مشكلة الحريات الفرديّة في ظلّ الطائفيّة وقوانين الأحوال الشخصيّة في سوريا
خلدون النبواني
1
مقدمة تاريخيّة سياسيّة:
قادماً من الفلسفة للمشاركة في ندوة إطارها علم الاجتماع حول “الحريّات الفرديّة والفردانيّة الاجتماعيّة في المجتمعات العربيّة” أراني عالقاً في جملة إكراهات أو قيود معرفيّة ومفاهميّة تحدّد حريّتي في تناول الموضوعات المطروحة الّتي أجد نفسي بداية بحاجة إلى تفكيكها لكشف حدودها وإكراهاتها. لا شكّ أنّ ثيمة الحريّة هي من الإشكاليات الفلسفيّة الأصيلة وتاريخ البحث فيها هو جزء من تاريخ الفلسفة الّتي فتحت الكثير من أبواب الحريّة بقدر ما أقامت لها من سجون وأصنام. نعم فالمفهوم صنم وسجن له حدوده مهما اتّسع وهو إكراه معرفي يُشيء الفكرة مهما كان مرنا ولهذا أميِّز ما بين أي تعريف للحريّة – الّذي ليس في نهاية المطاف سوى تحديد وتقييد – وبين التّحرر الّذي هو فعل نقض وتجاوز يحرّر الحريّة من سجونها. لكنّ التّحرر بوصفه قوّة سيالة تذيب تصلّب المفاهيم وتكلّسها لا يمكن أن يكون مطلقاً وهذه مفارقة أخرى للحريّة. فلا توجد حريّة دون أن تحمل في ذاتها سجونها لكي تكون وتتحقّق وتتمايز. وبمعنى آخر الحريّة المطلقة هي لا شيء. لكي تتحدد الحريّة لا بدّ من أن تتحدّد ولو مرحلياً ومن هنا لا حريّة دون تحديدات. قد يبدو هذا الكلام شيئا من الفذلكة أو اللّعب بالألفاظ لوصف شيء معروف جداً في الفلسفة وهو علاقة الحريّة بالضّرورة أو بالعقل (الّذي يعني في اللّغة العربيّة الرّبط من عَقَلَ ربط)، لكن ما أود قوله هنا أنّ الحريّة لا تقوم كمفهوم مقابل الضّرورة أو التّعريف وإنّما هي الضّرورة والتّعريف، هي المدى أو الأفق horizon الّذي يعني أصله الإغريقي الانفتاح على ما بعده والحدّ أو الحاجز بنفس الوقت. وبالعكس لا توجد قيود أو تعريفات إلاّ وتحمل في ذاتها عوامل انفجارها وتحولها وفنائها.
ورغم كلّ محاولات إصلاح ذات البين بين علم الاجتماع والفلسفة وعلم النّفس ورغم نشوء علم النّفس الاجتماعيّ على سبيل المثال وظهور الفيلسوف عالم الاجتماع مثل ماركس وهابرماس على سبيل المثال لا الحصر وتجاوز التّخصصات الضّيقة للحديث عن interdisciplinarity لردم الهوّة بين هذه التّخصصات، إلاّ أنّ قناعتي الشخصيّة أن شيئاً من التّوتر لا يزال (ويجب أن يظلّ) موجوداً بين الفلسفة وعلم الاجتماع وبين هذا الأخير وعلم النّفس. ولعلّ أحد أبرز من عبّر عن هذه النديّة بين علم الاجتماع والفلسفة هو ابن خلدون مؤسّس علم الاجتماع بامتياز، لكنّ الكاره للفلسفة. وإذا كان الغزالي قد انتقد الفلسفة من مواقع إيمانيّة رجعيّة مستخدماً أدوات الفلسفة نفسها في تكفيرها، فإنّ ابن خلدون (الّذي قد يكون متأثراً بالغزالي في هذا الصّدد) حمل على وجوه قصورها العقلي وتجريداتها الذهنيّة وابتعادها عن الواقعي الماديّ. معه إذن نشهد إرهاصات علم الاجتماع الوضعيّ الّذي ينحو لأن يكون علماً متحرراً بذلك من مقولات الفلسفة وفضاءاتها المفتوحة. إنّه التّحرر عبر إقامة سجون جديدة.
وبما أنّه لا يمكن لك أن تدخل المعبد بمعتقداتك الخاصّة كما يقول المثل الروسي، فلا بد لخلدون أن يتصالح إذن مع ابن خلدون وأن يستعير أدوات علم الاجتماع ويمشي على الأرض أكثر من التّحليق في سماء الفكر.
متطفلاً على علم الاجتماع إذن أود في البدايّة، إن سمحتم لي، أن أبدأ من محور المؤتمر حول “الحريات الفرديّة والفردانيّة الاجتماعيّة في المجتمعات العربيّة” وهو موضوع يستدعي حقاً تضافر مجموعة من العلوم الإنسانيّة كالفلسفة، وعلم النفس، وعلم النفس الاجتماعيّ، والعلوم التشريعيّة، وعلم الاجتماع، بل والفكر السياسيّ. وبما أنّ ورقتي ستتناول هذا الموضوع فيما يتعلّق بسوريا وبتحديد أكبر “بمشكلة حريّة اختيار الشريك في ظلّ وقوانين الأحوال الشخصيّة في سوريا”، وهو قانون يكرّس الطائفيّة، فإنّني سأجتهد في إظهار التّناقض بين نظام سياسي يدعي أنّه علماني ومدنيّ وتنص بعض نصوص دستوره على ذلك من جهة، وبين إصراره على قانون دينيّ ينسف نصوص الدستور ويكرس الطائفيّة وعدم المساواة ليس فقط بين الرجل والمرأة وإنّما أيضاً بين أبناء البلد على أساس خلفياتهم الدينيّة من جهة ثانية.
لا يختلف العالم اليوم على أنّ سوريا بلد مدمر بالكامل ببنيته التحتيّة والفوقيّة وما بينهما، لكن هذا العالَم يختلف ويتقاتل على جثته. ومع أنّي سوري، علماني رافض لكلّ التّوجهات المتأسلمة بل والإسلاميّة منها حتّى، إلاّ أنني أدين النّظام السوري القائم وأحمّله كامل المسؤوليّة عن الأوضاع الكارثيّة الّتي تعصف بالبلد منذ ما يكاد يقارب العقد في حين لا تزال الآفاق غامضة والنّزف مستمراً. ولأنّ موضوعنا ليس سياسياً تماماً إلّا أنّ مداخلتي ستحاول أن تكشف القناع عن الكيفيّة الّتي يتمّ بها استعباد الشّعوب بأسماء وهميّة تُطرح كواجهة لتمارس خلفها كلّ أشكال قمع الحريّات وكبت التّفتح الذاتي وحرمان النّاس من المشاركة في الحياة السياسيّة، بل والاجتماعيّة كذلك. أعرف تماماً وعن تجربة مؤسفة أن موقفي السياسيّ ممّا أسمّيه نظام توريث الدكتاتوريّة في سوريا، موقفٌ غير مرحب به عند الكثيرين وبخاصّة عند القومجيين وديناصورات اليسار الّذين لا يزالون يرون العالم منقسماً إلى إمبرياليّة ورأسماليّة ودول مناهضة لها، دون أن يستطيعوا مراجعة مقولاتهم الّتي فضحها الزّمن وبين أنّها لا ترى سوى بعين واحدة. ودون استباق النّقاش ودون أي رغبة في السّجال أو فتح المعارك الجانبيّة – فالحرب ليست مهنتي -، إلاّ أنّ مأخذي سيكون على النّظام السوريّ اليوم من خلال ما يتعلّق بموضوع الحريّات، والحريّات الفرديّة وما أقصده بالضّبط حريّة اختيار الشّريك وقوانين الزواج والطلاق والحياة الزوجيّة في بلدٍ يطرح نفسه كبلدٍ مدنيٍّ علمانيّ يساوي بين النّاس أمام القانون. أي لن تكون معالجتي لمشكلة الحريّة في هذا الموضوع من خلال تأمّل فلسفيّ مجرّد في مفهوم الحريّة وممارستها على طريقة سارتر، وإنّما محاولة تفكيك المصطلحات الّتي تخفي نقائضها الاستبداديّة خلف مظهرها البراق ومن ثمّ معالجتها في قوننتها وجعلها شرعيّة. فلا يكفي أن تُطلق على بلد اسم جمهوريّ أو ديمقراطي أو اشتراكي أو شعبيّ أو إلخ حتّى يكون كذلك، فالممارسات والمؤسسات والقوانين ومستوى الحريات والشفافيّة وحقوق الإنسان هي من يكشف صدق مثل هذه الادعاءات من كذبها في أي بلد كان. وعليه ستكون حقوق الإنسان معيارنا ومرشدنا ودليلنا.
الوضع الاجتماعي ومستوى الحريّات المدنيّة في سوريا قبل وصول البعث إلى السّلطة
لكن يقتضي العدل والموضوعيّة أن لا نحمّل النّظام السّياسي كلّ تبعات الانقسام الطائفي الإثني وحروبه فالطائفيّة وصراع القوميات في المشرق عموماً قديمة قدم تاريخ المنطقة الإسلاميّ، بل وما قبله. أذهب إلى الاعتقاد أنّ تاريخ الملل والنّحل في المشرق الإسلاميّ هو بجزء أساسيّ منه حركات تمرّد ثقافيّة وسياسيّة على هيمنة الكلّ السنيّ المنتصر وحتّى على الشيعيّ الّذي سيتّسع لاحقاً. هكذا أفهم، أحد أهمّ أسباب ظهور الأقلّيات في ظلّ صراع ثقافيّ وسياسيّ متداخل يشترك فيه العرب مع الفرس والروم والمماليك ثقافياً وسياسياً. لا شكّ أنّ صراع الهويّات ما قبل المدنيّة هو أمر شائع في مختلف الحضارات، لكن المشكلة في العالم العربيّ عموماً هو بقاء تلك الهويات الدينيّة والطائفيّة والإثنيّة المكوِّن الأساسي والأولي والمسيطر الّذي به يتعرّف الشّخص وليس بانتمائه الوطنيّ أو القوميّ أو المدنيّ. وعلى خلاف الغرب الأوروبيّ الّذي عرف قرون من التّنوير والحداثة، فقد سقط المشرق العربي بقبضة استعمار عثمانيّ رجعيّ كرّس احتلاله باسم الإسلام السنيّ ودولة الإمام. سيتمّ اللّعب على المكوّنات الطائفيّة بقوّة بعد الاحتلال الفرنسيّ لسوريا وإعادة تقسيم سوريا ولبنان على أسس طائفيّة قبل أي شيء آخر. هكذا لم تعد مع الانتداب الفرنسي الجدران الّتي تفصل الطّوائف والإثنيات مجرّد جدران غير مرئيّة، بل أصبحت حواجز وحدود رسميّة لدويلات طائفيّة فأقام الانتداب الفرنسي في سوريا مثلاً دويلة جبل الدروز ودويلة جبل العلويين. يمكن أن يفهم ذلك في إطار سياسات الاستعمار الخارجيّ الّذي لم يعانِ منه المشرق العربي فقط وإنّما معظم بلدان العالم العربيّ بما فيها، بل وبخاصّة، بلدان المغرب العربي. لكن ما يجب فضحه الآن وهنا هو سياسات المستعمر الداخلي الّذي جاء بعد الاستقلال بشعارات وطنيّة في حين أنّه لم يقم سوى بتكريس جدران الفصل الطائفيّ والعرقيّ والجندريّ في العالم العربيّ متنكراً خلف شعارات زائفة من العلمانيّة والمواطنة والمساواة.
فقد تمّ حرمان 120 ألف كردي على سبيل المثال لا الحصر من الجنسيّة السوريّة في مرسوم تشريعي ظهر عام 1962 وتجريدهم بالتّالي من ممتلكاتهم، بل وكذلك من حقوقهم المدنيّة والسياسيّة، الأمر الّذي لم يعطَ لهم فعلياً لحدّ الآن.
هكذا لم تحفل، بل ولم تعمل سياسات العسكر في سوريا على فتح المجتمع السوري على مكوناته بل حرصت على إبقائه مجموعة دوائر متجاورة ومنغلقة على نفسها لا ترى في الآخر سوى الضال دينياً والّتي عليها التّواجد معه مرغمة بحكم القمع. ظلت جامعة دمشق على سبيل المثال “الجامعة”، أي تلك الّتي تجمع طلاب وطالبات سوريا من كل أرجاء هذا البلد الصغير المتوزع طائفياً وإثنياً، وكان من الطبيعي أن تنشأ بين الطلاّب الجامعيين علاقات حب ورغبة بالزّواج ممن أحبوا، لكنّ الاصطدام بعادات المجتمع القديمة الّتي يردّد جميع السوريين مثلها كتعويذة أو تميمة “اللي بيتجوز من غير ملته بموت بعلته”
وهي مسألة لم يُعمل أبداً منذ الخمسنيات من القرن الماضي على إيجاد حلول فعليّة لها، بل، على العكس، أوجدت قوانين لتؤبدها وهذا كان دور قانون الأحوال الشخصيّة في إقامة متراس قانوني يمنع الزواج المختلط دون إكراهات من قبيل تغيير الدين أو رفض المصادقة على الزّواج المدني، بل وحتّى الديني الّذي يعقد خارج سوريا بما يتعارض مع قوانين الأحوال الشخصيّة الرجعيّة وهو ما يتسامح به بلد آخر تعيث فيه الطائفيّة أيضاً بكل أٍف وأقصد لبنان.
مع بدايّة الربيع العربي راحت مشاعر التّحرر الفردي والاجتماعيّ تظهر بعد فترة حضانة وترقب وصبر وصل حدّ الانفجار. في بداية الثورة السوريّة كان شعار” واحد، واحد، الشّعب السوريّ واحد” تتضمن الرغبة في كسر كل الحواجز الطائفيّة والاجتماعيّة القائمة والمكرسة قانونياً. في تلك الفترة حصلت الكثير من حالات الزّواج المختلط في سوريا، لكن النّظام السياسيّ الحاكم وكذلك بعض القوى الخارجيّة لعبوا كثيراً على الوتر الطائفيّ من أجل شق صفوف الثورة. فسمعنا منذ الأيام الأولى لاندلاع الثّورة ضدّ الأسد مستشارة هذا الأخير تتكلم عن مؤامرة طائفيّة خارجيّة تريد أن تقضي على هذا النّظام الممانع العلماني والحامي للأقليات في رسالة واضحة للغرب أنّه إن سقط هذا النظام فالبديل هو حتماً إسلام سنيّ متشدد سيسحق الأقلّيات. الجميع يعلم المسارات التراجيديّة الّتي سارت فيها الثورة السوريّة فيما بعد وتحولها إلى حرب أهليّة طاحنة تطغى عليها الشعارات الطائفيّة، بل وموشحة أحياناً بالرايات السوداء الداعشيّة. تراجعت الحريات الفرديّة بعد فترة انفراج شهدتها بداية الثّورة وتجذرت الطائفيّة وتقلصت الحريّات بكلّ أشكالها حتّى إلى حدّ أدنى ممّا كانت عليه في ظل المؤسسة الأمنيّة الأسديّة الرهيبة. أختفى الصوت المدني الديمقراطي وراء صوت الرصاص وهدير المدافع، بل وصليل السيوف العائدة من عصور التّوحش وطغت صورة كاريكاتوريّة على الصراع في سوريا بين داعش الإرهابي ونظام الأسد العلمانيّ. كان يمكن للقيادة السوريّة في سوريا في بدايّة الثّورة حيث كانت لا تزال قويّة وقادرة على ضبط المجتمع كلياً أن تنفتح على مطالب النّاس وفتح الحريات بدل تحدي المجتمع وأصوات الحريّة واتّهام كلّ من يقول لا لهذا النظام بالعمالة للغرب وبالتّطرف وبالتّجسس لحساب إسرائيل أو بالارتزاق من دول الخليج. كان يمكنه منع الكارثة من الحصول، ولكنه آثر دفع البلد إلى الاقتتال ومن هنا حملي على هذا النظام الخير والّذي سأحاول أن أثبت أنه لم يكن يوماً علمانياً ولا مدنياً ولا بلد قانون اللهم إلا بقدر ما تحتاجه لعبة السيطرة على البلاد والعباد.
وإن كانت الديمقراطيّة لم تعيش أزهى أيّامها في عصر الرئيس التّونسي السابق الحبيب بورقيبة إلاّ أنّ العلمانيّة والمدنيّة تجذرتى في عهده. في عزّ قوته عمل بورقيبة على تشريع منع تعدّد الزّوجات وقونن حقّ المرأة في العمل ووضع شروط تحد من عبثيّة الطلاق. وقد كان بإمكان حافظ الأسد بعد أحداث الإخوان المسلمين في الثمانينات من القرن الماضي وبعد أن أمسك البلد بقبضة أمنيّة حديديّة أن يدفع المشرعين السوريين لاقتراح وسن قوانين مدنيّة حديثة تكسر قوقعات الطائفيّة العفنة وتفتح المجتمع على الحريّة فيلغي قانون الأحوال الشخصيّة ويطرح بدلاً منه قانون مدنيّ كأضعف الإيمان. لكنّ هواجس الأمن والبقاء في السّلطة وتوريثها جعلته يؤثر إبقاء المجتمع السوري مجزءاً متحارباً. ودون الخوض في مستوى الحريات الفرديّة المقموعة الّتي وجدت في عهد بورقيبة والّتي كان يقود بعضها إلى السّجون إلاّ أنّه كان رجل علم مستنير مدنيّ لا عسكريّ ريفيّ كحافظ الأسد. وهذا ما يبرز الفرق الهائل بين الدولة المدنيّة ودولة العسكر.
قانون الأحوال الشخصيّة السوريّة وتكبيل الحريات الفرديّة:
تُبرز العوائق الاجتماعيّة والقانونيّة والسياسيّة/الأمنيّة أمام مسألة الزواج واختيار الشريك مدى هيمنة الطائفيّة في سوريا وتحالفها مع العقليّة الأمنيّة الحاكمة وقمعها للحريّات الفرديّة في هذا البلد وهي دليل على مدى طائفيّة النّظام الّذي يصر على تجزئة المجتمع السوري إلى جزر طائفيّة منعزلة فيعيد تفصيل القانون بحسب تقاليد وأعراف كل طائفة من خلال ما يسمى “قانون الأحوال الشخصيّة” الّذي ينص عليه دستور سوريا الحالي بالقول: “الأحوال الشخصيّة للطّوائف الدينيّة مصونة ومرعيّة.”
سنحاول معالجة هذا الموضوع بتتبع هيمنة الطائفيّة الاجتماعيّة في سوريا اليوم ثمّ تفكيك مواد وأحكام قانون الأحوال الشخصيّة وتعديلاته فيما يتعلّق بقوانين الزّواج والإرث والطلاق، إلخ بحسب توزع الطّوائف المذهبيّة والدينيّة الموجودة في سوريا : مسلمون، مسيحيون، دروز، يهود إلخ، الخ…
لا شكّ أن قانون الأحوال الشخصيّة الطائفيّ ليس من إبداعات نظام البعث الحاكم في سوريا فهو أقدم منه بالكثير فهو معمول به منذ عام 1953، لكن لم يعدل دستور الأسد الأب لعام 1973 شيئاً يذكر من هذا القانون الطائفي. ورغم كلّ التّعديلات الّتي جرت على قانون الأحوال الشخصيّة في سوريا والّتي كان آخرها قبل 3 أسابيع فقط من الآن إلاّ أنّها تستند في مرجعيتها ومعظم موادها إلى قانون الأحوال الشخصيّة الّذي صدر بمرسوم تشريعيّ عام 1953 وهو بدوره “امتداد للقانون الصادر عام 1917 من طرف المشرع العثماني في الأراضي السوريّة واللبنانيّة”[i] كما يؤكّد المختص في القانون الدكتور نائل جرجس. أمّا في عام 2010 فقد تمّ تعديل المادة 308 بموجب المرسوم التشريعيّ رقم 76 لتصبح كما يلي: “يُطبق بالنسبة إلى الطوائف المسيحيّة واليهوديّة ما لدى كلّ طائفة من أحكام تشريعيّة دينيّة تتعلق في الخطبة وشروط الزواج وعقده، والمتابعة والنّفقة الزوجيّة ونفقة الصغير وبطلان الزّواج وحله وانفكاك رباطه وفي البائنة (الدوطة) والحضانة، والإرث والوصيّة”. هكذا انقسمت قوانين الزّواج في سوريا إلى ما لا يقلّ عن ثماني منظومات قانونيّة دينيّة تخضع لمحاكم دينيّة ومذهبيّة مختلفة فما يخص الطوائف الإسلاميّة فهي تتبع لتشريعات إسلاميّة مستمدة من أحكام المذهب الحنفي وهي تنطبق على المسلمين السنة والشّيعة والعلويين والإسماعيليين، والإثني عشريّة، [وأخرى] غير معترف بها رسمياً”[ii]، إلخ، بل وتُفرض هذه القوانين الإسلاميّة حتّى على من كان منهم غير مؤمناً أو ملحداً أو علمانياً لا يعترف بالقوانين الدينيّة أو مؤمناً بمعتقدات غير إسلاميّة. في حين تختص المحكمة المذهبيّة بشؤون الأحوال المدنيّة لدروز سوريا في قضايا الزواج والطلاق والإرث، إلخ، وثالثاً هناك القوانين الكنسيّة المسيحيّة وهي تخضع لخمس منظومات قانونيّة كنسيّة على الأقلّ وهي قانون الأحوال الشخصيّة للطوائف الكاثوليكيّة، وآخر للروم الأرثوذوكس، وثالث للأرمن الأرثوذوكس، ورابع للسريان الأرثوذوكس، وخامس يختص بالمحاكم المذهبيّة الإنجيليّة. أمّا أتباع الديانة اليهوديّة على ندرة من بقي منهم في سوريا فهم يتبعون في شؤون الأحوال الشخصيّة لقوانين محكمة الطائفة اليهوديّة التي سنأتي عليها لاحقاً.
وسنعمل الآن على تتبع وضع الحقوق الفرديّة لكلّ طائفة ومذهب من هذه المذاهب في ظلّ قانون الأحوال الشخصيّة القائم:
- الحقوق الفرديّة للطوائف المسلمة في إطار قانون الأحوال الشخصيّة وتعديلاته الأخيرة:
تنصّ الفقرة الثانية من المادة الثالثة من دستور سوريا (العلمانيّة) الحالي على ما يلي: ” الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع.” لا شكّ أنّ الاستناد إلى التّشريع الإسلاميّ في قضايا الأحوال الشخصيّة سيفضي، كنظام تشريع ذكوريّ، إلى إعطاء الأولويّة للذكر على حساب حقوق المرأة ويحد من حريّة هذه الأخيرة فيجعلها تابعة للرّجل. في هذا التّشريع الّذي يؤكّد التفوق الذكوريّ تأتي المادة 12 من قانون الأحوال المدنيّة المتعلق بالمسلمين السوريين بالنّص على ما يلي: “يُشترط في صحة عقد الزّواج حضور شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين مُسلمين عاقلين”. لا تحتاج مثل هذه المادة إلى الكثير من الذكاء حتّى نفهم أن شهادة الرّجل تساوي شهادة امرأتين، كما أنّ شرط الشّهادة يخصّ الُمسلمين فقط دون غيرهم من السوريين غير المسلمين كالمسيحيين أو اليهود أو غير المؤمنين. ومع أنّ هذه المادة تمّ تعديلها في التّعديل القانوني الجديد الصادر بالرقم 4 لعام 2019 إلاّ أنّ معادلة شهادة امرأتين لرجل واحد لم تتغير، كما لم يتغير شرط وجوب كون الشاهد مسلماً إلاّ بإضافة بند ثالث للفقرة ينصّ على جواز ” أن يكون أحد الشّهود من دين الزوجة”.
وتسمح المادة 17 من هذا القانون للرّجل بأن يتزوّج على امرأته بمسوغ شرعي وأن يكون قادراً على نفقة كلتا الزوجتين أو زوجاته الأربع. ولم يطل أي تعديل على هذه الفقرة فلم يمنع قانون الأحوال الشخصيّة في سوريا للطائفة المسلمة وتبعاتها نظام تعدّد الزوجات.
وبعد أن كانت المادة 18 تتيح زواج القاصر بحيث كانت تتيح للقاضي الإذن بزواج المراهق الذكر حين بلوغه الخامسة عشرة والفتاة الثالثة عشرة، فإنّ التعديل الجديد اكتفى برفع سن الفتاة إلى عمر 15 سنة. أي يمكن لقاصرين اليوم في سوريا بلغا 15 سنة أن يتزوجا بشكل قانونيّ.
كما يترك القانون للقاضي إمكانيّة تقييد حريّة الراغبين بالزواج إذا حكم القاضي بأنّهما غير متناسبين سناً وهذا الفارق السنيّ لن يكون في مصلحة الزواج، ولم تتم مناقشة هذه المادة في التعديلات الجديدة.
وتظلّ مسألة التكافؤ، الّتي كانت تخص الرّجل فقط قبل التّعديل وصارت تخص كلا الطرفين بعده، ثغرة تسمح للقاضي أو لولي المرأة رفض الزواج بناءً على عدم التكافؤ. أمّا المرأة فإنّه لا يحق لها فسخ العقد بعد الحمل حتى ولو اكتشفت أو أدركت أن الرّجل لم يكن كوفؤاً لها.
أمّا الطريف في القانون فهو في المادة 35 منه والّتي تنصّ على حُرمة الزّواج والنّسب بسبب الرّضاع. فبعد أن كانت تنص على ذلك التّحريم “إلاّ ما قرّر فقهاء الحنفيّة استثناءه”، فإنّ التّعديل لم يعمل سوى تقديم توضيحات حول التّحريم مبقياً، بصياغة جديدة، هذا الحكم الشرعيّ بالتأكيد على: ” يشترط في الرضاع للتّحريم أن يكون في العامين الأولين وأن يبلغ خمس رضعات متفرّقات يكتفي الرّضيع في كلّ منها قل مقدارها أو كثر.”
هذا ولم يقترب التّعديل الجديد من نص المادة 91 التي تنص على أن ﻟ “الزوج على زوجته ثلاث طلقات”.
كما لم يمس التعّديل المواد الّتي تعطي الزّوج الذكر الحقّ في تطليق زوجته من طرفه فقط، وتلك الّتي تجيز له معاودة الزواج منها بعد انقضاء عدتها من زوج آخر دخل بها. فالبند الثاني من المادة 36 الّتي لم يتم الاقتراب منها في التعديلات الأخيرة ينص على: “زواج المطلقة من آخر يهدم طلقات الزوج السّابق ولو كانت دون الثلاث، فإذا عادت إليه يمتلك عليها ثلاثاً جديدة”. يُذكر هذا البند بألعاب الفيديو التي يمتلك فيها اللاّعب أرواحاً يستعيدها بعد كل بدايّة جديدة أو نهاية اللّعبة. المرأة هنا مجرّد لعبة.
ولم يجد المشرٍّع السوري التابع للسُّلطة السياسيّة الحاكمة بطبيعة الحال أي حاجة لتعديل المادة 37 من هذا القانون والّتي تنص على ما يلي: “لا يجوز أن يتزوج الرجّل خامسة حتّى يطلق إحدى زوجاته الأربع وتنقضي عدتها.”
وفي الباب الثّالث الّذي يحدد أنواع الزواج وأحكامه فإنّ البند الثاني من المادة 48 ينصّ بوضوح على أنّ “زواج المسلمة بغير المسلم باطل”. أي لا يحقّ للمسلمة بالولادة أن تتزوّج بمسيحي أو يهوديّ أو أجنبي أو غير متدين. وهذه المادة لم تطرح أبداً على المراجعة والتّعديل. وفي حال أرادت المسلمة الزّواج من شخص من غير دين الإسلام فعليه أن يشهر إسلامه ويسجله رسمياً ليتمّ عقد الزواج مما يشكل تحيزاً للدين الإسلامي وتغليبه على غيره من الأديان والمعتقدات.
طبعاً على منوال الشّريعة الإسلاميّة يلتزم القانون السوريّ الخاص بالأحوال الشخصيّة بالمهر كشرط للزواج، لكنّه يفرضه على الرّجل وحده. والرّجل وفق هذه القانون هو مستقل في قراره ولا يحتاج إلى وكيل ينوب عنه في عقد زواجه على خلاف المرأة الّتي تحتاج إلى وكيل ذكر، ولكنّه أيضاً المطالب وحده بالمهر والمسكن والنّفقة والإعالة الخ كما ينص مثلاً البند الأوّل من الفقرة 72 الّتي لم يمسها التّعديل على وجوب “النّفقة للزّوجة على الزّوج ولو مع اختلاف الدين” ممّا يعني كنتيجة إلزاميّة للقانون الّذي يمنع زواج المسلمة بغير المسلم أن يكون الزّوج مسلماً أو معتنقاً له حتّى ولو دون قناعة ولكن بقصد إتمام معاملة الزّواج.
قانون الأحوال الشخصيّة للطائفة المسلمة في سوريا لا ينصف المرأة ولا يساويها بالرّجل، كحال التّشريعات الإسلاميّة المعمول بها عموماً، فالمرأة تعامل كقاصر تحتاج إلى وليّ أو كملحق من ملحقات الزّواج أو الرّجل ولا دور فعلي لها في بناء حياتها الزوجيّة. فالمادة 70 من هذا القانون على سبيل المثال لا الحصر توجب على الزوجة ” السّفر مع زوجها إلاّ إذا اشترط في العقد غير ذلك أو وجد القاضي مانعا من السفر”. التّعديل الوحيد الّذي دخل على هذه الفقرة والّذي تمّ إقراره قبل أسابيع قليلة فقط هو تلطيف عبارة “تُجبر الزوجة” بعبارة “يجب على الزوجة”. أي ليس للزوجة قانونياً رفض السفر مع زوجها إن هو شاء وإنّما عليها أن تحزم نفسها كجزء من أمتعة السفر. كما ويكرس هذا القانون تبعيّة المرأة وعدم المساواة بين الجنسين إذ “يسقط حق الزوجة في النفقة إذا عملت خارج البيت دون إذن زوجها.” بينما لا يُطلب من الزوج قانونياً موافقة زوجته في حال أراد العمل في الخارج.
هذا ويجب الإقرار ببعض التعديلات الإيجابيّة الأخيرة فقد تمّ تعديل المادة 105 الّتي كانت تشترط حقّ المرأة في طلب التفريق بينها وبين زوجها لسببين اثنين فقط هما 1 – وجود إحدى العلل المانعة من الدخول بشرط سلامتها هي منها، 2 – إذا جن الزّوج بعد عقد العقد، أو لعدم قدرته على الانفاق عليها كما تنص المادة 110. بعد التّعديل يصبح البند الأول من المادة 105 كما يلي: “لكلّ من الزوجين طلب فسخ عقد الزواج إذا كان في الآخر إحدى العلل المانعة من الدخول أو تمامه أو أحد الأمراض المنفرة المستديمة أو المضرّة المخيفة أو المعديّة سواء أكانت موجودة قبل العقد ورضي بها أم حدثت بعده.”
*****
1) http://www.legal-agenda.com/article.php?id=315&folder=articles&lang=ar
2) http://www.legal-agenda.com/article.php?id=315&folder=articles&lang=ar