التعاون الدعوي
يوسف علي فرحات
هناك صنفان من الناس:
- صنف تَغْلُبُ عليه الأنانية المفرطة والفردية المطلقة، لذلك تراه يحرص إذا عمل عملاً من أعمال البر أن يُنسب الفضل لشخصه، ومن ثم فهو يشعر بالضيق لو شاركه أحد في هذا العمل خشية أن يشاطره هذا الفضل.
- وهناك صنف آخر يسمو على شهوته، ويتعالى على ذاتيته وفرديته، فليس له هم إلا طلب الحق، وإشاعة الخير، سواء كان ذلك على يديه أم على يدي غيره، ومثله في ذلك مثل الذي ينشد ضالة له، فلا يضره أن يعثر هو عليها أم يعثر عليها غيره.
والأنانية خلق ذميم وسلوك مشين ابتلي به كثير من الدعاة، وفصائل الصحوة الإسلامية، ومرد هذا المرض ضعف الإخلاص والتجرد لله سبحانه، وحال المسلمين اليوم من تداعي الأمم عليها من كل حدب وصوب يوجب على الدعاة وفصائل الصحوة بذل المزيد من الجهود الدعوية والتسامي على الخلافات والأهواء بالتنسيق والتعاون لنشر الخير والبر ومواجهة الشر، فالاختلاف في الرأي وتعدد الاجتهادات في وسائل العمل لا يبرر القطيعة والفرقة، ولاسيما إذا تعاملنا مع ظاهرة تعدد فصائل الصحوة كتعاملنا مع التعددية المذهبية فضلاً على أنها عبارة عن روافد تصب في نهر الإسلام العظيم.
ولابد من التذكير أن الأصل في المسلمين أن يكونوا أمة واحدة، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:92]، كما أن الأصل أن يتسمّى المسلمون باسم الإسلام لقوله تعالى: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحج:78]، أما هذه التسميات -وإن كانت جائزة- إلا أنه لا يجوز بحال من الأحوال أن تكون سبباً للفرقة بين المسلمين، ولا أن تكون سبباً لنصبها معاقد ولاء وبراء يوالي المسلمون بعضهم بعضاً على أساسها، فمن كان من جماعتنا واليناه، ومن كان من غيرنا تبرأنا منه.
ولذلك كانت الجماعة ولزومها من أعظم الأصول التي دعت إليها الشريعة، ومن ثم كان كل سبيل يؤدي إلى اجتماع المسلمين ووحدة كلمتهم واجب وهذا مما لا خلاف فيه، ولترسيخ مفهوم الجماعية في الأمة أمر الله سبحانه المسلمين بالتعاون عل البر والتقوى في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة:2]، كما رسخ هذا المفهوم سورة العصر ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:3].
فكل ما صدق أنه بر وتقوى شُرع التعاون عليه، بصرف النظر عمن كان هذا الذي نتعاون معه، فالخطاب في هذه الآية عام، بل إن ظاهر كلام بعض المفسرين أن الخطاب في هذه الآية عام لجميع الخلق مسلمهم وكافرهم، وقد تضافرت على ذلك أدلة كثيرة، وعمل بذلك الصحابة -رضوان الله عليهم-، ومَنْ بعدهم من أئمة الإسلام، لذلك قرر علماء الإسلام وجوب الجهاد مع البر والفاجر، وجاهد علماء المسلمين مع الملوك والسلاطين، مع أن بعض هؤلاء تلبس بالبدع.
وأصل ذلك أن علاقة المسلم مع المسلم الذي تلبس بمعصية أو بدعة، أن يُوالى بقدر ما معه من طاعة، وأن يتبرأ من معصيته وبدعته، عملا بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: »انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ قَالَ تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ« [رواه البخاري]، فنصرة الظالم المسلم تكون بأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر وهذا الظلم الذي تلبس به لا ينقض أصل الولاء له، لأن أصل الولاء لا ينتقض إلا بخروج الإنسان من الإسلام إلى الكفر.
وبناء على ما تقدم فإن تأسيس نشاط إسلامي للدعوة إلى الله جل وعلا، يشترك فيه أفراد من شتى الجماعات الإسلامية، لا شك أنه من أوجب الواجبات، إذ بالقيام بهذا الواجب العظيم، تتلاقح الأفكار والوسائل في إثراء العمل الدعوي.
وهذا الذي نقوله من وجوب نشر ثقافة التعاون دعا إليه أبرز مفكري الحركة الإسلامية، من أمثال الإمام البنا وسعيد حوى -رحمهما الله-، والدكتور القرضاوي، وأحمد الراشد، فالبنا دعا إلى هذه الثقافة بل ومارسها عملياً وذلك على أساس قاعدة محمد رشيد رضا: "نتعاون في اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"، وقد أكد الأستاذ سعيد حوى حيث يقول في كتاب [جند الله تخطيطاً ص30]: "ولجعل العمل الإسلامي يتكامل فإن وجود طبقة مهمتهم التقريب بين التيارات واجب من واجبات العصر، كما ينبغي على التيارات الإسلامية أن تعطي الحرية لأبنائها أن يتعاونوا مع غيرهم على الخير"، وقد فطن المؤسسون الكبار لهذا المعنى، فالشيخ محمد إلياس -رحمه الله- مؤسس جماعة التبليغ وإخوانه يدفعون من يلتزم بهم أن يتفقهوا على العلماء وأن يتربوا على أيدي المربين، وحسن البنا -رحمه الله-، لم ير حرجاً في نفسه أن ينتسب إلى شيوخ أو إلى جمعيات، وقال لإخوانه: "ومن أراد أن يختار تربية خاصة فهو وما يختار".
وقد دعا الدكتور القرضاوي في أكثر من موضع في كتبه إلى تقاسم التنظيمات العديدة للدعوة الإسلامية للواجبات بعد ما رأى صعوبة أو استحالة أو عدم جدوى ذوابنها في تنظيم واحد، ورأى صواب تخصص بعضها في أداء أدوار علمية أو اجتماعية أو سياسية معينة في إطار من الحب الأخوي والتنسيق والتعاون، وقد ألف حفظه لتعزيز هذه الثقافة كتاباً فذاً أسماه (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم).
أما المفكر الإسلامي الكبير صاحب نظريات فقه الدعوة الأستاذ أحمد الراشد فقد كان له نصيب كبير في إشاعة هذه الثقافة، حيث يقول: "التشنج بدعة، وإن من منهجية تربيتنا الدعوية أن نُعَّلم الدعاة العمل المشترك، والتحالف مع الجماعات الإسلامية، والسماحة، والدعاء بظهر الغيب في وردهم لكل محسن من المسلمين يضيف طريفاً أو يُذكِّر بتليد، لأنه ينشر عبير مسك تزداد به طيباً نفحات وردنا، وهو خير من فاسق حداد يلوث البيئة بكيره ويزعج مجلسنا إذا تلاقت الأرواح على تلاوة الآي أو استماع الحكمة" [منهجية التربية الدعوية ص278].
فهل يتعظ دعاة الإسلام بهذه المواعظ الدعوية ويتقدموا خطوة أو خطوات نحو تعاون دعوي يخلص العمل لله سبحانه ويتجرد من الحظوظ الدنيوية، يسموا على الأهواء وحب الذات؟