قبل أن يأتي الغرب: ثقافتنا قبل الاستعمار
ضمت الحملة قرابة ستة وخمسين ألفا من الجنود والضباط، ومائة وسبعين من العلماء، ومكتبة تحوى مئات الكتب، ومطبعة بالحرف الفرنسي والعربي واليوناني.
على مدار أكثر من عشرين عاما، قبل الاحتلال، أغرت مصرُ الخيال الفرنسي للسيطرة عليها طمعا في الاستحواذ على ثوراتها، وتجارتها، التي كانت من أهم التجارات العالمية بين الهند وبقية العالم، والتي نشطت فيها الموانيء المصرية على البحر الأحمر خاصة القصير وعيذاب.
وفي تلك السنوات قدم الرحالة الفرنسيون مثل: “كلود إيتان سافاري”[1] Claude-Étienne Savary الذي كان يجيد العربية، وزار مصر عام 1776م، وقضى فيها ثلاثة أعوام، وأصدر كتاب “خطابات عن مصر” عام 1786م، تحدث فيه عن الرخاء والجواري الحسان، والأرض التي لا تكل عن إخراج الخير، لذا وزع نابليون بونابرت الكتاب على جنوده أثناء رحلتهم للغزو، أما “تشارلز نيكولاي سونيني”[2] Charles Nicolas Sonnini في كتاب “”رحلات إلى مصر العليا والسفلي” فنزل إلى الصعيد وعاش بين أهله وكتب عنهم، وكذلك ” فولني”[3] Volney ذلك المحامي الشاب الذي قضى عاما كاملا في تدريب نفسه على المبيت في العراء وركوب الخيول بلا سرج، قبل أن يأتي مصر، وزارها سبعة أشهر وأخرج أهم كتاب استعان به الساسة الفرنسيون لفهم مصر قبل احتلالها، وهو “الرحلة في مصر وسوريا”[1]، وقد التقى نابليون قبل إبحاره إلى مصر بـ”فولني” واستمع منه إلى نصائح للسيطرة على البلاد، كما غذت تقارير القناصل الفرنسيين الحكومة للمضي في مشروع الاستعمار، خاصة : شارل ماجالون” Charles Magallon الذي قضى في مصر أكثر من خمسين وعشرين عاما، وكانت تقاريره من أهم ما شجع على احتلالها، تعويضا لفرنسا عن المستعمرات التي خسرتها في القارة الأمريكية، وخسارئها في الحروب الأوروبية.
وبعيدا عن الدوافع الفرنسية الاستعمارية، هل كانت مصر صفحة بيضاء نقش الفرنسيون حروفها؟ وهل كانت ظلاما أضاء فيها الفرنسوين أنوار الحضارة؟ وهل كانت ظلما كبيرا أقام نابليون فيها صروح العدل وميزان الإنسانية؟!
الحقيقة ظهرت كتابات كثيرة لأنصار الفرانكفونية تزعم أن مصر كانت جهلا مطبقا، وأن الحملة أخذت بيدها إلى سلم الحصارة والرقي، وأنها نبهت فيها غرائز التحضر والثقافة، ومن ثم تبرر هذه الرؤى الغزو، وتعتبر عشرات الالاف الذين قتلوا أثناء الحملة أمرا مقبولا مقارنة بالمكاسب التي حققتها مصر خلال القرنيين الماضيين، ويستعيد هذا المقال بعضا من تاريخنا الثقافي والاجتماعي قبل أن يأتي الغرب.
الوعي والمقاومة
قضى الفرنسيون أكثر من ألف يوم في مصر، لم تخل من مقاومتهم يوما واحدا، ومعلوم أن المقاومة أعلى درجات الوعي الحضاري، والوعي هو حصيلة نضج وتطورات واسعة وعميقة، وقد شهدت الفترة من (1760 إلى 1790م) صحوة وبداية نهوض أدبي وعلمي وثقافي، تجلى في ظهور عدد من العلماء الموسوعيين، ووفرة في إنتاج الكتب والمعارف في شتى المجالات، بما فيها العلوم الطبيعية والرياضيات، فظهر “مرتضى الزبيدي” (1732-1790م) صاحب “تاج العروس” أهم المعاجم التي عرفتها الثقافة العربية، والذي قضى في تأليفه أربعة عشر عاما.
قدم الزبيدي مصر عام (1754م) وهو في العشرين من عمره، وأحدث نهضة علمية واسعة، وكانت له دروس من تقاليدها أن يسجل فيها أسماء الحاضرين، وكانت النساء من بينها، والملفت أن الزبيدي بدأ في تأليف موسوعته الضخمة وهو التاسعة والعشرين من عمره، وفرغ منها وهو في الرابعة والأربعين، وكان يطوف كثير الدن العلمية في الشام وصعيد مصر يُملي فيها دروسه، وكان يدرك أنه لا نهوض حقيقي بدون نهوض لساني ولغوي، كما ألف كتابا مهما هو “إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين” استغرق إملاؤه (11) عاما.
ويأتي الشيخ “حسن الجبرتي” (ت: 1188هـ=1774م) كأحد العلامات على وجود نهضة علمية، وهو والد المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، وكان الشيخ حسن[4] قاضي الحنفية، وفي الرابعة والثلاثين من عمره تفرغ عشر سنوات لتحصيل علوم الرياضيات والفلك والكيمياء والهندسة والميكانيكا، وكان بعض الأوروبيين يحضرون دروسه في الفلك والميكانيكا، والطريف أنه بجانب إلمامه الواسع بالعلوم الشرعية، والطبيعية، كان بعض الصُناع يتعلمون على يديه فنون الصناعة والحرف مثل: الرخام أو البناء، وكان بيته يزخر بكل آلة وأداة، ، وترك بعض الرسائل والكتب[2]، لذا اعتبره العلامة أبو فهر محمود شاكر، أحد العلامات البارزة في النهضة العربية الحديثة.
أما الشيخ أحمد الدمنهوري (ت:1192هـ=1778م)، فكان شيخا للأزهر، وعالما بالمذاهب الأربعة، وله علم واسع بالطب والجيولوجيا والفلك والهندسة[3]، كما عرفت مصر في تلك الفترة أكثر من عشرين كتابا في الرياضيات، واشتهر من علماء الرياضيات: الشيخ “أحمد السجاعي” (ت:1197-1783م) والذي ألف منظومة في الكسور، والشيخ “محمد بن موسى الجناحي”(ت: 1200هـ=1786م) أشهر مدرسي الرياضيات، والذي درس الرياضيات للشيخ حسن الجبرتي، وابنه المؤرخ عبد الرحمن، أما في علم الفلك فظهر “رضوان أفندي الفلكي الرزاز” (ت:1823م) ومن مؤلفاته ” دستور أصول علم الميقات ونتيجة النظر في تحرير الأوقات” و” طراز الدرر فى رؤية الأهلة والعمل بالقمر”، وقال عنه الجبرتي : بأن له “تآليف وحسابيات وتحقيقات لا يمكن حفظها لكثرتها، وكتب بخطه ما ينيف عن حمل بعير مسودات وجداول وحسابيات” كذلك ظهر مصطفى الخياط، الذي كان يستخرج في كل عام تقويما للسنة الشمسية ليستفيد منه الناس في معرفة الأهلة، والفلكي الشهير عثمان الورداني، ومن مؤلفاته ” السلك القويم في معرفة التقويم من الدر اليتيم” وفرغ منه (1210هـ=1795م) أي قبل الحملة الفرنسية بثلاث سنوات.
مجتمع بعيد عن الفوضى
لم يكن المجتمع المصري قبل قدوم الفرنسيين مجتمعا فوضويا، ولكنه كان منظما في طوائف وحرف وطرق صوفية وجماعات علمية ومذهبية، وقدر بعض المؤرخين عدد الحرف والمهن في القاهرة وحدها بأكثر من (250) طائفة، وهو تشكيل يشبه النقابات في وقتنا الحاضر، وكانت تضم عشرات ومئات من أبناء المهنة الواحدة، ولها شيخ تنقاد له، يرعى مصالحها ويحقق قدرا كبيرا من التضامن الاجتماعي والتطوير المهني، وإذا علمنا أن عدد سكان القاهرة كان يتجاوز المائتي ألف نسمة، لأدركنا أن غالبية المجتمع القاهري كان مؤطرا في طوائف تحميه وتضمن ترقيته في مهنته وتوفر له قدر من الاستقرار والتماسك الاجتماعي، كذلك حدث نوع من الانفتاح بين الطرق الصوفية وبين تلك الطوائف والمهن، وهو ما حقق للطائفة أبعاد روحية تجلت في الصناعات والأعمال، وربما هذا التنظيم المجتمعي القوى جعل القاهرة بؤرة غضب ضد الاحتلال، لذا دمر الفرنسيون أكثر من مائة طائفة وحرفة قبل خروجهم عام (1801م).
وعلى المسوى السياسي كان علماء الأزهر، بجانب كونهم نخبة علمية وتعليمية، كانوا أيضا طليعة المجتمع في الدفاع عن حقوقه ضد الطبقة العثمانية والمملوكية المحتكرة للقرار السياسي والقوة العسكرية، فشهدت الفترة حضورا طاغيا لعلماء الأزهر في مواجهة الاستبداد والظلم، وهو ما ينفي مقولات الخطاب الاستعماري الزاعم: أن حملة نابليون ما جاءت إلا لتخليص المصريين من جور وظلم المماليك، فمثلا في العام (1191هـ= 1777م) قاد شيخ أزهري بلغ من العمر سبعين عاما هو الشيخ أحمد الدردير، جماهير الغاضبين في الأزهر ضد طغيان الجنود المماليك، وعقدوا اتفاقا مع المماليك كان من بنوده ألا يمر بعض قيادات المماليك من حارة الأزهر، فأرسل إبراهيم بك –أحد كبار المماليك- يتوسط عند المشايخ لعدم تنفيذ هذا البند قائلا:” ان الطريق يمر بها البر والفاجر ولا يستغني الحكام عن المرور”، فقبل المشايخ شفاعته، وعندما اختلفت الدولة العثمانية مع قيادات المماليك، التي كانت تدير شئون مصر، وجرد العثمانيون حملة لتأديبهم بقيادة حسن باشا عام 1786م، وأراد الباشا العثماني أن يبيع زوجات المماليك تصدى له علماء الأزهر والمتصوفة خاصة الشيخ “محمد أبو الأنوار السادات” الذي قال له متعجبا: “أنت أتيت إلى هذه البلدة وأرسلك السلطان إلى إقامة العدل ورفع الظلم كما تقول، أو لبيع الأحرار وأمهات الأولاد وهتك الحريم؟!”.
قبل أن يأتي الغرب كانت مصر مشروعا للتحديث والنهوض يختلف عن التجربة الأوروبية، وكان فيها بوادر نهضة تتنفس تنفسا طبيعيا، وصحوة فكرية تسعى لانتاج مشروع نهضوي نابع من تاريخها واحتياجها، وليس نبتا غريبا عن تربتها أو أحلامها.
المراجع
*عبد الله العزباوي-الفكر المصري في القرن الثامن عشر بين الجمود والتجديد-دار الشروق-القاهرة-2006
*بيتر جران-الجذور الإسلامية للرسمالية: مصر 1760-1840-ترجمة محروس سليمان-دار الفكر للدراسات والنشر-القاهرة-1992
*أحمد زكريا الشلق- الحداثة والإمبرالية: الغزو الفرنسي وإشكالية نهضة مصر-دار الشروق-القاهرة
*عادل سليمان جمال-جمهرة مقالات الشيخ محمود محمد شاكر-الجزء الثاني-مكتبة الخانجي- القاهرة
*ناصر عبد الله عثمان-قبل أن يأتي الغرب: الحركة العلمية في مصر في القرن السابع عشر- دار الكتب والوثائق القومية-2006
[1] كلود إتيان سافاري قدم إلى مصر 1776، وكان مولده سنة 1750، وكان في السادسة والعشرين من عمره حينما اعتزم الرحلة إلى المشرق وقضى في مصر ثلاثة أعوام طاف خلالها أرجاء الديار المصرية من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، وزار جميع معالمها ومعاهدها وآثارها، ودرس جميع أحوالها وشئونها ومجتمعاتها، ودرس اللغة العربية والدين الإسلامي، توفي في باريس وهو دون الأربعين من عمره 1788م
[2] تشارلز نيكولاي سونيني (1751-1812) ، أحد النبلاء والطبيعيين الفرنسيين، تم نشر تاريخ سفره إلى مصر بعد حوالي عشرين عامًا ، في عام 1798 .
[3] قسطنطين فرانسوا ڤولني François de Volney (1170م – 1820 م) هو فيلسوف ، مؤرخ ، رحالة ، مستشرق و سياسي فرنسي. يشتهر بإسم ڤولني
[4] كتب ابنه عبد الرحمن الجبرتي ترجمة له في كتابه “عجائب الآثار” تزيد على (120) صفحة
[1] ترجم إدوار البستاني هذا الكتاب بعنوان “ثلاثة أعوام في مصر وبر الشام” وصدر عام1949
[2] تحدث الجبرتي الإبن أن أباه حسن ترك ما يقرب من عشرين رسالة منها: “رفع الإشكال في حكم ماء الحوض”، و”نزهة العين في زكاة المعدنين ” و”حقائق الدقائق ” رسالة في المواقيت، و”المفصحة فيما يتعلق بالاسطحة ” و”أخصر المختصرات على ربع المقنطرات” في الفلك، و”العقد الثمين فيما يتعلق بالموازين ” و”الأقوال المعربة عن أحوال الأشربة “
[3] ومن رسائل الشيخ أحمد الدمنهوري: “رسالة عن الحياة فى علم استنباط المياه» وهى رسالة تبحث فى علم استخراج المياه الجوفية، وله كتاب فى التشريح بعنوان: “القول الصريح فى علم التشريح”، و فى علم الهندسة:”عقد الفرائد فيما للمثلث من الفوائد”، و “القول الأقرب في علاج لسع العقرب”
المصدر: https://islamonline.net/30456