المؤسسة الدينية في الاسلام موضوعا للدارسة بين التمركز على الذات وأسر النموذج الغربي
المؤسسة الدينية في الاسلام موضوعا للدارسة بين التمركز على الذات وأسر النموذج الغربي
عبداللطيف الهرماسي*
ما انفك النظر الفكري في طبيعة المؤسسة الدينية الإسلامية يثير الجدل وينتج اختلافات تبلغ أحيانا درجة انعدام التفاهم والتعارض الشامل بين موقفين حدّيين: موقف من يقرؤون وظائف هذه المؤسسة في ضوء أنموذج كوني مفترض تجسده الكنيسة المسيحية، خصوصا الكاثوليكية، وموقف من ينكرون بشدة كل محاولة للمقارنة أو التقريب بين الأنموذجين، وفيهم من يعترضون على تطبيق مفاهيم العلوم الاجتماعية لدراسة الإسلام التاريخي. ويبدو لأول وهلة أن الرهان في هذا الخلاف ينحصر في إبراز الحقيقة التاريخية أو أنه -على أقصى تقدير- خلاف بين دعاة الخصوصية الإسلامية، ومن يرفضون اعتبار الإسلام حالة استثنائية بالقياس إلى قانون مفترض يحكم عمل المؤسسات الدينية. في الواقع فإن هذا النزاع يُخفي رهانا آخر يتجاوز الماضي والتراث إلى الحاضر والمستقبل كما يتجاوز العلم إلى الأيديولوجيا: إذ يبدو كما لو أن (حسم) المسألة في هذا الاتجاه أو ذاك له نتائج سياسية ودينية وثيقة الصلة بالصراعات الدائرة حاليا، إما بتسويغ الدعوة إلى العلمانية وخاصة صيغتها القصوى: اللائكية بما تعنيه من فصل بين الدين والدولة، وحصر دور المؤسسة الدينية في الشؤون الروحية دون غيرها، وإما بإنقاذ أو استعادة دور الدين في توجيه كل من الشؤون الخاصة والعامة وتنظيم مختلف مناشط الحياة الاجتماعية.
المؤسسة الدينية في الإسلام: بين دعوى (الاستثناء الإسلامي) والإلحاق بالنموذج الكنسي
يتجاذب تَمَثُّلَ عدد من قادة الفكر في العالم العربي الإسلامي للهيئة أو المؤسسة الدينية في الإسلام موقفان إيديولوجيان متقاطبان يتجسمان، من جهة، في الموقف السائد لدى أهل الدين، والذي ينفي أن يكون ثمة في الإسلام (رجال دين) أو (سلطة دينية)، ومن جهة ثانية، في الموقف العلماني المكافح لفصيل من النخبة يضم عددا من المختصين في العلوم الاجتماعية والسياسية والقانونية ومن قادة الفكر والسياسة، لا يقف عند تأكيد وجود مؤسسات وسلطات دينية في الإسلام، بل يقرر وجود مؤسسة كنسية وكهنوتية كذلك به.
1- يُبْدِي أصحاب الموقف الأول نفورا إزاء كل محاولة لمقاربة المؤسسة الدينية الإسلامية باعتماد منهجية المقارنة القائمة على إبراز أوجه الشبه والاختلاف، ويدركون الخصوصية على معنى وجود (استثناء إسلامي)، أي تشكل الدين الإسلامي كحالة فريدة من نوعها، غير قابلة للمقايسة بغيرها، لا من قريب ولا من بعيد، وهو موقف يضع الدين الإسلامي في موقع اْلعَصِيِّ على كل محاولة للدراسة العلمية. ولنأخذ مثالا ينتمي إلى (الحد الأدنى) من هذه القراءة، وهو مفهوم (رجال الدين)، إذ يتم رفض هذا المصطلح بوصفه أجنبي المصدر، وخاصًّا بالكهان أو القسس في الدين المسيحي، أو من يقوم مقامهم في الديانات الأخرى. ويقدم لنا عبد العزيز البدري عينة ممثلة لهذا التوجه عندما يذهب إلى أن (كلمة رجال الدين تحمل مفهوما خطيرا ومعنى فاسدا سقيما. وقد استطاع الكافر المستعمر أن يركزه عند المطبوعين بثقافته، بل وصل الأمر أن ردّدها بعض علماء المسلمين اليوم دون أن يدركوا حقيقة معناها. إن هذه الكلمة اصطلاح أجنبي، أطلقه الغربيون على القسس والرهبان والأساقفة، وَصْفًا لهم وتقريرا لواقعهم (حيث) استقل رجال الكنيسة بالسلطة الروحية واحتفظ السياسيون بالسلطة الزمنية (...) أما الإسلام فليس فيه رجال دين ولا رجال دنيا، فكل مسلم هو رجل من رجال الإسلام، والمسلمون جميعا أمام دين الإسلام سواء)، ثم يضيف: (وقد سمّى الإسلام الذين تخصصوا في فهمه بالعلماء والفقهاء والمجتهدين)(1). ولأجل معالجة هذه القضايا بأكبر قدر من الموضوعية، فلا مندوحة من الاستناد إلى علم اجتماع للأديان يكون متحررا إزاء كل المركزيات، ويضع مسائله في سياقاتها الاجتماعية التاريخية.
تنشأ كل مؤسسة عن ضرورة ضمان الاستمرارية، وتنبثق المؤسسات الدينية عن وجود ضرورة ورهان يتمثلان في مواصلة نشر الدين، أيّ دين، بين الناس والعمل على التزامهم بعقيدته وطقوسه وأخلاقياته، بما يستتبع ذلك من دعوة وتعليم وتكوين للمريدين أو الأتباع، ومن نشوء أقطاب مشعة. وبالنسبة لكل الأديان التي تجاوزت المرحلة البدائية أو التي لا تقف أهدافها عند البعد النفعي والعملي - تنشأ المؤسسـة عن هذا التحوّل وتنمو بعلاقة بما يسميـه ماكس فيبر سيـرورة (العقلنة)(2)، أي النشاط الديني المتمثل في الصياغة المنهجية والنسقية لتعاليم العقيدة أو التقاليد المقدّسة، وتبسيطها وضبط وسائل حجاجها والدفاع عنها، بالإضافة إلى تنظيم الطقوس الدينية وضمان دوريتها ودوام ممارستها. ولا تستتبع عبارة (مؤسسة) في كل الحالات وجود تنظيم ظاهر ورسمي للمهام والمراتبيات، على الأقل في المراحل الأولى حيث يسود أسلوب العمل العفوي، ولكنها تقتضي بالضرورة وجود بنية أي شكل ما من العلاقات بين مختلف الأطراف المشاركة في العمل الديني. وتختلف بنية المؤسسة الدينية ومستويات وصيغ تنظيمها، فتتراوح بين الصلابة والمرونة وبين المركزية والتشتت. ولكن في كل الحالات لا يمكن للدعاة أو المبشرين بدين معيّن تبليغ مضمون الرسالة أو الرؤية الدينية الجديدة من دون تكوين سلك من الأتباع أو الأنصار، ومن دون إعادة الإنتاج الموسعة للجماعة الدينية الناشئة، وهو ما يتطلب قدرا أدنى من المراتبية ومن تقسيم العمل. وهكذا لا يتحقق النجاح والانتشار للدين، أيّ دين، إلا بإنتاج فئة تختص بمعرفةٍ أفضلَ للتعاليم أو بكونها قدوة للجماعة، فتكون هي الفئة المؤهلة والمأذونة للتحدث في الدين أو باسم الدين. ومهما كان مبدأ المساواة بين المؤمنين أمام الله أو مساواتهم في الدين حاضرا، وحتى في غياب سلك متخصص في شؤون العبادة أو محتكر لمعرفة (أسرار العقيدة)، وهو الشأن على العموم في الإسلام التاريخي، فلا مناص من ظهور فئة رجال الدين كشرط لاستمراريته، ولا مناص من مأسسة الدين بضبط الطقوس وتوجيهها، وبضبط النص المقدّس الملزم وحفظه والاشتغال عليه فهما وتفسيرا واستخراجا لما فيه من تعاليم عقدية وتشريعات ومبادئ أخلاقية، والعمل على ممارسة المؤمنين لتلك الطقوس والتزامهم بتلك العقائد، وتطبيقهم لتلك التشريعات وانضباطهم لتلك المعايير الأخلاقية، ولا مناص أخيرا من ظهور الاختلافات وحتى النزاعات حول تأويل النص المقدّس وأوجه تطبيقه على حياة الناس وأوضاعهم المتنوعة ومشاكلهم المستجدة مع ما يصحب ذلك عادة من انقسام (الجماعة) الدينية بين التيارات والمذاهب والطوائف، ومن تبلور مصالح دينية متعارضة.
ضمن هذا الإطار العام المستخلص من تاريخ وعلم اجتماع الأديان، وقبل عرض ومناقشة القراءة اللائكية لتاريخ المؤسسة الإسلامية - من المفيد أن نشير إلى بعض السمات التي ميّزت رجال الدين المسلمين في المراحل الأولى من تشكل هذه الفئة، وقبل تبلور التصوّف وظهور ما يعرف بالأولياء والطرق الصوفية.
لاشك أن من الأسباب التي جعلت الثقافة الإسلامية الموروثة لا تعرف مفهوم (رجال الدين) أن الأمر يتعلق بمجتمع يطالب فيه كل من بلغ سن التمييز أن يعرف (المعلوم من الدين بالضرورة)، وأن يكون قادرا على فهم كلام الله، وأن يعمل بما أوجبه وينتهي عما نهى عنه، كما يتاح فيه لكل من يحفظ بعضا من القرآن ويعرف قواعد الطهارة والصلاة أن يؤم الناس طالما لم يوجد من هو أعلم منه. وبالمقابل فقد شاع استخدام مصطلح (الفقهاء) أو (العلماء) للإشارة إلى النخبة الدينية، أي الشريحة المتمكنة من علوم الدين ومستلزماتها، وهي علوم المقاصد من تفسير، وقراءة، وحديث، وفقه، وأصول للفقه، وأصول للدين. بالإضافة إلى علوم الوسائل من لغة، ونحو، وصرف، وبلاغة، وميقات. وفي مجتمع يمثل فيه الفكر الديني الرؤية السائدة للكون، وتحتل قيمه وشريعته مكانة المركز في تأسيس الاجتماع المدني، كان من الطبعي أن يتبوأ العلماء منزلة مركزية في حياة المجتمع وسير مؤسساته، وأن يشكلوا واسطة - بالمعنى الذي سنوضحه عقب هذا - بين المدوّنة المقدّسة للقرآن والسنة وجمهور المسلمين. ذلك أن الانتقال من مستوى الفهم الشخصي للنص إلى القدرة على تعليم الدين وإنتاج المادة الدينية من تفسير أو تحقيق للنص أو استخراج للأحكام... إلخ، كل ذلك يقتضي توفر الكفاءة العلمية، إلى جانب التقوى، ويرفع من تتوفر فيهم هذه الصفة إلى مستوى السلطة الدينية والعلمية، أي السلطة المأذونة اجتماعيا للقيام على شعائر الدين وتعليمه، والاجتهاد في تطبيق تعاليمه على الأحوال المتغيّرة.
هذا الدور المتميّز لرجال الدين، وللصفوة منهم على وجه الخصوص عيّن لهم في إطار النظام الاجتماعي الإسلامي جملة من الوظائف في مقدمتها:
- الوظيفة الروحية والعبادية من غرس للإيمان وتعاليم الدين والسهر على القيام بفرائضه واجتناب نواهيه.
- وظيفة التعليم والإرشاد والإنتاج في مختلف مجالات المعرفة الدينية.
- الوظيفة التشريعية المتمثلة في الاجتهاد في استنباط الأحكام التي يحتاجها المجتمع المسلم وأفراده سواء في حقل العبادات أو المعاملات.
- وظيفة الاحتساب أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراقبة الأخلاق العامة.
- وظيفة القضاء.
- وظيفة نصح الحكام وتقديم المشورة.
وبذلك يتضح أن العلماء شكلوا هيئة أو مؤسسة بأوسع معاني الكلمة، بما أنها لم تتخذ شكل تنظيم يجمع صفوفهم، وأن هذه المؤسسة العالمة كانت تتمتع بسلطة اجتماعية واسعة تغطي المجالات الدينية والفكرية كما تمتد إلى العديد من الأنشطة المدنية أو الدنيوية المؤطَّرة بقيم الدين وتوجيهاته.
2- عند هذا الحد يطرح التساؤل عن طبيعة السلطة الدينية التي مارستها هذه المؤسسة العالمة وكذلك أشكال السلطات الدينية الأخرى التي أفرزها الاجتماع الديني الإسلامي، وهو تساؤل يضعنا أمام القراءة العلمانية المكافحة لبعض المثقفين العرب كما يقودنا إلى الرؤية المركزية الغربية التي لم يقدروا على الفكاك من أسرها.
سنقدم أنموذجين مختصرين من هذه القراءة، أحدهما لباحث من المشرق العربي، وثانيهما لباحث من المغرب العربي، وكلاهما من كبار المثقفين العرب، وممن نعتز بإسهاماتهم في إثراء حقل الدراسات الاجتماعية والتاريخية والقانونية، رغم اختلافنا معهما في جوانب من قراءتهما للموروث الديني.
يعتبر الباحث السوري عزيز العظمة أن (العلماء لم يكونوا نتاجا لفعاليات اجتماعية بحتة، بل مؤسسات علم رسمية متمايزة عن المجتمع، أعدت العلماء واستصفت الدولة منهم أرباب الوظائف (...). إن الجهاز الإداري للهيئة الدينية - القانونية يشكّل بكل المعايير التاريخية والسوسيولوجية كنيسة دولة يترأسها قاضي القضاة، وينتمي إليها القضاة ونوابهم، ومن يعيّنهم القضاة في الوظائف العبادية من إمامة وخطابة، وفي الهيئة الإدارية كهيئات إدارة الأوقاف والتصرف بأموال الأيتام والقُصَّر، والإشراف على الهيئات التربوية المتعلقة بهذه المؤسسة، أي المدارس ودور الحديث وتعيين مدرَّسيها، ثم الإشراف العام على سير المؤسسات العبادية الصوفية، أي الطرق والمباني العبادية والتربوية التابعة لها، والمصادقة على انتخاب شيوخها). ويضيف العظمة أن هذه الهيئة الدينية - القانونية، أو (السلك الكهنوتي – القانوني) كما يسميها في موضع آخر (سيطرت على نظم التربية والعبادة والقانون تماما كما سيطرت الكنيسة عليها في أوروبا (...) وقد ابتدأت هذه السيطرة الإدارية التامة منذ العهد السلجوقي في بغداد، والعهد الأيوبي في مصر، واستحكمت في العهد المملوكي برعاية من الدولة، ثم استمرت - وبإحكام أكبر وترتيب ونظام في الدولة العثمانية - إلى أن انفصلت الدولة العثمانية ثم الأقطار العربية المستقلة عن كنيستها انفصالا تربويا وقانونيا)(3).
وحول الموضوع نفسه يرى الباحث التونسي عياض بن عاشور أنه (من الخطأ افتراض التعارض الجذري بين مسيحية كدين له كنيسة، وإسلام بلا كنيسة. فالإسلام أيضا له كنيسته العالمة والشفيعة والمراتبية والشرعية، والعلماء يشكلون هيئة كنسية، ولا ينبغي لخصوصيات هذه أو تلك أن تنسينا هذا الأمر، فهنا وهناك يوجد احتكار لتأويل الكلام المقدّس وتوسّط بين إرادة الخالق وفعل الإنسان. إن الفقيه هو الذي يبيّن السبيل القويم، والمؤمن العادي -حتى وإن كان عاقلا وحسن التقدير- يعتبر نفسه مقيّدا بكلامه. فمن الواضح أن من يقلّد مذهبا معينا يجعل من إمامه وسيطا بينه وبين الله). كذلك يعترف هذا الباحث بأن التشفع أو التوسّط لا يكتسي في الإسلام الكثافة الرمزية نفسها ولا يحتل المكانة نفسها في المجتمع الإسلامي بالقياس إلى المسيحية، لكنه يؤكد صعوبة إنكاره كظاهرة(4).
هذه إذن ثلاثة إسهامات نموذجية في علم اجتماع الأديان صدرت عن علماء يجمع بينهم الموقف الفلسفي الإلحادي وتفرق بينهم الأصول والتراثيات الاجتماعية - الدينية. فدوركايم كما هو معروف ينحدر من عائلة يهودية، وفيبر من عائلة بروتستانتية، وبورديو من وسط كاثوليكي، ومع ذلك فلا العنصر المشترك ولا الأصول المختلفة حالت دون التقاء الثلاثة في تحليل الأنساق والمؤسسات الدينية بالاعتماد على أنموذج كوني مزعوم هو أنموذج الكنيسة المسيحية، بل الكاثوليكية (وللعلم فإن ماركس أيضا اعتبر المسيحية وحدها دينا كونيا). وإذا كان لذلك من مدلول، فهو ما تكشف عنه هذه التنظيرات من قوة النزعة المركزية الغربية وحضور الإرث المسيحي والرمزية المسيحية في قلب النظريات الاجتماعية الحديثة. وإزاء واقع الهيمنة العالمية للمركز الغربي لإنتاج العلوم الاجتماعية فهل نستغرب وجود باحثين عرب يشتغلون بالأدوات ذاتها؟ لننبه إلى أن غرضنا ابعد ما يكون عن التشهير بشخص هذا المفكر أو ذاك، بل يندرج في إطار عمل علمي لا يمنع فيه الموقف النقدي من الالتزام بأخلاقية البحث. إن ما نهدف إليه هو إبراز ظاهرة اجتماعية ثقافية تعرفها مؤسساتنا ونخبنا الفكرية والعلمية، وما النموذجان اللذان عرضناهما عن تحليل مثقفين عرب للمؤسسة الدينية في الإسلام إلا عينتان لممارسة نختلف معها رغم تقديرنا لجهود أصحابها في مجال التنوير الفكري والكشف عن مواطن وأسباب القصور في تعاطينا مع تراثنا الفكري. وعلى أساس هذا التوضيح ننتقل إلى مناقشة العينتين اللتين تم عرضهما.
الإسلام التاريخي ومفهوم الوساطة
يتعين ابتداء التمييز بين مفاهيم وظواهر غالبا ما يقع الخلط بينها، نعني بذلك وظيفة التوسّط والوظيفة الكهنوتية, وظاهرة احتكار التأويل الشرعي للنص المقدّس: فقد تجتمع هذه الأبعاد في مؤسسة واحدة أو في يد واحدة وقد لا تجتمع، ومن هنا تأتي أهمية التفريق بينها. وسنضع أنفسنا في دائرة ديانات الوحي ونجعل من الإسلام التاريخي والمعيش مصدرنا الرئيس للتمثيل على ما نقرره.
ويتمثل مقترحنا الأول في أن مفهوم التوسّط بين القوة المقدّسة والمؤمنين يشير إلى ثلاث فئات من الوقائع ومن ثم ثلاثة مستويات من الوساطة:
1- ينبع المدلول الأول من كون المقدّس لا يتجلى مباشرة للبشر بل عن طريق وسيط، وفي ديانات الوحي فإن الوسيط هو النبي الذي يبلغ الوحي، ويمكن القول أيضا بأن الكتاب المقدّس يحتل موقع الوساطة بما أنه يتضمن فحوى الخطاب الإلهي. بهذا المعنى فإن وجود الوسيط يتنزل منزلة الضرورة ولا يمكن الادعاء بأن دينا لا يعرف هذا النوع من الوساطة.
2- إن الوحي ما إن ينقل شفويا أو يسجل كتابيا ويتداوله المؤمنون حتى يصبح موضوعا للتفسير والتأويل، أي السعي لفهم معانيه وتطبيق تعاليمه وتبليغها. وتستدعي المحافظة على هذه الرسالة ونشرها وشرح مضامينها بالضرورة وجود فئة معترف لها اجتماعيا بالكفاءة في هذا الميدان وهم رجال الدين. فكل عمل من قبيل تجميع التراث المقدّس وتفسيره وصياغته في عقائد ومعايير أخلاقية وأحكام تشريعية فهو وساطة. إلا أن طبيعة هذا الصنف من الوساطة تختلف عن الحالة الأولى، وكذلك عن الحالة التي ستلي: فعالم الدين هنا لا ينقل عن الله أو عن مبعوث من ملائكته، وبالتالي فإن وساطته ليست بين الله والعباد، وإنما بين الكتاب المقدّس وبينهم. هذا على الأقل من حيث المبدأ، وفي هذا المعنى يندرج ما قام به أهل السلف من المسلمين والعلماء السنة والإباضية وكذلك الشيعة -من دون الأئمة الذين نسبت إليهم العصمة- واعتبروه ضمن دائرة الاجتهاد العقلي البشري في فهم كلام الله. وسنعود إلى هذا النوع من الوساطة الذي اتخذ في بعض الظروف والحالات طابع التفسير الملزم بل أعطى لنفسه سلطة في التشريع من موقع ادعاء المعرفة بحقيقة المراد الإلهي.
3- أما المدلول الثالث للوساطة فيرتبط بتلك الظاهرة التاريخية التي عرفتها ديانات قديمة على غرار الفرعونية والبابلية والإغريقية كما عرفتها اليهودية والمسيحية. عنينا بذلك مؤسسة الكهنوت كإطار عارف بالأسرار المقدّسة، ومكرّس بمقتضى طقوس محددة ومحتكر لسلطة الاتصال بالقوة المقدّسة، في هذه الأديان تشمل الوظيفة الكهنوتية سلطات الكهانة وتعليم الشرائع وتقديم القرابين كوسيلة للارتباط بالإلهي. فالكاهن هو الذي يضمن صلاحية الضحية وفعاليتها التشفعية. أما في الإسلام فكل مسلم يستجيب للشروط المطلوبة من ناحية العقل والطهارة يمكنه أن يؤم الناس ويعقد الأنكحة ويذبح الأضحية. ولذلك يلاحظ محمد أركون أنه (لا يوجد كهنوت في الإسلام حيث إن كل مؤمن في تواصل مباشر مع الله)(5).
على أنه ينبغي من وجهة نظر علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الدينية التمييز بين (الإسلام العالم)، و(الإسلام الشعبي) في معالجة أدق لهذه المسألة. من البيّن أن المؤسسة العالمة لا تعرف فئة من رجال الدين الذين يتعاطون (الأسرار المقدّسة). وينطبق ذلك على كل الوظائف الدينية بالمعنى الاجتماعي لهذه العبارة، ومن بينها الوظيفة الطقوسية المتمثلة في إمامة الصلاة. فالأئمة لا يتلقون أية أسرار، وتقديمهم على غيرهم يعود إما إلى معرفة أكثر بالدين وإما إلى عامل السن، وأحيانا لاعتبارات خاصة بالحكام في حالة الأئمة المعيّنين. كما أنهم ليسوا مكرسين بمعنى أنهم لا ينذرون حياتهم لله، خلافا للكهنة، وهم أشخاص يمارسون حياة عادية فيتزوجون ويعيشون من ثمرة عملهم في أنشطة اقتصادية أو تعليمية وما إليها، وكذلك لا يعاملون كشخصيات مقدّسة حتى وإن كانت لهم مهابة وحرمة. إن الإمام يرمز بالأساس إلى وحدة الجماعة الدينية ويمكن القول بأنه لا يكتسب قداسة إلا خلال اللحظات التي يصلي فيها بالناس، وهو في ذلك لا يختلف جوهريا عن حالة المصلي صلاة جماعية أو فردية. فقدسيته هنا متأتية في الحقيقة من قدسية الموقف: بما أنه في حضرة الله. ويختلف الأمر بالنسبة لما يعرف في أدبيات العلوم الاجتماعية بالإسلام الشعبي، وهو مصطلح غير دقيق، ويشير بالخصوص إلى ظاهرة التقرب للأولياء ممن تنسب لهم البركة والقدرة على إتيان الكرامات، والتوسّط لقضاء الحاجات. فمنذ عدة قرون دأبت فئة غير قليلة من المسلمين من أتباع التقليد السنّي على التقرب لهؤلاء (الصلحاء) بزيارتهم وتقديم النذور إليهم وزيارة مقامات أو أضرحة الموتى من بينهم، حيث توقد الشموع وترتفع أصوات التضرّع والتوسل إليهم. ومعلوم أن الفقهاء واجهوا هذه المعتقدات والممارسات بالإنكار عند ظهورها، وأن الاتجاه السلفي مازال يعتبرها بدعا ضالة. ولكن الهيئات العالمة انتهت في الغالب إلى التعايش معها، بل إن عديد العلماء، في منطقة المغرب العربي خاصة، انتموا للطرق الصوفية علما بأن الكثير من مؤسسيها ومشايخها كانوا يعتبرون في عداد (الصلحاء).
ومما هو جدير بالإشارة أن التصوف اقترن في الأصل، أي في مرحلته الفلسفية بفكرة نفي الوساطة من الأساس، وإمكانية مشاهدة الله بالقلوب دونما حاجة إلى الوحي ومبلّغه. وكانت المفارقة أن هذا التصوف بتخليه عن فكرة الحلول وتحوله إلى طرق ذات عمق شعبي وتضخيمه لظاهرة الكرامات أدى إلى انتشار الاعتقاد في الأولياء وفي قدرتهم على التوسّط. أما فيما يتعلق بالإسلام الشيعي، فنجد ظاهرة الإمام الذي تنسب إليه العصمة ومعرفة الغيب والقدرة على إتيان المعجزات، وهو كما أثبته المؤرخون الأصل الذي حاكاه المتصوفة. ولكن منذ غيبة الإمام أصبح فقهاء الشيعة هم الذين يتولون تفسير النصوص، بحيث يوجدون عمليا في الوضع نفسه الذي عليه بقية علماء المسلمين.
وفي ضوء ما سبق يتبين لنا الخلط الذي وقع فيه عياض بن عاشور عندما أكد أن الإسلام له كنيسة وبنى هذا التأكيد على وظيفتي (التشفع) و(احتكار تأويل الكلام المقدّس) اللتين نسبهما للعلماء، ثم راح يبحث عن سند لما ذكره في فقرة صغيرة وردت بكتاب (الذخيرة) لشهاب الدين القرافي. في تلك الفقرة يقول القرافي عن إمامه في المذهب مالك بن أنس أنه أملى في كافة فروع الفقه بخلاف الأئمة الآخرين الذين أفتوا فيما دون ذلك (وقام أصحابهم بتخريج بقية مذاهبهم على ما يناسب أقوال أئمتهم)، ثم يضيف: (ولا خفاء أن من قلّد مذهبا فقد جعل إمامه واسطة بينه وبين الله -تعالى- وسكون النفوس إلى قول الإمام القدوة أكثر من سكونها إلى أتباعه بالضرورة)(6). فعياض بن عاشور الذي أورد الفقرة الأخيرة في مقاله الصادر باللغة الفرنسية قام بخلط مضاعف. أوّلا عندما افترض وجود تطابق في المعنى بين مفهـوم (التشفـع) و(الشفيع) ومفهوم (التوسّط) و(الوسيط)، فنسب إلى القرافي ما لم يقله من أجل تأكيد ما ذكره عن التشفع لدى العلماء، وثانيا عندما اختزل مفهوم الوساطة إلى بعد واحد من أبعاده وهو الوساطة الكهنوتية التي غايتها التشفع، والحال أنه لا يمكن فهم الوساطة التي تحدث عنها القرافي إلا بالمعنى التام لقيام العالم بتفسير النص المقدّس، مما يندرج ضمن الاجتهاد العقلي، حتى وإن كان كلامه عن توسط إمام المذهب بين المقلد والله - يفتقر إلى الدقة.
حول احتكار تفسير النص المقدّس:
1-المنظومة الفقهية وسلطة التحليل والتحريم
لو أخذنا بعين الاعتبار ما تقدم فإن كل قول في التفسير أو الحديث أو الفقه يقرأه المسلم أو يسمعه يحتل موقع الوسيط بين الكتاب المقدّس وذلك المسلم، وعليه تصبح المسألة متمثلة فيما إذا وجدت نزعة لاحتكار حق تفسير الكلام الإلهي وبالخصوص ما إذا كانت هناك هيئات قد نجحت في فرض شرعية احتكارها. سوف نتعامل مع هذه القضية بأكثر ما يمكن من التجرد العلمي، ولن ننطلق من موقف مسبق يؤكد أو ينفي وجود مثل هذه الظواهر، كما أننا في تطرقنا للمذاهب والفرق الإسلامية سنتوخى الحياد. فمقالنا ليس بحثا دينيا وإنما هو بحث في علم الاجتماع الديني الذي نحاول البقاء ضمن حدوده والانضباط لقواعده. وتفاديا للإطالة والتشتت نقترح الانطلاق من المرجعيات الخاصة بالإسلام السنّي.
أول هذه المرجعيات هو الإجماع. وقد جاء المفهوم ليعبر عن إرادة تشكيل سلطة سيادية عليا ملزمة تنضاف إلى القرآن والسنة، أي سلطة اجتهاد جماعية ينضبط لها المسلمون. ولكن المشكلة كانت ومازالت تكمن في الاتفاق على تعريف مكونات الإجماع وشروطه، بل تتجاوز ذلك إلى إمكان تحققه أصلا. فمن المعروف أنه لم يحصل توافق داخل أهل السنة حول ما إذا كان الإجماع المقصود هو إجماع الأمة أم إجماع علمائها، وهل هو إجماع الصحابة أم إجماع علماء كل عصر، وما إذا كان إجماع عصر ما ملزما لمسلمي العصور اللاحقة، كما لا يوجد اتفاق على حصر ما أجمع عليه الصحابة، باستثناء أحكام قليلة. ومن المعلوم أيضا أن الظاهرية من أهل السنّة أنكروا إمكانية الإجماع، وأن الشيعة ينكرونه إلا إذا كان الإمام داخلا فيه، وأن بعض وجوه الفكر المعتزلي رفضوه. وبسبب عدم وجود الإجماع يصبح من المتعذر الحديث في هذا المستوى عن هيئة محددة تحتكر تفسير النص المقدّس. والواقع أن السلطة المسلم بها للإجماع من قبل السنّة ليست سوى تلك التي يريد التيار السائد داخل الإسلام السنّي إسباغها على تراث السلف أو على المحاولات المعاصرة للاجتهاد الجماعي في نطاق مؤسسات على شاكلة (مجمع الفقه الإسلامي) وهي هيئات بقيت بعيدة عن تمثيل العلماء وتحقيق إجماعهم.
أما المرجعية الثانية فهي مرجعية الاجتهاد. والاجتهاد له شروطه التي لا تتوفر لدى مجموع المسلمين، ولذلك أجاز الفقهاء تقليد عامة هؤلاء لخاصتهم وفي المقابل رأوا أنه ليس لمجتهد أن يقلّد مجتهدا آخر. وتطرح مكانة الاجتهاد وعمل المجتهدين مشاكل عويصة تضاف إلى تلك التي يطرحها الإجماع، علما بأن كلا منهما عمل ديني صادر عن البشر. فالاجتهاد نظر وتدبّر عقلي في الوحي لتطبيقه على واقع البشر المتغيّر، ولأنه عمل يقوم به الأفراد فهو باب للاختلاف، وإن كان لا يستحيل نظريا اتفاق المجتهدين على بعض المسائل المحددة. وفيما يخص المسألة التي نحن بصددها يتمثل الموقف النموذجي للفقيه في أن اجتهادات أئمة المذاهب والعلماء آراء ظنية في أغلبها و(لا يمكن أن يمثّل كلها شرع الله المنزّل على رسوله وإن كان يجوز أو يجب العمل بأحدها)(7). ومن الجدير بالذكر أن المجتهد في عهد الصحابة كان يحجم عن تقديم اجتهاده بوصفه (حكم الله) أو (شرع الله) بل يقول: (هذا رأيي)(8). ويذكر ابن قيّم الجوزية في الموضوع نفسه نقلا عن ابن وهب (سمعت مالكا يقول: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنا)(9).
يتعلق الأمر هنا بمسألة الحقيقة، وتحديدا بحقيقة ما شرعه الله وحقيقة حكم الله، وبالعوامل الدافعة للقول في شيء أو فعل (أحله) أو (حرمه الله) تأويلا أو تقليدا، وبجواز ذلك من عدمه، وبالأسباب التي جعلت الفقه يجوّز، عمليا، التحليل والتحريم، مع السعي لإيجاد صلات بين هذه الأحكام والخطاب القرآني، وهي صلات اختلف الفقهاء في عدد منها مما جعل بعضهم يتهم الآخر بكونه (يشرّع). وكان النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- حدد موقفا واتجاها في هذه المسألة عندما حذر أحد أمراء جيشه من إنزال الخصوم على حكم الله قائلا له: (فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك)(10)، وهو نهي واضح عن اعتبار حكم المجتهد بمثابة حكم الله.
حول احتكار تفسير النص المقدّس:
1- المنظومة العقدية ومقولة الحقيقة الواحدة:
من البدهي في مجتمع انبنى على أساس من رسالة دينية أن يكون القرآن هو المصدر الأعلى للحقيقة، مضافا إليه كلام النبي وأفعاله وما يمثله من قدوة. ولكن القرآن لا ينطق بذاته وكان لابد أن تطرح مسألة التأويل بعد ختم التنزيل وغياب النبي المبلغ والمفسّر له، وأن يتعامل المسلمون أفرادا وفئات مع مسألة الحقيقة انطلاقا من عالمهم الرمزي ومواقعهم ورهاناتهم. فما هي رهانات الأطراف التي انخرطت في نزاع طويل الأمد منذ اندلاع ما سمي بالفتنة الكبرى؟ هل كان موضوعها توزيع الغنيمة والموارد الاقتصادية بشكل عام؟ أم الجاه والنفوذ المتأتي من المكانة الدينية؟ أم الاستئثار بالحكم أو المطالبة بالمشاركة فيه ولو أدى الأمر إلى استخدام العنف ؟ أم الحفاظ على السلم الأهلية؟ ولو كان ثمنها التنازل لحكم العصبيات والقهر؟ أم حقيقة دينية تسمو على كل الاعتبارات السابقة؟ يبدو أن كل هذه الرهانات كانت حاضرة ولكن ليس بالضرورة لدى كل الأطراف ولا بالدرجة نفسها. ومع أننا لا نميل إلى التقليل من وزن الاعتبارات الدنيوية وفاعلية الآليات التي ينتجها المجتمع للتسامي بها وإعلائها إلى مصاف الصراع حول الحقيقة، فإنه لا يمكن في نظرنا فهم الصراعات الدامية التي انطلقت بمقتل الخليفة عثمان، بما فيها الاقتتال بين الإخوة، إن لم نضع في الاعتبار عنصر الإيمان بحقيقة تعلو على روابط الدم في مجتمع بدأ بالكاد يتجاوز وعيه القبلي ويندمج في الجماعة الإسلامية الناشئة. ولقد كان لتلك الأحداث نتائج ثقيلة في مقدمتها انقسام الجماعة المسلمة -فيما يتجاوز المبادئ الأساسية المكوّنة لوحدتها الدنيا- إلى تيارات سياسية دينية وعقدية راح كل منها يطرح تأويله للحقيقة وتصوره لقضية الشرعية باعتماد أدوات محددة لاستنطاق النص القرآني وتوظيف الحديث النبوي كما يضيف إلى المبادئ والأصول التأسيسية مبادئ وأصولا ثانوية ويبلور عقيدة أو مذهبا خاصا به يدافع عنه ويقدمه بوصفه (المنهاج الحق) في فهم وممارسة (دين الحق).
معلوم أن الفتنة الكبرى وما تلاها من استيلاء بني أمية على الحكم قد قاد إلى تشكل جماعات دينية سياسية طرحت موضوع الإمامة من منطلقات مختلفة. فالمحكّمة، وهم الدين أطلقت عليهم السلطة ومن يعاضدها على المستوى الفكري اسم الخوارج، اعتبروا الإمامة أو الخلافة حقا لكل مسلم وليست مقصورة على قريش أو العرب وأكدوا على حق المسلمين في اختيار الإمام وعزله أو الخروج عليه عند الاقتضاء. وفي المقابل اعتبر الشيعة أن الله هو الذي يختار الأئمة، واحتجوا بما يعتبرونه وحيا إلهيا إلى النبي باختيار علي إماما، مستنتجين من ذلك حصر الشرعية في آل البيت - كما نسبوا العصمة إلى أئمتهم، وأمام صعوبة التدليل على ادعاءاتهم بالرجوع إلى صريح النص وجدوا تعويضا عن ظاهره في القول بالتأويل الباطني.
وإلى جانب النزاعات الأولى التي تمحورت حول الإمامة أو الرئاسة، أفرز الصراع أسئلة عقائدية تدور حول مسؤولية الإنسان عن أفعاله وحول حكم مرتكب الكبيرة، ثم آل الأمر في علم الكلام إلى طرح إشكالية المحكم والمتشابه وتحوّل أهل الاعتزال من الدلالة الظاهرة للنص إلى دلالته المجازية وتقديم العقل على النقل.
ومعلوم أيضا أن صياغة العقيدة السنّية جاءت متأخرا، وأنها تمت كذلك في خضم التنافس والنزاع على توجيه الجماعة المسلمة ومن خلال جدلية الديني والسياسي. لقد ظهر تيار من سموا أنفسهم بأهل السنة والجماعة كتعبيرة سياسية دينية عن الاتجاه الذي هادن سلطان بني أمية سواء من باب الخضوع للأمر الواقع أو اقتناعا بضرورة وقف النزيف والحفاظ على وحدة المجتمع المسلم. وفي ذلك السياق برزت مدرسة الحديث معتمدة سلطة الخبر المنسوب للنبي من أجل تبرير نزعتها الاجتماعية وقولها بوجوب طاعة الإمام ولو كان جائرا. ورغم رفض رموز هذه المدرسة كمالك وابن حنبل اللجوء إلى علم الكلام والخوض في مسائله وتمسكهم بما كان عليه السلف، فقد تصدّى الاتجاه الأشعري للدفاع عن آراء السنة باستخدام سلاح الخصوم وتقاسم مع الموقف السلفي معظم الساحة السنّية.
المؤسسة الدينية الإسلامية بين الانتشارية والتنظيم البيروقراطي
حاولنا في الفقرات السابقة قراءة الواقع التاريخي للمؤسسة الدينية في الإسلام بالتمييز بين المفاهيم العامة والمفاهيم التاريخية والمفاهيم التي تحتل منزلة وسطا، وضمن الصنف الأخير تعاطينا مع مفهوم الاحتكار الشرعي لتأويل النص المقدّس مؤكدين ضرورة تنسيبه وربطه بخصوصيات الأديان والسياقات الاجتماعية التاريخية. وفي هذه الفقرة الأخيرة نتطرق إلى العلاقة بين سلطة المؤسسة الدينية وبنيتها التنظيمية من خلال المقارنة بين الأنموذج الكنسي والأشكال التنظيمية التي اتخذتها المؤسسة الإسلامية في المرحلة الثانية من تطورها.
ولعل خير ما نستهل به مناقشتنا للمتعلقين بكونية أنموذج الكنيسة التحليل الذي قدمه محمد أركون وهو كما نعلم من أبرز دعاة العلمنة فضلا عن امتلاكه للمعطيات المقارنة بين (مجتمعات الكتاب). يتطرق أركون في كتابه عن (العلمنة والدين) إلى ظاهرة إنتاج العقائد والقوانين المشتقة من الوحي وتشكلها ضمن سياج عقدي مغلق ينحصر داخله العقل البشري. وفيما يهم رجال الدين المسلمين أو الفقهاء يرى أنهم يتشكلون كسلطة عقدية، ويقومون بتفسير المصحف ليستخرجوا منه الفقه أو القانون، واللاهوت أو علم الكلام، ولينجزوا منظومة أخلاقية ومؤسسات، ثم يضيف إثر ذلك: (الواقع أنه يوجد عدد من التفاسير بقدر ما يوجد من المفسرين، بل حتى من القراء، فالقراء أيضا مفسرون على طريقتهم الخاصة. وبهذا المعنى فإنه لا يوجد سياج مغلق. في الكنيسة توجد سلطة تسيطر بشدة على كل تفسير للنصوص، وأما في الإسلام فلا توجد، ويمكن للتفسير أن يجيء من أي شخص، ولكن عليه أن يسمع صوته ويقنع الآخريـن، وإلا فإنه يبقـى مع قراءته الشخصية دون أي تأثيـر على الأمة أو الطائفة)(11). وفي تعليق على هذه الفقرة نقرأ لهاشم صالح وهو المترجم (الرسمي) لأركون وموضع ثقته ومتضامن مع فكره ما يلي: (هناك وزارة كبيرة في الفاتيكان لشؤون العقيدة الدينية والفتوى والاجتهاد، ولا يمكن لأي مسيحي أن يخرج عن فتاواها. أما في الإسلام فالأمور مختلفة من هذه الناحية، ولكن مع ذلك توجد مرجعيات كبرى للفتوى تفرض نفسها على الجميع سواء في جهة الإسلام السني أو الإسلام الشيعي. فممّا لا ريب فيه أن فتوى شيخ الجامع الأزهر أهم بكثير من فتوى أي مسلم عادي، وكذلك الأمر فيما يخص مراجع التقليد لدى الشيعة)(12).
لا يحتاج كلام أركون إلى تعليق، وفي المقابل يقتضي تعقيب مترجمه توضيحا. فمثلما رأينا يوجد في الإسلام تعدد للمرجعيات لا تعتبر اجتهادات أي منها ملزمة، إذ إن فتوى الفقيه لا تلزم إلا من استفتاه، وذلك خلافا لفقه القضاء. وعلى العموم من الصحيح أن فتاوى كبار العلماء لها وزن أكبر، وأن اتجاهات الهيئات الدينية في العقيدة والفقه كثيرا ما وجدت دعما من السلطات السياسية التي مارست ضغوطا لكي يتقيد الناس بها، ومع ذلك فليس من النادر أن تصطدم تفاسير وفتاوى كبار العلماء أو مجالس الشرع بمعارضة الجمهور من الفقهاء وعامة المسلمين، وانحيازه إلى فتاوى علماء أقل حظوة لدى السلطان، ولكنهم أكثر توافقا مع اتجاهاته أو همومه.
تبقى عناصر التحليل التي قدمها عزيز العظمة عن الجهاز الإداري للهيئة الدينية القانونية التي يعتبرها (كنيسة دولة) بسبب وجود سلطة دينية معيّنة من الحكام تتولى الإشراف على سائر الوظائف والمراتب الدينية، وما ذكره عن سيطرة هذا (السلك الكهنوتي القانوني) -على حد تعبيره- على نظم التربية والعبادة والقانون. حول هذه المسألة كنا رأينا ضرورة المأسسة ونشأة المراتبيات في كل دين يطمح إلى الاستمرار والانتشار، كما لاحظنا اختلاف بنيات المؤسسة الدينية وأشكال تنظيمها. ففي الإسلام السني، ولدى الإباضية، وحتى في الإسلام الشيعي اللاحق لمرحلة (الأئمة المعصومين) اتسمت المؤسسة الدينية على العموم بطابع انتشاري. لقد تشكلت مرجعيات متعددة حول شخصيات ومدارس وأحيانا تحولت إلى تقاليد فرضت نفسها بفعل عوامل تاريخية وسوسيولوجية، ولكنها لم تقم بكل وظائف السلك الكهنوتي، ولا اتخذت صيغ التنظيم المعروفة لدى الكنائس. ولكن هل يبقى ما قررّناه صحيحا باعتبار التطور الذي شهدته المؤسسة منذ عهد المماليك؟.
لنلاحظ بادئ ذي بدء أن عزيز العظمة -وهو يتطرق إلى الإدارة التي يرأسها قاضي القضاة- تجاهل مغزى التفريق الذي أقامه تاج الدين السبتي بين العلماء كالمحدث والمفسر ونحوه وأرباب الوظائف كالقاضي والمحتسب والمدرّس. فقد أقرّ شكلا بوجاهة ذلك التمييز ثم ألغاه بحجة أن (كل أرباب الوظائف كانوا من العلماء) وهو ما يدعو إلى التساؤل: كيف يمكن أن نتحدث عن (كنيسة دولة) في مجتمع إسلامي ونستثني من صفوفها العلماء الذين ليست لهم صفة الموظفين أو الذين لا يقعون تحت سلطة موظفي الجهاز الديني ؟ ثم هل يصح اعتبار قاضي القضاة وبصورة آلية بمثابة السلطة الدينية العليا رغم وجود عديد العلماء الكبار المستقلين عن الهيئة الرسمية والذين يشكلون سلطات موازية أو معارضة (لنتذكر المثال الشهير لابن تيمية بما يمثله من وزن ديني وعلاقته النزاعية مع هيئة قاضي القضاة ؟).
ولنفترض الآن أن الشكل الإداري الذي اتخذه جناح من المؤسسة الدينية في عهد المماليك لم يكن سوى حالة انتقالية نحو شكل (مكتمل البناء) هو مؤسسة شيخ الإسلام العثمانية، وهو ما يفهم من كلام العظمة، فما هي الشروط التي حفت بإنشاء هذه المؤسسة وهل تصحّ المماثلة بينها وبين كنيسة الدولة؟
يلاحظ وجيه كوثراني أن منصب مفتي العاصمة أو مفتي المملكة العثمانية ظهر في منتصف القرن الخامس عشر. ورغم أهمية هذا المركز والتقدير الذي يحظى به متقلده، فإنه لم يكن في بداياته طرفا ضمن أعلى هيئة سلطانية حاكمة وهي الديوان، خلافا لقاضي العسكر مثلا. وكان مفتي العاصمة في البداية جزءا من الحركة العلمية الدينية الناشطة ومن حالة الزهد والصوفية. وقد حدث التحوّل في أواسط القرن السادس عشر عندما سمّي أبو السعود أفندي شيخا للإسلام، وشغل هذه الخطة في عهد السلطانين سليم وسليمان القانوني، ومنذ ذلك الوقت تحوّلت وظيفة الإفتاء (من دور ذي طابع إسلامي اجتهادي ومستقل ومنفتح إلى دور ذي طابع إداري ومؤسسي منضبط داخل قوانين الدولة). من جهة ثانية، لم يكن حق الفتوى حكرا على المفتي الرسمي وظل يمارس علنا حتى نهاية مشيخة أبي السعود وربما بعده. أما في المرحلة اللاحقة فلم يقف الأمر عند إقفال باب الاجتهاد بل (تعداه مع تفاقم أزمة السلطنة ودخولها مرحلة التقهقر إلى حظر كل قراءة خارج كتب الأحكام الفقهية الناجزة)(13).
وعلى العموم يُسْتَخْلَصُ من تحليل هذا الباحث أن مشيخة الإسلام العثمانية كرست حالة من الارتباط العضوي بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، بل حالة من تبعية الأولى للثانية وتحوّلها إلى (سلطة إيديولوجية للنظام العام) و(سلطة بيروقراطية دينية تخاف الاجتهاد وتمنعه)(14).
أما عن هيكل هذه المؤسسة البيروقراطية فإن شيخ الإسلام يرأس هيئة العلماء في العاصمة، وهو الذي يتولى تعيين الفئة العليا منهم. وهو كذلك رأس الهيئة الإسلامية المؤلفة من مُفْتِي عواصم الولايات وقضاة المناطق والمدرّسين وأئمة المساجد السلطانية والدراويش من رؤساء الطرق الصوفية، وهو تنظيم استوحاه البايات والدايات العثمانيون في تونس والجزائر مع بعض التعديلات. ويبدو من هذا البناء الهرمي أنّ الدولة العثمانية تأثرت بموروث الكنيسة البيزنطية فأحدثت مراتبية رسمية داخل الإسلام السني مشابهة لنظام الكنيسة، إلا أن الشبه هنا شكلي وجزئي. نعم، لقد عرفت المجتمعات السنّية الخاضعة للسيطرة العثمانية وظيفة شيخ الإسلام (والباش مفتي) ومجالس الشرع المكونة من المفتين والقضاة وفقا لانتمائهم المذهبي، إلا أن هذا التنظيم البيروقراطي لقمة المراتبية الدينية لم يكن يجد ما يضارعه في قاعدة الهرم، ولم يحل دون وجود نخب وسلطات دينية موازية ومستقلة. لذلك فإن الجزم بالتماثل بينه وبين السلك الكهنوتي ومؤسسة الكنيسة ليس سوى محاولة للتعسّف على الواقع وانشدادا إلى نموذج يبقى خاصا مهما ادعى الكونية.
********************
الحواشي
*) باحث وأكاديمي من تونس.
1- عبد العزيز البدري، الإسلام بين العلماء والحكام، الجزائر، دار الأمة، ب.ت.، ص25-29.
2- عزيز العظمة, العلمانية من منظور مختلف، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1992م، ص52-53.
3-plon, 1971,p 473-474 max weber, econmie et societe, paris,
4-Yadh Ben Achour, Normes, Foi et Loi, Tunis, Ceres Editions, 1993, p.75-76.
5- محمد أركون، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، لندن، دار الساقي، 1990م، ص131-136.
6-Yadh Ben Achour, op.cit., p.76
والفقرة موضوع النقاش وردت في كتاب (الذخيرة) المنشور من طرف كلية الشريعة بالجامعة الأزهرية سنة 1961م، ص33.
7- وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، دمشق، دار الفكر، 1997م، ج 1، ص88.
8- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
9- ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، القاهرة، دار الكتب الحديثة، 1969م، ص40-41.
10- المرجع السابق، ص40.
11- محمد أركون، العلمنة والدين، ترجمة هاشم صالح، لندن، دار الساقي، 1990م، ص86.
12- انظر: هوامش الكتاب المذكور، ص130.
13- وجيه كوثراني، الفقيه والسلطان، بيروت، دار الطليعة، 2001م، ص66-71.
14- المرجع السابق، ص71-72.