحل انحطاطها، تجدها تُقَّلب الدين وتعالجه، إلى أن تُقَولِبه بقالب انحطاطها، فيصبح الدين مُنحطَّا، في فهمه وتأويله، لا في ذاته؛ ذلك أن القالب يُقولِب الشكل، ولكنه لا يغير الخامة ولا يمس الجوهر. وخير مثال على ذلك، هو التأويل الظلامي للديانة المسيحية، الذي نجم عن تزاوج الكنيسة مع العقل الأوروبي خلال العصور الوسطى، مما أدخل أوروبا في عصر انحطاط وظلام مُرعبيَن، امتد منذ أفول شمس الامبراطورية الرومانية، وحتى بزوغ شمس عصر النهضة. ونحن هنا لا نتحدث عن حقبة امتدت لأعوام أو لعقود فقط، بل نتحدث عما يقارب عشرة قرون عجاف. فليكن الله في عوننا.
إذن نحن كأمّة إسلامية، لدينا فيما لدينا، أزمة عضال مع المقدس، وهي أزمة قد بدأت تُطيح فعليا بوجودنا، إذ إن المارد قد خرج فعلا، أو أن هناك من ساهم في إخراجه من القمقم، لغاية في نفس يعقوب. وبذلك، فإن الخطر لم يعد وشيكا وقريبا فحسب، لكي نَحْذَر أو نُحَذّر من وقوعه، بل صار واقعا مُعاشا وخارجا عن السيطرة، على امتداد بقاع كثيرة في العالمين العربي والإسلامي. والقضاء على تنظيم جهادي ما، لا يعني استحالة إعادة إنتاجه تحت اسم آخر وبشعارات أكثر تطرفا، في فترة لاحقة. وذلك ما بات يهدد أيضا، الأمن والاستقرار لشعوب العالم قاطبة. فما الحل؟
في الحقيقة، إنّ من يقفزون إلى استنتاج ارتجالي أو عفوي، مفاده أن "الإسلام هو المشكلة" هم في الواقع يتكلمون نفس اللغة التي يتكلم بها جماعة "الإسلام هو الحل" ولو بتعابير ومصطلحات نقيضة، لأن خامة التطرف تبقى واحدة، ولاسيما في ظرفنا الراهن، الذي بات فيه الدين أشبه بإكسير الحياة، لدى الكثيرين ممن استهلكت الحياة أحلامهم واستنفذت فرصهم الواقعية للثقة بها، فلم يبقَ لهم سوى الله. ونحن هنا لن نطرح سؤالا عما إذا كان اجتثاث الدين من عقول الأغلبية ووجدانها أمرا سيئا أم جيدا، ولكن أظن أننا سنتفق حول اعتبار ذلك أمرا غير ممكن… فلنكن موضوعيين.
هنا يبدأ العقلاء بالإدلاء بدلوهم، حيث ترتفع الأصوات وتتزاحم العقول، أكثر من أي وقت مضى، للمناداة بمصطلحات؛ كالحداثة والنهضة والتنوير وما إلى ذلك، ولكن جميع تلك الأصوات تتقاطع وتجتمع وتتفق على ضرورة الإصلاح الديني أولا، وذلك لإعادة الدين إلى سياق روحي آمن ومنطقي وواعٍ.
وللمصلحين الدينيّين في العالم الإسلامي مهمة كؤود، في مناخ قد بات مثاليا للتطرف الديني وليس العكس. وللميل إلى الركون للسبات الدوغمائي اللذيذ، في زاوية ما من حجرات الدين العتيقة، بعيدا عن قُبح الواقع ومتاهاته، التي باتت غير قابلة للفهم أو التعليل. وللأخذ بقوالب اليقين مُسبقة الصنع، كوسيلة حتمية ومُلحة للخلاص، وذلك لانتفاء الحاضنة المنطقية، التي تجعل الإنسان يتعامل مع المُقدس كفلسفة روحية، بدلا من التعامل معه كرهاب. إذ يصبح الناس خائفين متوجسين من الإبداع في فهم الدين، جانحين للتمسك بالتراث ورموزه ومفسري نصوصه، واثقين مطمئنين للنقل ورافعين مرتبته فوق العقل، حيث يدخل التفكير في دائرة التابو. فطريق الخلاص صراط كحد السيف، لا يحتمل الخطأ، وليس فيه هامش فردي للاجتهاد أو التأويل، ولا لأية زلة أو غواية يحدثنا بها "العقل العفن"، لأنها قد تودي بصاحبها إلى هول الخلود في جهنم. وبما أن الفرد في محنته هذه، لم يعد يأبه إلا بخلاصه الشخصي، تراه يُسْلِم شخصيته لقطيع الجماعة الآمن، حيث هناك من رسم له سلفا، طريق خلاص حَسَن العاقبة وسهل المنال ومُكتمل الملامح والتكوين، فيكون بذلك قد سلك طريق الفرقة الناجية من النار… داعش مثلا.
وهكذا، فليس مستهجنا أحيانا، أن يكون المصلح الديني في بيئة كهذه "غريبا كصالح في ثمود".[1] منبوذا من الجماعة، كمن يغرد خارج السرب. هيَّابا على حياته، كي لا يلاقي مصير فرج فودة أو محمود محمد طه، وعلى مصيره، حتى من القانون الرّسمي لدولة يُفترض بأنها علمانية، كما حصل لنصر حامد أبي زيد أو لإسلام البحيري. لذلك، نجده يناور ويدور حول المشكلة أحيانا، دون الجرأة للنفاذ إلى لبها، مستعملا نوعا من التقية، حتى ولو كان من أشد الناس إيمانا بروحانية الدين. أو نجده في حالات أخرى حانقا متطرفا، يدعو إلى الخلاص من الجَمل بما حمل، مناديا بإصلاح الدين، كمقدمة لهدمه ولتجريده من روحانيته، واضعا الغث والسمين في سلة واحدة، على أنها مصدر لجميع الشرور. وهذا ما يدفع الناس للتعصب لدينهم أكثر، ولو بعيون مُغمضة، لأنه في هذه الحالة يتم طعن المؤمنين في صميم وجدانهم، ويهدد بتقويض الركائز الوجودية التي بنوا عليها منظومة أمنهم الداخلي.
وكذلك، فإنّ من المآخذ على بعض تيارات الإصلاح الديني أيضا، أن هناك البعض ممن يخاطبون العامة منتهجين أسلوب اللعب بالألفاظ والحروف، من نصوص القرآن والسنة، متبعين نوعا من البهلوانية في التعامل معها، بغية تأويل النصوص عبر ليّها أو مطّها أو ضغطها، لإكراهها للخضوع إلى المعنى المُرتجى، مُحمّلين إياها ما لا تحتمل، وذلك لإقناع المتلقي بمدى عَظمة الدين وشموليته، ومدى تسامحه وصلاحيته لكل زمان ومكان. ونحن هنا قد لا نختلف بالضرورة على نعت الدين ببعض هذه الصفات، ولكن الخلاف يكمن في النهج الفلسفي الأجوف، الذي ينحدر إلى مستوى الترفيه أو الكوميديا، والاستخفاف بعقول العامة، والذي يمكن تشبيهه بنوع من التخدير الموضعي الآني والرخيص. أو حسب تعبير نيتشه: "يُعَكّرِون جداولهم ليخدعوا الناس ويوهموهم أنها بعيدة الغور".
في الجانب الآخر، نجد بعض المصلحين الدينين، ممن يمكن نسبتهم إلى فئة النخبة. والذين عادة ما ينتهجون أسلوبا فلسفيا / منطقيا، لا تنقصه العقلانية والقدرة على الإقناع. ولكن غُرْبة هؤلاء تكمن في أن خطابهم النخبوي قد يثير حنق الأغلبية من العامة، التي لا تفهم منه إلا العناوين. وفي الحقيقة إن في جمالية خطابهم ورُقيّه، تكمن نقطة ضعفه؛ ذلك أن خطابهم الرصين ذاك، هو أشبه أحيانا، بمنطق نخبة تخاطب نخبة، أو منطق عقلاء يخاطبون عقلاء. ولكن لمن نترك "المجانين" أو من هم على حافة الجنون إذن؟ ممن لديهم الميل للتبرير، أو حتى الجاهزية لإزهاق الأرواح وتدمير الأوطان، كوسيلة حصرية لبلوغ الحياة المثالية في الدنيا والآخرة. أليس في هؤلاء تكمن أس المشكلة؟
وهكذا، فأمام تشابك وتعقيدات هذا المشهد، تصبح عملية الإصلاح الديني أشبه بالتجديف بعكس تيار جارف، إذ إن المهمة عسيرة بشكل استثنائي، ولاسيما في وجود واقع معاند. فهل هناك أمل واقعي في إجراء إصلاحات شاملة في الإسلام؟ أم إن الإسلام دين غير قابل للإصلاح، بسبب خصوصية ما؟
في الحقيقة، عندما ينعم أفراد الأمة بنوع من الاسترخاء والرفاه والشعور بالأمن والأمان والثقة تجاه المستقبل، يصبح للانتماء للحاضر الأولوية على الانتماء للموروث، فيصبح الناس أكثر ثقة بالعلم وأكثر ميلا إلى التفكير الفلسفي النقدي والمنطقي لفهم حقائق الوجود، أكثر من ميلهم إلى التنقيب في عالم الغيب، حيث تنتفي الحاجة للبحث عن الحلول السحرية، أو للإيمان بالخوارق والمعجزات. كما يصبح الانتماء لتراب الوطن، أولوية تعلو على الانتماء لغياهب السماء. وهكذا، فإن الدين في ظل تلك الظروف، يبدأ بإصلاح نفسه بنفسه، أو إنه يبدأ بإعادة هيكلة ذاته، لتتلاءم مع صفات الحق والخير والجمال والتسامح والانفتاح على الآخرين وعلى معتقداتهم. وهذا ما كان يجنح إليه المسلمون مثلا لحقبة طويلة في فترات ازدهار دولتهم، حتى أنهم كانوا نموذجا ومنهلا حضاريا وثقافيا للكثير من الشعوب، بما في ذلك لمفكري أوروبا في العصور الوسطى مثلا.
بمعنى آخر؛ في ظل تلك المعطيات، فإنّ العقول التي تؤول الدين تصبح قادرة، وبشكل آلي، على ترميم فهمها لأية ظاهرة، لاهوتية كانت أو ناسوتية، دينية كانت أو اجتماعية أو معرفية. وبذلك، فإن نهر الحداثة بمعناه الشامل، لن يجد العوائق التي تمنعه من التدفق والجريان، ذلك أن النهر موجود أصلا لكي يسير. أما نهرنا الذي تحول إلى ما يشبه المستنقع الراكد، فهو مجرد استثناء له أسبابه الموضوعية التي غلبت على الذات، في واقع تكاد تنعدم فيه معظم تلك العوامل المثالية آنفة الذكر، حيث تم العمل طويلا على تعزيز "سيكولوجية الإنسان المهزوم" في داخلنا، بشكل واع ووممنهج. والأمة عندما تتوالى هزائمها، فيصبح ذلك بمثابة هزيمة شخصية لكيان ووجدان كل فرد فيها.
ولكن على الرغم من كل ذلك، لا بد من القول إن الإسلام دين قابل للإصلاح، ولو بشكل نسبي، أو ولو بعد حين، ولاسيما إذا اتفقنا على ما ورد في مقدمة هذا البحث، بأن صفات الدين تكمن في ذات من يقرأه، أكثر مما تكمن في الدين نفسه. وخير مثال على تلك المقولة، هو البون الشاسع ما بين إسلام الأندلس في العصور الوسطى، وبين إسلام القاعدة وطالبان وداعش في القرن الواحد والعشرين، حيث اكتسب الدين شكله وصياغته وأولوياته من قالب العقول التي تؤوله. ولذلك، فلا بد من العمل على الوعي البشري، لسكب الدين في قالب ذلك الوعي، وليس العكس.
ولا شك بأن مهمة كهذه، تتطلب جهدا دؤوبا وأناة واستراتيجية واضحة ومحددة قد تم إعدادها سلفا؛ وذلك عبر تضافر الجهود والعقول والمؤسسات والمرجعيات الدينية المستنيرة، كمنظومة متكاملة ومتوافقة ومتناغمة، لتكون بمثابة المرجعية الروحية والعقائدية العقلانية للتعاطي مع المقدس، بكافة رموزه ومفاهيمه. ومن الطبيعي أن تكون الدولة الرسمية، هي الراعي الأساسي لكي توجد وتلتئم مفصلية تلك المنظومة متعددة الأقطاب، وتصبح وحدة فاعلة وواقعا يرى النور. وبذلك، تكون الدولة قد استثمرت على المدى البعيد، في ضمير ووجدان الإنسان، وكيف يمكن أن يخيب لها أمل بعد ذلك!
ولذلك من الأهمية بمكان، أن يتم العمل على تهيئة عقول الناشئة، بغية تفعيل شأن مَلَكَة المنطق لديهم وإعلائها لتكون مرجعا معياريا للمحاكمة، عند التعامل مع الظواهر والحقائق والأشياء، وذلك عبر دور التعليم ومناهج تدريسها. وكذلك عبر دور العبادة، التي ينبغي لها أن تكون أيضا، منهلا للعلوم الروحية والفلسفية، كتعزيز ثقافة التصوف وفلسفته مثلا. بدلا من كونها وسيلة للتجهيل ولتلقين العقيدة الذرائعية والانتهازية حتى مع الله، ولبث ثقافة الترغيب والترهيب والإرهاب والخرافات، التي ليس لها وجود في الكثير من الأحيان، ولا حتى في نصوص الدين نفسه. وبذلك، تكون تلك المنظومة أشبه بسعي لتحويل الدين، أو لإعادة مساره، لكي يكون موازيا للفلسفة، التي ينبغي أن تكون بدورها مقدمة لفهم الدين ولترسيخ العقيدة الدينية، كتمهيد لتقاطع، العقل مع الإيمان ثم تطابقهما معا. وإلى متى ينبغي أن يكون حضور أحدهما نفيا للآخر!
وحسب تعبير وولتر ستيس "إنّه من الخطأ تصور أنّ الفلسفة والدين منفصلان كلية، ولا يوجد أساس مشترك بينهما. فهما في الواقع على صلة قربى أساسا، ولكنهما أيضا متمايزان. وربما كانت أصدق نظرة إليهما، هي أنهما متماثلان في الجوهر ومختلفان في الشكل. فجوهرهما هو الحقيقة المطلقة"[2]
من الضروريّ الإشارة إلى أنّ بذور إصلاح الإسلام لا بد أن تكمن في النصوص المقدسة أولا
وكذلك يحاول د.عادل مصطفى أن يُمرر لنا رسالة دقيقة وواضحة، عندما يقول إنّ: "كل ما نعانيه من ارتداد في التنوير، أو إخفاق بصدد توطين الفكر العلمي والنقدي في بلادنا، يعود بشكل أو بآخر إلى ضرب من فراغ فلسفي ما زال يلاحقنا. إن الفراغ الفلسفي أفتك ضروب الفراغ، لأنه لا يهدأ ولا يستكين، بل يزعق ويولول التماسا للملاء وطلبا للبدائل. ثم يترخَّص يأسا، فيفتح للجهل والضحالة ويُهيب بالوهم ويستدعي الخرافة".[3]
وفي الحقيقة، إنّه عندما تمرُّ الأمّة بمراحل انحطاطها، يصبح الموروث الديني عبئا ثقيلا، إلى درجة أن يصبح المقدس، ليس عائقا حضاريا فحسب، بل وعائقا روحيا أيضا. ذلك أن كثافة الموروث الديني تصبح "فائضة" عما تتطلبه أو تحتمله الاحتياجات الحياتية والروحية للبشر. وهنا يكون فِعْل الفلسفة في الدين، كَفِعْل تفكيك "ما فاض" من الماء بغية إعادته إلى عناصره الأولى، في وقت نكاد فيه نختنق من وفرة الماء وشحّ الأوكسجين.
إذن لا مناحة من العمل على تأطير الإيمان بإطار عقلاني منطقي، وذلك بأسلوب لا يخدش بالضرورة موروثنا الديني، الذي كادت الفلسفة أصلا، أن تكون عِمَاده لقرون. حيث كان هناك الكثير من الفلاسفة المسلمين، الذين كانوا يعتقدون بانتفاء التناقض بين الوحي والعقل، بين العقلانية والإيمان؛ أمثال أبي الوليد بن أحمد بن رشد، الذي كان ينفي وجود الفارق بين الدين والنزعة العقلانية، فكلاهما يعبِّران عن حقيقة واحدة ولكن بطرق مختلفة، وكلاهما يتطلعان باتجاه الإله ذاته. وأبو نصر الفارابي الذي سُمّي برجل النهضة، والذي كان يرى أن الوحي عملية طبيعية تماما وأن الفلسفة هي السبيل الأفضل لفهم الحقائق التي عبَّر عنها الأنبياء بأسلوب مجازي شعري، كي يفهمها الناس. وابن سينا الذي قام بتفسير عقلاني لوجود الله مبني على براهين أرسطو. ويعقوب بن إسحاق الكندي، الذي كان أول من طبَّق الطريقة العقلانية على القرآن، والذي كان متلهفا أيضا إلى البحث عن الحقيقة في تراثات دينية أخرى.[4]
وهنا لا بد من التذكير أيضا، بأنّ أعماق الإسلام لا تخلو من الجواهر الفريدة، وبما لذ وطاب لكل ذي ذوق. ومن المُفارقَة أن يكون المستشرقون هم السبَّاقون لإخراج تلك الجواهر من مكامنها وتسليط الضوء على فرادتها، في الوقت الذي تجد فيه باحثين مسلمين ومصلحين دينيين، ممن يقفزون فوق ظاهرة الوحي، من دون أن يشغلهم البحث في ماهيتها. أو حتى لدرجة اعتبار الوحي أحيانا، مجرد مسرحية قد أعدها النبي في غار حراء، أو مجرد هلاوس. وتلك إشارة واضحة على عوز في الإلمام بمقدمات "ظاهرة الوحي" وبماهيته وفرادته كتجربة لا يبلغها إلا ذوو النفوس العظيمة من صفوة البشر. ولا يفوتنا هنا، أن نُذَكِّر بالتصوف الإسلامي وأهله، الذين كان جوهر الإسلام هو منارتهم وهديهم، وحيث ذهبوا بعيدا، أبعد من العبادات والطقوس والخوف والرغبة، حتى النفاذ إلى جوهر التجربة المحمدية، فتحققوا من جوهر الدين عبر فنائهم بالله، وحصدوا اليقين. حتى بلغ بهم الحال إلى الدعوة لإسقاط العبادات والطقوس الدينية، من خلال الإشارة والرمز أحيانا، أو من خلال البوح أحيانا أخرى، معتبرين أن تلك الطقوس هي طريق خلاص العامة فقط، ممن لم يرتقوا إلى المراتب العليا من الدين. وكما يقول المتصوف أبو يزيد البسطامي: "اطَّلع الله على قلوب أوليائه، فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة صرفا، فشغلهم بالعبادة… عجبتُ ممن عرف الله كيف يعبده"[5]
ختاما، (فالنقاط التالية ستكون مادة لسلسلة من الأبحاث القادمة والموثقة بالنصوص القرآنية وغيرها من المراجع) من الضروريّ الإشارة، إلى أنّ بذور إصلاح الإسلام لا بد أن تكمن في النصوص المقدسة أولا، أعني نصوص القرآن ونصوص الأحاديث النبوية. وحسب افتراضنا، فإنّ في طيّات تلك النصوص ما يكفي (لمن لديه القابلية والميل لكي يعي) لهدم المفاهيم الدوغمائية الجامدة، ولتفكيك الحرف وتخفيف عبء القداسة عنه، بغية إفساح المجال لكي تبزغ قداسة المعنى. ولإزاحة الضباب عن القمم الروحية في الإسلام، ومَد الجسور المعرفية بينها، ومنها إلى الديانات والثقافات الروحية والإنسانية الأخرى، بغية البحث عن فضاء روحاني فيه متسع لكل ما أبدع الله في تعددية خلقه. وفيه متسع لكي يتعايش المؤمنون بالله الواحد، على اختلاف دياناتهم معا، ومع غيرهم ممن يتلمسون الطريق نحو ذات الله، ومع من ضلّوا الطريق (طريقنا) الذي فرضت نسبية أفهامنا أن لا نختار غيره. وفي تلك النصوص ما يكفي أيضا، لكشف المستور من تراثنا الديني، مما اعتدنا على التواطؤ حوله ولو بشكل ضمني وغير مُعلَن. ذلك التراث الذي اختلط فيه المقدس، بالأعراف الاجتماعية والمصالح الشخصية والغرائز والأسطورة والخرافة وليدة الخيال، والذي وجدنا فيه أيسر وسيلة لمحاباة انتكاساتنا وضعفنا وخمولنا، عبر الإيمان بالحلول السحرية الخارقة التي ننتظر من الله أن يختصنا بها دون غيرنا. حتى انطوينا على أنفسنا وانغلقنا على ماضينا، مُستمدين تميّزنا ورفعة كبريائنا من خلال الحط من قيمة الآخر، أو من خلال البرهنة على زيف عقيدته أو تكفيره. متناسين أنّ الآخر هو جزء من كل، ننتمي إليه جميعا.
[1] اقتباس للشطر الثاني من قول المتنبي: أنَا في أُمّةٍ تَدارَكَهَا اللّــهُ غَريبٌ كصَالِحٍ في ثَمودِ
[2] وولتر ستيس، تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ص21
[3] وليم جيمس ايريل، مدخل إلى الفلسفة، ترجمة: د.عادل مصطفى، القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2011، ص6.
[4] كارين آرمسترونغ، الله والإنسان، ترجمة محمد الجورا، دمشق، دار الحصاد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، ص180 وما بعدها. (حيث تتحدث الكاتبة عن هؤلاء الفلاسفة المسلمين الذين طوَّروا ما يسمى بالفلسفة النبوية، وأرادوا أن يجدوا جوهر الحقيقة الموجودة في قلب جميع الأديان التاريخية، التي كانت تسعى الى تحديد حقيقة الله ذاته منذ فجر التاريخ)
[5] أبو يزيد البسطامي، المجموعة الصوفية الكاملة، تحقيق وتقديم قاسم محمد عبّاس، دمشق، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الثانية، 2006، ص58