الدين والحضارة بين الإسلام و الغرب : تحديات الصراع وشروط الحوار بين النظرية والواقع

الدين والحضارة بين الإسلام و الغرب : تحديات الصراع وشروط الحوار بين النظرية والواقع

صابر الحباشة*

الحضارة والثقافة: تأطير عامّ

أ) الحضارة

تستعمل كلمة (حضارة) لأداء معان شتى، وكثيرا ما تكون غير دقيقة. وعموما يمكن تمييز ثلاثة استعمالات لهذه الكلمة: أما الاستعمال العام فتدلّ كلمة (حضارة) فيه على حكم قيمة بشكل إيجابي، على سلوك مّا أو مجتمع مّا. وهذا يقتضي وجود أناس أو شعوب -على النقيض من ذلك- غير متحضرة أو بدائية.

أمّا الاستعمال الثاني فتدلّ فيه كلمة (الحضارة) على مظهرٍ للحياة الاجتماعيّة. فثمة تجليات للوجود الجماعيّ يمكن اعتبارها مظاهر للتحضّر، التي متى تجسّدت في مؤسسات وإنتاجات، فإنها تُسمّى آثار الحضارة. أخيرا تنطبق كلمة (حضارة) على شعوب ومجتمعات، تتميّز بدرجة عالية من التقدّم والرقيّ.

ويُشترط في الحضارة أن تكون العلاقات في نطاقها متشابكة تتجاوز حدود العلاقات الموجودة بين أفراد العشيرة أو القبيلة. حتى أنّ بعض علماء الأنثروبولوجيا يرون أنّ الفرق بين المجتمعات المتحضّرة والمجتمعات غير المتحضّرة، ليس فرقا نوعيّا بل هو فرق كميّ في درجة التعقّد ومحتواه في البنية الاجتماعية.

وتعني كلمة (حضارة) -كما يدلّ على ذلك اشتقاقها في اللغات الغربية- ما يفصل الشعوب الأكثر تقدّما عن غيرها. وتعني كلمة (حضارة) في السياق الإمبرياليّ الكولونياليّ، الثقافة الأوروبية الغربية، بوصفها أفضل من سائر الثقافات بشكل مطلق. ومن ذلك دراسات ليفي برول (Lévy- Bruhl) حول (العقلية البدائية) المقابلة للذهنية المنطقية والعلمية، التي تُفهم في سياق هذه المفاضلة لصالح الثقافة الغربية(1).

ونقف مع لوسيان لوفيفر (Lucien Lebvre) على وجود مفهومين للحضارة: أحدهما براغماتيّ تداوليّ، وهو مفهوم تمييزيّ، والآخر مفهوم علميّ تكون بمقتضاه لكلّ مجموعة بشرية حضارتها(2). ومن الواضح أنّ هذين الاستعمالين المختلفين للكلمة نفسها يدلاّن على تغيير في المنظور: ففي إحدى الحالتين يتم اتخاذ موقف مقارنيّ يقوم على التمركز حول الذات، ومن منظور تطوّريّ؛ إذ تفترض هذه الرؤية أنّ المجتمع الذي نتحدّث عنه واقعٌ في درجة من التحضّر أو اللاتحضّر، في سياق تطوّر خطّيّ. ثمّة إذن معنى ديناميكيّ للكلمة. وهذا يعود إلى التطوّر التدريجيّ للوظائف الاجتماعية.

ولكن -وكما يرى ذلك بعض الباحثين- ثمّة معنى ثابت، تعني من خلاله هذه الكلمة (= حضارة) حالة من الوظائف في زمن معيّن، دون أيّ إحالة على مقارنة خارجية. وفي جميع الأحوال، لا يمكن أن نضبط مفهوم الحضارة ضبطا دقيقا إلا إذا وضعناه جنبا إلى جنب مع مفهوم الثقافة(3).

ب) الثقافة

الثقافة سلوك خاصّ بالإنسان المفكّر (homo sapiens) إضافة إلى أشياء مادية يستعملها بوصفها جزءا لا يتجزأ من هذا السلوك. ومن ثمة فإن الثقافة تشتمل على اللغة والأفكار والاعتقادات والعادات والقوانين والمؤسسات والأدوات والتقنيات والأعمال الفنية والطقوس والاحتفالات، فضلا عن عناصر أخرى.

ويتعلق وجود الثقافة واستعمالها بتوفر البشر على القدرة العقلية أو التفكير المجرّد، وهو ما يوضع تحت مُسمّى الترميز (symboling)، وهو المتمثل في إعطاء الأشياء والوقائع معانيَ لا تُدرك بالحواسّ فقط. ونظام الترميز اللغويّ أوضح مثال على ذلك؛ فمعنى كلمة شجرة لا يكمن في الأصوات التي تتكوّن منها الكلمة، بل ثمّة علاقة اعتباطية بين الدالّ (أصوات كلمة شجرة) والمدلول (معنى كلمة شجرة).

وانطلاقا من هذه الاعتبارات، ذهب بعض الدارسين إلى تصنيف الثقافات إلى ثقافات بدائية وأخرى متطوّرة، اعتمادا على جملة من المعطيات.... رغم أنّ المنطلق الأصليّ أنّ تعريف الثقافة، كما أشرنا إليه فيما سبق، يدلّ على أنها أمر لا يتوفر عليه إلا البشر؛ فكيف يتمّ زرع بذرة المفاضلات في حقل يُفترض أنه يجمع الناس جميعا، لأنه خصوصية بشرية، ونعني الثقافة؟

طبعا يجب التمييز بين الخصوصيات الثقافية والمفاضلات القيمية، ذات الأحكام الأخلاقية، رغم أنّ المفاضلات كثيرا ما ترتكز على توظيف بعض الخصوصيات لإعلاء شأن ثقافة على حساب أخرى أو أخر.

لا يمكن وضع تعريف نهائيّ للثقافة، فقد أحصى عالما الأنثروبولوجيا الأمريكيان كروبر ((Kroeber وكلوكهوهن (Kluckhohn) 164 تعريفا للثقافة، منها أنّ الثقافة هي (السلوك المتعلَّمُ) و(الأفكار الذهنية) و(البناء المنطقيّ) و(الخيال الإحصائيّ) و(آلية الدفاع النفسيّ)، وغيرها. ويفضل هذان العالِمان، وغيرهما تعريف الثقافة بما هي تجريد أو بشكل أكثر تخصيصا هي (تجريد انطلاقا من سلوك)(4).

ويرى الباحثون في مجال تأصيل الحضارة تاريخيا أنّ تطوّر التقنيات معيار رئيسيّ لتحديد الحضارات. وحسب مورغان (L.H.Morgan) يُعدّ ظهور الكتابة، وبالتحديد بروز الأبجدية الصوتية، علامة دخول شعب مّا في الحياة المتحضّرة. فالكتابة، كما لا يخفى، تكثّف الوظائف الذهنية، ولكن -مع ذلك- يجب ألاّ يتمّ الاكتفاء فقط بالمعايير التقنية وبآثارها الاجتماعية المحضة في تحديد تحضّر الشعوب؛ إذ تدخل عوامل أخرى كثيرة في الاعتبار، لعلّ من أهمّها العوامل الذهنية والأخلاقية.

ويمكن تصنيف الحضارات بحسب ميلها إلى البعد التقنيّ بشكل أكثر وضوحا، ففي مصر القديمة، كانت الغايات التقنية ذات أهمية أكبر من اليونان القديمة، حيث كان الفكر التأمليّ امتيازا يحتكره الناس الأحرار. ونحَتْ الحضارة الرومانية منحىً وسطا جمع بين هذين المنزعين، بتمييز فئة من المثقفين، أي أولئك الناس الذين يمكنهم التمتع بالمتع الذهنية الراقية.

وحسب كروبر((Kroeber، فإنّ أفول نجْم السحر والشعْوَذة - مقترنا ببعض الهموم المادّية - أصبح معيارا مهمّا للحضارة. فيما يرى غيره من الباحثين أنّ هذا المعيار يتمثل في ظهور دين ذي آلهة مجسّدة مكان الآلهة الحيوانية...

إذا نأينا بأنفسنا عن الأسئلة المعادة حول العلاقة بين الحضارة والثقافة، والتي دفعت فرويد إلى أن يعبّر عن ازدرائه من التمييز بين الثقافة والحضارة(5)، خصوصا وقد تبيّن فشل الفصل بين (ثقافة) النخبة و(حضارة) العامّة(6)، فإنّه بوسعنا تبيُّن وجود مفهوم جامع قد تبلور في الأفق الغربيّ خلال فترة الحربين الكونيتين وما بينهما وبعدهما، حيث ظهرت إيديولوجيات يمينية متطرفة: النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، ويسارية راديكالية الماركسية اللينينية والستالينية، وأمكن لمؤرخي الأفكار أن يجمعوا بين هاتين الظاهرتين الإيديولوجيتين تحت مُسمّى واحد هو الشمولية أو الكليانية (totalitarianism)، حيث تمّ حشر هذين التوجُّهين المتصلِّبين ضمن البوتقة نفسها، مقابل الليبرالية التي اعتبرت حامية التعدّد، نظرا إلى اعتبار كلّ من الفاشية والشيوعية نظامين أحاديي الجانب، لا يعترفان بالآخر، فحُقّ لليبرالية أن تتغنّى بالتعدّدية(7). ولمّا وضعت الحرب العالمية أوزارها بهزيمة النازية والفاشية، اشتعلت الحرب الباردة، مع الشقّ الآخر التوتاليتاريّ، ألا وهو القطب الشيوعيّ.

إنّ حشر اليمين واليسار تحت اللافتة الواحدة (الشمولية) يُخفي لا فقط عدم دقة، بل يخفي أيضا نوايا مبيَّتة تحملها الليبرالية الغربية، تتمثل في إقصاء أيّ نموذج مختلف، ولكن الغاية الأخرى تتمثل في الرغبة في الاستئثار بمكاسب شطب القومية المتعصبة من أجندة اللعب الفاعل على الصعيد الدوليّ، في كنف توازنات بدأت تعطي للولايات المتحدة الأمريكية نصيب الأسد في جمع كلمة العالم الحرّ.

والواقع أنّ هذه الرؤية الإقصائية للمخالف المتعصب يمينا ويسارا يوازيها تدليس تاريخيّ كبير يتمثل في الإغراء المموّه بتعددية ثقافية لا وجود لها واقعيا، إلى حدّ دعاها بعض الباحثين (خرافة التعددية الثقافية)(8). ولا أدلّ على ذلك من خطاب السينما والأدبيات السياسية الأمريكية والتكنولوجيا والأداتية....، وهي نتاجات أمريكية تضع نماذج طرازية لا صلة لها بالتعدّد الثقافيّ لا من قريب ولا من بعيد. هذا طبعا دون أن نتوغّل في مقولات (نهاية التاريخ) لفوكوياما ولا في نظرية (صراع الحضارات) لهانتنجتن، الذائعة الصيت(9). وهذه الأخيرة تمثل الصياغة الفكرية لما تمارسه الولايات المتحدة سياسيا وعسكريا على أرض الواقع.

خطاب (حرب الثقافات) و(صدام الحضارات)، يقوم على سجن الأفراد والجماعات في هوياتهم الثقافية، وهو بذلك خطاب يناقض حقائق التاريخ، (إذ من غير المعقول تصور الحضارات تنمو وتتطور في عزلة ودون حوار خصب فيما بينها، فالحضارة الإسلامية أثرت مضامينها وحققت انطلاقتها وشموليتها بتلاقحها مع الحضارات الأخرى السابقة والمعاصرة لها، كالحضارات الفارسية والبيزنطية والرومانية وغيرها، كما أنّ حضارة الغرب استفادت كثيرا من الحضارة العربية الإسلامية وأخذت عنها ما وفر لها مستلزمات التطور والنهوض)(10). ومن المفارقات الشديدة التي تعصف بالفكر الإنسانيّ في بدايات هذه الألفية الثالثة ربط بعضهم بين (ضرورة العولمة الاقتصادية وحتمية صدام الحضارات وما ينجر عنه من ردود فعل حمائية، كالغزو والهيمنة من جهة والتمركز المعكوس من جهة أخرى)(11).

إنّ هذه التوجّهات تنافي روح العولمة وتفقدها شموليتها الإنسانية وتضعها رهينة في أيدي أصحاب رؤوس الأموال يُخضعونها لآليات السوق دون اكتراث (بالقيم المشتركة، والاختلاف المُثري، والتكامل الممهِّد للسلم العالميّ)(12). إذا كانت العولمة اتجهت اتجاها حثيثا يؤشر على انكماش العالم، وكانت الأديان السماوية داعية إلى العالمية، فكيف تصاغ العلاقة بين الدين بوصفه ظاهرة اجتماعية وبين النظام المُعَوْلَم اقتصاديّا وسياسيّا وحضاريّا؟

من هنا تظهر نواحٍ متعددة في العلاقة بين الحضارة والدين: تطوّر الأولى مقترن بطبيعة الثاني. لكن ما تعريف الدين؟ وكيف تتمّ دراسته علميّا؟

تعريف الدين ودراسته في الأفق الغربيّ

يتمّ تعريف الدين في الموسوعات الغربية بـ(تلك العلاقة القائمة بين الوجود البشريّ وبين ما يراه الإنسان مطلقا أو مقدَّسا أو روحيّا أو إلهيّا. وتعدّ العبادة، تقريبا، أكثر عنصر أهمّية في الدين، ولكن السلوك الأخلاقيّ والعقيدة الصحيحة والمشاركة في المؤسسات الدينية، تمثل عموما، مكوّنات وعناصر في الحياة الدينية، كما يمارسها المعتنقون والعابدون، وكما يدعو لها علماء الدين والكتب المقدّسة)(13).

هذا التعريف -كما هو واضح- يبدو محايدا، موضوعيا لا يعبِّر عن تحيّز له أو عليه. غير أنّ المرور من (تعريف الدين) إلى (الحفر في الشأن الدينيّ) يوضّح لنا انطواء هذه الرؤية (العلمية) على نزعة وضعية (positiviste) لا يخطئها المتأمّل في مناهج العلوم الاجتماعية.

إنّ التعامل مع الدين وفق الرؤية الوضعية يقوم على وضعه في مدرج وسط ووسيط. وسط بين الرؤية السحرية العتيقة والرؤية العلمية الحديثة، ووسيط لأنّ حقبة ازدهار الرؤية الدينية تتمثل في العصور الوسيطة(14).

وما فتئت دراسة الدين بالمعنى العلميّ للعبارة (أي بمعنى فهم دلالاته وأصوله المتعددة)، تتزايد أهميتها في العصور الحديثة. وتقوم دراسة الدين بشكل عامّ على مظهرين اثنين:

1- تجميع المعلومات حول الدين.

2- تأويل تلك المادة التي تمّ جمعها تأويلا نسقيا، قصد استخلاص معانيها.

ويشتمل المظهر الأول على الدراسات النفسية والتاريخية للحياة الدينية. وينبغي أن تلحق به تخصّصات تكميلية مساعدة من قبيل الأركيولوجيا والإثنولوجيا والفيلولوجيا وتاريخ الأدب، وغيرها من العلوم المشابهة. وتمثل وقائع تاريخ الدين عنصرا عظيم الأهمية في تطوّر التاريخ الديني للجماعات المعتنقة لذلك الدين، ويُعتبر ذلك أساس سائر العناصر الداخلة في دراسة الدين.

وإلى جانب الأساس التاريخي، نجد من الواجب الملحّ النظر في التجربة الدينية البشرية في عموميتها، من وجهة نظر نسقية وموحّدة. ويحاول دارس الدين، لا فقط أن يتعرّف إلى تنوّع المعتقدات والممارسات عند الإنسان المتديّن (homo religiosus)، بل يسعى أيضا إلى أن يفهم بنية التجربة الدينية وطبيعتها وديناميتها.

ويحاول دارس الدين أن يكتشف كذلك المبادئ التي يجري الاحتكام إليها عبر الحياة الدينية -في قياس مع عالم الاجتماع الذي يبحث عن قوانين السلوك الاجتماعي البشري- ليستخلص القوانين التي تعمل في الدائرة الدينية.

إنّ (علم الدين) لا ينهض، بأتمّ معنى الكلمة، إلاّ بملاحظة النسق والبنية الموثّقيْن معًا للثراء التاريخيّ للدين(15).

وقد شهد القرن التاسع عشر ظهور دراسة الدين بالمعنى الحديث للكلمة، حيث تمّ استعمال تقنيات التحقيق التاريخيّ والعلوم الفيلولوجية والنقد الأدبيّ وعلم النفس والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وغيرها، في محاولة لمعرفة التاريخ المتوقَّع للدين وأصوله ووظائفه. والواقع أنّه قلـّما حصل إجماع بين الدارسين حول الطبيعة المُنزَّلة للدين المسيحيّ (أو غيره) أو التخمينات حول تحريف الدين، ومن ثمّة فقد احتوى هذا الموضوع عناصر مثيرة للجدل، عبر التاريخ.

الطبيعة والدلالات

لا يزال الجدل متصاعدا في تفكيك أنماط العلاقات الكائنة والكامنة بين جوهر الدين وماهيته من جهة، وبين سياقات المعتقدات الدينية ونظم الممارسات وأنساق المؤسسات، من جهة أخرى.

إنّ تعريفا مرضيا للدين، في حدّ ذاته أمر صعب المنال؛ وقد جرت محاولات للوقوف على مكوّن أساسيّ في كلّ الأديان (أي الناموس أو الروحانيات والتجربة والتناقض بين المقدّس والمدنّس والاعتقاد في الله أو في الآلهة)، ومن ثمة، فإنّه يبدو أنه بوسعنا أن نصف (جوهر) الدين أو ماهيته. غير أنّ ثمة اعتراضات تقوم ضدّ كلّ محاولة من هذه المحاولات، نظرا لأنّ ثراء الاختلاف الدينيّ بين الناس يجعل من الممكن إيجاد أمثلة مضادّة، أو لأنّ العنصر المذكور بوصفه أساسيا في بعض الأديان، يكون هامشيّا في بعضها الآخر.

عمليًّا، الدين هو نسق مخصوص، أو هو جملة من الأنساق، تتشابك فيها جملة من النظريات والأساطير والطقوس والأحاسيس والمؤسسات وعناصر أخرى متشابهة... ويعرّف عالم اللاهوت الأمريكي، الألماني الأصل بول تيليخ (Paul Tillich) (1886-1965م) الدين بأنه الاهتمام النهائيّ للإنسان، ويعتبر الماركسية والماوية والفاشية (أشباه أديان). وانطلاقا من ذلك يمكن أن نحكم على الحدود بين الأديان التقليدية والإيديولوجيات الحديثة بأنها غائمة.

الحيادية والذاتية في دراسة الأديان

لم يبدأ علم الأديان المقارن خاليا من أحكام القيمة التي تفضّل بعض الأديان على بعض، حتى أنّ بعض المزاولين المحدثين لهذا الحقل البحثيّ لا يحبّذون هذه التسمية مخافة أن يُوسَم عملُهم بما انطبعت به ممارسات هذا البحث الأولى من فقدان النزاهة ومن مفاضلة بين الأديان.

إنّ منشأ الاختلاف -فيما نظنّ- بين دراسة الدين في سياق الحضارة الغربية ودراسته في سائر الحضارات، يبدأ منذ المصطلح فكلمة (religion) لا مقابل لها في الحضارات غير الغربية، فهي تعني بالضبط ما يقابل الدولة، ونحن نعلم -في السياق الإسلاميّ- على أقلّ تقدير، أنّ الدين ليس مقابلا للدولة بالضرورة، بل تنشأ بينهما ضروب من العلاقات المتداخلة... فلمّا كان معنى كلمة (religion) لا يلائم سوى السياق المسيحيّ، فقد غدا من الأكيد أنّ سحب مفهوم هذا المصطلح على حضارات أخرى، أمرٌ يقوم على قدْرٍ من التعسُّف لا يخْفى.

ولعلّه من المناسب أن نشير إلى إمكانية تصنيف اتجاهات دراسة الأديان في الفكر الغربيّ إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية(16):

1- اتجاه الدراسات الإثنولوجية: الأنثروبولوجيا البريطانية التطوّرية التي ترى أنّ المماثلات الموجودة بين الأديان والثقافات المختلفة تدلّ على حصول تطوّر دينيّ مشترك بالنسبة إلى البشرية قاطبةً. وترى النظرية الانتشارية أنّه يمكن تفسير المشابهات الحاصلة بين الأديان بكونها تقوم على نقْل الوقائع الدينية من ثقافة إلى أخرى.

2- اتجاه الإثنولوجيا التاريخية الثقافية الألمانية: يمثل ردّة فعل ضدّ التطورية، ويرى في المماثلات الموجودة بين الأديان علامة على صدورها من مشكاة واحدة، فهي منزَّلة وموحىً بها. وهذه الرؤية دينية أكثر منها علمية، رغم أنّها موجودة في أعمال إثنولوجيين من مدرسة فيينا للأب شميدت (W.Schmidt).

3- الاتجاه الفينومينولوجيّ: يرى في التشابهات الدينية حضور حقيقة دينية واحدة متعالية على التعابير الظاهراتية المخصوصة، انطلاقا من رؤية فلسفية ما بعد كانطية، طوّرها فان در ليوف (G.Van der Leeuw) ومرسيا إلياد (Mircea Eliade)، وقد أسهمت هذه الرؤية في تطوّر الدراسات الدينية التاريخية.

إنّ الدراسات التاريخية التي تتناول حضارات مختلفة عن الحضارة الغربية، إذ تخصّص فصلا مستقلا للدين، إنما تمارس ضربا من المركزية الأوروبية. فالدين ليس معزولا عن سائر الظواهر الثقافية، في تلك الحضارات، كما هو الحال بالنسبة إلى الحضارة الغربية.

ويذهب أوليفر ليمان إلى القول إنّ (الدين شكل من أشكال الحياة، ونهج للسلوك [...])(17) ويعتبر أنّ (الاعتقاد الدينيّ هو مسألة التزام بطريقة للحياة)(18).

الدين والثقافة

من الناحية النفسية، عندما يتحدث فرويد عن الدين بوصفه وهْمًا، فإنه يرى أنه بنية فنتازية، على الإنسان أن يتحرّر منها عندما يبلغ مرحلة النضج الفكريّ. أمّا عالم النفس السويسريّ يونغ (Jung) فيقترح مفاهيم النماذج العليا (المنطوية على نزعات فطرية لتكوين صور رمزية) يدعمها لا وعي فصيليّ (متعلـِّق بفصيلة البشر)، كلّ ذلك يوفـّر مقاربة نفسية للاعتقاد في وجود الله.

وللدين تأثير عظيم ولكن غامض في الثقافة. إنّ فكرة كون الإنسان تابعا في حياته ووجوده لقوّة ليست قوّته، قد شجّعت بعض الناس ليكونوا كسالى، كما ألهمت آخرين أن يبذلوا جهدا أكبر.

إنّ اعتقاد المتديّنين في وجود عالم آخر، قد جعلهم يستهينون بالحياة الدنيا. وجعل البعض الآخر ينظرون إلى حياة البشر على أنها محلّ اختبار(19).

وذهب عالم الاجتماع الألمانيّ ماكس فيبر (Max Weber) الذي وُلد سنة 1864م وتوفّي سنة1920م، إلى اعتبار البروتستانتية توفـّر أرضية ملائمة للرأسمالية الحديثة، ويرى غيره أنّ الكاثوليكية تتكيّف بسهولة مع وجهة النظر الاشتراكية(20).

جوهر الدين يُدرك في لحظة رؤية وكشف، وقد مثـّل الفيلسوف الألماني شلاير ماخر (Friedrich Shleirmacher) الذي عاش بين سنتي 1768 و1834م، لأساس التجربة الدينية بألفاظ القـُبلة والاحتضان(21).

إنّ العقيدة تصف حالا ذاتية تقبل ما ينبثق عنه الكشف والفتح الإلهيّ وما هو راسخ في الوثوق الشخصيّ مثل الرغبة أو المقاومة - تبعا للفيلسوف الألماني اليهودي سبينوزا (Spinoza)، وُلد سنة1632م وتوفي سنة 1677م - ويتمّ توظيف جميع الأشياء الحيّة لأداء هذا الدور(22).

إنّ الصلاة هي تلفـّظ بكلمات (طقوسية) في سياق أو من دون سياق دراميّ (شعائريّ) يهدف إلى حفظ الشخص بحضرة المعبود أو للتعبير عن أحاسيس خاصّة بحضرة المعبود كذلك. معظم الصلوات تتضمن كلمات تؤدّي وظيفة في الاتجاهيْن. ما هو شأنٌ طقوسيٌّ معنيٌّ، أساسا، بالأحداث التي لها إمكانيات للكشف والتجلّي في حياة الإنسان، وحيث تبلغ الأسرار أقصاها(23).

ومن المعلوم أنّ الأديان تتمايز على مستوى الممارسات التعبدية أو الشعائر، غير أنّها جميعا تتفق في وجود مقدّسات ورموز دينية، رغم التباين بينها من دين إلى آخر.

إنّ الإيمان بالخلاص، في جميع الأديان، له نتائج عملية كثيرة. والخلاص نوعان، حسب طبيعة المنظور: أحدهما خلاصٌ يُلهم الإنسان أن يسعى في طريق التطوّر ويجعله يعتقد أنه ينعتق في عالم الزمان، مثل هذه النظرية للخلاص تشجّع الإصلاحات الاجتماعية والمشاريع التي تبني حياة ثرية للإنسانية جمعاء.

أمّا المنظور الثاني، فيتمّ النظر من خلاله إلى الخلاص بوصفه وراء عالم الزمان، يقع بعيدا تماما عن عالمنا هذا، وهو أمر يجعل هذا العالم -في أحسن الأحوال- امتحانا عسيرا، وفي أسوئها بؤرة فساد ودائرة بؤس وجوْر، من الأفضل للإنسان أن يستبق التحرّر منها - وهذه النظرية للخلاص تجعله فرديا خالصا، ويمكن أن تشجّع القمع والطغيان.

وليس من الغريب أن تشيع في فترات القنوط واليأس الروايات والأخبار المؤذنة بنهاية العالم، نظرا إلى حصول شعور عامّ بالإحباط سواء عبر فقدان الأمل -لدى معظم الناس- في تحقيق العدل أو العدالة أو الرفاه، أو نظرا إلى استشراء ضروب الفساد وظهوره في البرّ والبحر.

ويدفع الاعتقاد الدينيّ الناسَ أحيانا إلى استخلاص نتائج حول الطبيعة والتاريخ: فالمحصول الجيّد يتمّ تفسيره، بأنه نتيجة العبادة أو السلوك الحسن، أو نتيجةٌ لكليهما معا، أمّا المَحْلُ والجفاف فيُفسَّر بكونه نتيجة لارتكاب المعاصي، سواء بالتخلّي عن أداء العبادات أو بعدم التزام الأخلاق في المعاملات. وإذا تمّ الاعتقاد في أنّ المعبود يتحكّم في التاريخ، فإنّ أمّة تعمل الحقّ وتتبع هدايته، كما دعا إلى ذلك الأنبياء أو غيرهم من الشخصيات الدينية، يتوقـّع أن تجنيَ الأمّ ثمرة ذلك ازدهارا ونجاحا. في أزمنة سابقة، عندما كان هذا لا يحصل، فإنّ البؤس اللاحق يتمّ نسبته إلى ارتداد الأجيال السابقة عن الصراط المستقيم.

ويزعم كثير من الملاحظين للدين في العالم الحديث أنّ قلـّة قليلة تعتقد أنّ الله يتدخّل بهذه الطريقة المباشرة والتي يمكن أن نتنبّأ بها. بل إنّ تدخّل الله في العالم، دون زعم الإحاطة به -جلّ وعلا- يتمّ بشكل فعليّ من خلال نشاطات الناس الفكرية والعملية، في إقداره -تعالى- إيّاهم على إتيان ما يفعلون.

إذا كانت هذه، إجمالا، طبيعة المقاربة الفلسفية الغربية للظاهرة الدينية(24)، فكيف نستثمر هذه المعطيات في الاقتراب من الروح الإنسانية التي يعمل الدين، عموما، على تأصيلها في ظلّ دعاوى التطرّف والانغلاق؟ وكيف يكون الاختلاف المثمر رهانا لعلاقة صِحّية متوازنة بين الحضارات المختلفة والأديان المتباينة؟ وهل يمكن التفكير في تجاوز مقولة الصراع الهمجيّ إلى تحقيق التعارف الحضاريّ الكونيّ؟

الاختلاف مُعطى إنسانيّ ثابت

يبدو أنّ الحماسة للأممية والإنسانية في مفهومها الفضفاض قد أورثت، بعد أن بادت إيديولوجيًّا، استخداما أداتيًّا سيّئًا لها، هو عبارة عن ضرب من النمذجة والقولبة المَقِيتة، التي أسهمت فكريًّا في تعزيز ما روّجته النزعة السلعية والحياة الاستهلاكية من طمس معالم الاختلاف الإنسانيّّّ ذلك الجمال المتنوع الفسيفسائيّ القائم على اختلاف الألسنة والألوان والأديان....،

إنّ الالتفاف على منجز التنوع البشريّ الطبيعي والثقافي عبر تعميم نموذج رأسماليّ غربيّ متأمرك يؤدّي إلى خلط الأوراق وحصر العالم في مزرعة يديرها راعي البقر.

كيف تسهم الثقافات في اجتثاث الكليانية والشمولية المتخفية تحت ستار العولمة؟ هذا هو لبّ القضية. وفي سياق الحال، يحقّ لنا التساؤل: كيف ينهض الدين رسالةً روحيةً تمتاز برحابة فضائها ومتانة صلاتها وروعة تنزهها عن الصغائر وكلّ ما يشين، في حين تقوم فئات من أتباعه بتسليط عصا التسلّط والسيطرة على الآخر، المختلف سواء أكان مذهبيّا أو قبَليّا أو حزبيّا أو عِرْقيّا أو إيديولوجيّا،....؟ بل قد نجد من يعمد إلى تشويه حقيقة الاختلاف عبر ابتساره في تشكيلات ثقافية متخفية لا قيمة لها إلا الاستظراف والتندّر، لا حقيقة قبول الآخر. وهي بهذه الطريقة المشوّهة تعزّز روح العنصرية في التمركز الغربيّ.

كيف يتنكر المتديّن أو المنظّر لتاريخ الحضارة، كلٌّ بطريقته، لحقيقة الاختلاف الإنسانيّ وكونه قدرا محتوما؟ والحال أنّ الاختلاف منصوص عليه شرعا وفقها، في أوضح مثال على حقيقة (دفع الناس بعضهم بعضا)؛ بل لو عدنا لبعض آيات القرآن لوجدنا الاختلاف - لا رحمة فقط - كما شاع في الحديث عن تعدد المذاهب - لما وراء تعدّدها من حكمة التيسير والتخفيف، بل إننا نجد أنّ من عِلل خلق الخلق اختلافهم. قال -تعالى-: ﴿ولو شاء ربّك لجعل الناس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم وتمّت كلمة ربّك لأملأنّ جهنّم من الجِنّة والناس أجمعين﴾(سورة هود: الآيتان 118-119).

فالاختلاف موجود وقائم. يشير الطبري في تفسيره إلى الاختلاف في بيان طبيعته، فمنهم من ذهب إلى أنه اختلاف في الأديان، واستثنى الله منهم (أهل الإيمان)(25). ومنهم من ذهب إلى أنّ الاختلاف هو سبب خلقهم ليكون بعضهم أهل الجنة والبعض الآخر أهل النار(26). وذهب فريق ثالث إلى أنّ معنى قوله (ولذلك خلقهم)، أي خلقهم للرحمة(27). والملاحظ أنّ الطبريّ رجّح أحد هذه الأقوال، فقال: (وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال: وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم، لأن الله -جل ذكره- ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل، والآخر أهل حق، ثم عقَّب ذلك بقوله:(ولذلك خلقهم)، فعمّ بقوله:(ولذلك خلقهم)، صفة الصنفين، فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميَسَّر لما خلق له)(28).

ولا يمكن بالاستناد إلى هذه الرؤية المرجعية إلا أن نتفاهم حول الجوامع المشتركة دون أن يكون ثمة إكراه من هذا الجانب أو ذاك على جمع الكلمة حول أمر ليس كونيّا في الأصل. ومن هنا تأتي قيمة المقاربة المقاصدية التي تتجنب الخوض في الجزئيات المشتتة وتنحو نحو النظر الأصيل في الأصول الكبرى ومراكز الاهتمام الكلّية.

لكن علينا -مع ذلك- أن نلاحظ على مدى التاريخ، أنـّه ما إن يتخذ أحد أطراف الاختلاف من السلطة السياسية ركنا متينا يأوي إليه، حتى ينقلب الاختلاف إلى فتنة أو محنة أو نزاع مسلّح... فحيادية مؤسسة الدولة أمام الاختلافات التأويلية بين أهل الاختصاص، حصانة من الانزلاق في أتون الحرب الأهلية.

يبدو أنّ القوّة التقنية وتفاهة الخصوم تُغريان أصحابهما بأن يحملوا الغير على تقليدهم أو بأن يهمِّشوا حضوره تهميشًا..

فالأصل أنّ الاختلاف معطى كونيّ -على أساسه- يتمّ التحاور الخلاق والتعايش الخصيب بين بني آدم، فلا يمكن أن ينشأ حوار حقيقيّ إلا مع افتراض وجود طرفين يختلفان في مسائل على أساسها يتمّ التقاول وتبادل الحجج.

لكن الركون إلى مسلـّمات إيديولوجية وأفكار استشراقية عنصرية: نحو القول بالتفاضل العنصريّ أو الاستعداد الفطريّ لدى الشرقيين لتقبُّل الاستبداد والرضوخ له....، وغيرها من المقولات غير الموضوعية، يعني أنّ التحليل العلميّ لواقع الأمور ما زال بعيدا عن المتناول. لا يمكن الحديث عن عولمة حقيقية، ما لم تتمّ إذابة الجليد بيننا وبين هذه الرؤى التي أعتبر أنها من مخلفات الحقبة الاستعمارية. كيف يقف الآخر الغربيّ على حقيقة ضرورة التوقف عن التعامل مع الآخر تعاملا غير إنسانيّ: المطلوب تحقيق مناط التساوي في الحقوق والواجبات دون لفّ أو دوران. إنّ إلغاء الازدواجية في المعايير لدى الساسة وصُنّاع القرار في الغرب، مطلب جوهريّ ليكون ثمة حوار حقيقيّ يقوم على ضمان حقّ الطرف الآخر في أن يكون لقوله حُجِّيّة ولوجهة نظره صدى...

يرى بعض الدارسين أنّ من شروط اندراجنا في فلك التحاور الندّي مع الغرب أن نتوقف عن (النفور من استخدام سبل البحث العلميّ والمنهج التاريخيّ في مجال الإسلاميات)(29)، إضافة إلى التوقف عن (التعاطف مع التطرف باعتباره السبيل العلميّ الأوحد إلى مواجهة الأخطار التي تهدّد بابتلاع هويتنا، واستفظاع بهاظة الثمن الاجتماعيّ والنفسيّ الذي لا بدّ من دفعه إن نحن أردنا اللحاق بركب الغرب في مضمار التقدّم)(30).

ولكن بالمقابل لا يذهبنّ في ظنّنا أنّ المطلوب أن يُفرض نسق حضاري أو ثقافي عامّ على الجميع: فصفاء الحياة البشرية لا يعني الاتفاق أو تفويض الغالب ليسيطر على المغلوب بشكل يتمّ تأبيده شيئا فشيئا. والواقع أنّ حقيقة الاختلاف تتمثل في جعل الناس يتعايشون ويقتنعون بوضعياتهم المخصوصة، رغم التنافس ومحاولات تعميم كلّ منوال منواله على سائر المناويل. وذلك في تضامن مع معطى الهوية الفردية والجماعية تعرف الهوية على أنه ذلك (التمشي الذي يقوم به الفرد لبناء مختلف مظاهر شخصيته سواء كانت هذه المظاهر حالية أم ماضية أم مستقبلية، وفي المظاهر التي يحدد بها الفرد ذاته أو يقبل أن يحدد بها) (كاميللري)(31).

خلاصة:

شكّل الصراع حول ريادة البشرية منوالا متكررا خلال الحقب والعصور، تجلّى من خلاله سعي الشعوب والأمم إلى أن تكون لها اليد الطولى على سائر سكان المعمورة. ومحاولات الإمبراطوريات القديمة في التوسع والحركات الاستعمارية والكولونيالية والإمبريالية... في العصور الحديثة، كلها أشكال مختلفة لهذا المسعى المحموم للغلبة والسيطرة.

ويمثّل التنظير الفكريّ لهذه السياسة المنهجية في بذر أفكار التمايز والمفاضلة بين الناس، ومن يستتبع ذلك من عُقـَد تفوّق وشطر العالم إلى شطرين: أحدهما متحضر ماسك بزمام الأمور يستحق الحياة والآخر متخلف تابع، مآله السحق أو خدمة الشطر الأول.

وقد تختفي هذه الهمجية الفكرية الراديكالية تحت غلالة من الجبرية والحتمية التاريخية يتستّر خلفها أصحاب التعصّب الأعمى لمنوال من المناويل التي يرون أنها (نهاية التاريخ) و(زُبدة الحِقَب) ولن يتمكـّن الناس - حسب هذا المنظور - من أن يبدعوا أفضل منها... خصوصا إذا بيّنت وقائع التاريخ سقوط نظم أخرى كانت تمثـّل البديل / المنافس الإستراتيجيّ لتلك المناويل.

وهذا الطرح، كما قلنا، يستبطن نظرة تكثّف مآزق البشرية ولا تطلب لها حلولا. فهي تستبقي الوضع على ما هو عليه إلى ما لا نهاية؛ وكأنّ الغاية الأبدية التي على الشعوب المتخلفة أن تسعى إلى تحقيقها هي بلوغ ذلك النموذج الغربيّ النهائيّ... والعبرة تبقى في المدّة التي ستحتاج إليها لتحقيق هذا المأرب والرهان يظلّ كيف نقنع النموذج الغربيّ بأحقيتنا بأن ننضمّ إلى دائرته المحظية.

فإغلاق الباب أمام البدائل واختزال نموذج النجاح في النموذج الغربيّ هو اختزال مشطّ لما يعتمل في واقع التحديات التي تمرّ بها البشرية.

ولعلّ مربط الفرَس يكمن -إسلاميّا وعربيّا- في ما نشكوه من غياب مشروع حضاريّ إستراتيجيّ يكون طموحا وأملا في تحقيق التوازن المفقود، مع غيرنا من التكتلات البشرية في مختلف أصقاع العالم، منذ زمن طويل، فلا يمكن الحديث عن صدام أو حوار أو غير ذلك من أشكال التفاعل الحضاريّ في ظلّ عدم وقوف الذات الجماعية إسلاميّا وعربيّا على أرضية صُلبة من التخطيط لمشروع جوهريّ. أمّا المُسمَّيات الكرتونية للأقاليم الصورية، والاجتماعات البيروقراطية، والتنسيقات العرَضية، وخطابات الاستهلاك للداخليّ أو الاستسلام للخارجيّ....، فلم تعُدْ تسكِّن الجوع الشديد إلى تصوّر ملامح مشروع حضاريّ والشروع في تنفيذه، في تصميم حاسم.

*********************

الحواشي

*) باحث وأكاديمي من تونس.

-1Article civilisation, in Encyclopaedia Universalis, version éléctronique.

-2Ibid.

-3Ibid.

-4Culture: A Critical Review of Concepts and Definitions, 1952.

5- نقلا عن راسل جاكوبي، نهاية اليوتوبيا: السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة، ترجمة فاروق عبد القادر، الكويت، عالم المعرفة، العدد269،مايو، 2001م، ص52.

6- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

7- المرجع نفسه، ص58.

8- هذا هو عنوان الفصل الثاني في كتاب راسل جاكوبي، نهاية اليوتوبيا، مرجع مذكور، ص43-86.

9- لا نرى أننا بحاجة إلى إبراز الردود الكثيرة على نظرية (صراع الحضارات)، ونكتفي في هذا السياق بإبراز قيامها على التلفيق العلميّ وليّ عنق التاريخ، فضلا عن التلفيق الكبير الذي يحتوي عليه طرحه والمتمثل في تجاهل الدول والمؤسسات السياسية. انظر للتوسع: سليمان العسكريّ، ماذا تبقى من نظرية صراع الحضارات؟، ضمن الإسلام والغرب، كتاب العربي، الكويت، العدد49، 2002م، ص108 وما بعدها.

10- عبد الباقي الهرماسي، العولمة والهوية الوطنية، ضمن الإسلام والغرب، كتاب العربي، الكويت، العدد49، 2002م، ص89.

11- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

12- المرجع نفسه، ص90.

-13"religion." Encyclopædia Britannica. Encyclopædia Britannica 2007. Ultimate Reference Suite. Chicago: Encyclopædia Britannica, 2011 2007.

14- يجدر التنويه إلى أنّه لا شأن لهذه (الوسطية) المزدوجة، بالوسطية التي يدعو لها كثير من المفكرين وعلماء الدين في الإسلام، ويرون أنها محور الحياة الدينية ومكمن القوة الحضارية للدين الإسلامي، مكّنته من التأقلم والتعايش مع ظروف متناقضة: فترات التمكن وأوقات الوهن....، على حدّ سواء. فالإسلام - وفق هذه الرؤية الوسطية - بوسعه أن يعيش في نطاق الأكثرية، دون أن يطغى على الأقليات الدينية الأخرى.

15- انظر: نينيان سمارت (Ninian Smart) أستاذ علم الأديان المقارن في جامعة كاليفورنيا، ومؤلف كتاب (التجربة الدينية). وهو كاتب مدخل (دراسة الدين): في الموسوعة البريطانية. وما نستشهد به هي ترجمة غير حرفية لما وضعه فيه.

16- استخلصناها من فصل (دراسة الأديان) في الموسوعة الكونية الفرنسية، بقلم داريو ساباتوتشي (Dario Sabbatucci).

17- أوليفر ليمان، فلسفة الدين، ضمن مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين، تحرير أوليفر ليمان، ترجمة مصطفى محمود محمد، مراجعة د. رمضان بسطاويسي، الكويت، عالم المعرفة، العدد301، مارس 2004م، ص207.

18- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

-19"religion, philosophy of." Encyclopædia Britannica. Encyclopædia Britannica 2007 Ultimate Reference Suite. Chicago: Encyclopædia Britannica, 2007.

20- نتساءل هل يجوز أن نطبّق ذلك على مذهبي الإسلام الكبيرين السنـّة والشيعة؟ أم إنّ الأمر محض انطباع؟

21- انظر فصل فلسفة الدين، الموسوعة البريطانية، مرجع مذكور.

22- المرجع نفسه.

23- المرجع نفسه.

24- لم نتطرّق لنقد الفكر الدينيّ، سواء في الهرطقات القديمة أو في النظريات الفلسفية الحديثة من ماركسية ووجودية ملحدة وغيرها، نظرا إلى ضيق المجال وإلى عدم إلحاح الحاجة إلى عرض هذه النظريات والأفكار في سياق بحثنا عن العلاقة بين الدين والحضارة في المقاربة الغربية.

25- محمد بن جرير الطبري (ت310هـ)، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق أحمد محمود شاكر، مؤسسة الرسالة، 2000م، ج15، ص531.

26- المرجع نفسه، ج15، ص535.

27- المرجع نفسه، ج15، ص536.

28- المرجع نفسه، ج15، ص537.

29- حسين أحمد أمين، موقف المسلمين العرب من الحضارة الغربية، مجلة العربي، الكويت، العدد402، مايو، 1992م.

30- المرجع نفسه.

31- نقلا عن أحمد شبشوب، التحولات الاجتماعية وبناء الهوية لدى الشباب التونسي المتمدرس، مجلة أدب ونقد.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=376

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك