التّفكير المؤلم

لحسن أوزين

 

مدخل

إشكاليات مجتمعاتنا في تخلّفها وانحطاطها الشّامل، على كلّ المستويات البنيويّة الماديّة والتطوريّة في حركة سيرورتها التاريخيّة، طرحت نفسها بإلحاح موضوعي وذاتيّ، منذ القرن التّاسع عشر، أي مع الهجوم العنيف للحداثة. وعبر التّاريخ الحديث والمعاصر حاولت النّخب بمختلف مستوياتها الثقافيّة والفكريّة والسّياسيّة اكتشاف السّؤال الّذي تباينت صياغاته الشّكلّيّة في الطرح: من لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم الغرب؟ وصولا إلى الحريّة والكرامة والدّيمقراطيّة الّتي طرحها جيل الربيع العربيّ، مرورا بأسئلة الهزائم المتواليّة، والنّهوض الحضاريّ، وهواجس سطوة الفكر الدّيني والتراثيّ. وكان السّؤال إيديولوجيا عنيفا في أغلب خلفياته الفكريّة والسّياسيّة العمليّة، ممّا أدّى إلى تضحيات جسيمة دون أن تفلح أغلب هذه النّخب الحزبيّة والمستقلّة في اكتشاف السّؤال الّذي تتطلّبه اللّحظة التاريخيّة والمرحلة الحضاريّة. لكن سيرورة السّيطرة والهيمنة الكولونياليّة والاستبداد السّياسيّ والتّغلب الصهيوني والتّوالد الذاتي للإرهاب الدّيني الدّاخلي، كلّ هذا لم يلغ أو يعطل عند بعض المفكرين الباحثين مسؤوليّة حرقة الأسئلة الّتي تطرحها هذه التّحديات في محاولة منهم تقديم إجابات موضوعيّة علميّة للخروج من نفق الانسداد التاريخيّ في وجوهه الدّاخليّة والخارجيّة. لهذا تناولت الكثير من الأقلام العربيّة بالدّراسة والبحث وفق مقاربات ومنهجيات علميّة حديثة الطبيعة التاريخيّة للبنيات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والثقافيّة والفكريّة لمجتمعاتنا، دون أن يغفل بعضها البنى النفسيّة كما هو الشّأن مثلا بالنسبة لكتابات مصطفى حجازي سيكولوجيّة الانسان المقهور، وأيضا في الإنسان المهدور. وفي هذا السّياق البحثي الفكري، والمعرفي السّياسي، ركز بعضهم على الدّين والسّلطة في أسس منطلقاتهما الفكريّة السّياسيّة وآليات اشتغالهما الانتروبولوجي والسّياسي والثقافي، كما هو الشّأن مثلا في كتابات عبد الله حمودي، خاصّة في كتابه الشّيخ والمريد. وتبعا لهذا التّراكم التاريخيّ الّذي فرضه تحدي اكتشاف السّؤال العلمي الدّقيق القادر على التّفكيك والحفر لبناء التّملك المعرفي للواقع الحيّ لطبيعة السّلطة والمجتمع والثّقافة، واكتساب التّمكين العلمي للمنهجيات الحديثة في التّحليل والنقد، وفي تعريّة المسكوت عنه والمغيب بالآليّة السّلطويّة لقداسة ممنوع التّفكير فيه أو المستحيل التّفكير فيه، نفهم هاجس سؤال الدّين والسّلطة من زاويّة المقاربة الاسترقاقيّة الّذي تجشم عناءه الباحث محمد الناجي في كتابه ” العبد والرعيّة” متناولا ثلاثيّة العبوديّة والسّلطة والدّين في العالم العربي. فهل استطاع حقّا الباحث تلمّس طريق السّؤال ومحاولة خوض غمار بنائه بما يسمح برؤية أعمق لما يخفيه عنف أشعة السّلطة الحارقة لكلّ من سولت له نفسه الاقتراب من سماوات الغيب؟ وكيف تجاوز الأسئلة الزّائفة والمحتشمة لبعض الاقلام النقديّة الّتي حاورت بتمسح ديني ثلاثيّة العبوديّة والسّلطة والدّين؟ ماهي حدود ومحدوديّة هذه المقاربة؟

