هـذا هو الاسـلام حـوارهـادئ مع قداسة بابا الفاتيكان‏

هـذا هو الاسـلام حـوارهـادئ مع قداسة بابا الفاتيكان‏

بقلم فضيلة الإمام الأكبر‏:‏ د‏.‏ محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر

في شهر يناير سنة‏2000‏ زار قداسة بابا الفاتيكان الراحل‏,‏ مشيخة الأزهر الشريف خلال زيارته لمصر‏,‏ وتم خلال الزيارة تبادل الكلمات الطيبة‏,‏ والبيانات الحسنة التي تم التعاهد فيها علي احترام الاديان التي جاء بها الرسل الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام‏ واستمرت هذه العلاقات الطيبة بين الأزهر الشريف قداسة بابا الفاتيكان الراحل‏.‏

ومنذ أيام ألقي قداسة بابا الفاتيكان الحالي‏,‏ في احدي الجامعات الألمانية‏.‏ محاضرة موضوعها‏:‏ العقيدة‏,‏ والعقل والجامعة والمحاضرة‏-‏ في مجموعها ـ عرض ديني فلسفي عن الذات الإلهية من وجهة النظر المسيحية‏,‏ وعن التيارات المسيحية في القرون الوسطي‏.‏

إلا أن قداسته في محاضرته ـ وبعد أن ذكر جانبا عن ذكرياته الخاصة‏,‏ مع هذه الجامعة ـ قال‏:‏ كل هذا حضرني وأنا أقرأ أخيرا كتاب للبروفيسور تيوردورخوري‏,‏ والذي أخرج فيه جزءا من نقاش دار بين القيصر البيزنطي‏,‏ وبين أحد المثقفين الفرس‏..‏ وكان هذاالنقاش في شتاء عام‏1391‏ م‏....‏

ودار هذا الحوار حول الإسلام والمسيحية وحقيقة كليهما‏..‏ ووفق ما أشارإليه البروفيسور خوري في كتابه‏:‏ يأتي القيصر إلي ذكر الجهاد ومن المؤكد أنه كان يدرك أن الآية رقم‏256‏ من السورة الثانية ـ سورة البقرة ـ التي تقول‏:‏ لا إكراه في الدين وهي إحدي السور المتقدمة التي قيلت في الوقت الذي كان فيه محمد نفسه‏,‏ بلا سلطان أو قوة‏,‏ بل كان مهددا‏.‏ لكن القيصر كان يعلم ـ أيضاـ ماجاء في السور التي ظهرت فيما بعد‏,‏ والتي تتضمن تشريعات الجهاد‏.‏

وقد توجه القيصر مباشرة‏,‏ وبطريقة فظة إلي مناقشة الفارسي بالسؤال عن العلاقةبين الدين والعنف فقال له‏:‏ أرني ماهو الجديد الذي جاء به محمد؟ لن تجد سوي كل ماهوسيئ‏,‏ وغير إنساني‏,‏ وذلك مثل نشر الاعتقاد الذي كان يعلمه لخصمه باستخدام السيف

وعتابنا لقداسة بابا الفاتيكان يتلخص في أنه ساق ماذكره تيودور خوري من كلام سيئ قاله القيصر البيزنطي الموتور عن الإسلام ونبيه محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ دون أن يعلق عليه تعليقا يدل علي استنكاره لهذا الكلام الخبيث‏..‏

ومن المعروف عند العقلاء أن من يذكر كلاما سيئا عن غيره‏,‏ ثم لا يعلق أو يعقب عليه بالحق‏,‏ فكأنه راض عن هذا الكلام القبيح‏,‏ أو كأنه هو قائله‏.‏

وما كنا نود أن يقع قداسة بابا الفاتيكان في هذا الخطأ الذي يتعارض من الأدب الديني والمنهج العلمي‏..‏ لاسيما ومحاضرته عن المسيحية وعقيدتها ونظرتها إلي العقل‏,‏ وهي أمور لا داعي لحشر ما يتعلق بالاسلام بها‏..‏

لقد ذكر القيصر البيزنطي أن الاسلام دين قام علي الإكراه والعنف وحد السيف‏,‏ وحكي بابا الفاتيكان كلامه كما قرأه في كتاب البروفيسور خوري‏,‏ وكأنه راض عما قرأه‏..‏

وإني في هذا المقال سأذكر لقداسة بابا الفاتيكان بكل صدق ويقين وإخلاص وموضوعية ـ جانبا من الحقائق النقلية والعقلية التي تدل دلالة واضحة علي أن الاسلام دين قد انتشر في مشارق الأرض ومغاربها علي الاقناع لا علي الاكراه‏,‏ وعلي الاختيار لا علي القهر‏,‏ وعلي القبول لا علي الرفض‏.‏

الحقيقية الأولي‏:‏ إن الرسل جميعا ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قد أرسلهم الله ـ تعالي ـ إلي أقوامهم مبشرين ومنذرين‏,‏ لا قاهرين ولا مجبرين لأحد علي اتباعهم‏.‏

ومن الآيات القرآنية التي أكدت ذلك قوله ـ تعالي ـ‏:[‏ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين‏,‏ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏][‏ سورة الأنعام‏:‏ الآية‏48].‏

والمعني‏:‏ يقول الله تعالي ـ وما نرسل رسلنا وأنبياءنا الكرام إلي الناس‏,‏ إلا لتبشيرهم لأهل الايمان والطاعة بالثواب العظيم‏,‏ ولانذارهم لأهل الشرك والمعصية بالعقاب الأليم‏..‏

فمن آمن من الناس وقدم العمل الصالح‏,‏ فلا خوف عليهم في مستقبلهم‏,‏ ولاهم يحزنون علي ما مضي من حياتهم‏..‏

ومن هذه الآيات ـ أيضا ـ قوله ـ سبحانه ـ‏:[‏ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس علي الله حجة بعد الرسل‏,‏ وكان الله عزيزا حكيما‏][‏ سورة النساء‏:‏ الآية‏165]‏

والمعني‏:‏ يقول الله ـ عز وجل ـ اقتضت حكمتنا وسنتنا التي لا تتغير ولا تتبدل‏:‏ أن نرسل إلي خلقنا رسلا كثيرين لا يعلم عددهم علي الحقيقة إلا الله ـ تعالي ـ وحده‏.‏

وهؤلاء الرسل الكرام وظيفتهم‏:‏ تبشير أهل الصلاح بالخير‏,‏ وإنذار أهل الفساد بسوء المصير‏,‏ وكان الله تعالي ـ ومازال عزيزا في ملكه‏,‏ حكيما في قوله وفعله وفي تصريف شئون عباده‏.‏

ومن هذه الآيات كذلك قوله ـ عز وجل ـ‏:[‏ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين‏..][‏ سورة البقرة‏:213]‏

ومن معاني هذه الآية الكريمة‏:‏ كان الناس جماعة واحدة متفقين علي إخلاص العبادة لله الواحد القهار‏,‏ ثم اختلفوا بعد ذلك في عقائدهم وفي سلوكهم‏,‏ فكانت النتيجة أن أرسل رسله وأنبياءه ليبشروا من آمن وعمل صالحا بالخير الوفير‏,‏ ولينذروا من أشرك مع الله في العبادة آلهة أخري بسوء المصير‏..‏

وهكذا نري أن هذه الآيات الكريمة قد بينت أن وظيفة الرسل جميعا هي تبشير من آمن وعمل صالحا بالخير‏,‏ وإنذار من أشرك وعمل سيئا بالعقاب‏,‏ وليس من وظيفتهم إجبار أحد علي اتباعهم‏,‏ أو علي الدخول في دينهم‏.‏

الحقيقة الثانية‏:‏ أن القرآن الكريم قد ذكر في كثير من آياته‏,‏ بالنسبة للنبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ بصفة خاصة أن رسالته كانت للناس جميعا‏,‏ بل للانس وللجن‏,‏ وان دعوته لهم كانت قائمة علي وجوب إخلاص العبادة الله ـ تعالي‏-‏ وحده‏,‏ وعلي التحلي بمكارم الأخلاق‏,‏ عن طريق القول الحكيم‏,‏ والتوجيه السديد‏,‏ والمجادلة بالتي هي أحسن‏..‏

ولم تكن في يوم من الايام عن طريق القهر او الإكراه أو الارهاب أو التخويف أو التهديد‏,‏ أو غير ذلك من وسائل الضغط أو السيطرة‏..‏

ومن هذه الآيات القرآنية قوله ـ سبحانه ـ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا‏,‏ ولا تسأل عن أصحاب الجحيم‏(‏ سورة البقرة‏:‏ الاية‏119)‏

وقوله ـ سبحانه ـ‏:‏ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏(‏ سورة سبأ‏:28)‏

وقوله ـ عز وجل ـ‏:‏ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا‏.‏ وداعيا الي الله بإذنه وسراجا منيرا‏(‏ سورة الاحزاب‏:‏ الايتان‏45‏ و‏46)‏

وقوله ـ تعالي ـ‏:‏ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ماشاء الله‏,‏ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء‏,‏ إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون‏(‏ سورة الأعراف‏:‏ الآية‏188)‏

وقوله سبحانه ـ‏:..‏ ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ‏(‏ سورة هود‏:‏ الاية‏2)‏

وقوله ـ عز وجل ـ‏:‏ وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم او نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏(‏ سورة الرعد‏:‏ الآية‏40)‏

وقوله تعالي فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ سورة الشوري الآية‏48.‏

وقوله ـ سبحانه ـ‏:..‏ فذكر إنما أنت مذكر‏.‏ لست عليهم بمسيطر ‏(‏ سورة الغاشية‏:‏ الايتان‏22,21)‏

وقوله‏-‏ عز وجل ـ‏:‏ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد‏(‏ سورة ق‏:‏ الاية‏45)‏

وقوله ـ تعالي ـ‏:‏ ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين‏.‏ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس علي الذين لا يعقلون‏(‏ سورة يونس الايتان‏99‏ و‏100)‏

هذه بعض الايات القرآنية التي أكدت ان دعوة النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ تقوم علي الحكمة والموعظة الحسنة‏,‏ والمجادلة بالتي هي أحسن‏,‏ ولم تقم في يوم من الايام علي الإكراه او الاجبار او السيف‏..‏ والمتأمل في هذه الآيات يراها تأمر النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ بوجوب التزام الدعوة الي الحق بالقول الطيب‏,‏ وبالارشاد القويم‏,‏ وبالسلوك الحميد‏,‏ وبأساليب متنوعة‏.‏

تارة عن طريق التبشير والإنذار‏,‏ وتارة عن طريق التبليغ وليس الحساب للناس‏,‏ وتارة عن طريق التذكير وليس علي طريق السيطرة‏,‏ وتارة عن طريق بيان انه ـ صلي الله عليه وسلم ـ ليس علي الناس بجبار أو حاكم مسلط‏,‏ وتارة عن طريق بيان ان الله تعالي ـ بقدرته ان يهدي الناس جميعا‏,‏ وانه ـ صلي الله عليه وسلم ـ ليس في قدرته ان يكرههم علي اتباعه او الدخول في دينه‏.‏

الحقيقة الثالثة‏:‏ أن الآية التي استشهد بها القيصر البيزنطي وهي قوله ـ تعالي ـ لا إكراه في الدين‏,‏ والتي قال عنها أنها من السور المتقدمة من الوقت الذي كان فيه مهددا وبلا سلطان‏..‏

هذه الآية أحب ان أصحح لقداسة بابا الفاتيكان معلوماته عنها في كلمات‏:‏

أولاها‏:‏ أن هذه الآية هي قوله ـ تعالي‏:‏ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي‏,‏ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقي لا انفصام لها والله سميع عليم‏ (‏ سورة البقرة‏:‏ الآية‏256)‏

ثانيتها‏:‏ أن سورة البقرة التي تعد هذه الآية من أواخر آياتها‏,‏ قد ابتدأ نزولها علي النبي صلي الله عليه وسلم في السنة الثانية من الهجرة الي المدينة المنورة ـ أي‏:‏ بعدما يقرب من خمس عشرة سنة من دعوته ـ وأن آخر آية من القرآن نزولا كانت من هذه السورة‏,‏ وهذه الآية التي كانت آخر آيات القرآن نزولا هي قوله ـ تعالي ـ واتقوا يوما ترجعون فيه إلي الله ثم توفي كل نفس ماكسبت وهم لا يظلمون ‏(‏سورة البقرة‏:‏ الآية‏281)‏

وهذه الآية نزلت علي النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ قبل وفاته بتسع ليال‏.‏

ثالثتها‏:‏ ان سورة البقرة ـ وهي أطول سورة في القرآن ـ قد امتد نزول آياتها لبضع سنوات‏,‏ ومن المحتمل ان تكون الآية التي يقول الله ـ تعالي ـ فيها‏:‏ لا إكراه في الدين من أواخر الآيات التي نزلت في هذه السورة‏.‏

رابعتها‏:‏ ان هذه الآية ذكر المفسرون في سبب نزولها ان رجلا من أهل المدينة دخل في الاسلام‏,‏ وكان له ولدان لم يدخلا في الاسلام‏,‏ فذهب هذا الرجل إلي النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ وقال له يا رسول الله‏:‏ أيدخل بعضي ـ أي‏:‏ ولداي ـ في النار وأنا أنظر اليه؟ يا رسول الله أنا أريد ان أكرههما علي الدخول في الاسلام‏,‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي‏..‏

خامستها‏:‏ تفسير هذه الآية الكريمة بايجاز‏:‏ هذا الدين الاسلامي لا إكراه علي الدخول فيه‏,‏ لكمال هداياته‏,‏ ولوضوح ارشاداته‏,‏ ولسماحة توجيهاته‏,‏ فآياته يتضح بها الحق من الباطل‏,‏ والهدي من الضلال‏,‏ فمن يكفر بكل ماعبد من دون الله‏,‏ ويؤمن بوحدانية الله ـ تعالي ـ وبقدرته‏,‏ فقد ثبت واستقام علي الطريقة المثلي‏,‏ واستمسك من الدين بأقوي سبب لا انقطاع له‏,‏ والله ـ تعالي ـ سميع لأقوال عباده‏,‏ عليم بأفعالهم ونياتهم‏,‏ وسيجازيهم علي ذلك‏.‏

والخلاصة ان ما قاله القيصر البيزنطي عن هذه الآية وعن السورة التي هي منها‏,‏ من السور المتقدمة في النزول‏,‏ وكان النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ وقت نزولها مهددا وبلا سلطان‏...‏ هذا القول لا أساس له من الصحة‏.‏

ولعلني بهذا التوضيح أكون قد صححت لقداسة بابا الفاتيكان المعني الصحيح لها‏,‏ لأن كثيرا من الناس يفسرون هذه الآية الكريمة تفسيرا سقيما لا يقبله عقل أو نقل‏.‏

الحقيقة الرابعة‏:‏ أن شريعة الاسلام تهدر كل قول أو فعل أو اعتقاد يأتي عن طريق القسر أو الاجبار أو ما يشبههما‏,‏ ولا تعتد إلا بما يصدر عن الانسان عن اختيار ورضا واقتناع‏,‏ بل إنها قد أباحت لأتباعها أن يتلفظوا بما يتنافي مع عقيدتهم‏,‏ عند الأذي الشديد‏,‏ والتعذيب الذي قد يؤدي إلي الموت‏,‏ ولا يقدح هذا التلفظ في إيمانهم‏,‏ مادامت قلوبهم عامرة بالإيمان الصادق‏,‏ وباليقين العميق‏.‏

والدليل علي صحة ذلك قوله ـ تعالي ـ‏:‏ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏,‏ ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم‏(‏ سورة النحل‏:‏ الآية‏106).‏

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها‏:‏ أن المشركين عذبوا عمار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ تعذيبا شديدا كاد يفقد معه حياته‏,‏ وأجبروه علي النطق بكلام يتنافي مع أحكام الإسلام‏,‏ فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه‏..‏

فقال بعض المسلمين للرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ‏:‏ يا رسول الله إن عمارا قد ارتد عن الإسلام‏!!‏

فقال ـ صلي الله عليه وسلم كلا‏,‏ إن عمارا قد امتلأ إيمانا من رأسه إلي قدمه‏,‏ اختلط الإسلام بلحمه ودمه ثم أقبل عمار بعد ذلك إلي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وهو يبكي‏,‏ فجعل النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ يمسح له عينيه وقال له‏:‏ يا عمار‏,‏ كيف تجد قلبك؟ فقال عمار‏,‏ يا رسول الله‏:‏ قلبي مطمئن بالايمان‏.‏

فقال له النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ يا عمار‏,‏ إن عادوا فعد أي‏:‏ إن عادوا إلي تعذيبك فعد إلي مطاوعتهم‏.‏ ونزلت هذه الآية الكريمة ومعناها بإيجاز‏:‏

من كفر بالله ـ تعالي ـ بعد إيمانه بوحدانيته ـ عز وجل ـ وبعد إيمانه بصدق النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ فيما يبلغه عن ربه‏,‏ استحق هذا الكافر المرتد العذاب المهين‏.‏

لكن من أكره علي النطق بكلمة الكفر‏,‏ والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان‏,‏ فإنه في هذه الحالة لا إثم عليه‏,‏ ولكن الإثم العظيم والعقاب الشديد‏,‏ يقع علي من انشرح قلبه بالكفر‏,‏ واعتقد صحته‏.‏

وقد أخذ كثير من العلماء من هذه الآية الكريمة‏:‏ جواز التكلم بكلام يتعارض مع أحكام شريعة الإسلام‏,‏ عند الإكراه الذي يخشي معه فقدان الحياة‏,‏ ولا يعد ذلك من باب الارتداد إلي الكفر‏,‏ ما دام هذا الانسان المكره قلبه مطمئنا بالإيمان‏,‏ وما دامت عقيدته ثابتة علي الإسلام‏.‏

الحقيقة الخامسة‏:‏ من المعروف لكل ذي عقل سليم‏,‏ أن الإكراه علي العقائد لا يأتي بمؤمنين صادقين‏,‏ ولكن يأتي بمنافقين كذابين‏,‏ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم‏.‏

وهذا النوع من الناس‏:‏ كراهية الإسلام له‏,‏ أشد من كراهيته للمخالفين الصرحاء‏,‏ لأن المخالف الصريح لعقيدتك‏,‏ تستطيع أن تأخذ حذرك منه‏..‏

أما الذي يتظاهر بأنه معك بعد أن أكرهته وأجبرته علي ذلك‏,‏ أو لأنه هو بطبيعته يخفي خلاف ما يظهر‏,‏ فإن ضرره أشد‏,‏ وعداوته أقبح‏,‏ وإفساده للدين والدنيا أعظم‏,‏ ولذا جاءت عشرات الآيات القرآنية في ذم النفاق والمنافقين‏,‏ وفي تحذير المؤمنين الصادقين من شرورهم ومكرهم‏.‏

ومن هذه الآيات القرآنية قوله ـ تعالي ـ‏:‏ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله‏,‏ والله يعلم إنك لرسوله‏,‏ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون‏.‏ ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع علي قلوبهم فهم لا يفقهون‏..(‏ سورة المنافقون‏:‏ الآيات من‏1‏ ـ‏3).‏

ومنها قوله ـ سبحانه‏:‏ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وماهم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا‏,‏ وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون‏(‏ سورة البقرة‏:‏ الآيتان‏9,8).‏

ومنها قوله ـ عز وجل ـ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم‏,‏ وإذا قاموا إلي الصلاة قاموا كسالي يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا‏.‏ مذبذبين بين ذلك لا إلي هؤلاء ولا إلي هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا‏0‏ سورة النساء‏:‏ الآيتان‏142‏ ـ‏143).‏

ومن هذه الآيات الكريمة يتبين لكل ذي عقل سليم‏,‏ أن الإكراه علي العقائد‏,‏ يتعارض تعارضا تاما مع أحكام شريعة الإسلام التي لا تعترف إلا بالعقيدة التي يتحلي بها صاحبها عن طواعية واقتناع واختيار‏,‏ التي تحمل صاحبها علي أن يلتزم بالإيمان الصادق‏,‏ والعمل الصالح‏,‏ الذي يدل علي أن ما يقوله بلسانه‏,‏ يتوافق مع ما هو مستقر في قلبه‏.‏

وفوق كل ذلك‏,‏ فإن الإكراه علي العقائد ـ كما يقول بعض العلماء ـ هو عديم الجدوي من ناحية الاعتقاد ومن ناحية العمل‏,..‏

وذلك لأن الإكراه معناه‏:‏ أن تلجئ غيرك إلي الأخذ بما لا يراه ولا يؤمن به وإلي العمل بمقتضاه‏.‏

وإنه لمن الهين أن تجعل غيرك يعمل بما تحب‏,‏ ولكنه من العسير‏,‏ إن لم يكن من المستحيل أن تجعله يعتقد رغم أنفه‏,‏ وأن تجعله يعمل وفق اعتقادك‏.‏

الحقيقة السادسة‏:‏ من الثابت تاريخيا وواقعيا‏,‏ أن المسلمين لم يلجأوا في يوم من الأيام إلي إكراه أحد إلي الدخول في الإسلام‏,‏ وإنما كانوا إذا فتحوا بلدا من البلاد‏,‏ عرضوا علي أهله الإسلام‏,‏ فإن دخلوا فيه عن اقتناع فبها ونعمت‏,‏ وإن أبوا إلا البقاء علي دينهم وعقيدتهم‏,‏ تركوهم وشأنهم‏,‏ وعاملوهم بالمعاملة العادلة التي قررتها شريعة الإسلام‏.‏

وقد رأينا في سبب نزول قوله ـ تعالي ـ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي‏..‏ أن الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ لم يقبل من الرجل الذي دخل في الإسلام‏,‏ أن يجبر ولديه علي ترك دينهما‏,‏ وعلي اعتناق الإسلام‏.‏

وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ رأي امرأة عجوزا ليست مسلمة‏,‏ فقال لها‏:‏ أيتها المرأة العجوز‏,‏ أسلمي تسلمي‏..‏

فقالت له‏:‏ أنا امرأة عجوز‏,‏ والموت إلي قريب‏,‏ وأنا أريد أن أبقي علي ديني‏.‏

فقال عمر ـ رضي الله عنه‏:‏ اللهم اشهد بأني بلغت‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ ولكن ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحق الإسلام وحسابه علي الله‏.‏

فهذا الحديث الشريف ظاهره قد يفهم منه البعض‏,‏ أنه يتعارض مع قوله ـ تعالي ـ‏:‏ لا إكراه في الدين لأن القتال قد يعني الإكراه‏.‏

فالجواب عن هذه الشبهة‏:‏ أن المراد بالناس في الحديث الشريف ـ كما قال المحققون من العلماء ـ أولئك الذين يحاربون دعوة الإسلام بكل وسيلة‏,‏ والذين يعلنون عداوتهم للمسلمين وما تخفي صدورهم أكبر‏.‏

فهؤلاء الذين قصدهم رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بقوله‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله‏.‏ وهؤلاء هم الذين أمرنا الله تعالي ـ برد عدوانهم‏,‏ ودفع بغيهم‏,‏ صيانة لكرامتنا‏.‏

أما غيرهم ممن هم ليسوا علي ديننا ولا يعيشون معنا‏,‏ ولكنهم لا يسيئون إلينا‏,‏ فالقرآن الكريم يقول في شأنهم‏:..‏ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم‏.‏

وأما غيرهم ـ أيضا ـ ممن هم ليسوا علي ديننا‏,‏ ولكنهم يعيشون معنا ونعيش معهم في وطن واحد‏,‏ وتجمعنا معهم مصالح مشتركة‏,‏ فهؤلاء تنطبق علينا وعليهم القاعدة الشرعية التي تقول‏:‏ لهم ما لنا‏,‏ وعليهم ما علينا‏.‏

ولم يذكر التاريخ أن أحدا من المسلمين ـ سواء أكان حاكما أم محكوما ـ أجبر غيره من أصحاب الديانات الأخري علي الدخول في الإسلام‏,‏ لأن المسلم الصادق في إيمانه وفي عقيدته هو الذي يعمل بقوله تعالي‏:‏ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم‏,‏ إن الله يحب المقسطين‏.‏ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم‏,‏ وظاهروا علي اخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون‏.‏

الحقيقة السابعة‏:‏ أنه إذا كان من الثابت تاريخيا وواقعيا أن المسلمين ـ حكاما ومحكومين ـ لم يجبروا أو يكرهوا أحدا علي الدخول في الإسلام ـ كما بينا في الحقيقة السادسة‏,,‏

فإني أقول في المقابل لقداسة بابا الفاتيكان‏,‏ أنه من الثابت ـ أيضا ـ تاريخيا وواقعيا‏,‏ أن الذين دخلوا في الإسلام عن طواعية واقتناع واختيار‏,‏ وجاءوا من شتي الدول إلي مشيخة الأزهر ليعلنوا دخولهم في الإسلام‏,‏ يعدون بالآلاف‏,‏ وعلي سبيل المثال‏:‏

ففي سنة‏2000‏ بلغ عدد الذين دخلوا في الإسلام من‏(90)‏ تسعين دولة‏938‏ فردا‏.‏

وفي سنة‏2001‏ بلغ عدد الذين دخلوا في الإسلام من‏(91)‏ إحدي وتسعين دولة‏860‏ فردا‏.‏

وفي سنة‏2002‏ بلغ عدد الذين دخلوا في الإسلام من‏(93)‏ ثلاث وتسعين دولة‏1116‏ فردا‏.‏

وفي سنة‏2003‏ بلغ عدد الذين دخلوا في الإسلام من‏(98)‏ ثمان وتسعين دولة‏1344‏ فردا‏.‏

وفي سنة‏2004‏ بلغ عدد الذين دخلوا في الإسلام من‏(122)‏ مائة واثنتين وعشرين دولة‏1671‏ فردا‏.‏

وفي سنة‏2005‏ بلغ عدد الذين دخلوا في الإسلام من‏(104)‏ مائة وأربع دول‏2052‏ فردا‏.‏

وهؤلاء جميعا من رجال ونساء جاءوا من بلادهم طائعين مختارين إلي مشيخة الأزهر ليعلنوا دخولهم في الإسلام‏,‏ دون أن يكرههم أحد علي ذلك لا بحد السيف ـ كما زعم القيصر البيزنطي ـ ولا بأية وسيلة من وسائل القهر أو الاجبار أو ما يشبههما ـ كما زعم غيره‏.‏

ومن كل ما سبق يتبين بوضوح لكل عاقل أن شريعة الإسلام تهدر وتبطل كل قول أو فعل أو اعتقاد‏,‏ يأتي عن طريق القهر أو الإكراه‏,‏ أو الاجبار‏,‏ لأن ذلك يتنافي مع مبادئها وأصولها التي تقوم علي التدبر والتفكر والاقتناع والاختيار‏.‏

كما يتبين بوضوح ـ أيضا ـ أن كل من يزعم أن الإسلام قد انتشر بالسيف أو بالإكراه‏,‏ قد كذب في قوله‏,‏ وخالف الحقيقة‏,‏ وجانبه الصواب‏,‏ والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم‏.‏ (الأهرام)

http://www.metransparent.com/texts/sheikh_of_azhar_repty_to_pope_benedic...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك