أزمة التحديث وأقنعة الديّن
ليس غريبا أن تكون الأزمة مركز اهتمام كثير من المؤلفات في الفكر العربي المعاصر، وإن اختلفت آليّات تشخيص الأزمة وتنوعت الحلول المقدّمة لها. ويظّل الدين محورا أساسيّا من محاور مقاربة الأزمة. فلئن رأى البعض في الوعي الديني مأزقا، فقد رأى البعض الآخر فيه الحل الأمثل لجميع المشاكل. فكانت الأزمة منعقدة بين حداثة منشودة وواقع مأزوم اختلف المصلحون في تشخيص علته ووصف أدوائه. ولهذا، فقد آثرنا في هذا المقال أن نطرح إشكاليّة أزمة التحديث وأقنعة التديّن في الفكر العربي المعاصر.
فمنذ بداية الوعي بالفوارق الكبرى بين حضارة تهاوى صرحها السياسيّ بضعف الخلافة العثمانيّة وانهيارها، وحضارة امتدّ نفوذها بفضل الفتوحات العلميّة والسياسة الاستعماريّة، بدأ الوعي بالأزمة مبكرّا، وإن اختلفت طرائق التعبير عنها. فخير الدين التونسي يتحدّث عن أمراض الأمة. ويقترح في مشروعه التخيّر من الوسائل التي أوصلت الممالك الأوروبيّة إلى ما هي عليه من المنعة والسلطة الدنيويّة مع مراعاة موافقتها للشريعة الإسلاميّة سعيا إلى استرجاع ما أخذ من أيدي المسلمين.[1] أمّا الطهطاوي، فقد تحدّث عن تشتّت عزّ الخلافة وانهدام الملك. فذكر زوال حكم المسلمين في الأندلس وقوة شوكة الإفرنج ببراعتهم وتدبيرهم. وذكر فضل وليّ نعمته في مداواة دائها الذي لولاه لكان عضالا ودوره في صلاح فسادها.[2] أمّا جمال الدين الأفغاني، فقد عبّر عن الأزمة بأنّ بناء الأمّة انتثر، وتفرّقت فيها الأهواء وانشقّت العصي. وتبدّد ما كان مجتمعا، وانحلّ ما كان منعقدا وانفصمت عرى التعاون. وانقطعت روابط التعاضد. وانصرفت عزائم أفرادها عمّا يحفظ وجودها.[3] ووصف محمد عبده الأوضاع في مصر، فقال عن أهلها: إنهم في أسوأ أهل الشرق حالا. فالأموال منهوبة. والأعراض مهتكة، والبيوت مخربة. ومكان الأنفس بين السيف والنطع والشنق والصلب والنفي والضرب والتعذيب، أهوالا ولا كأهوال القيامة.[4]
فكان تشخيص الأزمة قائما على استعادة مرحلة مرجعيّة مثّلت الحقبة التي يستمدّ منها كثير من المفكرين ملامح الماضي المجيد الذي عاشه المسلمون مقابل أنموذج آخر صار يفرض نفسه منذ غزوة "نابليون" على مصر، وبداية أدب الرحلة الذي مكّن الطهطاوي وخير الدين من الاطّلاع على أسباب التقدّم؛ فرسم آفاق مسارات تحديث للفكر العربيّ الإسلاميّ جعلت الشعور بالأزمة يرتبط بالوعي الديني ويوجّه النظر نحو التراث العربي الإسلامي، سواء أكان منطلقه النظر إليه باعتباره أصل المشكل وعلّة التأخّر أو بالنظر إليه مرجعا للحلول المقترحة لتحقيق النهضة.
لقد كان للثورة الفرنسيّة أثرها في الفكر العربي الإسلاميّ، وألهمت كثيرا من المفكرين بالدعوة إلى الحرية والمساواة وتطبيق القوانين. ولكنّ تلك الدعوات ظلّت في حاجة إلى ارتباط بالمرجعيّة التراثيّة وتأشيرة عبور تنزع عنها ثوبها الاستعماريّ المدان في اللاوعي الجمعي بحكم الوجه الاستعماري للمنظومة الغربيّة. وبدأت تظهر للقيم الغربيّة الوافدة أقنعة إسلاميّة، فانقلبت الدّيمقراطيّة شورى، وأضحى أعضاء مجلس نواب الشعب المنتخبين أهل حلّ وعقد وصار للمسلمين دستور نبويّ في المدينة يضارع الدساتير التي ظهرت في أوروبا، وقامت عليها المنظومة القانونيّة. ولعلّ من أبلغ الشواهد على هذا الانفصام الذي حكم وعي كثير من المفكرين زمن انبهارهم بما أنجره الغرب وخوفهم على المنظومة الدينيّة التي مثّلت القوة الرمزيّة والأبوّة الروحيّة التي لم يتمكنوا من التخلي عنها موقف "عبد الرحمان عزّام" الذي اعتبر أنّ النبيّ محمّد هو من وضع أسس دولة ديمقراطيّة في المدينة، فالمسجد برلمان ومقرّ للسلطة التنفيذيّة ومركز للقيادة العليا، منه تصدر الدعوة إلى الله والشرائع لخلقه وجميع الخطط والتدابير السياسيّة والعسكريّة، وفيه تستقبل الوفود ويلقن العلم، وهو من وضع دستور الوطن وتكفل حرية العقيدة وحرمة الدماء والأموال والأعراض.[5]
كان للثورة الفرنسيّة أثرها في الفكر العربي الإسلاميّ، وألهمت كثيرا من المفكرين بالدعوة إلى الحرية والمساواة وتطبيق القوانين
إن اشتغال المتخيّل وفق آليّة الاحتواء والاستيلاء الرمزي على مكتسبات العقل الغربيّ (وهو فكر إنسانيّ متاح لجميع البشر) وتحويلها إلى وسيلة لتضخيم الذات النبويّة وتحميلها فوق طاقتها لدليل على وجود خلل لم يكن الدين فيه مسؤولا عن تلك التأويلات المغالية للفترة النبويّة، وإنّما أضحى التديّن ضربا من الاستيلاء الرمزي على مكتسبات العقل الإنساني واحتكارها بحثا عن السبق وتعويضا عن التخلف الفكري والعجز عن مجاراة التطوّر، أو ابتكار وسائل جديدة لتسيير الدول وإدارة شؤون البشر.
فلن يزيد النبيّ قيمة القول بأنّه كان ديمقراطيّا قبل انتشار الديمقراطيّة في العالم أو القول إنّه كان إمام الاشتراكيين داعيا إلى العدالة الاجتماعيّة والمساواة. فلكلّ عصر أسئلته وكلّ حقبة تاريخيّة تحمل أسئلة تخالف غيرها. إنها وسيلة تكشف ضعف العقل الإسلاميّ المتواكل الذي لم يكلّف نفسه عناء تأصيل الديمقراطيّة في مهدها الفلسفي وفهم خلفياتها الحضاريّة، وهو ما جعل الإسلام مجرّد واجهة لتبنّيها. تستجيب إلى اللاشعور الجمعي المفتتن بخطاب المقدّس، وتخضع لسنن طقوس العبور التي تقتضي إكساء القديم حُللا جديدة، وكلّ أشكال التزويق التي تحوّل التراث الإسلاميّ إلى عناصر مكوّنة للحداثة. ولو لزم الأمر جعل الرموز النبويّة والخطابات القرآنيّة مبشّرة بالحداثة ومؤمنة بقيمها.
لا يمكن لمثل هذه القراءات أن ترتقي إلى منزلة التأويل؛ فالتأويل يتطلّب جهدا ذهنيّا يتعمّق فيه فهم الخطاب، وتقوم فيه جسور الوصل بين الدلالات على أسس منطقيّة. "ففي التأويل لا يعني التطبيق عمليّة إضافيّة تضاف إلى الفهم بعد انقضاء الأمر: فالهدف الذي من أجله نطبّق شيئا ما يحدّد منذ البداية، وفي شموليته، المحتوى الفعلي والملموس للفهم التأويلي. لا يعني التطبيق ضبط شيء ما كمعطى قبلي من أجل تخليص خيوط وصفية خاصّة. لا يحاول المؤوّل، وبحضور نصّ ما، تطبيق معيار عام لحالة خاصّة، وإنما ينصبّ اهتمامه على الكشف عن دلالة أصليّة متوارية خلف المكتوب المراد معالجته."[6] وتلك الدلالة الأصليّة تتطلب فهما للحداثة في أطرها الفكريّة والحضاريّة لا محاولة لتحويل وجهتها نحو حقب تاريخيّة مختلفة أسئلتها ومقاصدها. فخطاب التلوين الذي تبنّاه كثير من مفكّري الإسلام يعبّر عن خوف وتردّد بين ما قدّمه الماضي من تجارب نجحت في عصرها، ولكنها فقدت قوّتها الرمزيّة في عصرنا وتجارب إنسانيّة قدّمت لشعوبها مسالك نحو الحداثة، وفتحت آفاقا للإنسانيّة لن تعرفها من قبل، ولكنّ البيئة التي نمت فيها وتطوّرت مختلفة لا محالة عن البيئة العربيّة الإسلاميّة. ونتيجة لذلك، فقد بقي كثير من المفكّرين متردّدا بين البقاء على شواطئ آمنة مثّلت التراث بكلّ أحداثه وإنجازات رجاله، وبحر من المفاهيم سار فيه العقل الإنساني وأبحرت فيه مراكب الحداثة نحو وجهات مختلفة. كل ما في الأمر أنّ غياب الجرأة الفكريّة جعل كثيرا من المفكّرين يتخيّلون رحلاتهم على صفحات التراث، ولكنهم لا يرتحلون وينظرون بعين الإعجاب إلى المبحرين في تيارات الحداثة ولا يبحرون. كان خوفهم من أن يأخذهم التيار إلى مجاهل الغرب بوجهيه العالِم والمستعمر. وكان يؤلمهم أن لا يبرحوا أماكنهم ويلازموا مواقعهم الفكريّة خوفا من الانفصال عن ماضيهم المجيد وفقدان آخر خيوط الوصل بقداسته. فكان تردّدهم سببا في فشلهم، وأضحى سعيهم إلى التأصيل ضربا من التشويه المتبادل للتراث والحداثة.
تلك صورة - وإن كان للأدب فيها حظّ كبير- هي خير معبّر عن أزمة المتديّن، وهو يواجه التحولات الحضاريّة الكبرى التي عصفت بالعالم، وحولت مواقع القوّة نحو مرافئ الغرب.
أعلن النبيّ بأنّه بشر مثل سائر البشر في أكثر النصوص قداسة. ولكن العقل الإسلاميّ المفتتن بعبادة البشر لم يرض بتلك المنزلة
لقد بيّن عبد الجواد ياسين أنّ الدين يقدّم ذاته كحقيقة مطلقة قادمة من خارج الاجتماع، ومن ثمّ غير قابلة للتغيّر (التعدّد أو التطوّر) ولكنّ يشير الواقع التوحيدي إلى بنيات تديّن متعدّدة تحتوي كلّ منها على مكونات متطوّرة أو قابلة للتطوّر[7]. ولعلّ ذلك ما جعل الاعتقاد يسود بإطلاقيّة الخطاب الديني وصلاحيّته لكل زمان ومكان مع تجاهل أن تلك الصلاحيّة تعني تحييده عن كثير من المجالات التي تكون بطبعها متحوّلة كشؤون السياسة وحقائق العلم.
لقد أعلن النبيّ بأنّه بشر مثل سائر البشر في أكثر النصوص قداسة. ولكن العقل الإسلاميّ المفتتن بعبادة البشر لم يرض بتلك المنزلة، وحوّل النبيّ إلى أيقونة يتبعه المؤمنون بسنته في سكناته وحركاته. وحين وجدوا في كثير من النظم الغربيّة أدواء لعلل الاستبداد جعلوه مطيّة لقبولهم واتخذوه وسيلة لإسباغ الشرعيّة على إعجابهم بتلك النظم وخوفهم من هجر أصولهم. فصيّروه ديمقراطيا وجعلوا محاولته الأولى لضم شتات القبائل وتوحيد المدينة نظاما دستوريا وإرساء لقواعد الحياة المدنيّة.
لقد تصرّف النبيّ وفق حاجات عصره، ولم يتردّد في انتهاج السبل العقليّة لحلّ المشاكل التي واجهته، وإن كان له سند من الوحي يمثّل سلطة على الجماعة. فكانت جرأته هي التي مكنته من بناء أسس كيان قويّ صار مرجعا لصحابته وللمؤمنين برسالته. ولكنّ تلك الجرأة هي التي غابت من تأويلات كثير من المفكرين الذين اتخذوا من التراث قناعا لقبول الحداثة، وكانوا بذلك ميالين إلى المزج بين نظم جاهزة بعضها في التراث وبعضها في الغرب، ليركبوا صورا مشوّهة لمشروع نهضة هجينة لا إبداع فيها.
[1] انظر: خير الدين التونسي، أقوم المسالك إلى معرفة أحوال الممالك، ط1، تونس/ الجزائر، الدار التونسية للنشر، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1986، ص 85
[2] انظر: رفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ط1، تونس، الدار العربيّة للكتاب، 1991.
[3] جمال الدين الأفغاني، الأعمال الكاملة، ط2، إيران، المجمع العالمي لتقريب بين المذاهب الإسلاميّة/ مركز البحوث الإسلاميّة، 1221هـ، ج1، ص 75
[4] محمد عبده، الأعمال الكاملة (تحقيق محمد عمارة)، ط1، مصر، دار الشروق، 1993، ج1، ص 777
[5] رئيف خوري، الفكر العربي الحديث، أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعيّ، ط3، دمشق، منشورات وزارة الثقافة، 1993، ص ص 273، 274
[6] هانس غيورغ غادامير، فلسفة التأويل الأصول المبادئ الأهداف، (ترجمة شوقي الزين)، ط2، المغرب/ بيروت، الدار العربية للعلوم/ المركز الثقافي العربي، 2006، ص 39
[7] انظر: عبد الجواد ياسين، الدين والتديّن، التشريع والنصّ والإجماع، ط1، لبنان/ مصر، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2012، ص 6.