أولا: ما المقصود بالتّفكير المؤلم؟

هو كبح التّحيزات الانفعاليّة للإيمان الموروث وفقا للتّصورات والمعتقدات الّتي ترسّبت في الأعماق بفعل قهر التلقين الأقرب إلى التّشريب مع حليب الطفولة، والتّخلص من المخاطرة الإيديولوجيّة في خوض صراع زائف لامتلاك شرعيّة التّمثيل الشّعبي للمعاني والحقائق الدّينيّة، خاصّة التشريعيّة والطقوسيّة. إنّه الاستعداد النّفسي والفلسفي والفكري والسّياسي لامتلاك مفاهيم الحركة والتّطور والصيرورة والنّقد والصّراع والابداع والتّغيير…بمعنى نزع القداسة عن التاريخ البشري، خاصّة فترة ظهور الإسلام وما تلاها من وقائع وأحداث ونصوص، وخلال سيرورة إنتاج المعرفة ونقدها وتداولها. ” نزع الطّابع القدسي عن المقاربة التاريخيّة لهذه الفترة، وللفترات الّتي تلتها. نزع القداسة بمعنى إزالة الحواجز القائمة بين الحقل السّياسي والحقل الدّيني. وقراءة هذه المرحلة الّتي توافق اللّحظة الأساسيّة لتشكّل دولة مدينة، مثل جميع الدّول، لمنطق اشتغال العامل الاجتماعيّ بالمعنى الواسع. أنّ القيام بهذا العمل، معناه الانفلات من سلطة الأحداث الّتي تعمل، رغم أهميّتها وحجمها، على تغليط منظور الدّيناميّة الاجتماعيّة. معناه أيضا كتابة تاريخ ذي بعد إنساني يسمح بإخراج الاشباح الّتي تسكن الحاضر بكيفيّة أفضل.”1 فجدل التّكامل بين السّلطة والدّين والعبوديّة لا يمكن فهمه وتحليله ونقده إلّا من خلال نزع طابع القداسة وتسميّة الاشياء والوقائع والعلاقات والدّلالات …بأسمائها وفق نظرة شاملة ترفض البتر والتجزيء، بحيث يصعب الحديث في تجربة الإسلام نصّا وتاريخا عن الإخوة والمساواة وحريّة وكرامة الإنسان، دون استحضار الدّور الخطير الّذي لعبه الاسلام في تكريس العبوديّة والعنصريّة والطائفيّة. فالمقاربة الاسترقاقيّة الّتي اعتمدها محمد الناجي قدّمت صورة واضحة حول واقع الرّق من خلال علاقات السّلطة الّتي وجدت أسسها البنائيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدّينيّة والتاريخيّة في معاودة إنتاج علاقات الانتاج الاجتماعيّة القائمة على الاسترقاق والتّغلب والقهر والاستبداد السّياسي والدّيني. وهذه التعريّة للمعتمّ في تاريخنا، والكشف عن المسكوت عنه لم يكن ممكنا إلّا من خلال التّفكير المؤلم الّذي لا تغريه منهجيّة التّهجم على المعتقدات والتّصورات الموروثة بفعل قداسة الجهل كوعي سياسي لعلاقات السّلطة السّائدة الّتي بها تستمر وتخوض صراعها لضمان ديمومتها وتأبيد لحظتها العبوديّة. هذا التّفكير المؤلم الّذي رسّخت علاقات السّلطة السّياسيّة والدّينيّة، عبر التّاريخ العربي الاسلامي، إزاءه في الوعي الشّعبي للنّاس آليّة اجتناب التّفكير فيه، بالإضافة إلى اقترانه بآليّة النّفور والتّكفير، هو ما حاول الباحث محمد الناجي ممارسته في كتابه دون أن يكون هاجسه التّهجم أو المسّ بالمعتقدات بقدر ما وضع النّصوص والوقائع تحت ضوء المقاربة التاريخيّة والسّوسيوجيّة والنقديّة اللّغويّة…وذلك لكشف حقائق التّرابط الجدلي المعقد لتكامل مستويات العبوديّة والسّلطة والدّين. بمعنى أنّ ما كان ولازال يخفيه القهر الديني كاسترقاق لإنسانيّة الانسان في صورة روحانيّة لعلاقة التّعبد إلى درجة الالغاء والسّحق والإمحاء هو ما تستثمره علاقات السّلطة في انتاج علاقات اجتماعيّة عبوديّة تشرعن الاستغلال والظّلم والقهر والهدر لحريّة وكرامة الانسان.

فالبداهات والمسلمات السّائدة والمسيطرة حول الطفرة النوعيّة الّتي أنجزها ظهور الاسلام داخل القبائل العربيّة، ثمّ في المدينة وامتداداتها أثناء تكون وتطوّر توسّع الامبراطوريّة الاسلاميّة، الطفرة أو الثورة على مستوى حريّة وكرامة الانسان، كانت هذه المسلمات المنزلة بشكلّ قدسي باليّة الاستلاب العقائدي لسحر الخلاص الدّيني بمثابة عائق معرفي اجتماعي وتاريخي مانع لإمكانيّة التفكير في العبوديّة والرّق في الإسلام، ومدى استمرار امتهان وإذلال الكرامة الانسانيّة بالنسبة للكثير من الفئات الاجتماعيّة من العبيد والإماء والجواري والأسرى…

ولم يكن للتّفكير المؤلم أن يشق طريقه العلمي والبحثي إلا من خلال زحزحة هذه البداهات والمسلمات من خلال المنهجيّة التاريخيّة والدّراسة النقديّة للغة باعتبارها ذاكرة سوسيولوجيّة وتاريخيّة وثقافيّة للعلاقات والممارسات الاجتماعيّة الماديّة والرمزيّة، ذاكرة لعلاقات القوة والسّلطة والتراتب العمودي المجتمعي في الارض والسّماء.

ثانيا – من السّائبة إلى المولى

” فمن القدسي إلى الدّنيوي لا توجد سوى خطوة واحدة. وعلى غرار الدّواب، الّتي بإمكانها أن ترعى مطلقة العنان كان بإمكان العبد، في مجتمع ما قبل الاسلام، الدّخول، في وضعيّة السّائبة، إذا كانت تلك إرادة سيده. وبالتّالي يصبح حينها معتقا. ولن يعود لأيّة عبوديّة. أي أنّه يصبح إنسانا حرّا بالمعنى الكامل للكلّمة.”2

الميزة البحثيّة الّتي يتمتع بها كتاب العبد والرعيّة هي قدرته المعرفيّة والمنهجيّة على مستوى استراتيجيّة الكتابة النقديّة الّتي تشرك القارئ في سيرورة تكونها وتطوها في الحفر والتّحليل والنّقد والتفكيك والبناء، فهي تمارس الاشتغال من داخل الحقول الدّلاليّة الاجتماعيّة للكلّمات كتجليات لعلاقات اجتماعيّة تمثل القوّة والسّلطة. وفي هذا السّياق مثلا نشير إلى ما يورده الباحث من معاني لكلّمة عبد، ” تنحدر كلمة عبد في اللّغة العربيّة، من داس الأرض ووطئها من أجل طريق سالكة، غير وعرة، تماما مثل الطريق المعبدة، كما يقال اليوم. سحق، ملس، أزال كلّ احتكاك، وكلّ مقاومة: تلك هي الاليّة العميقة للعبوديّة. إنّ فكرة الدّوس، هنا، أساسيّة لكونها تضيف إلى استعمال القوّة، معنى الازدراء الّذي تنطوي عليه وتتضمنه”3. وانسجاما مع هذا الأفق في مقاربة الواقع المجتمعي، من منظور الزاوية الاسترقاقيّة كأرضيّة أساس لتشكلّ بنيات وعلاقات التضافر البنيوي بين السّلطة والدّين، في نوع من الاعتماد المتبادل، يتعمق محمد الناجي في عدد من المعاني لكلّمات العبوديّة الّتي هي بمثابة إضاءات لغويّة اجتماعيّة للتّناقضات والتّفاوتات المجتمعيّة التي تنتجها علاقات القهر والتّسلط، سواء في علاقات الانسان بالأرض او بالسّماء. فالدّوس والسّحق والتحت، أي ناس التحوت” الّذين كانوا تحت أقدام النّاس لا يعلم بهم”4، وكلّ اشكال العبوديّة تعود في أساسها التاريخيّ الاجتماعيّ إلى العلاقة الارضيّة بين السّيد والعبد،” وهي العلاقة الّتي تظلّ المرجع الملموس والواقعي. لكن ينبغي في البدء تجريد العلاقة الأرضيّة من شوائبها ونقائصها للوصول إلى المستوى الأعلى من العبوديّة، يتمّ استبداله وتعويضه بارتباط غير مشروط، أي بنوع من وهب النّفس.”5

يركز دائما محمد الناجي في كتابه هذا على التتبع النقدي للغة، في خصائصها الدّلاليّة المعنويّة والفكريّة، وهي ولا تعكس فقط، بل تنتج ممارسات وعلاقات اجتماعيّة متفاوتة المكانة والقوة والسّلطة. لذلك ينطلق من التّراجع القيميّ والاعتقاديّ والاجتماعيّ الّذي طال الكثير من العلاقات والقيم الاجتماعيّة الّتي لا يمكن فهم تراجعها إلّا من خلال ذاكرة الكلمات، باعتبارها الوجه الآخر للواقع الحيّ وما يحتضنه من دلالات وعلاقات وتناقضات تاريخيّة مجتمعيّة. فكلّ المعاني والتصورات والمعتقدات الاعتقاديّة والاجتماعيّة في بعدها الخلاصي من قيد التّحكم والتّملك الّتي تدل عليها كلّمة ” السّائبة” قبل ظهور الإسلام سيتمّ استبدالها بكلّمة ” المولى” الّتي تعنى الاقصاء النهائي والدّائم من حق الحريّة و المكانة والسّلطة والثروة. ويمتد هذا الانقلاب إلى إسقاط معاني ودلالات قدحيّة على كلّمة السّائبة لتتحوّل من الحريّة إلى التّمرد، الغوغاء… ” هذا النّوع من التّحرير سيلغى مع الإسلام، وسيغدو كلّ عبد محرر مدينا بولائه إلى سيده السّابق. وبذلك سيبقى في وضعيّة قريبة من وضعيّة العبد. وقد أثرت السّائبة تأثيرا قويا على اللّغة السّياسيّة العربيّة. بحيث باتت الكلمة الّتي مازالت تستعمل اليوم بكثرة، مرادفا للانشقاق والتّمرد. إنّ اللّفظة الّتي ارتبط ظهورها بفعل سخي مصدره التزهد والتضحيّة، وجدت نفسها مرادفة للتشكيك في سلطة الأسياد “6. وسؤال المولى في خلفياته وجذوره هو سؤال الخلافة والصراع حول السّلطة ولذلك تمّ الاجهاز على امتيازات ومكتسبات التبني ليتحول ابن النبي بالتبني ومن شابهه وضعا إلى مجرّد مولى مفتقرا بذلك إلى أحد شروط تولي السّلطة.

كما بين الباحث ان اقتصاد الغنيمة، وما يؤسّسه من علاقات اجتماعيّة، وقيم مجتمعيّة وثقافيّة تحتقر وتزدري العبيد والإماء والجواري، استبعد من أولوياته حريّة الانسان لذلك لم يكن النّص الدّيني في آياته وأحاديثه وممارساته التاريخيّة معنيا بالدّرجة الاولى بتحرير العبيد وفرض قيم انسانيّة جديدة تطال الجميع بدل هذا التّناقض بين الحرّ والعبد، بين الإماء والحرائر…الّذي استمر عبر التاريخ العربي الاسلامي. ولاتزال قوى التدين الدّيني الى اليوم تبشر به وتمارسه وتحلم بعودته. فكيف يستقيم القول بكرامة الانسان والمساواة والإخوة في الاسلام في الوقت الّذي تأسس فيه المشروع الجديد على أساس ريع اقتصاد العبيد، في البيع والشراء واستغلال قوّة العمل، مع إعطاء الاولويّة لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل؟

أمّا في الرقاب أو ما ملكت إيمانكم فكانت آخر ما يفكر فيه وما يرد في القرآن والحديث ” العبد إذن يأتي في المرتبة الأخيرة بعد الفئات الأخرى. يبدو أنّ دعم الاشخاص الأحرار يحظى بالأولويّة على حساب دعم الشّرائح المستعبدة. إنّ المرتبة المخصصة للجار ذي القربى وللجار الجنب أي المنتمي بعبارة أخرى إلى ملّة أخرى حسب بعض المفسّرين ولابن السّبيل تفسر قلّة الحماس المبذول من أجل مساعدة العبد.”7

ما يهمّ محمد الناجي من هذا كلّه هو الاقتراب من خلال المنهجيّة التاريخيّة والدّراسة النقديّة للغة أكثر ما يمكن إلى الدّيناميّة الاجتماعيّة لفهم كيف تنتج البنيات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، إلى جانب علاقات القوّة و السّلطة، الاسترقاق كآليّة سلطويّة ماديّة ورمزيّة دينيّة للانفراد بحق السّلطة والمكانة والتّملك، ليس للثروة فحسب، بل للإنسان، وليس فقط التحكم في جسده بالبيع والشّراء، بل أخطر من ذلك السّيطرة على روحه وأمل خلاصه. الشّيء الذي جعل هذا الواقع العربي الاسلامي في سيرورته التاريخيّة يزخر بأنواع مختلفة من العبوديّة، من التّملك الشّامل إلى العبد المكاتب والعتق العابر وما يترتب على المولى من التزامات عبوديّة لا فرار منها، فهو مدنس وله عشرات من الأسماء الّتي توثق بيوغرافيته الاسترقاقيّة أبا عن جد، في مجتمع كانت تحركه مصالح الجماعة المهيمنة المهتمة بحريّة تحرير العبيد من أصل عربي. فمثلا ” في الحالة الّتي يكون فيها العربي قد أنجب طفلا مع امرأة أمة لا يملكها، وهو أمر مذموم من الناحية الاخلاقيّة، كان من حقّه استرداد ابنه الحر مقابل التنازل عن عبدين اثنين. ومن ثمّ فمقابل عبد محرر يكون قد دخل في العبوديّة شخصان آخران، إنّ التحرير لم يكن يعني توسيع دائرة الحريّة، بقدر ما كان تكريسا لمجموعة تدافع عن حريّة ذويها، وبالتالي لم يكن من شأن مثل هذه الممارسات الاّ تشجيع الطلب في سوق العيد”8

ثالثا- سبّح اسم ربك الأعلى

” إنّ النّصوص وإن تشكلّت من خلال الواقع والثقافة تستطيع بآلياتها أن تعيد بناء الواقع ولا تكتفي بمجرّد تسجيله أو عكسه عكسا آليا مرآويا بسيطا… إنّ جدليّة النّص والواقع ليست جدليّة بسيطة، فالواقع يتحوّل في اللّغة إلى ألفاظ تدخل في علاقات تركيبيّة بناء على قوانين خاصّة هي قوانين اللّغة…وقد رأينا هنا كيف أنّ النّص الّذي يخاطب محمدا ويستجيب لهمومه الّتي هي هموم الواقع يتجاوز موقف الاستجابة السّلبي إلى محاولة صياغة واقع جديد، صياغة الايديولوجيّة الّتي طال البحث عنا في دين ابراهيم”.9

هذه العلاقة المعقدة بين الفكر والواقع هي الّتي خاض غمارها الباحث محمد الناجي، إذ يعود إلى الجذور الأولى لعلاقة السّيد بعبيده، مشيرا إلى علاقة اليمنيين بملوكهم. ” وحتّى بعد مجيء الاسلام فإنّ علامات الاسترقاق في أشكال التّعبير عن طاعة أمير المؤمنين والّتي تذهب إلى حدّ الرّكوع لم يكن ينظر إليها دائما باعتبارها بدعا مذمومة منبوذة بحيث كانوا يعتبرونها جزءا لا يتجزأ من عبادة الله، من خلال طاعة خلفائه في الأرض.”10

وأغنى الباحث مقاربته بالارتكاز على التّناول النقدي للبعد اللغوي المعجمي من جهة، ولواقع العلاقات الاجتماعيّة لتلك الفترة من جهة أخرى، كما عاد إلى التّصورات والمعتقدات الدّينيّة، خاصّة في كلّ ما يتعلق بالحقل اللغويّ الدّلاليّ الاجتماعيّ للعبوديّة في تقاطعها مع كلّ سمات وخصائص الاذلال والاسترقاق والاستعباد والتّزلف والتّقرب والهبة والخدمة والخضوع والخشوع إلى درجة الانكار والسّحق والدّوس، بما يناسب حقّ التّصرف في كلّ ما يقع تحت اليد بالقوة والسّيف والمال، وما نتج عن هذا من تسلّط وقهر وتجبّر وطغيان موازي لسطوة الآلهة في رحمتها وعقابها.” العبادة هي قبل كلّ شيء اعتراف بالنّعمة الأولى نعمة الحياة” وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا”. من ثمّ نفهم معنى السّحق والدّوس، أي إعدام المرء، كما هو الشّأن في الموت، وعدم السّماح له بالحياة إلّا بصفته مخلوقا وصنيعا للسيد.”11 تكشف المقاربة الاسترقاقيّة للسّلطة والدّين الّتي يعتمدها محمد الناجي عن جدل التّكامل بين الأرض والسّماء، بين النّص والواقع، وهذا ما يشكلّ مدخلا لفهم كلّ علاقات القوة والقهر والرحمة والعفو والسّلطة والولاء… بين الله وعباده، بين السّيد وعبيد، بين الملك والرعيّة، ممّا يجعلنا ندرك كيفيّة تشكلّ الدّين والسّلطة معا من طمي الأرض ” من في الأرض عبيد لمن في السّماء. لنفهم من كلّمة السّماء هنا الشّرف والرفعة الّتي تتولّد عن الشّرف، وكذا السّلطان النّاتج عنهما. من ثمّ فإنّ العابد يوجد في وضعيّة الاسترقاق الكامل، بحيث يجرد نفسه من أيّة مبادرة أمام القوّة، أي أنّه يقول في نفسه ” أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا ضرّ كالممالك والعبيد”. ووراء النعم يبقى رضى السّيد هو موضع العبادة. إنّ الإحالة على الاستعباد الأرضي لازمة ولا فكاك منها”.12

فالكثير من الذّل والقهر والدّوس للكرامة الانسانيّة الّذي يهرب منه الانسان بحثا عن اطمئنان داخلي بآليّة دفاعيّة تمنح وهم الخلاص والرّاحة مؤقتا، سرعان ما يجد نفسه في دائرة معاودة إنتاج علاقات الانتاج الاجتماعيّة الاسترقاقيّة. يتمّ هذا دون وعي منه بتاريخيّة تشكلّ البنيّة الدّينيّة الاجتماعيّة الثقافيّة للعبوديّة، وكيف تحايل السّيد الأرضي فاعتلى السّماوات السّبع لاكتساب شرعيّة نزوة سطوته وتسلطه في الأرض يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد من القهر والإذلال والوسم للنّاس باعتبارهم ما دون البشر، أي مجرّد بهائم خاضعة لكلّ أشكال التّعسف والتجاوز.” إنّ العبد بصفته نموذجا كاملا للذّات المستعبدة، هو في الحقيقة معدود في خانة الدّواب…من بين التّسميات الّتي تطلق على العبد نجد القيان من البعير وهي كلمة تعني موضع القيد من وظيفي يدي البعير. فالقوّة المطلقة هي مولدة الاسترقاق الّذي تسعى إلى إضفاء المشروعيّة عليه في الزّمن من خلال نزع الطابع الانساني عن ضحاياها. هناك تقابل بين الحرّ الخالص والعبد الخالص، أو العبد زلمة.”13 وفي هذا السّياق نفهم المعجم الفقهي والدّيني عامة إلى جانب اللغة السّياسيّة المتداولة بشأن استعمال مصطلحات الرّاعي والرعيّة والخضوع والمعارضة فهي ذات جذور ما دون خط البشر بالمعنى الاسترقاقي الخالص.” ذلك أنّ الدّواب يجري تصنيفها بحسب درجة الانقياد. فالناقة الريض هي الّتي تنفر وتستعصي على الانقياد والعسير صعب الترويض والقضيب الصلب غير الذلول والعروض الدّابة الّتي تبدي مقاومة عنيفة. .. الدّابة المعاندة ذات القوائم الاربعة هي الّتي منحت في اللّغة السّياسة العربيّة الحديثة اسمها للمعارضة”.14

إنّ تشريح التاريخ الاجتماعيّ السّياسيّ العربيّ الاسلاميّ من قبل الباحث محمد الناجي، من زاوية المقاربة الاسترقاقيّة لفهم أسس تكون وتطوّر وتواصل سيرورة الآليات السّلطويّة الاسترقاقيّة عبر التاريخ إلى يومنا الرّاهن، يبين بجلاء الاعتماد المتبادل لجدل التّكامل والتآزر بين السّلطة والدّين، الشّيء الّذي يجعل من الصعب الاعتقاد باشتغال الآليات السّلطويّة الدّينيّة للعبوديّة بمعزل عن السّياقات التاريخيّة الاجتماعيّة السّياسيّة للاسترقاق، وبالتّالي لا داعي للحديث عن الحريّة في الإسلام، بل بالأحرى لا كرامة إنسانيّة في الرسالة والتّاريخ ونحن نستحضر وطأة هذا العبء التاريخي لضحايا العبوديّة والرّق والجواري…لأنّ قيم الخنوع والخضوع والذّل والاسترقاق هي الّتي سادت وانتصرت، خاصّة ونحن نرى مع محمد الناجي كيف شكلّ الواقع النص الدّيني، وهو يمتح وينهل من المعجم اللغوي الاجتماعي التاريخي في دلالاته وعلاقاته، ومن سياقات الدّيناميّة الاجتماعيّة حتّى أنتج معادلا له في السّماء يغرف من وحلّ الأرض القصص والأمثال في العبادة والعبوديّة وفي السّمع والامتثال والطّاعة. ” الطّاعة المقصودة هنا تلجأ إلى صورة نحر الذبيحة الكلّي، هو الفداء والتضحيّة التّامة. إنّ وضعيّة المؤمن في صلاته هي إعادة إنتاج رمزيّة تستحضر باستمرار هذه الصورة. ينبغي أن يسرع العبد للاستجابة لطلب سيده. وهذا ما تعبّر عنه بقوّة العبارة الشّهيرة ” سبحان الله” وهي تعني السّرعة والخفّة في طاعته. كانت هذه العبارة تستعمل في البدء في خدمة الأسياد”15

رابعا – من إيديولوجيا الترضيات إلى التّفكير المؤلم

الكثير من الباحثين والمفكّرين تناولوا إنسانيّة الانسان العربيّ والمسلم، حريّته، كرامته، حقوقه الاقتصاديّة الاجتماعيّة، السّياسيّة والثقافيّة…في إطار الصراع السّياسي بين قوى التّغيير الدّيمقراطي العلماني الحداثي وقوى الاستبداد السّياسي المسيّج بأقنعة الحداثة والقداسة المتوحشة للإرهاب الدّيني، إلّا أنّ كتابات هؤلاء الباحثين والمفكرين خضعت بشكل أو بآخر لإكراهات سيطرة الفكر السّائد وسطوته المعرفيّة والابستيمولوجيّة والسّياسيّة في التّحليل والنقد، بمعنى أنّ خطاب المركز كان يلتهم خطاب الهامش ويفرض عليه منطلقات فكريّة وسياسيّة جاهزة تضيق من آفاق حريّته وتحرره في استثمار المنهجيات النقديّة الحديثة في العلوم الانسانيّة والاجتماعيّة، قصد بناء معرفة علميّة بالتاريخ والوعي والهويّة والثقافة والدّولة والمجتمع…

والمفكّر ناصر حامد ابو زيد في كتابه الخطاب والتّأويل يشير في سياق ممارسته الفكريّة السّياسيّة لهذا الصراع إلى خطورة الانزلاق إلى التربة الإيديولوجيّة للخصم، منبها إلى الدّرس الرشدي حيث التهمته سطوة خطاب فكر الغزالي. وهو انزلاق إيديولوجي تفرضه سيطرة خطاب الاستبداد السّياسي والإرهاب الدّيني بأشكال متفاوتة القهر والتّحكم، بين المرن القانوني المؤسس على ثقافة الحسّ المشترك للجهل المقدّس، وبين القمع والإلغاء الصريح للوجود السّياسي أو الإنسانيّ، أمّا بالسّجن أو التّهجير القسري، أو الاغتيال…

فطبيعة الصّراع السّياسيّ الاجتماعيّ والفكريّ الابستيمولوجيّ في شروطه وظروفه جعل من الصّعب التّحرر نهائيا من سطوة منطق الفكر السّائد في التّفكير والممارسة خاصّة وأنّ البعد الاجتماعي للجهل المقدّس حاضر بثقله باستمرار، الشّيء الّذي حدّ من سقف واهتمام المفكر النقدي، بل غلط حقيقة أهميّة استقلاله الفكري والسّياسي والمنهجي الابستيمولوجي، بما يخلق نوعا من التّوافق بين تصوراته وممارسته. وفي غياب هذا الوعي النقدي عوض أن تكون عينه على جدل التنوير أنساق وراء التعبئة والتّجييش في الصّراع حول أحقيّة امتلاك الشّرعيّة اللاهوتيّة، وبالتّالي السّلطة والتراث. لهذا تحايل كثيرا ووجد نفسه من حيث يدري أو لا يدري يستعمل الخطاب نفسه من حيث المنطلقات والآليات في تناوله للثلاثيّة الّتي تعنينا هنا من خلال كتاب محمد الناجي: العبوديّة والسّلطة والدّين.

فحامد نصر أبو زيد مثلا في كتابه دوائر الخوف تناول بشكلّ نقدي ظاهري قضيّة المرأة بنوع من الانتقاء الوسطي التوفيقي، كما لو كان يمارس التفكير تحت ضغط آليّة إيقاف التفكير الّتي يفرضها البعد الاجتماعي للاستبداد السّياسي والإرهاب الدّيني. فعوض توسيع الرؤية في تناول إنسانيّة وكرامة المرأة في النّص والتاريخ، وفي السّيرورة التاريخيّة الاجتماعيّة للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة راح يتحدّث عن عظمة الاسلام فيما يتعلّق بموقف الاسلام المشرف من المرأة بما يناقض التشويه المتعمد للخطاب الدّيني العنصري الطائفي لرجال الدّين، وفي كتابه هذا ينبه أكثر من مرّة إلى خطورة الانزلاق إلى منطق الخطاب الدّيني في الاتكاء على النصوص في التحليل والنقد والمناقشة، وهو في ذلك يمسك العصا من الوسط في نوع كما قلنا من المنافسة الشّرعيّة في امتلاك الفهم والتّأويل الصحيحين للحقيقة الدّينيّة المتعلقة بإنسانيّة الإنسان في حريّته وكرامته، مختزلا هذا البعد الانساني في بعض الحقوق البسيطة للمرأة الحرّة دون ينال الانسان بمعناه الشّامل الانساني في كتاب “دوائر الخوف” موقع مركز الاهتمام في التّأسيس المعرفي الفكري والتّحليل النقدي والتّناول المنهجي الابستيمولوجي للنّصوص والوقائع الاجتماعيّة التاريخيّة في شروطها التاريخيّة البشريّة كورشات تتطلّب النّقد والنّقض والإغناء والتّطوير وفق سياقات المرحلة بما ينسجم وواقع الشّرط الحضاري الانساني الحديث، كمشترك بشري في التركيب والبناء، وفي التّفاعل والتّثقف، وفي النّقد والتّنوع والاختلاف ضمن اللّحظة التاريخيّة والمرحلة الحضاريّة في ثرائها وتنوعها واختلافها وتعددها، وليس خارجها بدعوى الهويّة والخصوصيّة وما شابه ذلك من أشكال الانغلاق والانسحاب من جدل التاريخ البشري، انكفاء على الذّات، وهروبا من تحمل مسؤوليّة بناء المشروع الوجودي الانساني التاريخي، ثقافة ودولة ومجتمعا، بعيدا عن ايديولوجيا القداسة للتّحكم في المصير التاريخيّ للمجتمع.

فأغلب الكتابات النقديّة العربيّة في تعاملها مثلا مع مسألة العبوديّة في التاريخ العربيّ الاسلاميّ غير وارد بالنسبة لها التّفكير إنّها ازاء محدوديّة النّص الدّيني و التجربة التاريخيّة للمشروع الدّيني الاسلامي، لذلك تشبه ما طرحه نصر حامد ابو زيد، وتأتي إشارتنا إلى ما ورد  في كتابه حول الحريّة والعبوديّة والكرامة من منطلق اعتبارنا له أحسن نموذج نقدي على مستوى النضج المعرفي والمنهجي، بمعنى أنّه يمثل حالة مثاليّة في “التّفكيك والتّحليل والنقد” ، إلّا أنّ ذلك يتمّ للأسف من زاويّة المذهبيّة والطائفيّة في الصراع الايديولوجي حول الأحقيّة اللاهوتيّة في التّعبير عن معاني ودلالات الحقيقة الدّينيّة، دون الإقدام على ممارسة التّفكير المؤلم من زاوية نظر علميّة توفرها الأطر المعرفيّة الحديثة ومنهجياتها في خلفياتها الفلسفيّة والمعرفيّة والابستمولوجيّة، كما يوفّرها الشّرط الحضاري الانساني، بدل تقديم تنازلات علميّة وفكريّة واجتماعيّة سياسيّة إرضاء لسطوة الجهل المقدس كرهان على التّنوير الإيديولوجيّ الّذي تكون عينه على صراع السّلطة والتغلب الاجتماعي السّياسي عوض ان يكون فعله وممارساته على جدل التّاريخ في بناء المجتمعات الانسانيّة باستقلال عن هيمنة القداسة على التاريخ البشري في التّكون والتّطور، وفي التّحول والتّغيير. لهذا نعتقد بأنّ التّحايل النقدي القريب ممّا سمّاه نصر حامد أبو زيد بـ “الترضيات”، أي التّنازلات الفلسفيّة والفكريّة الّتي يقدّمها الباحث والمفكّر إرضاء لسطوة ثقافة الحسّ المشترك في التعبئة والتّجييش الإيديولوجي للجهل المقدّس، خوفا ممّا سمّاه هاشم صالح بالضرورة التاريخيّة للعمليّة الجراحيّة على مستوى العمق النفسيّ والذّهن والمعرفي الّتي تنتظرنا إزاء الماضي، فالترضيات، تؤدّي إلى تكريس الجهل المقدّس والاستبداد بكلّ أقنعته السّياسيّة والدّينيّة…

فالخوف الفلسفي الفكري والتّحايل المنهجي والنقدي وممارسة لعبة اقنعة الترضيات الدّينيّة في التمييز بين النّص والواقع، أو بين الرسالة والتّاريخ يؤدي دائما إلى ابتلاع المركز للأطراف، والسّائد للمهمش في معاودة انتاج للواقع الاجتماعي نفسه في مستوياته البنيويّة بعلاقاتها المختلفة التحديديّة الماديّة والتطوريّة للصراع السّياسي، ممّا يعرقل حركة التّطور التاريخي للمجتمع والدّولة والثقافة…

فضد هذا الأفق الّذي كرّس التّخلف الشّامل في مجتمعاتنا الى درجة انتاج نوع خطير من التآكلّ الدّاخلي ومن التدمير الذاتيّ لحصانة ومناعة مجتمعاتنا في بعدها التاريخي الحضاري والسّوسيولوجي الثقافي، اقصد هنا التّوحش والإرهاب الدّيني، وضدّ هذه السّياقات في الخضوع لدوائر الخوف على حساب التّفكير الصّعب والمؤلم انتصارا لضرورة السّؤال في شطب أجوبة الجهل المقدّس لحقائق التّغلب والتّسلط السّياسي والدّيني المتلبس وجه القداسة الدّينيّة، يمكننا قراءة كتاب محمد الناجي ” العبد والرعيّة العبوديّة والسّلطة والدّين في العالم العربي”.

خامسا : ما الّذي تخفيه أسئلة العبد والرعيّة؟

رغم ما قلناه عن كتاب العبد والرعيّة من حيث عمق أسئلته، فهو ليس كتابا واضحا شفافا بريئا، بل يضمر في خلفيات فكره الضمنيّ وزاوية نظره الإيديولوجيّة تهمة تكريس الثقافة السّوسيولوجيّة والسّياسيّة السّائدة الّتي تستهدف تشويه الوعي من خلال إنتاج أدوات ومفاهيم النّفور والتّجنب إزاء الأسئلة السّوسيولوجيّة والسّياسيّة الّتي تطرحها بنى التركيب الاجتماعي الاقتصادي وما يعتمل في داخله من صراعات ماديّة ورمزيّة. بمعنى أنّ المقاربة الاسترقاقيّة في أبعادها الانتروبولوجيّة والسّوسيولوجيّة والتاريخيّة والسّياسيّة ينبغي ألا تختزل منطقها الفكري وآليات اشتغالها في البعد الدّيني والثقافي وجعل التراث والمقدّس الدّيني التاريخي وحده المسؤول عن واقع القمع والقهر والاستبداد…، الشّيء الّذي يسهم في تشويه الوعي وغض النّظر عن  الواقع السّياسي الاقتصادي الايديولوجي الرّاهن، وما يسود فيه من سيطرة وهيمنة تعمل على معاودة إنتاج وعي زائف من خلال تطبيع علاقات اجتماعيّة ومكونات سوسيوثقافيّة، أي جعلها تبدو وكأنّها قوانين طبيعيّة ثقافيّة دينيّة منزلة معطاة، وفق قراءة خاصّة في خصوصيتها الثقافويّة للتّاريخ والمجتمع والذّاكرة والهويّة والأصل…

إنّ النقد الجذري الّذي يوهم الناجي بتأسيسه ينحل إلى مجرّد تشنج عصبي ثقافوي لا يخلو من تأثر بأحكام النزعة الاستشراقيّة الإيديولوجيّة، كلّما تم الاكتفاء بقراءة لا تاريخيّة لظاهرة العبوديّة الّتي عرفتها كلّ الشّعوب في تاريخها الاجتماعي السّياسي الحضاري. فهي ليست حالة استثنائيّة تميّز المجتمعات العربيّة الاسلاميّة. وهذا ما يجعل من الكتاب شكلّا ثقافيا ايديولوجيا للصراع النمطي الّذي تؤطره الممارسة السّياسيّة للاستبداد السّياسي السّائد تبعا لمنطق الثنائيّة الضديّة بين “العلماني” و ” الإسلاموي”. الشّيء الّذي يخدم في آخر المطاف السّلطة السّياسيّة المسيطرة، ويعيق إنتاج وعي حقيقي بالإشكاليّة الحقيقيّة لمجتمعاتنا: التّغيير الاجتماعيّ الحاضن للمعايير السّياسيّة الاقتصاديّة القانونيّة للدولة الوطنيّة الدّيمقراطيّة الحديثة.

*******

الهوامش:

1- محمد الناجي: العبد والرعيّة، ترجمة: مصطفى النحال، المكتبة الوطنيّة، ط1، س 2009، ص 303و304.

2- المرجع، نفسه ص 36.

3- المرجع، نفسه ص 72.

4- نفسه ص 72

5- نفسه ص 73.

6- نفسه ص 37.

7- نفسه ص 45.

8- نفسه ص 67.

9- نصر حامد أبو زيد: مفهوم النص، المركز الثقافي العربي، ط2، س2000، ص69.

10- محمد الناجي العبد والرعيّة ص 75.

11- نفسه ص 74.

12- نفسه ص 74.

13- نفسه ص 77.

14- نفسه ص 78.

15- نفسه ص 79.

المصدر: https://www.alawan.org/2019/08/24/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%91%d9%81%d9%83%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%a4%d9%84%d9%85/

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك