"الفضاء العام" وتغيّر "الفاعل الاجتماعي"؛ قراءة في سوسيولوجيا "الثورات العربية"
انطلقت ثورة الشّباب التونسي وفاتحة "الثورات العربية" التي استلهمت روحها من صرخة البوعزيزي في فضاء تونس، الصرخة التي أعادت الإرادة المسلوبة للشعوب العربية، وأعلنت أن العالم العربي ليس في منأى عن التغيير، سرعان ما تردّد صداها في فضاء أزرق بات يختصر المسافة والزمن حتى حدود الخيال. فضاءٌ ظلٌ تعدّى قدرة الأنظمة الشمولية ودولتها التسلطية بجبروت أجهزتها وآلة عملائها السرّيين على المراقبة والضبط والهيمنة. وأعاد هندسة البناء الاجتماعي المختل بأوتار الإرادة ابتداءً من خميرته الفوضى. وخطاب بسيط نطق الكلام فصيحاً أن "الإنسان كائن يشعر بالكرامة"، وأن "الشعب يريد".
لم تكن "الثورات العربية" متوقعة، رغم كل إرهاصاتها، بل إنها لم تكن متوقعة بالصفة الجديدة التي اتخذتها، وصفة الفاعلين الجدد فيها
لقد فاجأ الحدث العربي الكثيرين بتوقيته، وسرعة تحولاته، وكان له وقع الصدمة أو الدهشة، ليس على المثقفين والأكاديميين والمحللين والساسة فحسب، بل حتى على دوائر الأجهزة والاستخبارات المحلية والدولية، والتي كان يُعتقَد بقدرتها حتى على عد الأنفاس على البشر. الأمر الذي ترك ارتباكاً في النسق الإدراكيّ والمعرفيّ السّائد وقوالبه النمطيّة، في فهم دينامية المجتمعات العربية، ورصد التحولات البنيوية الحاصلة فيها في عالم العولمة. فالعالم العربي قد ظلّ في منأى عن التغيرات الديمقراطية التي عصفت بالعالم المحيط من حوله منذ نهايات القرن العشرين على أثر انهيار المنظومة الاشتراكية وما عرف بسقوط "الأيديولوجيات الكبرى"، بالرغم من توافر كل مبرّرات التغيير وضروراته في جميع بلدانه. ما جعل التنظير السوسيو- سياسي بأدواته التقليدية يوجه اهتمامه نحو البحث في التراث والثقافة الإسلامية وعلاقتهما النابذة للقيم الديمقراطية تارة، أو تركيز الاهتمام الأكاديمي والمبحث السوسيولوجي على الدولة الشّمولية و"قدرة النظم التسلطية على الاستمرار والتأصّل في البنية العربية[2] ما أنتج استخلاصات نظرية محبطة ومخيبة للآمال الناظرة إلى أفق للتغيير، والخروج من دوامة السلبية والاستنقاع الاجتماعي المتماهي مع المستبد بحكم واقع الحال، أو "الخوف من الحرية وكلفة تبعات التغيير" حسب إيرك فروم. وعزّز الشعور لدى الحاكم المستبد بحصانة قلعته و"شرعية" سلطته المستمدة من طول مدة حكمه بدلاً من شرعيتها الشعبية، ومدى قدرة الدولة على التحكم والسيطرة واحتكار المجال العام. فلطالما أطنب خطاب سلطات الاستبداد العربي ودولته الشمولية في مدح صمودها، وتغنى بحصانتها ومقاومتها لأي تحدّ أو تغيير، وطالما أسهبت منابر إعلامه الموجه في وصف دولته التسلطية، بالدولة المستقرة، وربط أي ملمح للانتقال الديمقراطي ووقف الهدر والفساد بالعمالة للخارج، الآخر العدو بمختلف صفاته وصوره المتخيلة وأقرن أي فعل اجتماعي بالفوضى والسعي، لتقويض الاستقرار وإضعاف الشعور القومي، واتهام أي نشاط سياسي بالخيانة والتآمر للنيل من مقاومته وممانعته، حتى باتت فكرة المؤامرة حلقة مركزية من ثقافة سياسية ذات نزوع قومي تعصبي، تنبع من مركزية الأنا المتضخمة التي لا تستطيع أن ترى الآخر المختلف بغير صورة العدوان.
لم تكن "الثورات العربية" متوقعة، رغم كل إرهاصاتها، بل إنها لم تكن متوقعة بالصفة الجديدة التي اتخذتها، وصفة الفاعلين الجدد فيها، والغايات والأهداف التي رسمتها، في جميع الدول العربية التي وصلها التغيير، أو لفحها وهجه، رغم الاختلافات الجزئية بين هذه الدولة أو تلك، ورغم انحدار الثورة سريعاً نحو العنف في بعضها (ليبيا وسورية واليمن) وما زالت آفاقها مجهولة، الأمر الذي قد يجد تفسيره في اختلاف تركيبة السلطة وعنفها، وغياب هامش الاستقلال النسبي بين مؤسسات الدولة التي تغوّلت السلطة عليها جمعيها، واختلاف التركيب البنيوي للنسيج الاجتماعي فيها من ناحية أخرى، وفي الفجوة الزمنية القصيرة التي ربما أتاحت لسلطاتها ضبط إيقاع أجهزتها في مواجهتها، والتمكن من التدخل وحرف مسار فعلها. فطابع الثورات العربية كحالة تمرد اجتماعي شامل، أو انتفاضة شعبية واسعة سلمية الطابع، واقتصار شعارها على الحرية والكرامة كقيمتين عاليتين في الوجدان الإنساني قبل أي مطلب آخر، وتحديد غاياتها بإسقاط نظام القهر والاستبداد، وتحديد خصمها بشخص الحاكم الحقيقي أو الاعتباري بحكم الإدراك العفوي لغياب الحدود بين الشخصيتين، وبين الحاكم والنظام، قد جعل منها ثورات خارجة عن الصورة النمطية للثورة المعروفة، سواء في تمثلها الذهني أو في تجسدها التاريخي فيما عرفه هذا العالم من ثورات. فلا قيادة كاريزمية أو خطيب عسكري أو سياسي أو نقابي أو ديني مفوه يتكلم بصوت الجماهير ويحشد صفوفها، ولا أيديولوجيا حزبية أو خلاصية أو لوائح مطلبية تنظم توجهها، ولا ارتباط سياسي بمركز قرار دولي يحدد سياسة تبادل المصالح، وإنما طاقة تمرد حيوية ومثابرة قادرة على تقويض السلطة القائمة وتعجز عن بناء سلطة بديلة. إنها لا تشبه غيرها من الثورات، تشبها ذاتها أكثر؛ لأنها ثورات الشباب، التي تحمل روح تمرده وطابع مراهقته العصية على القوننة والتنظيم في مجتمعات يشكل الشباب النسبة الأعلى بين الفئات العمرية الأخرى فيها وتمتد مراهقة الشباب فيها، حتى دخوله مؤسسة الزواج الناجح. الأمر الذي جعلها أكثر الأحداث عرضة للتأويل والتفسير والاتهام من جهة وعرضة للاستثمار والاحتواء من قوى الداخل والخارج على السواء. فسرعان ما استعادت قوى المعارضة التقليدية بجميع أطيافها، الدينية منها بشكل خاص، أحلامها القديمة في الوصول إلى السلطة، مستفيدة من تماسكها التنظيمي وخطابه الأيديولوجي التحريضي الحاشد وعلاقاتها الإقليمية والدولية في ملء الفراغ الحاصل من انهيار السلطة، كما بدا ذلك جلياً في كل من تونس ومصر، وبشكل غير خاف في كل من سورية وليبيا واليمن. كما بادرت القوى الدولية المؤثرة، وأمريكا بشكل خاص، لاحتواء تلك الثورات وتوجيهها عبر دعمها المعنوي أو الإعلامي وحتى المادي في بعض الحالات بما يتماشى مع مصالحها في التغيير تحت مسميات: "إشاعة الديمقراطية" أو "الشرق الأوسط الجديد أو الكبير" أو "الفوضى الخلاقة"، مما وفر لخصومها لائحة اتهامية كاملة ضدها، وترك أثراً في توجهات ومواقف النُخَب الفكرية وانحيازاتها ومقارباتها التحليلية في فهم هذه الثورات والتقييم الموضوعي للدينامية الاجتماعية المولدة والفاعلة فيها بعيداً عن أوهام السياسة وخيال الأدب. ما يترك سؤال البحث مفتوحاً لرصد المتغير و"الثابت" في كيمياء المجتمعات العربية والعالمية، والكشف عن دوره في تعديل هندسة بنائها. فلم تنته "الثورات العربية" بعد، فتصبح تجربة تاريخية ليتم التعامل معها بمنطق الأسباب والنتائج أو أحكام التاريخ، أو قياسها وفق أدوات القياس العلمية والتخصصية بنماذجها الكاملة، لأنها تجربة إنسانية أولاً، وثانياً لأنها بدأت وحسب. وآفاق تطوراتها المستقبلية مفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها احتمال النكوص والفشل، وما تركيزنا على "الفاعل الاجتماعي" و"المجال العام" في المقاربة التحليلية لهذه التحولات إلا باعتبارهما العاملين الأكثر تغيراً في عصر العولمة. فقد استطاع الإعلام الجديد بعد ثورة الاتصالات الحديثة السمعية والبصرية والتدوين الإلكتروني أن يكسر احتكار السلطة للمجال العام أو الفضاء العمومي بين الدولة والمجتمع ويقوض هيمنتها عليه، ويمنع أو يكشف على الأقل عن عملية تزويره وفق مصلحتها ومقتضياتها، كما استطاع أن يرفع هذا المجال من "مجال عام موضعي" مثل المواسم والشعائر والمناسبات... حسب تعبير تايلور إلى فضاء عمومي أو "فوق موضعي" حسب تايلور وهابرماس.[3]
"الثورات العربية" تجربة إنسانية أولاً، وآفاق تطوراتها المستقبلية مفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها احتمال النكوص والفشل
إن ما حدث أتاح للمواطنين حرية المساهمة والمشاركة بالحوار والتفاعل والنقاش والاختلاف حول جميع مسائل الشأن العام والمصلحة الوطنية المشتركة، التي باتت من مسؤوليتهم، بعد أن ظلت لفترات طويلة مسؤولية الحاكم وإعلامه الموجه وحده، الذي يتحكم بالرأي العام ويحدد للجمهور ما يشاهد وما يقرأ وما يسمع، إذ أدت التطورات الجديدة التي أفرزها الإعلام الجديد إلى قدرة المواطن على امتلاك أدوات التواصل والنشر والحضور في الفضاء العام، وتجاوز عامل الزمن والمسافة والكلفة. "فالشبكات الاجتماعية فتحت المجال أمام المواطنين لطرح قضاياهم ومشاكلهم وهمومهم والتفاعل فيما بينهم، ما أفرز فضاءً عاما نشطا وفعالا"[4]، وجعل منه ساحة لصراع عدة أطراف وقوى داخل المجتمع، والتعبير عن نفسها واختلاف إراداتها بأدوات سلمية وديمقراطية "فالمجال العام في أيّ مجتمع ينشأ ويتطور ويتسع ويضيق في سياق وظروف تاريخية، ويتم بناؤه وفق صراعات اجتماعية معينة، وبالتالي فإن فكرة المجال العام هي بالضرورة حدث تاريخي وليست مفهومًا متعاليًا معلقًا في الفراغ".[5] ولما كانت الفئة الاجتماعية المؤهلة للتعامل مع تقنيات العصر الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي المنبثقة منها هي فئة الشباب المتعلم والمثقف والمقصي والمهمش في آن، يغدو دور الفاعل الاجتماعي الجديد في التحولات العربية دوراً مفهوماً. فالفاعل الجديد الذي يشكل ثلث الكتلة البشرية في مجتمعات فتية، والمنبثق من الطبقة الوسطى التي أصبحت أكثر عرضة للفرز والتشظي تحت تأثير مفاعيل الانفتاح الاقتصادي الذي فرضته شبكات الاقتصاد "النيوليبرالي" ووصفات صندوق النقد الدولي، التي استجابت لها الحكومات العربية العاجزة غير مختارة، مع تنامي ثقافة الفساد واقتصاد المحاسيب، جعلت من جيل الشباب جيلاً مغترباً ومهمشاً بلا أفق، ما جعله الفئة المؤهلة لقيادة عملية التغير الثوري بعد أن غير مفاهيم القيادة، وصفات الفاعل الاجتماعي الذي لم يعد محصوراً بدلالة أيديولوجية معينة: قومية، أو ماركسية، أو دينية، ولا مرتبطاً بتراتبية ثابتة: طبقية، أو عسكرية، أو اجتماعية، تقوم على مبدأ الهيمنة أو الولاء والطاعة، بل فعلاً وقيادة تتم في تفاعل حيوي مع أحداث الحياة اليومية والمعيش المشترك. ما يجعل المجال مفتوحاً للتجربة والخطأ ويترك المستقبل العربي طي المجهول واللايقين. لقد قاد الشباب الثورات العربية في مرحلة الهدم، وهي ضرورة لا بد منها على كل حال، وغيّر الكثير من مفاهيم الثورة وصورها النمطية، لكنه لم تتح له الفرصة ليبدأ عملية البناء أو المشاركة بها.
[1] نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 50
[2] "الربيع العربي" بين الثورة والفوضى- خليدة كعسيس- خلاصي- آراء ومناقشات.
[3] "المجال العام" كمتخيَّل اجتماعي حديث- كريم محمد- مجلة إضاءات الإلكترونية.
[4] محمد قيراط – الفضاء العام في عصر الإعلام الجديد - بوابة الشرق الإلكترونية.
[5] نفس المصدر السابق.