نقانق، سوريون وألمان
محمد غيث الحاج حسين
من يدرك قيمة التّنوع، لا يمكنه أن يفقدها مرّة أخرى” ص216. أحياناً تعكس مصائر الجماعات البشريّة قيماً مّا، تخالف فيها ما تواضع، واتّفق عليه الحسّ السّليم، ومن هذه القيم، مسألة التّنوع والتّعدد بكلّ أشكاله، في المجتمع. في الحالة السوريّة كان من المفترض أن يكون التّنوع الثقافي والإثني والديني والعرقي، أو الفسيفساء السوريّة، الّتي تقال أحياناً من باب التّهكم، عامل إثراء وإغناء للمجتمع. ولكن في ظلّ ما حدث، ويحدث من صراعات وحروب دوليّة في سوريا، بدا وكأنّه عنصر تدمير وتفتيت، تستخدمه جميع الأطراف، حسب الحاجة، لصالحها الخاصّ، سلباً أو إيجاباً. في ألمانيا المسألة مختلفة نوعاً مّا، فالمجتمع الألماني، الّذي لا يحمل سوى القليل ممّا يمكن أن يقال عنه، تنوّع وتعدّد ثقافي وإثني وديني، مقارنة ببلد مثل سوريا، استطاع أن يتجاوز كارثة الحرب العالميّة الثانية، والتّقسيم إلى ألمانيا غربيّة وشرقيّة، بالاستفادة من عوامل كثيرة، ربّما كان أحدها عدم وجود هذا التّنوع. ولذلك يحاول اليمين المتطرّف أن يُظهر للمواطنين الألمان، التّنوع، وكأنّه شبح يهدّد بتفتيت المجتمع وإضعافه، بل وسرقته من أصحابه.
“جذوري سوريّة، ولكنّي لا أعتبر نفسي سوريّة، بالمعنى الّذي يمكن أن تفهمه إمرأة سوريّة تعيش فيها” 211 هذا ما تقوله لمياء قدور عن نفسها. هي سيدة ألمانيّة من أصل سوريّ، قَدم والدها إلى ألمانيا في أواسط السّبعينات للعمل فيها، وبعد فترة قصيرة استقدم عائلته إليها، وفيها ولدت ابنته لمياء. هي من الوجوه الّتي تحضر كثيراً في الإعلام الألماني، بوصفها “خبيرة معروفة بشؤون الإسلام” في ألمانيا، كما ساهمت في تأسيس الاتّحاد الإسلاميّ الليبراليّ الّذي ينطلق من رؤية عصريّة للاسلام، تتناسب مع الزّمان والمكان الّذي يعيش فيه المسلم بعيداً عن الفهم الأصوليّ للدّين الإسلاميّ. الحضور الإعلامي لكاتب أو كاتبة، متخصّص في الإسلام، في بلد غربيّ، مثل ألمانيا، يجلب لصاحبه الكثير من النّقد، وقد يصل الأمر إلى التّهديد بالإيذاء الجسديّ، إذ من الصّعب عليه أن يرضي أحداً من الأطراف، سواء أبناء البلد الجديد الّذي ينتمي إليه، أو أبناء البلد الأصليّ الّذي قدم منه أهله وأجداده.
في كتابها الصادر حديثاً “قضيّة النّقانق (Bratwurst)، الجانب الآخر من حياتي الألمانيّة” تحكي لمياء قدور، عن عائلتها وطفولتها في ألمانيا، وعن المجتمع الّذي نشأت فيه، وأيضاً عن سوريا، الّتي عرفتها من خلال زياراتها مع أهلها لمسقط رأسهم في القرية، الّتي تنتمي لريف مدينة حلب. الكتاب مناسبة لاستعراض بعض الجوانب الحياتيّة لطفلة وصبية، من عائلة سورية في ألمانيا الثّمانينات والتّسعينات، ومقارنتها بحال وظروف اللاّجئين السوريين القادمين حديثاً إلى ألمانيا جرّاء الحرب الدّائرة في بلدهم. قد يعتقد القارئ أنّ سوريا ولاجئيها، بعد عام 2011، ستحتلّ حيزاً كبيراً من الكتاب، ولكن أمله لن يتحقّق مع ثلاث صفحات تحدّثت فيها عن تغير البلد جذرياً بعد هذا التّاريخ، وعن إصابة والدها، جرّاء قصف قوّات التّحالف لقريته، الّتي كانت تحت سلطة تنظيم الدولة الإسلاميّة، وكيف تمّ نقله إلى ألمانيا. وعدا ذلك لا توجد سوى إشارات متفرّقة عن الحدث. ولا يخرج القارئ بتفسير واضح لذلك في ثنايا الكتاب، رغم أنّها تقول أنّها استمعت وهي طفلة، إلى تعليمات أهلها المتكرّرة والجازمة، ألا تثق كثيراً بالسوريين الآخرين، وألا تتحدّث مع الغرباء عن سياسة البلد بشكل عام، خوفاً من المساءلة الأمنيّة، خاصّة في فترة الثّمانينات.
تنتمي لمياء قدور إلى عائلة سوريّة مسلمة، تتميّز بفهم بسيط، وفطري للدّين، يبتعد عن التّعصب والانغلاق، وفيه يكون القول الفصل لعمل الإنسان، ونيّته، وليس لخلفيته الدينيّة أياً كانت. وربّما كان لهذا الأمر أثره في تكوينها الثقافي اللاّحق. “كنت طفلة تريد أن تعرف الكثير الكثير، ولا تحصل إلّا على القليل من الأجوبة” ص 58. ولكن بعضاً من هذه الأجوبة كان مفيداً للغاية، فعندما تناولتْ مرّة النّقانق (Bratwurst)، ثمّ عرفت أنّه يتكوّن من لحم الخنزير، شَعرتْ بكثير من الخجل والإثم، لأنّها تعرف تماماً أنّه ممنوع عليها كمسلمة، تناول لحم الخنزير. تنقل إلى أمّها ما جرى، فتبادرها أمّها بالقول: أنّه ما دام الأمر قد تمّ بطريق الخطأ، وأنّها لم تتقصد أكله، فهذا يعني أن ذنبها مغفور. وتقول الأم لابنتها عن الله “نحن لا نتصوّره رجلاً بلحية طويلة، لا يمكننا مطلقاً تصوّره على هذا النّحو! ببساطة إنّه هنا. نحن كبشر ليس بمقدورنا أن نفهمه! هل فهمت ذلك يا لمياء” ص 61. ولاحقاً عندما تكبر، سيواجهها سؤال دائم هو، لماذا لا ترتدي الحجاب، مع أنّها باحثة متخصّصة في الإسلام؟ وتجيب دوماً أنّ الحجاب صالح فقط للمجتمع المحليّ الّذي نشأ منه، ولا يناسب بلداً مثل ألمانيا في القرن 21. ومجتمع شبه الجزيرة العربيّة الّتي ظهر فيها الحجاب، قُصِدَ منه حماية المرأة من الآخرين، ومن المضايقات الّتي يمكن أن تتعرّض لها، وهي الّتي تنتمي لقبيلة معينة، ما قد يخلق نزاعات قبلية، أمّا في ألمانيا فالقانون هو الّذي يحمي الجميع. كما أنّه في نهاية الأمر، مسألة اختيار شخصيّ يعود للمرأة وحدها الحقّ في البتّ فيها.
تجابه وتؤرق قضية النّقانق (لحم الخنزير) والحجاب وغيرها من التفاصيل اليوميّة، الكثير من عائلات السوريين والعرب، الّذين يبالغ بعضهم في الخوف على أطفالهم من تناول لحم الخنزير، أو التّأثر بعادات المجتمع الألماني، خوفاً من الابتعاد عن قيم الدين الإسلاميّ، ضمن تقييم مسبق، وغير دقيق لطبيعة الحياة الجديدة في البلد الّذي قدموا إليه كلاجئين، فهم أيضاً لديهم صور، وأحكام نمطيّة جائرة عن سكان البلد المضيف. وهو أمر أصبح يلفت نظر النّاس العاديين من الألمان، ويستدعي من بعضهم أحياناً ردوداً غاضبة وانفعاليّة، سرعان ما تلتحم مع التّصور السّائد في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيّ. وهذا يُبدد نوعاً مّا، أثر مفهوم الاندماج، الّذي يحمل في طياته نوعاً من التّعالي، عندما يرتبط فقط بطرف واحد، أي باللاجئين، وما عليهم فعله حتّى يندمجوا، أو يصبحوا مؤهلين للعيش في كنف المجتمع الألماني. في عملها كمعلّمة، ومنذ اليوم الأوّل، أصيبت بالذّهول وهي تستمع لكلمات مديرة المدرسة، وهي تقدمها لتلاميذ الصّف، شَعَرتْ وكأنّها أسد في سيرك، يستعد للقفز عبر حلقة النّار: “أيّها التلاميذ هذه هي السيدة قدور، معلمة الدين الإسلاميّ الجديدة، هي ليست تركيّة. انتبهوا كيف تتحدّث اللّغة الألمانيّة بشكل جيّد” ص38.
بعيداً عن السّياسة وأساليب أصحابها لخدمة مصالح الجهات الخاصّة الّتي ينتمون إليها، يبقى الاندماج عمليّة أخذ وعطاء بين جميع الأطراف، وتبادل قيم وخبرات ثقافيّة، لا يمكن لأيّ شعب، مهما بلغ من الرّقي والتّطور، أن يعتبر نفسه في غنى عنها، بل ومن الصّعب جدّاً إغلاق جميع منافذها، وكلّ ما يمكن أن تفعله السّياسة هو تأخيرها وإعاقتها. وقد حدث ذلك معها، دون ضجيج إعلاميّ، كما يحدث مع الكثير من اللاّجئين اليوم أيضاً، من خلال علاقتها في طفولتها مع جارة أهلها، العجوز الألمانيّة الّتي رعتها واهتمت بها وكأنّها جدة حقيقيّة، أو مع معلمتها في المدرسة الابتدائيّة، الّتي تركت في نفسها أبلغ الأثر، عندما عاملتها كتلميذة على قدم المساواة، مثلها مثل بقية التلاميذ الألمان، دون أي تمييز بسبب أصلها السوريّ.
لم تنجُ لمياء قدور من فخّ التّعميمات والأحكام النمطيّة، رغم أنّها تُواجَه بها دوماً. كأن تقول مثلاً أن” محمود قد أتى في موعده تماماً، الأمر غير المألوف بالنسبة للعرب” ص 140. وتتحدّث عن مرافقتها لصديقتها التركيّة إلى عند شيخ قادر على شفاء الأمراض وكتابة التّعاويذ والحماية من العين، وهالها العدد الكبير من المراجعين الّذين يقفون في الغرفة بانتظار دورهم في الدّخول، الأمر المألوف في الدول الإسلاميّة ولكن ليس في ألمانيا. وهي تقول أنّ جميع المجتمعات الإسلاميّة وليس المجتمع السوري فقط يؤمنون بالجنّ لأنّ القرآن يؤكّد ذلك ص 131، بينما الأمر لدى الألمان محض هراء. ونفس الشّيء بالنسبة للسّحر الّذي يؤمن المسلمون به فقط لأنّ القرآن ذكره. ص 132. يبدو الإسلام وكأنّه جوهر ثابت، قائم بذاته، يقترب البشر منه أو يبتعدون “نحن البشر نتغيّر عبر الزّمن. وإذا لم يُغير الإسلام نفسه، سوف نبتعد عنه أكثر فأكثر. وسنفهمه بشكل أقلّ حتّى ننساه في يوم مّا” ص 239.
في السّبعينات والثّمانينات لم يكن تمييز الأجانب، في ألمانيا، قائماً على أساس الدّين، بل كان على أساس أنّهم من العمال الوافدين (Gastarbeiter)، وغالبيتهم من الأتراك، أم لا. وحتّى سوريا وقتها، كانت شبه مجهولة، ويستدلّ عليها جغرافياً، من خلال موقعها المحاذي لتركيا، ربّما هذا ينطبق أكثر على ألمانيا الغربيّة أكثر من ألمانيا الشرقيّة وقتها. بعد الحادي عشر من أيلول 2001، اختلفت صورة الوضع بالنّسبة للإسلام، وصار حاضراً بقوّة أكثر من ذي قبل، في وسائل الإعلام الألمانيّة ضمن الصّورة النمطيّة السّائدة لدى قرينتها الغربيّة، كمنبع للإرهاب والإرهابيين. وعن سوريا أيضاً اختلف الوضع تماماً بعد عام 2011، فصارت اسماً على كلّ لسان، في ألمانيا والعالم، واقترن اسمها بالحرب والدّمار والضّحايا. وهذا لايعني أنّها صارت معروفة، بل في الحقيقة أنّها صارت مجهولة أكثر، لأنّ الحروب الحديثة، وعبر علاقتها المريبة بالإعلام، لا تمنح الضّحية حقّ الكلام، والتّعريف بقضيتها وببلدها، وتاريخها، وأصلها وفصلها، بل يجري اختزالها إلى مصير يتجنّبه الجميع، من خلال كلمة لاجئ. ولكنّ اللاّجئ، وعبر العصور، هو أيضاً مارد القمقم، الّذي يخرج دوماً بحكاياته وإنجازاته في البلد المضيف، كما فعل الكثير من أقرانه في مختلف المجتمعات والثّقافات الّتي حطوا رحالهم فيها.