المؤرخة ليلى الصباغ وجهودها في التأريخ والتحقيق
مقتطفات من السيرة الذاتية
ولدت ليلى الصباغ (2013-1924) في دمشق، وهي الأبنة الصغرى لأسرة تضم ثلاثة أشقاء، توفي والدها أثناء أداءه شعائر الحج قبيل ولادتها، فنشأت يتيمة في كنف جدها لأمها الذي رعاها بمنزله حتى توفي وهي في العاشرة، اضطرت الأسرة للإقامة بمنزل مستقل تحت رعاية الأم التي أصرت أن ينال الأبناء نصيبا وافيا من التعليم، حصلت ليلى على الشهادة الثانوية عام 1942م، وبعدها تقدمت إلى امتحان الدراسة بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) ونجحت فيه بتفوق، ولكنها واجهت مشكلة التقاليد التي تحظر على الفتيات الصغيرات مغادرة أوطانهن طلبا للعلم، وتغلبت عليها بفضل تشجيع والدتها ورغبتها في العلم، والتحقت بكلية الآداب قسم التاريخ وتخرجت عام 1947م، فكانت بذلك من أوائل الفتيات اللواتي تخرجن من الكلية. ولم تكتفي بذلك وإنما واصلت دراساتها العليا بالقاهرة حتى حصلت على درجة الدكتوراه عام 1966م عن رسالتها المعنونة (الجاليات الأوروبية في بلاد الشام في القرنين السادس عشر والسابع عشر).
بدأت ليلى الصباغ مسيرتها العلمية بالتدريس في مدارس دمشق بين عامي (1954-1947م) ثم عملت مديرا لبعض المدارس الثانوية للفتيات، وبعد حصولها على الدكتوراه سافرت لتدريس التاريخ في جامعة الجزائر، ولم يكن دافعها ماديا وإنما أرادت -كما تقول- أن تحافظ على عروبة الجزائر ولسان أبنائها الذي يلوك الفرنسية بدل العربية بتأثير الاستعمار، وهناك أسهمت في حركة التعليم والتعريب.
وفي مفتتح السبعينات التحقت بجامعة دمشق كأستاذ للتاريخ وظلت فيها زمنا طويلا فكان لها الكثير من الطلاب، وفي عام 1998 انتخبت عضوا عاملا بمجمع اللغة العربية بدمشق فكانت بذلك أول امرأة تعين بالمجمع منذ إنشائه عام 1919، وظلت عضوا ناشطًا به حتى توفيت عام 2013.
الاهتمامات البحثية والانتاج المعرفي
تركت ليلى الصباغ عشرة كتب منشورة إضافة إلى عشرات البحوث التي نشرت في دوريات ومؤتمرات علمية، ومن أهم كتبها:
-المجتمع العربي السوري في مطلع العهد العثماني (1973)، وفي هذا الكتاب قدمت الصباغ نقدا للفكرة القائلة أن العثمانيين فرضوا العزلة الثقافية على المجتمع السوري، وذهبت إلى أن المجتمع السوري قام بذلك عن وعي منه ليحمي ذاته من التغلغل الأوروبي.
-المرأة في التاريخ العربي: تاريخ العرب قبل الإسلام (1975)، وفيه تجلت ما تتحلى به من موضوعية وحيادية، فالباحثة كان هدفها إبراز دور المرأة في التاريخ العربي قبل الإسلام، ولكنها لم تذهب إلى حد المبالغة في تصوير حضور المرأة أو ادعاء أن الدور الذي قامت به كان على قدر من الأهمية، بل العكس تماما، إذ تعترف أن دور المرأة خلال هذه الحقبة لم يزد عن كونها ظلا للرجل وأنه كان الفاعل الأوحد في الحوادث التاريخية.
-دراسة في منهجية البحث التاريخي (1979)، وهو أحد أهم مؤلفاتها على الإطلاق وقد اعتمد للتدريس بالجامعة، وفيه تتحدث عن علم التاريخ وتعريفاته، والمناهج والاتجاهات السائدة في الكتابة التاريخية، والأسس التي ينبغي توافرها في المؤرخ من صفات علمية وأخرى خلقية.
– تاريخ العرب الحديث والمعاصر، وهو مصنف وضعته لطلاب الجامعة ويتناول تاريخ المنطقة العربية في خمسة قرون، وفي مقدمته تشير إلى أن تاريخ العرب يتميز بخصيصتين تفسران معظم ظواهره وحوادثه، وهما: ارتباطه الوثيق بتاريخ الدولة العثمانية، وصلته بالتطورات التي شهدتها أوروبا في تاريخها الحديث، وهذا برهان على موضوعيتها ونزاهتها العلمية التي تحول بينها وبين الحط والتهوين من شأن الدولة العثمانية واعتبارها احتلالا أجنيا للدول العربية كما يفعل كثير من المؤرخين المعاصرين.
– من أعلام الفكر العربي في العصر العثماني الأول: المؤرخ المحبي وكتابه خلاصة الأثر (1986)، وهو تحقيق لأجزاء من كتاب خلاصة الأثر نشرتها وقدمت لها بمقدمة وافية أشارت فيها إلى أهمية الكتاب وكيفية الافادة من التراجم التي تضمنها.
-الجاليات الأوروبية في بلاد الشام في العصر العثماني (1989)، وهو في الأصل أطروحتها للدكتوراه التي تأخر نشرها قرابة ربع قرن، وفي هذا الكتاب قدمت بحثا موثقا شاملا لجذور تغلغل الاستعمار الأوروبي داخل المنطقة العربية، وأوضحت أنها تستهدف من وراء كتابها البحث عن “جذور تحول الفكرة الصليبية من مجالها الحربي إلى مجالها الثقافي والفكري”.
-المنح الرحمانية في الدولة العثمانية لأبي السرور البكري (تحقيق)، وهو تجربتها الثانية في التحقيق، ويعبر عن امتلاكها ناصية علم التحقيق وتمكنها منها.
-رجال ونساء في السياسة والأدب وإصلاح المجتمع (1995)، وهو كتاب معني بالتراجم ولكن ليس بالمنهجية التاريخية الكلاسيكية وإنما بطريق أدبي، وقد وقع اختيارها خلاله على مجموعة شخصيات عربية وغربية، ويلفت النظر أنها تخيرت نماذج نسائية غربية تمتعت بالنفوذ السياسي والتأثير المعنوي والقدرة على الإنجاز رغم مناواءة المحيط العام فكأنما أرادت بذلك أن تحاكي النساء المسلمات في الشرق هاته النسوة الغربيات في مسعاهن لتحطيم العقبات الاجتماعية وتحقيق أهدافهن.
وإضافة إلى هذه الكتب المطبوعة هناك كتب أخرى لم تطبع بعد، ومنها تعريب كتاب “تاريخ الأتراك العثمانيين” للمؤرخ الإنجليزي Creasy وبعض مذكراتها التدريسية وبحوث أخرى.
منهجها في التأليف والتحقيق
يبدو من القائمة السابقة أن اهتمامات ليلى الصباغ المعرفية انحصرت في : التاريخ والأدب والتحقيق والتراجم، وأنها كانت تمتلك منهجا واضحا في التأليف قائم على الاقتصار على مجالات الاهتمام وعدم الجنوح إلى الكتابة في مجالات لم تحط بها إحاطة كاملة، وهي كمؤرخة تستند على المنهج الوصفي في المقام الأول وتعتني بالتفاصيل الدقيقة ولكنها لا تغفل عن التحليل والنقد وبخاصة نقد المرويات التاريخية لكنهما يأتيان في مرحلة تالية، وهي تلجأ إلى المنهج المقارن أحيانا فتقارن مثلا في أحد بحوثها بين جامع الزيتونة في تونس وجامع بني أمية في دمشق، وتقارن بين المعلومات الواردة في المصادر التاريخية المختلفة وبين النسخ المختلفة للنص المحقق، ويميزها كذلك عدم لجوءها إلى إصدار أحكام على الحوادث التاريخية انطلاقا من التعصب القومي أو الشخصي وموقفها من الدولة العثمانية برهان صادق على ذلك، كما يتسم أسلوبها بالرشاقة والبساطة وتجنب الإيهام وتسلسل الفِكر والعبارات والخلو من الأغلاط النحوية والتعبيرية، ولعل هذا كان من أسباب اختيارها ضمن مجمع اللغة العربية.
أما منهجها في التحقيق فلا يبعد عن هذا كثيرا فهي تعرض الخلافات بين النسخ المعتمدة في التحقيق والمسوغات التي أسهمت في الترجيح بينها وتختار الراجح، وتقدم مقدمة مطولة للنص المحقق وتعرف بكاتبه وأوضاع عصره المختلفة، وتتتوسع في استخدام المصادر العربية والأجنبية إضافة إلى التفسير اللغوي للألفاظ والتعريف بالأشخاص والأحداث والمصطلحات وما إلى ذلك. ولا يمكن أن نختم معالم منهجهها دون الإشارة إلى تمكنها التام من اللغتين الإنجليزية والفرنسية واعتمادها على مصادر مختلفة بها رؤى ومناهج تغاير مثيلاتها العربية مما أكسبها انفتاحا وتعددية في الرؤية.
موقفها من المسألة النسائية
قدمت ليلى الصباغ ثلاثة مؤلفات تختص بالمرأة، وهي: المرأة في التاريخ العربي، الأدب النسائي، رجال ونساء في السياسة والأدب فضلا عن بحث مطول بعنوان “المجمع العلمي العربي والمرأة”، وهي تنم بشكل أو بآخر عن اهتمامها بالمسألة النسائية، وهذا الاهتمام يمكننا أن نعزوه إلى ما لاقته في صباها من عنت التقاليد التي كانت تحول بينها وبين الالتحاق بالجامعة في القاهرة، ورغم ذلك الموقف فإنها لم تجنح إلى رفض التقاليد مطلقًا ولم تعمد إلى تحميلها وزر عبء تخلف المرأة وتأخرها، وإنما ذهبت إلى أن هناك عوامل متشعبة تقف وراء ذلك في مقدمتها المرأة نفسها التي تميل إلى الدعة والراحة وتنفق الساعات الطوال لأجل التزين، والتقاليد الموروثة؛ لكنها تميز بين تقاليد واجبة الاتباع مستمدة من الشريعة الدينية والأخلاقية، وأخرى محجفة مستمدة من الممارسات الاجتماعية وليس لها سند من شرع وهي التي تعوق تقدم المرأة، وكذا الغرب الذي حط من شأن النساء وحرمهن لقرون طويلة من التعليم والعمل وانتقل ذلك إلينا عبر المحاكاة وعلى سبيل المثال ظلت المرأة بعيدة عن عضوية المجامع اللغوية والعلمية في الشرق لأن القائمين عليها كانوا يحاكون المجمع العلمي الفرنسي الذي لم يسمح بعضوية النساء إلا في وقت متأخر جدا.
وهذا الموقف المتزن من قضية تخلف المرأة جعل الصباغ تقف موقفا رافضا من الحركة النسوية وتنظيماتها الداعية إلى المطالبة بحقوق النساء دون بذل الجهد، فحين سألت عن رأيها في ذلك أجابت “إن هؤلاء النسوة ضيعن حياتهن في الشعارات الجوفاء ولا يعرفن أصلا من حقوق المرأة إلا التفلت من رباط الفضيلة وتدمير الروابط الاجتماعية”.
وبالجملة، فإن ليلى الصباغ تعد رمزا من الرموز الثقافية النسائية التي لم تجنح إلى مجانبة النزاهة العلمية وتغليب الأيديولوجيا والشعبوية على أحكامها التاريخية، كما لم تذهب إلى حد استبدال قيمها الثقافية والاجتماعية بقيم الثقافة الغربية.