خطاب المسؤولية ومسؤولية الخطاب: رؤية في المسؤوليات الإنسانية المشتركة

خطاب المسؤولية ومسؤولية الخطاب: رؤية في المسؤوليات الإنسانية المشتركة

سيف الدين عبدالفتاح*

الاختلاف والتعارف

يبدو أن التأسيس الفلسفي لمثل هذه الخطابات يتأتى من الاعتبار الذي يشير إلى الاختلاف كسنة إلهية كونية، وما يتبعه ذلك من أن التعدد حقيقة لا مراء فيها وما يترتب على ذلك من أن التعايش ضرورة لا محيد عنها، وهو أمر يشير ومن كل طريق إلى التعارف كعملية بل عمليات متراكمة يجب أن يقوم بها الأطراف المتنوعون والمختلفون والمتمايزون، وأن أهم آليات إدارة هذا الاختلاف والتعدد وبلوغ التعايش المنشود والتعارف المطلوب هو الحوار كآلية كبرى يجب أن تغطي مساحات الاختلاف وتقوم بالعمل المطلوب حيالها، بحيث تحرص على أن يكون ذلك الاختلاف اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، اختلاف تكامل وتقسيم وظيفي للعمل لا اختلاف تنازع، إدارة الاختلاف والتعدد لمصلحة التعايش والتعارف والحوار يؤصل معاني الخروج من الاختلاف للائتلاف.

وفي هذا السياق لابد وأن نتوقف عند عملية التعارف باعتبارها جوهر هذه المنظومة، إذ أن عملية التعارف بما تقدمه من مثلث العمران الحضاري الذي يستقى من الجذر اللغوي (عرف) ليؤكد بدوره على عناصر هذا المثلث الحضاري المعرفة والتعريف، والاعتراف والعرفان، والمعروف المستند إلى الفطرة الإنسانية المشتركة.

إن خطاب التعارف بهذا يبني واحد من أهم المداخل للتعامل مع الخطاب التجديدي الإسلامي خطاب المعرفة والتعريف كوعي بالذات وبالأخر وبالموقف، وخطاب الاعتراف كوعي بالواقع وأصول التعايش وضرورات الائتلاف، وخطاب المعروف الذي يحمل أصول القيم الإنسانية الكلية ضمن الخطاب الإسلامي الذي يؤكد على عناصر منظومة المعروف الحضاري والسلوكي والعمراني بما يرتبط من أصول للقيم، يمكن أن تحقق الاستخلاف، وتعتبر عناصر الاختلاف المفضي إلى حقائق الاستخلاف والقاصد إلى ضرورات التعارف والائتلاف.

خطاب يحرك كل فعاليات الخطاب السفني والسنني على حد سواء إذ يقدم على ذلك خطاب عمراني يتعلق بسفينة الأرض والحفاظ عليها في ضوء أفق مستقبل الإنسانية المشترك وخطاب المعروف الحضاري كما يقول مصطفى صادق الرافعي: (في الأرض كفاية كل ما عليها ومن عليها ولكن بطريقتها هي لا بطريقة الناس). ضمن هذا المثلث التعارفي يجب أن يستند هذا التشكيل لخطاب تجديدي.

ومن هنا وفي إطار مفهوم المسئوليات الإنسانية المشتركة فإنه يجب تفحص مفاهيم شاعت مثل القرية العالمية تأكيدا على عناصر التواصل في الأحداث والمعلومات وهي تطورات وتغيرات ومتغيرات غير منكورة على المستوى الدولي كانت لها تأثيراتها العالمية على كافة المستويات الحضارية إلا أن ذلك تم في سياقات لم تملك معها هذه العناصر أن تحقق حتى مضموناتها الكامنة أو في الكلمات أو التركيبات اللغوية فقد حققت هذه التطورات وبفعل منتدى مالكي القوة سيطرة وهيمنة على عالمي الاتصال والمعلومات باعتبارهما من أهم العوالم لصناعة الصورة وتدويل النماذج الحياتية والقيمية. بدأ البعض يتحدث عن ضرورات الانخراط الخلاق ضمن أطر الفلسفة الكونية وسياقات المجتمع الكوني من دون أن يتحدث هؤلاء عن قشرية الاتصال والتحكم المعلوماتي على الأقل ضمن نطاقات محدودة، وبدت هذه العوالم تؤسس أدوارا تقوم على صناعة الأفكار والاهتمامات والأولويات والبرامج وأنماط التفكير وأنماط العمل وتنميط الاستهلاك، وتشييع عناصر قيمية مرتبطة بكل ذلك. ومع ذلك فإن قدرا من الإشكالات الكامنة والظاهرة (المجاعات), (التلوث البيئي المقصود), (الحروب الأهلية)، (نظم التبادل غير العادلة في المجتمع الاقتصادي الدولي)، (تجارة السلام أو الموت)، التي تشير ليس فقط إلى إشكالات بل إلى تشوهات كامنة، هذه التشوهات استطاعت أن تحجبها مقولات القرية العالمية التي لم تكن تعني سوى قشرة اتصالية ومعلوماتية تغلف هذه التشوهات حاجبة لها، من دون أن ترى أو تتحرك ضمن منطق التعارف, وسفينة الأرض والذي يقتضي منطقا اتصاليا ولكنه تكافلي أو منطقا معلوماتي ولكنه حقيقي وجوهري، بحيث يحقق عناصر العدل العالمي ضمن البحث عنى القيم الحافظة على ما يقول (دويتش): (أن العلاقات الدولية هي فن الإبقاء على الجنس البشري)، ولكنه فن يرتبط بسياقات قيمية وسياسات فعلية وحقيقية لا قرية عالمية هي أشبه ما تكون ببيت العنكبوت في وهن علاقاته وشبكته.

ومن هنا فإن خطاب التعارف هذا يمكن أن يرشد ويقوم الخطاب السائد حول حوار الحضارات والأديان والثقافات وذلك الخطاب الذي يشعل الصدام فيما بينها يحرك كل عناصر الفتنة الحضارية، ذلك أن خطاب التعارف هو الخطاب القاصد إلى العدل في صياغة هذا الخطاب عدل يجعل من حوار الحضارات والثقافات حوارا مثمرا ويصد ذلك الخطاب الطغياني المستند إلى مقولات من مثل صدام الحضارات والثقافات.

ومن هنا يقوم هذا الخطاب بدور تأسيس في تحديد الإشكالات والقضايا الأجدر بالتناول ضمن الحفاظ على سفينة الأرض وعمرانها.

- وطبيعة هذا الخطاب البنائي إنما يؤكد على دوره الكاشف والفارق والناقد والمقوم بحيث يشكل هذا الخطاب رؤية كلية للتعامل مع استجابات الخطاب النابع المعبِّر عن الذات تجاه الخطاب المقتحم، وتجاه الخطاب التابع، لينفتح على أفق الخطاب الإنساني.

من هنا نأتي إلى السؤال الشامل للأطر الثلاثة (البنائي/ الدفاعي/ النقدي) وهو: على أي أرض نقف؟.

إن الأمر في حقيقته لا يمكن إلا أن يستحث الوعي والسعي لاستحداث خطاب ديني يقوم على قاعدة من الممانعة والمواجهة والمقاومة من دون الذوبان في هويات حضارية أخرى، فإن ذلك مما لا يعد تجديدًا بل تبديدًا ونكوصًا؛ فننتقل بذلك من خطاب إحياء الأمة وبعثها إلى خطاب تهدئة الخواطر وتهرئة الخمائر, أو تهيئة الأرضية لاستقبال القادم.

وحيث إن الدافع الأساس -وبصراحة ووضوح- لطرح مسألة (الخطاب الديني وتجديده) اليوم هو الأزمة العالمية المحيقة بعالم المسلمين جرّاء الهجمة الغربية الأمريكية منذ الحادي عشر من (سبتمبر 2001م)، فإنه قد يتبدى أن من الواجب علميًا وعمليًا التركيز على عدد من الأسئلة:

- ما دور السياق الإقليمي والعالمي, ووعي المفكرين المسلمين به، في تحديد خصائص خطابهم الديني، وفي تطورات سجالات تياراتهم حول تجديد الفكر أو إصلاحه؟.

- ما هي أنماط هذه السياقات؟ وأنماط الاستجابة لها عبر هذين القرنين؟؛ بمعنى كيف كان للاقتراب الغربي المطّرد -عبر القرنين- من عالم المسلمين: من الالتفاف إلى الاحتلال، آثاره في خصائص هذا الخطاب وسجالاته؟ وكيف كان للاقتراب العربي والمسلم كذلك من الغرب: انتباهًا (الحملة الفرنسية)، ثم مشاهدةً (البعثات) ثم التقاءً واصطدامًا (الموجة الاستخرابية) آثاره؟

- ما أهم القضايا التي أثيرت ضمن (الخطاب الديني) عبر القرن؟ وما المرجعيات التي تساجلت حولها؟ وما مناهج إنتاج الخطاب في كل مرجعية؟ وكيف تطورت كل هذه المحددات للخطاب؟.

هذه أسئلة رئيسية دونها أسئلة كثيرة، لكن ما ينبغي التوكيدُ عليه هو أن المناط التاريخي والموضوعي الجامع والمعلِّل للتطور الذي حاق بالمسألة التجديدية عامة وبالتجديد في الخطاب الديني بخاصة، هو أن هذا التجديد جاء متأثرًا بالاحتكاك الحضاري الذي وقع بين عالم المسلمين والغرب؛ حيث صار ثمة تحدٍّ حضاريُُّ مفروض وماثل للعيان ومتصاعد الوطأة مع الزمن، خاصة أن هذا الالتقاء جاء على حينِ إنكسارة وترهل في الذات الحضارية، لم تكن عناصر التجدد الذاتي تعمل بنفس كفاءتها المعتادة، كانت مفاتيح التجدد والمواجهة قد علاها صدأٌ ثقيل، وخصائص الذات غير متميزة بوضوح، اللهم إلا عند نفر قليل عزَّ ظهورهم، وكُبّل سعيهم بوطأة الحال وتفشي الوهن في القوم وسراتهم.

خطاب الهوية لا ينافي خطاب المسؤوليات الإنسانية المشتركة:

من هنا يمكن تضمين قضايا القرنين -بل كذلك القضايا التي ستجدُّ من بعد- في هذا الإطار: ضرورة وضوح رؤية إسلامية (حضارية ذاتية) شاملة لعناصر التجدُّد الحضاري الذاتي ومرجعيته والسنن الحاكمة له، وضرورة الجمع بين الوعي العميق بها، والسعي سعيًا غير قاصر ولا جزئيًا ولا ذا علة بما يتبدى في البنية التقويمية للخطاب الديني وأطره. إننا بهذا نقف بين تجديد حقيقي قوامه الذات الحضارية ومكنات التجدد فيها، وتجديد زائف على قاعدة من استبدال الأسس الحضارية للأمة، والرضاء بموقف الذيلية تجاه الآخر (الغرب).

ومن هنا فإن فكرة أن (قضية الهوية كانت -ولا تزال- هي القضية الحاكمة لمسار وتطور التجديد والتجدد في الفكر وفي الخطاب الديني عبر القرنين)، أمرا لا يمكن إنكاره أو تجاوزه، ذلك أن مستويات الوعي الحضاري إنما ترتبط بحزمة من العمليات لتجديد هذا الوعي (الوعي بالذات، الوعي بالآخر، الوعي بالموقف)، حيث بدأ سؤال الوعي بالإشكال الحضاري بمتسلسلة سؤال الهوية المركب من:

- من نحن؟

- ماذا نملك؟

- على أي أرض نقف: الحضارة بين غالب ومغلوب ومغالب؟

- ماذا نأخذ؟ وماذا نرفض أن نأخذ من الغرب؟

- إلى أين المسير؟

إن اعوجاج سؤال النهضة وتسممه بنقص الوعي بالذات ومكناتها آل إلى حالة من الخلل والعطل والعطب، خاصة فيما تبناه التيار التابع المنفصم عن ذاته.

أما التيار النابع فهو لم يكمل متسلسلة أسئلته من جهة، ولم يواجه واقعه بالوسائل المكافئة من جهة أخرى، فظل يتعامل مع القضايا إما تجزيئيًا أو كردِّ فعل، ولم يلتفت إلى أن فضيلة المنظومة الإسلامية الأساس إنما هي في منظوميتها ووحدتها كنسيج لا ينقض غزله وهو على حاله؛ ومن ثم لم يكن ممكنًا تناول القضايا المنبثقة عبر المسير بعيدًا عن نسيجها الحضاري المتماسك. هذا الإغفال -أو هذه الغفلة- كان مجالاً للخطاب التابع ليعيد تسكين القضايا في أطر الآخر وبعيدًا عن الذات. إن سؤال النهضة المسموم وضع التيار النابع من الذات أمام خيارات غير موائمة: بين العودة إلى الذات والبحث فيها عن إمكانيات التجدد والممانعة والمقاومة والنهوض ولكن مع الوقوع في فخ الانغلاق والانكفاء بعيدًا عن العصر، وبين الاختيار المضاد؛ كل ذلك لغيبة الوعي بأصول المواجهة الحضارية الجامعة بين الوعي بالذات واستبانة سبيل الآخرين.

لقد عبرت مسيرة القرنين عن حالة من الاشتباك على مائدة قضايا واحدة، لكن بين صفين أو شبكتين من المفاهيم: بين من أراد أن يداوي أزمة الواقع لكن من صيدلية الغرب والهجرة عبر المكان، ومن أراد أن يصنع أدوية الواقع المعتل من خلال الهجرة عبر الزمان. إن هذا يذكرنا بالمقولة الذهبية (لابن القيم) للجمع بين نوعي الوعي أو الفقه: (الفقه فقهان: فقه في الأمور الكلية وفقه في الحوادث الجزئية، ولابد أن نعطي الواجب حقه من الواقع والواقع حقه من الواجب). وهذا ما لم يفعله الفريقان إما كلياً وإما جزئياً... حتى جاءت لحظة لتغتصب الأمرين معاً: الواقع والواجب أو اغتصاب التطبيق.

خطاب الهوية وهوية الخطاب من الأمور التي يجب أن نتوقف عندها حينما نتحدث عن ضرورات تأصيل خطاب إسلامي تجديدي ينظر إلى (الهوية) بهذا الاعتبار كفيض متجدد، لا يمنعه ثباته في نواته الصلبة من إمكاناته للتفاعل مع الواقع المتغير. (الهوية) بهذا الاعتبار تظل مشروعًا تحت التأسيس، وليست هناك نقطة ما يكتمل عندها إنجازها، كما أن تحققها على نحو تام، ليس ممكنًا، والكمال هنا شيء نناهزه ونقاربه، ولا نستحوذ عليه. ومن هنا نرى أن (الهوية) بحاجة إلى تجديد مستمر يبلور مفرداتها، ويدفعها نحو التجسيد والتحقق بما يضفي عليها من خصوصية مشاعر الأمة الدافعة الحاضرة وجهاز مفاهيمها وفعالية أنشطتها، وتشكيلاتها الرمزية وأنساق القيم وحركة الوعي والسعي الدائبين؛ للتمكين لأصول (الهوية) وتجلياتها في الزمان والمكان والإنسان.

ومن وجه آخر، فإن دخول الأمة في مرحلة التراجع الحضاري، سوف يعني الكف عن تجديد (الهوية) وبعثها وإعادة إنتاجها، مما يحولها إلى أشياء يتم تلقينها للناس دون أن تعني لهم الكثير (لا تدفع ولا ترفع ولا تجمع)؛ وبذلك تتحول إلى عبء على الذاكرة.

من المهم في هذا المقام أن نؤكد أن شبكة الخطاب التي طالت قضايا متعددة؛ غالب هذه القضايا نتجت عن ذلك الاحتكاك بين مرجعيتين الإسلامية والغربية وذلك في ظل ميزان القوى الذي بدا يميل بشدة للحضارة الغربية مابين الحملة الفرنسية والحملة الأمريكية هذا الخط أو المتصل كان يشير إلى اختلال الميزان أكثر فأكثر لمصلحة الغرب, وبدت قضية الهوية تحت مطارق متصل الحملات من الفرنسية إلى الأمريكية تفرز من جملة خطاباتها ما أسمى بالخطاب الديني والذي اجتذب بدوره كثير من القضايا الاجتماعية والثقافية والفكرية والقانونية ونظام الحكم, وقبل كل ذلك الشريعة والخلافة واللغة, وكل العمليات التي تمت تحت عنوان الإصلاحات وعمليات التحديث.

خطاب المسؤوليات الإنسانية المشتركة: القدرات والإمكانات: المنظومة المقاصدية:

وفي هذا السياق فإن تحديد مهمة هذا الخطاب الإسلامي التجديدي إنما تكمن في قدراته التأصيلية والتفعيلية والتشغيلية بحيث تؤصل لرؤية بنائية فيما يتعلق بالقضايا المحورية والقضايا الإنسانية المشتركة وهو أمر يؤدي بنا إلى وصف هذا الخطاب المنهجي ضمن مكونات خمسة:

المكون الأول: إنما يرتبط بالقدرة التأصيلية للرؤية الإسلامية للعالم مستندة هذه الرؤية في أصولها إلى الأصول التوحيدية ورؤية شاملة كاملة وبصيرة للإنسان والكون والحياة بما يؤكد عناصر الفعل والفاعلية للإنسان المسلم في العالم المعاصر ووعيه تجاه قضاياه وقدرته على التعامل مع التحديات التي تواجهه.

أما المكون الثاني: فيرتبط بقدرة عالم المسلمين على أن يشكل خطابا مفاهيميا واعيا يتعرف على أصول حركة المفاهيم ودورانها وتدافعها والتمكين لها وتحقيق أقصى درجات الاتصال والتواصل بها ومعها بحيث تشكل هذه القبلة المفاهيمية عناصر وعي وسعي في حركة الإنسان المسلم ووعيه بعالم العلاقات من حوله سواء تعلقت ببناء مجتمعه الداخلي أو بالتواصل مع المجتمع الخارجي على قاعدة من أصول التعارف الحضاري المرعية والمعتبرة.

أما المكون الثالث: فإنه يتعلق بأصول الرؤية المنهاجية الواعية التي يمكن أن تتحقق في سياق يتعرف على الحضارة كوحدة تحليل والأمة كمستوى للتحليل والفكرة باعتبارها رافعة حضارية ونهضة لتشكيل وعي الأمة، هذا الوعي المنهاجي ليس بعيدا عن إمكانات هذا الخطاب الإسلامي التجديدي، منهاجية هذا الخطاب لابد وأن تصير جزءا من حجية هذا الخطاب وفاعليته.

أما المكون الرابع: فإنما يتعلق بقدرة هذا الخطاب التفسيرية بالنسبة لكافة القضايا المعرفية والفكرية والعملية التي تحيط بعالم المسلمين خاصة في ظل خطاب معولم وطاغ، هذا الخطاب التفسيري قادر على بناء الحجج الكلية ضمن قدرات متنوعة وفاعلة بحيث يؤصل معنى الخطاب الحضاري الاستراتيجي، وفي هذا المقام فإنه يقفز إلى الذهن قدرة المدخل المقاصدي المستند إلى حقيقة الشريعة وأصولها الكلية العامة (مقاصد الشريعة العامة) وهو ما يمكن أن يفيدنا في بناء استراتيجية إسلامية لتشكيل خطاب استراتيجي وتجديدي وحضاري يستند في أصوله إلى أفق المرجعية الإسلامية في إطار تكامل بين فقه النظر والحكم وفقه الواقع والمستقبل وفقه التفعيل والتنزيل.

وثانيا: ينطلق هذا الخطاب ليؤسس خطابا إسلاميا يتحدد في ضوء تلك الأولويات الكلية فيجعل قبلته الضروري من هذه القضايا ويتوجه إلى الحاجي منه ويرتقي إلى مدارج الخطاب التحسيني ضمن منظومة تعي للقضايا والمجالات عناصرها الكلية والمفصلية والجوهرية.

هذه المعايير التي تحدد عناصر أولوية الخطاب الإسلامي التجديدي إنما يتحدد في ضوء النظر الأولوي القائم على أصول نظر حضاري ممتد وشامل يتعامل مع الواقع والواجب فيعطي كل منهما للآخر فلا يفترقان.

أما ثالثا: فإنه يتعلق بالحفظ ومستوياته الكلية التي تؤكد على تعظيم هذه الإمكانات التي تتعلق بحفظ هذه المجالات وتلك الأولويات فتحرك بذلك خطابا إسلاميا جديدًا يستوعب كل معاني الحفظ وكل مستوياته وكل أدواته إذ تتحقق عناصر الحفظ الحضاري والعمراني ابتداء وبقاء وبناء وأداء وإنماء وارتقاء لتجعل من هذه المنظومة حفظا للوعي وحفظ للسعي بمكا تؤسسان لحركة واعية داعية فاعلة.

أما رابعا: فإن الأمر يرتبط بأحد أهم مكونات المنظومة المقاصدية والذي يرتبط بالموازين القسط تلك الموازين التي يمكن أن نزن بها العوالم المتعددة والمتنوعة والمتفاعلة، فنزن بها عالم الأفكار, وعالم الأشخاص, وعالم الأشياء, وعالم الأحداث، وتفاعلات هذه العوالم المنتجة بعوالم أخرى من عالم الرموز والنظم والمؤسسات لتحقق بذلك موازين كلية شرعية وحضارية وعمرانية، فتقدم بذلك خطابا إسلاميا منضبطا قادر على أن يحيي أمة ويقيم نهضة.

أما خامسا: فالأمر يتعلق بفهم الواقع والمستقبل, ومناهجه الكلية لمراعاة التعرف على هذا الواقع بمفاصله وأطره, وسياقاته الكلية الإنسانية والمكانية والزمانية وكذلك المستقبلية.

وهو ما يقدم خطابا إسلاميا واقعيا بما يعني اعتبار الواقع لا تحكيمه وبما يؤكد أن واقع المسلمين بل واقع النظام الدولي لا يزال في حاجة إلى تدبر ضمن منهاجية تعي أصول فقه الواقع وهو أمر يحيلنا إلى واحد من أهم مكونات المنظومة المقاصدية وهو المناط الذي يعد مكونا سادسا ضمن هذه المنظومة، ذلك أن الخطاب إذا لم يتوقف عند المناطات الكلية والجزئية فقد اضطربت في يده الكليات والجزئيات معا وهو أمر منهاجي يصوغ خطابا إسلاميا يتسم بأعلى درجات المنهاجية التي تندرج فيه الأحكام الكلية والجزئية والوقائع والحادثات وعمليات التنزيل فتؤكد بذلك بالإضافة إلى واقعية الخطاب على قدرته المنهاجية في إدراج وتسكين الكلي في الجزئي ضمن عمليات تحقيق المناط وتخريج المناط وتحرير وتنقيح المناط، هذا التفكير بالمناطات يرشد العقل المسلم إلى نوعية من الخطاب من الواجب أن يؤصل لها ويتدرب عليها.

أما سابعا: فإنه يتعلق بذلك بالضرورة التي يتعلق بهذا الخطاب والبحث في مآلاته الكلية, وهو أمر يحيلنا إلى ضرورة أن يكون هذا الخطاب متسما بالدافعية والرافعية والجامعية والفاعلية، وهو ما يؤكد على تأثير هذا الخطاب في الواقع ليكون ناجعا وفعالا من الناحية النظرية والتأصلية, ومن الناحية العملية والحركية.

وينضم إلى ذلك في البحث عن فاعلية الخطاب والرؤية الإسلامية في سياق ضرورات تأسيس خطاب حضاري إسلامي مستقبلي، مستقبلية هذا الخطاب الإسلامي لابد وأن تتحرك صوب الرؤية لحال المسلمين في عالم متغير ثم الانتقال من البحث في الحالة إلى البحث في المكامنة الحضارية وكذلك ضرورة أن نستشرف أصول التمكين الحضاري لرؤية إسلامية تنطلق في بنائها المعرفي على الحكمة وفي بنائها القيمي على العدل وفي أنساقها السلوكية على الرحمة وفي منظومتها الغائية على المقاصد والقيم الكلية الحاكمة فالشريعة في مبناها وفي مسيرتها وفي تأثيراتها على مايؤكد الإمام (ابن القيم) (حكمة كلها، عدل كلها، رحمة كلها، مصلحة كلها)، إن خطابا يتحرى هذه الأمور حالا وواقعا، مستقبلا ومآلا إنما يشكل ضرورة تجديده ضمن اتصاف هذا الخطاب بأفقه وبقدرته على الدراسة المستقبلية وضمن إنشاء علوم للحركة وعلوم للتربية والتدبر.

وتكتمل هذه المنظومة بعنصر ثامن يتعلق بخطاب إسلامي حضاري يجعل محور اهتمامه البحث في الوسائل والأدوات والقواعد والآليات فيقدم بذلك رؤية إجرائية قادرة وفاعلة على ترجمة أصول الشريعة وكلياتها ومبادئها وقيمها إلى واقع حي معيش في إطار اعتصام ووصل بحبل من الله وحبل من الناس.

فقه الوسائل من الأمور الذي يجب أن يتجه إليها الخطاب الإسلامي لتكتمل عناصر هذه المنظومة لخطاب إسلامي تجديدي إستراتيجي عمراني وحضاري.

وضمن هذه الخماسية يأتي المكون الخامس الذي يتعلق بالإشكالات الأجدر بالتناول، إنما يشكل أصول قواعد منهاجية تتحرك صوب هذه القضايا ضمن مناهج كلية ورؤية عمرانية وحقائق استراتيجية، تلك القضايا ليست بعيدة بأي حال عن منظومة الحوار على قاعدة من الندية والمسؤولية والفاعلية بحيث تشكل مدخلا حقيقا للتعارف حول هذه القضايا التي تؤصل وتؤسس لعمران حضاري قويم.

ومن الجدير بالذكر أن هذه القضايا منها ما هو دائم يتجدد, ومنها ما يجب أن يؤصل معاني الرؤية المشتركة والمسئوليات الإنسانية المشتركة ضمن قواعد منظومة الفطرة ونظام القيم، ومن هنا يحسن ألا نحدد هذه القضايا ضمن أجندة تابعة ولكن الأمر يتطلب تأسيس هذه الأجندة على أسس نابعة من حقائق العمران الحضاري وأصول ذلك الفقه الحضاري، ومن هنا فإن النظر المنظومي والاستراتيجي لبرنامج عمل هذه القضايا إنما يتطلب تمييزا وتدقيقا بين تلك القضايا التي تتعلق بعالم المسلمين وتلك القضايا التي تتعلق بعالم الغرب وكذلك عناصر قضايا التي تشير إلى العلاقة بين عالم المسلمين والغرب، والعالم المتعلق بحزمة القضايا النوعية والتي تشكل اهتماما إنسانيا مشتركا بما يوضح الموقف الإسلامي الكلي والرصين والبصير، دون أن ننفي أن هذه القضايا على تلك المستويات الأربعة لابد وأن تتأثر طرحا وسياقا ببعضها البعض، وهو أمر كما أشرنا لا يمكن إلا أن نعتبره ضمن رؤية كلية استراتيجية حضارية ممتدة.

غاية الأمر بما يؤكده الخطاب التعارفي أنه يقوم على قاعدة من إدارة الخلاف والاختلاف وتحقيق أصول الفاعلية الإنسانية ضمن حوار بين الثقافات تتأكد فيه عناصر المسئولية والفاعلية وهو أمر يرتبط بالخيار في مستقبل الإنسانية بين خيارين (حفارو القبور أم عمران الحياة) على ما يؤكد (جارودي).

ولست أتردد حينما أقرر مع من يؤكد بأن طبيعة مشكلاتنا حضارية: فرد فقد ذاته وأمة ضيعت رسالتها، وفي النهاية ومن منطلق المسؤولية فإنه من الضروري تأسيس الإرادة وإعداد العدة, ﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة﴾(1)، وإن من عناصر المسؤولية كما يقول مصطفى صادق الرافعي: (أن تلبس كلماتنا معانيها من أنفسنا.. والكلمة من قائلها هي بمعناها من نفسه، لا بمعناها في نفسها), ﴿وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون﴾(2)، من حقائق المسؤولية كذلك أن يقوم العزم في وجه التعاون، والشدة في وجه التراخي، والقدرة في وجه العجز وبهذا يكون كل الناس شركاء متعاونين، وتعود صفاتهم الإنسانية وكأنها جيش عامل يناصر بعضه بعضا، وتكون الحياة مفسَّرة مادامت معانيها السامية تأمر أمرها، وتلهم إلهامها، وما دامت ممثلة في الواجب النافذ على الكل، والناس أحرار متى حكمتهم هذه المعاني، فليس حقيقة الحرية الإنسانية إلا الخضوع للواجب الذي يحكم والمسئولية التي تدفع وترفع، وبذلك لا بغيره يتصل الناس جميعا اتصال الرحمة والتعارف في كل شيء.

وغاية أمرنا في هذا المقام أن نؤكد أن عناصر المسؤولية المشتركة إنما تحدد الخيار بين أمرين لا ثالث لهما، بين زبد لا أثر له وبين نفع مقيم ومستقيم لا غنى عنه للبشرية، ﴿فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾(3).

***********************

الهوامش:

*) باحث وأكاديمي من مصر.

1- سورة التوبة، الآية 46.

2- سورة الزخرف، الآية 44.

3- سورة الرعد, الآية 17.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=404

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك