عمل المرأة في البيت نفقة
يتوزّع العمل المنزلي النسائي (féminin) بين أربعة أنشطة رئيسة: الأعباء المنزليّة اليوميّة، الخدمات التربويّة، الخدمات العلاجيّة، تدبير المواد الاستهلاكيّة في المنزل. وهو عمل لا يعتبره علماء الاقتصاد والإحصاء نشاطاً اقتصاديّاً لأنّه غير مأجور ولا ينتج خيرات قابلة للتسويق. ففي ظلّ المنطق الأبيسي السائد تفرض الأنوثة حتماً على الزوجة الحمل والوضع والإرضاع والتربية وكلّ ما يتبع ذلك من خدمات منزليّة، بمعنى أنّ الزوجة تقوم بإعادة الإنتاج من خلال الإنجاب وخدمة الزوج وتجديد قوّته على العمل. في مقابل ذلك، يكسب الزوج الناشط في حقل الإنتاج مصدر العيش وينفق على كافة أعضاء الأسرة. إنّه المنطق القائم على مفهوم التكامل بين الرجل والمرأة في الأدوار والمكانات، والتكامل الاجتماعي امتداد مطبِّع للتكامل الطبيعي بين الذكر والأنثى في الجنس والإنجاب.
ثلاثة انتقادات يمكن توجيهها إلى هذا الطرح الأبيسي الذي يجعل من الزوج معيل الأسرة وسيّدها ومن الزوجة خادمة الأسرة.
النقد الفقهي: النفقة ليست استئجاراً لخدمة الزوجة في البيت
من المشهور في الشريعة الإسلاميّة أنّ عقد النكاح عقد استمتاع وليس عقد استخدام، بمعنى أنّ خدمة البيت ليست من واجبات الزوجة شرعاً. وهو رأي المذهبين الحنفي والشافعي. وذهب الحنابلة إلى أنّ خدمة البيت مجرّد عادة، ومن المستحبّ الحفاظ عليها. بيد أنّ المالكيّة انفردت وحدها بواجب الخدمة من طرف الزوجة في حالة فقر الزوج، أمّا في حالة يسره، فعليه استئجار خادمة تقوم بالأشغال المنزليّة. تفصيلاً في المذهب المالكي، يرى محمّد بن عرضون أنّه لا يجوز تشغيل المرأة الحرّة في الزراعة دون تأجيرها، وهي ليست أَمَة يجوز لسيدها أن يستغلها في البيت والفراش.[1] وذهب أخوه أحمد بن عرضون أبعد من ذلك، حيث أفتى للزوجة بنصف مال الزوج عند الوفاة أو عند الطلاق، وهو ما سمّاه "حقّ الشقا"، أي حقّ "الكدّ والسعاية" بواسطة العمل المنزلي الذي أنجزته الزوجة خلال الحياة الزوجيّة والذي ساهم في تنمية أموال الزوج.[2] فالفقه الإسلامي لم يرَ في العمل المنزلي جانباً من فطرة المرأة، لأنّه ألزم الزوج بالنفقة، والنفقة لا تعني الطعام والكسوة والمسكن فقط، بل تعني الخدمة أيضاً، أي استئجار من يخدم في البيت. "على الدنيئة (وحدها) الفرش والكنس وطبخ القدور وسقاء الماء"[3]، بمعنى أنّ النساء الفقيرات وحدهنّ ملزمات بتلك الأشغال بحكم الضرورة الاقتصاديّة. بتعبير آخر، لا تباشر الزوجة الأعمال المنزليّة بحكم أنوثتها أو وضعها كزوجة، وإنّما بالنظر إلى العادة السائدة في الأوساط الشعبيّة. علاوة على ذلك، لا يجب الإرضاع على الزوجة إلّا في حالات ثلاث: إذا لم يقبل الرضيع ثدياً غير ثدي أمّه، إذا كان ترك إرضاع الأم لولدها يضرّ به، إذا كان الأب معسراً، بمعنى أنّه لا يستطيع استئجار مرضعة.[4]
من هنا يتبيّن أنّ خدمة البيت والرضاع نشاط اقتصاديّ نسائيّ منزلي، تقوم به الزوجة دون أن تتقاضى أجراً عليه، فالنفقة على الزوجة لا تجبرها على القيام بتلك الأشغال.
النقد النَّسَوي (féministe) الراديكالي: تأجير العمل المنزلي عدل
وهو الطرح الذي يذهب إلى ضرورة تأجير العمل النسائي المنزلي باعتباره نشاطاً اقتصاديّاً من الضروري حسبانه في الناتج الداخلي الخام. وهذا ما غيبته العلوم الاجتماعيّة، الاقتصاد والإحصاء خاصّة، من لائحة المجموعات السوسيو ـ مهنيّة، فوضعت ربّة البيت في خانة المجموعات غير النشيطة اقتصاديّاً. من خلال ذلك، يتبيّن أنّ تلك العلوم تقوم على خلفيّة ذكوريّة لا تأبه بوضع تصنيفات عادلة ضامّة لخصوصيّة وديمومة الأعمال النسائيّة المنزليّة ولمساهمتها في الاقتصاد الوطني. وقد أثبتت بعض الدراسات الغربيّة أنّ حساب الكلفة الماليّة لعمل المرأة في البيت، انطلاقاً من عشر ساعات عمل يوميّاً كمعدّل، يقود إلى ضرورة إعطاء ربّة البيت أجراً منزليّاً يساوي 3500 أورو شهريّاً.[5] على هذا الأساس، تطالب النَّسَويّة بتأجير عمل المرأة في البيت لكي لا يتكرّر نموذج الأمهّات غير المعترف بنشاطهنّ المنزلي كنشاط اقتصادي مساهم في الإنتاج الداخلي الخام وفي الثروة الوطنيّة.
في المغرب، أقرّت "المندوبيّة السامية للتخطيط"[6] أنّ نسبة مساهمة العمل المنزلي في الناتج الداخلي الخام تصل إلى 34، 5٪، وأنّ نسبة النساء في العمل المنزلي عالية جدّاً إذ تصل إلى 92٪، لكنّ المندوبيّة لم تقدم على تقييم الأجر المنزلي الذي تستحقه المرأة المغربيّة، ممّا يعني أنّ المندوبيّة تجنّبت الإقرار صراحة بأنّ ربة البيت تجنّب الزوج مصاريف الأشغال المنزليّة وأنّها تساهم مباشرة في النفقة على الأسرة. وموقف المندوبيّة هذا موقف مؤسّساتي يعيد إنتاج ذكوريّة علمَي الاقتصاد والإحصاء، وذكوريّة الدولة بوجه عام.
خدمة البيت والرضاع نشاط اقتصاديّ نسائيّ منزلي، تقوم به الزوجة دون أن تتقاضى أجراً عليه
إنّ الأجر المنزلي سلاح ذو حدّين: فهو من جهة اعتراف بالمرأة كنشيطة (بالمعنى الاقتصادي) من جهة، وهو من جهة أخرى ربط بين الأنوثة والمرأة والمنزل، وهو ربط يكرّس التقسيم الجندري للعمل ويحافظ على الهيمنة الرجوليّة، أي على استحواذ الرجال على السلطة والمال والمعرفة. وهذا ما دفع النَّسَويّات الراديكاليّات إلى رفض العمل المنزلي كمقاومة للأبيسيّة ما دام عملاً غير مؤجر. وقد أضربت بعض النساء الغربيّات عن العمل المنزلي بشكل فردي، ممّا قادهنّ إلى أزمات نفسيّة من جرّاء النقد الأبيسي الذي تعرّضن له، والذي اتهمهنّ برفض العمل (المنزلي) كشيء مشرّف للمرأة ومحقق لكينونتها.[7]
الطرح النَّسَوي الماركسي: مهننة العمل المنزلي وفكّ الارتباط بينه وبين المرأة
ترى الماركسيّة أنّ تحرير المرأة يتمّ بفضل القضاء على الأسرة الزوجيّة كوحدة اقتصاديّة يلعب فيها الزوج دور البورجوازي المعيل، وتحتلّ فيها المرأة مكانة الكادحة المعالة المستغَلّة التي تسهر على إعادة إنتاج قوّة العمل. إنّ العمل المنزلي هو التعبير الماديّ الرئيس لقهر واستغلال المرأة في كلّ المجتمعات الأبيسيّة؛ العبوديّة والإقطاعيّة والرأسماليّة على حدٍّ سواء. من ثمّ تلك القولة الشهيرة التي ترى في المطبخ أكبر عدّوٍ للمرأة.[8] وقد اقترح لينين (Lénine) أوّلاً اقتسام العمل المنزلي بين الزوجين، ثمّ اقترح فيما بعدُ تحويل الأنشطة المنزليّة إلى مهن مؤدّى عنها وغير مرتبطة بالنساء فقط، بل يمكن للجنسين معاً مزاولتها. وتعني المهننة أيضاً أنّ بعض الخدمات والمنتوجات المنزليّة يمكن الحصول عليها خارج البيت، فلا تبقى مرتبطة لا بالبيت ولا بالأسرة ولا بالمرأة. في هذا السياق، تتكلّف الدولة (أو المقاولة عند تبنّي الفكرة من طرف الرأسماليّة) بالخدمات التربويّة والصحيّة العلاجيّة، وتوفر دور حضانة ومطاعم تقلل من كميّة العمل المنزلي. إنّ الرهان الاستراتيجي يكمن إذن في كشف القناع عن الرومانسيّة الزائفة الممجّدة للعمل المنزلي/ الإنجابي. يكمن الرهان الاستراتيجي إذن في فكّ الارتباط بين العمل المنزلي وبين الأسرة، وبينه وبين الزوجة والأنثى، حتى تتمكّن المرأة من ولوج عالم الشغل والإنتاج. لكنّ العولمة اليوم، باعتبارها انتصاراً لنظام السوق، تعيق اندماج أغلبيّة النساء في السوق، وخاصّة في المهن والمناصب التمكينيّة من الاستقلال المادّي الفعلي عن الرجال.
المطلوب هو البدء في القيام بثورة جندريّة تعيد النظر في هويّات الرجل والمرأة وفي التفاضل المؤسّس للعلاقات بينهما
خاتمة
تؤدّي التحليلات السابقة إلى الاستنتاجات التالية: 1ـ الزوجة غير مجبرة شرعاً على القيام بالأعمال المنزليّة بمجرّد استفادتها من النفقة، 2ـ عمل الزوجة يظلّ غير مرئيّ ولا يحرّرها من التبعيّة للزوج ولا يمكّنها من الاستقلال الاقتصادي، 3ـ القضاء على الأسرة النوويّة، زوجيّة أو غير زوجيّة، ليس أمراً قابلاً للتحقيق على الأمد القريب أو المتوسّط، 4ـ تشغيل كلّ النساء في مناصب تمكينيّة أمر متعذّر في النظام النيو ـ ليبرالي الوحشي السائد. بالنظر إلى هذه الاستنتاجات، يتوجّب اعتبار عمل المرأة في البيت نفقة على البيت، وبالتالي الانتهاء من وهم قوامة الرجل على المرأة. فكلاهما قوام على الآخر. وبالتالي يقود الاعتراف بالمساواة في القوامة إلى ضرورة المساواة في الإرث (بين الأخ والأخت) وفي التوارث بين الزوجين.
بالإضافة إلى ذلك، على الحركة النَّسَوية المغربيّة، باعتبارها حركة تناضل من أجل المساواة الجندريّة، أن تطالب بوضع كوتا رجوليّة للأشغال المنزليّة (في أفق المناصفة)، وأن يتمّ تقنين تلك الكوتا في "مدوّنة الأسرة". فلكي تبلغ النساء كوتا محترمة في الفضاء العمومي، لا بدّ من مقابل رجولي لها في الفضاء الخاص. ولكي يتمّ تطبيع تأنيث الفضاء العمومي وتمكين النساء من ولوج مناصب المسؤوليّة والقرار، لا بدّ من المشاركة الرجوليّة في الأشغال المنزليّة بشكل نسقي، إجباري ومقنّن.
من عوامل إنجاح إشراك الفتيان والرجال في الأشغال المنزليّة تنشئة (أسريّة، مدرسيّة، إعلاميّة) تفكّ الارتباط بين تلك الأشغال والأنوثة، وتبيّن ترابط ذلك الارتباط بنظام أبيسي تاريخي غير عادل تمّ تطبيعه على مرّ العصور. المطلوب هو البدء في القيام بثورة جندريّة تعيد النظر في هويّات الرجل والمرأة وفي التفاضل المؤسّس للعلاقات بينهما. بتعبير أوجز، يتعلق الأمر برفض التعريف الأبيسي للرجولة الذي يجعل منها منصباً سياديّاً.[9] إنّ تحقيق مرتبة أرقى في مؤشر التنمية البشريّة يتطلّب من الدول العربيّة والإسلاميّة القطع مع الرجولة كسيادة من خلال مأسسة العنف الاقتصادي، وهي مأسسة تتجلّى أساساً في عدم الاعتراف بالعمل النسائي كنفقة وفي التمييز بين المرأة والرجل في الإرث والتوارث.
[1]ـ الديالمي، عبد الصمد: "المعرفة والجنس، من الحداثة إلى التراث"، الدار البيضاء، دار عيون المقالات، 1987.
[2]ـ أعراب، سعيد: "أبو العباس أحمد بن عرضون"، الميثاق، عدد 49، فبراير 1964.
[3]ـ العلمي، محمّد: "نوازل"، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة، الرباط، 1983، ص 188.
[4]ـ بن معجوز، محمّد: "أحكام الأسرة في الشريعة الإسلاميّة وفق مدوّنة الأحوال الشخصيّة"، مطبعة النجاح الجديدة، 1983، ص ص 159-161.
[5]- Un salaire pour les mères au foyer? http://www.jobat.be/fr/articles/un-salaire-pour-les-meres-au-foyer/
[6]ـ "البحث الوطني حول استعمال الوقت"، منشورات المندوبيّة السامية للتخطيط، الرباط، 2014.
[7]- Silvia Federici: « Salaire contre le travail ménager », New-York, 1975, https: //paris-luttes.info/salaire-contre-le-travail-menager-1121
[8]- F. Engels: L’origine de la famille, de la propriété privée et de l’Etat, Paris Editions sociales, 1983.
[9]- A. Dialmy: Critique de la masculinité au Maroc, Rabat, Editions Warzazi, 2010.