حوار مع يوم عرفة

بينما كنت أستمتع بحواري مع الحج؛ وهو يمتعنا برسائله التربوية حول المحفزات والمهارات التي تجعلنا نعايش موسمه تربوياً وروحياً؛ خاصة من لم يتشرف ويسعده الله سبحانه بمرافقة الحجيج؛ رأيته يبتسم وهو يقول: ألا تدري من ذاك الضيف الجميل والعزيز القادم إلينا؟.

قلت وقلبي يرفرف سعادة بأحباب ورفقاء ضيفي الحبيب الحج: أراه ضيفاً مهماً من احتفائكم به!.

قال الحج: نعم؛ إنه عزيزنا وحبيبنا الفاضل الذي سيتحدث إليكم بنفسه عن نفسه وعن قدره وعن فضله؛ إنه يوم يوم عرفة!؟.

يوم عرفة … يتحدث عن أحداثه!:

أقبلت على ضيفنا الحبيب محتضناً إياه؛ وقلت: مرحباً برمز الخير ويوم الخير؛ فنحن في شوق لسماعكم ولنبدأ بنبذة عن أحداث وأعمال الحجيج أثناء يومكم العظيم؛ حتى نعايش رحلتهم ونشاركم فرحتهم.

قال عرفة: نعم أحبابي؛ باختصار بعد طلوع الشمس من يوم عرفة يتوجه الحاج من منى إلى عرفة، وهو يلبي ويكبر: “الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد“. ويرفع بها صوته. ويكره له الصيام هذا اليوم. ومن السنة النزول في نَمِرَة إلى الزوال، إن أمكن. فإذا زالت الشمس سن للإمام أو نائبه أن يخطب خطبة تناسب الحال، ويبين للحاج ما يشرع في هذا اليوم وبعده. وبعدها يصلي الظهر والعصر جمع تقديم جمعاً وقصراً. وذلك ليطول وقت الوقوف والدعاء بعد الصلاة حيث يتفرغ للذكر والدعاء والتضرع إلى الله، ويدعو بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، وليس لعرفة دعاء مخصوص، ويستحب أن يرفع يديه حال الدعاء، ويستقبل القبلة. والأفضل أن يجعل الجبل بينه وبين القبلة، إن تيسر ذلك. ووقت الوقوف يمتد إلى طلوع الفجر من يوم العيد. وعليه أن يتثبت من كونه داخل عرفة. ولا يخرج من عرفة إلا بعد غروب الشمس.

محفزات ورسائل تربوية:

قلت: فماذا عن بعض الرسائل التربوية والمحفزات التي تدفعنا وتهيئنا لمعايشة هذا اليوم العظيم؛ فنشارك الحجيج حالتهم الروحية؟!.

قال عرفة: دعونا الآن نطوف مع هذه الباقة التربوية:

1- قدروا ما عظمه الحبيب:

لقد وضح صلى الله عليه وسلم أهميتي كركن عظيم من أعمال الحج؛ فعظمني وشرفني وقدرني بهاتين الكلمتين: “الحج عرفه“. [راه أحمد وأصحاب السنن]

هكذا وباختصار وبحسم؛ وكأن الحج كله قد اختزل في سويعات هذا الركن العظيم.

ولقد أجمع العلماء على أن الوقوف بعرفه هو ركن الحج الأعظم.

ألا تقدروا ما قدره الحبيب صلى الله عليه وسلم؟!.

ألا تعظموا ما عظمه الحبيب صلى الله عليه وسلم؟!.

ألا تحتفوا بي؟!.

فلو أن كل مسلم خلا إلى نفسه؛ حتى ولو لدقائق فيناجي ربه، وهو يشاهد إخوانه الحجيج، فيلهج بالدعاء مثلهم، ويعايش هذه اللحظات خاصة قبل الغروب، ويقضيها في الدعاء والذكر والشوق للقائي والوقوف عليَّ.

2- انشروا روح الجماعية:

في هذا اليوم يجتمع فيه كل الحجيج في مكان واحد، وفي يوم واحد، وإن امتد وقت الوقوف.

وكأن المقصود هو اجتماع ممثلي الأمة، من كل جنس ولون، ومن كل أرض وصقع، وكأنه مؤتمر سنوي، يناقش هموم الأمة، ويعطي الدليل على كيفية اجتماعها. وعندما نتدبر مغزى حديثه صلى الله عليه وسلم أن الحج الصحيح هو من أدرك الوقوف يوم عرفة، فإننا نستشعر أن جمع الأمة على هذه الصيغة من الأهمية العظيمة بمكان، ويبرهن أيضاً على أن حضور هذا المؤتمر السنوي الكبير، لا يجب أن يتخلف عنه أحد ممن حضر من ممثلي الأمة.

فهي إذن رسالة تربوية ودعوة جادة إلى الوحدة، وبث روح الجماعية، ونبذ أفكار التشتت والتشرذم.

3- مصدر عزتكم … وسر تجمعكم وقوتكم:

في توجه الحجيج إلى عرفات، تحت راية التكبير والتوحيد والتهليل؛ نستشعر رسالة تربوية تؤكد أهمية ودور الفكرة الربانية، وتوضح أن ركيزة التجميع لهذه الأمة، هي كلمة التوحيد؛ فهي الفكرة الربانية التي رشحها الحق سبحانه، لآن تجتمع عليها الأمة، كل الأمة، وهي الراية التي من الممكن أن يتجمع حولها كل الناس؛ فتنطلق بهم إلى سيادة الدنيا، وسعادة الآخرة.

وتدبروا قول الفاروق رضي الله عنه: (نحن أمة أعزها الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة في غيره؛ أذلنا الله).

وكذلك ما أورده (ابن خلدون) في مقدمته؛ تحت عنوان: (أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة؛ والسبب في ذلك أنهم لخُلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض. فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، يذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق، تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك أسرع الناس قبولاً للحق والهدى والسلامة).

إنه منهج ربكم، ورسالتكم الخاتمة إلى الأمة الخاتمة؛ فهو مصدر العزة وسر التجميع ونبع القوة.

4-فرصتكم للسمو الروحي:

وفي قصر الصلاة وجمعها، نستشعر منه وكأن المقصود أن يطول وقت الوقوف والتضرع إلى الله عز وجل. وذلك من شأنه أن يحقق الهدف الثاني من أهداف ركن الحج؛ وهو قطف ثمرته الروحية؛ من ذكر ودعاء واستغفار.

فهو فرصة سانحة لا تتكرر إلا كل عام، ولمن سعدوا بحضورها. حيث تبدو سويعات الوقوف وكأنها دورة تربوية روحية مركزة، قدرها سبحانه وتعالى لمعالجة بعض جوانب تلك الحالة الاعتلالية، التي تتسرب إلى نفوس البعض، وهي (ظاهرة التآكل الروحي). وتدبر كيف أن المربي العظيم صلى الله عليه وسلم قد عمم بالترغيب في آثار الحج الروحية عموماً، ثم خصص بأهمية يوم عرفه، مثل “من حج هذا البيت؛ فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه“. [البخاري]

و”العمرة إلى العمرة كفارة لم بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة“. [رواه مسلم]

و”ما من يوم أكثرَ من أن يعتقَ اللهُ فيه عبداً من النار من يومِ عَرَفةَ، وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟“. [رواه مسلم]

“صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ“. [الترمذي وقال: حسن وابن ماجه وابن حبان والبيهقي فى شعب الإيمان ومسلم وأبو داود]

 “مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا“. [أحمد والدارمي والترمذي وقال: حسن صحيح وابن ماجه وابن حبان والبيهقي فى شعب الإيمان].

فمن فَطَّرَ قوما في يوم عرفة فله عن كل صائم كفارة سنتين غير أجر الصيام.

5- لا تنسوا عدوكم الأول:

في هذا اليوم، وفي أثناء فرحة الحجيج بموقفهم، وبمؤتمرهم الجليل، وبينما هذا الجمع الطيب مشغول في دورته الروحية، كان من حكمته صلى الله عليه وسلم إلى التحذير من العدو المبين؛ ذلك الذي لا يفرح ولا يسعد حسداً وحقداً على مجرد سجود وطاعة المؤمن لربه، فما بالك بهذا الموقف العظيم. عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر، ولا أدحر ـ أي أذل وأهون ـ، ولا أغيظ منه في يوم عرفه. وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما أُرِي من يوم بدر. قيل: وما رأي يوم بدر يا رسول الله؟. قال: أما إنه رأى جبريل يَزَغ ـ أي يقود ـ الملائكة“. [رواه مالك مرسلاً والحاكم موصولاً]

إذن هي رسالة تذكركم بعدم الغفلة عن عدوكم الذي لا ينام، ولا يغفل عن الدس والوسوسة، قال رجل للحسن: يا أبا سعيد. أينام الشيطان؟!. فتبسم وقال: لو نام لاسترحنا. [إحياء علوم الدين: الغزالي]

نظرت إلى ضيفي الحبيب وشكرته على هذه الرسائل الرائعة ومعانيها التربوية الراقية؛ والتي جعلتني أستشعر أهميته وأهمية أن نعايش فيوضاته ونشارك زواره سعادتهم ووقفتهم.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

المصدر: http://www.manaratweb.com/%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D8%B9-%D9%8A%D9%88%D9%85-%D8%B9%D8%B1%D9%81%D8%A9/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك