اللغة سمة الوجود الإنساني، فهي تتيح لنا تكوين علاقات عميقة ومجتمعات مركّبة. وليس هذا وحسب، بل نحن نستخدم اللغة حين نكون بمفردنا بحكم أنها تشكل علاقاتنا الصامتة مع أنفسنا. ويقدم تشالرز فيرنيهو في كتابه (الأصوات الداخلية) نبذة تاريخية عن (الحوار الداخلي) وهو مصطلح علمي أكثر من (التحدث مع نفسك في رأسك.)
ويقول البروفيسور فيرنيهو من جامعة دورهام في المملكة المتحدة أن الحوار الداخلي يتطور جنبًا إلى جنب مع الحوار الاجتماعي. وأول من خرج بهذه الفكرة هوعالم النفس الروسي ليف فيغوتسكي الذي بحث في مجال الأطفال عام 1920 وأشار إلى أن الأطفال حين يتعلمون التحدث مع الآخرين فهم يتعلمون أيضا كيف يتحدثون إلى أنفسهم، إذ يبدأ الأمر بصوت مسموع وينتهي إلى داخل رؤوسهم.
أما فيرنيهو فيقول في كتابه أن الحوار الداخلي لا يستلزم متطلبات الحوار المنطوق؛ لأن بإمكاننا التحدث بسرعة أكبر حين لا يتوجب علينا استخدام السرعة المطلوبة لتحريك ألسنتنا وشفاهنا ولا حتى صناديق الصوت (ألياف عضلية في الحنجرة) كما وثق الكتاب سرعة الحوار الداخلي عند السرعة المتوسطة بمعدل 4000 كلمة في الدقيقة الواحدة — أي أسرع بعشر مرات من الحوار اللفظي. وهذا الخطاب عادة ما يكون مختصراً لأننا لسنا بحاجة لاستخدام جمل كاملة للتحدث مع أنفسنا لأننا نعلم مسبقاً ما الذي نعنيه.
لكن هذا النوع من الحوارات لا يبقي على خصائص المحادثة، فقد نتقمص دور أحد ما أو نتحدث إلى أنفسنا وحسب. وفي كلا الحالتين، لا يعني هذا أنها ليست محادثة. تتضمن عقولنا العديد من وجهات النظر المختلفة التي قد تتجادل أو تتشاور أو تتحدث مع بعضها.
ويكتب فيرنيهو: «جميعنا نتكون من شذرات، لا يوجد ذات وحدَوية. جميعنا أجزاء تكافح لخلق وهم (الأنا) المتماسكة من وقت لآخر.»
تحدثت مع فيرنيهو حول شذرات ذواتنا التي تتواصل فيما بينها بالحوار الداخلي والصعوبات التي تواجه دراسة هذه الظاهرة وما الذي يمكن أن تعلمنا إياه هذه الحوارات. وفيما يلي نسخة لحوارنا معدلة بشكل بسيط.
……………………….
جولي بيك: برأيك، هل هناك فرق بين (الحوار الداخلي) والتفكير الاعتيادي؟ هل الحوار الداخلي فرع من فروع التفكير أم أنهما وجهان لعلمة واحدة؟
تشارلز فيرنيهو: أعتقد أن مصطلح (التفكير) كلمة معقدة. فالتفكير يعني العديد من العمليات المختلفة ولسنا نجيد غالبا توضيح ما نعنيه بهذه الكلمة، لذلك أحاول تجنبها على الرغم من كونها مصطلحاً يصعب تجنبه بعض الشيء، لكن يمكنني القول أن التفكير هو كل ما يفعله الدماغ. وهناك نوع من التفكير نسميه الحوار اللفظي وهو بالأساس حوار داخلي يمثل كل ما نفعله بالكلمات. لكنني أؤمن بشدة أن بإمكانك أن تصبحي عبقرية وأن تقومي بالكثير من الأمور الذكية دون لغة، فالأطفال والحيوانات يثبتون هذا الأمر كل يوم.
جولي بيك: إن التحدي الواضح لدراسة هذه الظاهرة هو أن الأفكار الوحيدة التي يمكنك معرفتها هي أفكارك أنت، فما هي الطرق التي ابتكرها العلماء لحل هذه المشكلة؟
فيرنيهو: ليس من السهل دراسة هذه الظاهرة بل حين شرعت بدراستها لم يكن هناك العديد من الأبحاث حولها. كل ما كان هنالك هو بعض الدراسات التي أجريت في الاتحاد السوفييتي في ثلاثينيات وعشرينيات القرن الماضي، لكن لم ينتج عنها الكثير في الغرب لسبب مقنع وهو أنه من المستحيل رؤية ما في عقول الآخرين. لا يمكنك قراءة أفكارهم إنما عليكِ دفعهم للتعبير عنها. إن الأمر معقد لأن مراقبة العملية بحد ذاته من شأنه أن يغيرها.
ولوقت طويل، كان الناس يقولون بعدم إمكانية توجيه التركيز إلى اللاوعي بهذه الطريقة لأنه معرض للتشوه، لكن بإمكاننا القول أن الأمور بدأت تأخذ منحىً آخر في العشرين عاما الأخيرة أو نحوها. فقد بات العلماء يدرسون اللاوعي كموضوع بحث علمي، وها هم يخرجون بتقنيات أفضل لدراسة مواضيع كالحوار الداخلي.
نستطيع النظر إلى الفروقات الفردية بين الأشخاص ومدى استخدامهم للحوار الداخلي وكيف يتعلق هذا الأمر بملفهم المعرفي. كما يمكننا النظر لمعرفة ما إذا كنتِ تتجاهلين النظام اللغوي بإعطاء الآخرين مهمة ثانوية كتكرار كلمة ما عدة مرات، وإن كان هذا الأمر يؤثر في المواضيع الجوهرية التي تهتمين بها. لكِ أن تسألي الآخرين أو تعطيهم نماذج استطلاعات رأي وأن تستخدمي أساليب مختلفة من عينات التجربة. وباستخدام تقنيات جديدة تستطيعين البدء بالنظر إلى ما يجري داخل عقول الناس حين يبدو عليهم أنهم يحادثون أنفسهم.
جولي بيك: من الواضح أنه سيكون هناك اختلاف كبير بين ما يقوله الناس عن حواراتهم الداخلية وبين ما يفعلونه. لكن هل تمكنتم من تحديد أي صفات شاملة أو عالمية لحوارات الناس الداخلية؟
فيرنيهو: لقد بدأنا ندرك أن الحوار الداخلي ليس أمراً واحد وحسب. أحسب أن هناك اعتقاد بأن الحوار الداخلي لا يعدو كونه محادثة فردية تحدث بصورة داخلية كنتيجة لصوت مفرد يثرثر داخل رأسك. ونعتقد الآن أن هناك بعض الأنواع الرئيسية للحوار الداخلي، فهو يختلف بحسب إيجازه وإطنابه وقد بدأنا الآن بتجريد هذه الصفات المختلفة. وهذا يوافق الفكرة التي تقول أن للحوار الداخلي عدة وظائف، إذ أن له دوراً في التشجيع والتعبير العاطفي ولربما كان له دور في فهمنا لذواتنا كذوات.
جولي بيك: لنتحدث قليلا عن ماهية الأغراض المختلفة لهذا الخطاب. أعلم أن الرياضة من الأمثلة الشهيرة إذ يتحدث الرياضيون مع أنفسهم لتحسين أدائهم، لكن ما الأسباب الأخرى التي قد تدفعنا للحديث مع أنفسنا؟
فيرنيهو: إن كنتِ تؤمنين بنظرية فيغوتسكي، فإن الحوار الداخلي موجود لأنه نوع من التصور الداخلي لما اعتدنا فعله بصوت مسموع. وحين كنا صغارا، شاركنا في حوارات اجتماعية، لقد تحدثنا مع الآخرين وبعد ذلك مررنا بمرحلة تعرف بالحوار الشخصي عندما كنا نخاطب أنفسنا بصوت مرتفع، وانتقل الأمر بعد ذلك ليصبح داخلياً بشكل كامل وبات يحدث بصمت داخل رؤوسنا. وبالنسبة لفيغوتسكي فإن اللغة الموجهة للذات تتضمن كل أنواع الوظائف المختلفة، ولذلك كان المفتاح الرئيسي هو التخطيط لما تريدين القيام به. إن راقبتِ طفلة تلعب بألعابها فمن المتحمل أن تشاهديها وهي تتحدث إلى نفسها، وقد تتحدث أحيانا بأمور لا صلة بها باللعب لكنها عادة ما تقول «سأبني سكة قطار» أو «سأبني منزلا» أو«هذا المنزل سيبدو كمنزل خالتي» وما إلى ذلك. كل هذه تعد تعليقات من شأنها أن تساعدها في التفكير بما تفعله وتخطط لما ستقوم بفعله لاحقا.
لكننا نستخدم الحوار الداخلي للتفكير في الماضي أيضا، فهو يملك وظائف في التخيل ونسج وقائع بديلة. كما أن له دور في التشجيع كما هو معروف جدا في الرياضة كما ترين عندما يتحدث الرياضيون مع أنفسهم ليس لرفع معنوياتهم وحسب، بل لتوبيخها أيضًا. فهم يستخدمونه لتوبيخ ذواتهم بعد فعل أمر غبي وأظننا جميعا نفعل ذلك، لكنه وارد أكثر في الرياضات.
جولي بيك: حسنًا، أنا أتحدث إلى نفسي بصوت مرتفع وفي رأسي أيضًا. ولقد ذكرت نظرية فيغوتسكي أن كل ما كنا نفعله في طفولتننا من حديث مع أنفسنا بصوت مرتفع، ينحسر داخل الرأس. لكن بالنسبة لي، لا زلت أتساءل عن الغمغمة التي أقوم بها حين أكون في غرفتي مثل «حسنًا، أين مفاتيحي، هاهي، لقد أخذت هاتفي، أخذت محفظتي وما إلى ذلك» هل تظن أنها عملية مشابهة؟ سواء كانت داخل الرأس أو خارجه؟
فيرنيهو: لا أرى أي سبب يدفعنا للتفكير بأنهما أمران منفصلان، وأعتقد أنه ذاته الحوار الخاص الذي كنا نجريه أيام طفولتنا. وبالنسبة لنا كبالغين نجد أنه من المفيد في مواقف محددة أن نتحدث مع أنفسنا بصوت مرتفع بدلا من من أن يكون ذلك الحديث داخل رؤوسنا. فالكلمات تخرج من الفم ويتردد صداها في الهواء بلمح البصر، فتصبح الكلمات محسوسة أو مادية بعض الشيء فتتبع الذاكرة ما قلته للتو مما يجعلها تثبت في الرأس بصورة أسهل.
وأود المجازفة بالقول أنك عندما تتحدثين إلى نفسك بصوت مرتفع تصبح الأمور أكثر صعوبة أو تحديًا أو إجهادًا نوعاً ما. وأعتقد أننا نبدأ بمحادثة أنفسنا بصوت مرتفع بالأخص حين تبدأ الأمور بالتعقيد. وهذا يوافق ما يحدث في الحوار الخاص لدى الأطفال، فهم سيتحدثون مع أنفسهم حين تغدو الأمور أكثر صعوبة.
وحقيقة أن البالغين يتحدثون إلى أنفسهم تشير إلى أننا بحاجة إلى إعادة النظر في نظرية فيغوتسكي. فعلى الرغم من أن الحوار الداخلي في الرأس يتشكل من تلك اللغة الاجتماعية ابتداءً، ثم ينتج هذا الحوار الخاص بصوت مسموع، إلا أنها حين تخرج سراً فهي تعود إلينا مجددًا لأنها لا تخرج بشكل دائم، إنها ليست شارعاً باتجاه واحد. ما أود قوله هو أن معظم البشر يتحدثون إلى أنفسهم، لكن لا يزال هناك شيء من الإحراج الاجتماعي حيال هذا الأمر.
ومن اللطيف تخمين سبب فعلنا لذلك من وجهة نظر تطورية. فحين نكتسب لغة ومن ثم نشرع في استخدامها بصوت مرتفع، سنتعلم سريعاً جداً أن محادثة أنفسنا بصوت مرتفع في مواقف خطرة وصعبة ، فكرة سيئة. لن يستغرق الأمر كثيرًا من الوقت حتى يلتهمنا النمر ذو الأسنان الحادة إن كنا أمامه لو كنا سنتمتم مع أنفسنا .
جولي بيك: بالطبع، فالعديد من المواقف التي نتحدث فيها مع أنفسنا ليست بتلك الخطورة. ومن المضحك أنني دائما ما أجدني أتحدث إلى نفسي أكثر حين أكون في محل البقالة. لكن هناك شيء حيال هذا المكان يشعرني بالتوتر، فالجميع يحدقون بك وأنت تحاول شراء طعامك.
فيرنيهو: رغم أن هذا حديث انفرادي، بمعنى أنه حديث مع النفس، يبدو أن وجود الآخرين يحفزه. فالأطفال يفعلون هذا الأمر أكثر حين يكون هناك أطفال آخرون برفقتهم. وأعتقد أن هذا ينطبق على البالغين أيضا، فإن كنتِ في محيط يتمتم كل من فيه، فإنكِ على الأرجح ستقومين بذات الأمر. إنني أتحدث إلى نفسي في محل البقالة لأنني أحاول تذكر ما نسيته من الأغراض في القائمة.
جولي بيك: أو ربما لأنك لا تستطيع إيجاد شيء ما من المفترض أن يكون في هذا المكان لكنه ليس هنا.
فيرنيهو: توجد دراسة منظمة تشير إلى أن هذا النوع من الحديث مع النفس يساعدك في الحقيقة على فعل ذلك تماما — أعني التقاط الأغراض من على الأرفف في محل البقالة وهذه إحدى فوائد الحديث مع النفس التي كانت قد أثبتت.
جولي بيك: لقد أشرت إلى ذلك الجزء من نظرية فيغوتسكي الي يقول بأننا في الوقت الذي نتعلم فيه الحوار الاجتماعي، فإننا نتعلم الحوار الداخلي. أخبرني إذن: كيف يتوافق تطور اللغة المنطوقة مع تطور الحوار الداخلي؟
فيرنيهو: حسناً، يعتقد فيغوتسكي بائتلاف أمرين في مرحلة الطفولة المبكرة. فأنت تملكين عبقرية أساسية كالتي يظهرها أي طفل بعمر السنة. فهم قادرون على فعل كل شيء كأداء بالأعمال وابتكار بعض الأشياء وتذكر الأخرى، لكن هذا النوع من الذكاء هو ذكاء ما قبل اللغة، ومن ثم تمتلكين شيئاً يأتي تباعاً وهو اللغة. ومذهلة تلك السرعة التي يكتسب بها معظم الأطفال اللغة، فالفكرة لا تكمن في احتياجك للغة للتفكير، لكن وجود اللغة مفيد، لأنها تغير الطريقة التي تفكرين بها وتتيح لكِ التعبير بطرق مختلفة لقدرتك على استخدام الكلمات كأدوات. وفي مرحلة ما من عمر الثانية تتضافر اللغة مع الذكاء وهنا تتجلى الدهشة! فهناك شيء ما يُخلق، وقد يكون هذا الشيء استثنائيا بالنسبة للكون.
وليس من الواجب أن تتحدثي بنفس النوع من اللغة التي نتحدث بها الآن، فيمكنك استخدام لغة الإشارة، وبإمكانك التحدث بأي نوع من أنواع اللغة. يقول الكثير من الناس «حسنًا، كيف يفكر المصابون بالصمم؟» فأقول « يستخدمون لغتهم» إن هناك العديد من الأدلة تشير إلى أن بعض الأشخاص يحاورون أنفسهم داخليا بلغة الإشارة. فهم يستخدمون الإشارات للتحكم بتفكيرهم بذات الطريقة التي نستخدم بها نحن اللغة المنطوقة.
وهذا رائع لأن المصابين بالصمم يتعرضون للغة بنسب مختلفة. فالبعض يولدون مصابين بصمم تام، وبعضهم يولد بقدرة سمعية طفيفة فيتعرضون لقدر قليل من اللغة، والبعض الآخر يصابون بالصمم في مرحلة الطفولة المبكرة وهكذا. وبذلك تحصلين على قدر قليل من كليهما، فبعض الأشخاص بناءً على قدر تجربتهم اللغوية، سيقولون أنهم يتحدثون مع أنفسهم بلغة سمعية كاللغة التي نتحدث بها أنا وأنت في حواراتنا الداخلية. في حين يقول البعض الآخر بأن حديثهم مع أنفسهم يميل أكثر لكونه بلغة الإشارة، إذ يكون الحوار بصريًا أكثر.
جولي بيك: أنت تفكر في حديث النفس من ناحية حوارية. إن كان هذا الحوار يجري بين المرء وذاته، فكيف يجري الأمر بالنسبة للذات المنقسمة، هل يحدث داخلياً؟ هل يشبه الأنا العليا القديمة لفرويد التي تقول للأنا «لا تلتهمي الدونات»؟
فيرنيهو: يمكن أن يكون هذا جزءاً من الأمر. إن النقطة الجوهرية هنا هي أن الذات متعددة، بمعنى أن لدينا أجزاءً مختلفة من الذات. وسواءً أردتِ وضعها في إطار فرويدي أم لا فهذا الأمر يمكن أن يكون مفيداً، لكنني لا أنظر إلى الموضوع بهذه الطريقة. إن الأمر الأكثر أهمية هنا هو أن لدينا أساسيات البناء الحواري لأن هناك من يتحدث في حين ينصت الآخر. وقد يكون ذلك المنصت أنتِ وقد يكون شخصاً آخر، فيمكنني مثلا إجراء حوار داخلي بيني وبين والدتي ولقد أخبرني بعض الأشخاص على مر السنين عن حوارات يجرونها داخليا مع أشخاص غائبين، ويمكن أن يكون شخصاً قد فارق الحياة أو شخصاً متخيلا وقد يكون إلهاً . وحاولت في الكتاب أن أستخدم هذا الأمر كطريقة لإعادة التفكير في مفهوم التأمل الروحاني للصلاة وأعني بذلك فكرة إجراء محادثة مع كيان آخر. فبالنسبة لي، ما جعل هذا ممكناً هو البنية الحوارية التي قمنا بخلقها بسبب طريقة تطورنا كأطفال. ولأننا نستوعب الحوارات الاجتماعي، فإننا نستحضر تلك البنية الحوارية وهي موجودة بالضبط في لبِّ تفكيرنا.
جولي بيك: الناس بشكل عام لا يجيدون كثيرًا ترجمة ما يحدث في عقولهم تمامًا، صحيح؟
فيرنيهو: حين نستخدم استبيان التجربة الوصفية — عندما سئل الناس إخبارنا عن حديث أنفسهم- نفترض أن الكثير مما يقولونه عندما يسألون عن تجربتهم هو نوع من التعميمات حول ما يعتقدون أنه في عقولهم وليس ما هو في عقولهم فعلاً. وهذا ما يجعل الناس مندهشين حيال استبيان التجربة الوصفية. يعتقد البعض أن أفكارهم تحمل شيئاً من السلبية في الوقت الذي يتضح أنها مبهجة أو العكس. وهذا سؤال فلسفي رائع لأنه يشير إلى أننا قد نكون مخطئين حيال تجاربنا الشخصية. وإن كان من الممكن أن نكون مخطئين حيال ما يجري داخل رؤوسنا، فهذا جنوني جداً.
جولي بيك: هل تعني أن الناس قد يملكون افتراضات أساسية حيال شخصياتهم أو أنماط تفكيرهم ثم يكتشفون أنهم على خطأ؟
فيرنيهو: نعم، تماماً. ومن الممكن أن ينطبق الأمرعلى مفاهيم محددة حول الصحة العقلية أيضاً. روس هورلبرت (الرجل الذي ابتكر استبيان التجربة الوصفية) لديه مثال لشخص يعاني من الوسواس القهري OCD في إحدى أوراقه، إذ تكلم عن شخصيته التي تتذمر من الأفكار الوسواسية المتطفلة الدائمة، لكنه بعد أن أجرى الاستبيان وجد أن تلك الأفكار لم تكن موجودة تقريباً.
جولي بيك: ربما كان يلاحظ هذه الأفكار أكثر من غيرها؟
فيرنيهو: نعم، كما أعتقد أن ما يحدث هو أننا نقوم بالكثير من التعميمات الشخصية فيما يتعلق بتجاربنا ولدينا ذلك النوع من النهج النظري الذاتي لتجاربنا مما لا يتوافق دائماً مع ما يحدث في الواقع حين نحاول عيشه لحظة بلحظة.
جولي بيك: إذن كيف ينطبق هذا الأمرعلى محاولة فهم ما يحدث للأشخاص الذين يعانون من هلوسات سمعية؟
فيرنيهو: الأمر بسيط، إن سماع الأصوات تجربة مخيفة في بعض الأحيان، فهي عادة ما ترتبط بالأمراض العقلية الحادة مع الكثير من التشخيصات النفسية المختلفة. وهو ليس مقتصرا على الشيزوفرينيا (انفصام الشخصية) بل يتعرض لها الأشخاص من غير المصابين بأمراض عقلية. فالكثير من الأشخاص العاديين لديهم تجارب عابرة مشابهة لسماع الأصوات خلال فترة ما من حياتهم.
ويمكن لهذه الأصوات أن تكون مخيفة جداً بالإضافة لاحتمالية كونها لا تحمل أدنى مشاعرة أو إيجابية أو مشجعة ومرشدة في حالات معينة. وتكمن الفكرة هنا في أنه حين يسمع الأشخاص صوتاً، فإن ما يحدث حقيقة هو أنهم يتحدثون إلى أنفسهم، ولكن لسبب ما لا يدركون أن هذا الحديث كان صادراً عنهم هم، فيعامل الصوت حينها على أنه شيء دخيل لا علاقة له بالشخص.
هناك العديد من المشاكل التي تتعلق بهذه الفكرة. فالكثير ممن يسمعون أصواتاً يرفضون فكرة أن هذه الأصوات ما هي إلا حواراتهم الداخلية ويتملكهم الخوف تجاهها لأن ما يقوله الآخرون عنهم يكون غالباً كلمات مزعجة. كما يجب إشراك بعض العوامل الأخرى كالذاكرة، لأنه يبدو أنها تشكل دوراً كبيراً في هذا الأمر. فسماع الأصوات يرتبط بشكل كبير بالأحداث الصادمة، وعلى ما يبدو تتراجع هذه الأحداث في الوعي في هيئة أخرى. ولذلك فإن أي حادثة سماع أصوات ستستحضر بالضرورة ذكرى بطريقة ما. ونحن نقترح احتمالية وجود أنواع مختلفة لسماع الأصوات، وأعتقد على الأرجح أنه ليس نوعاً واحداً.
جولي بيك: لقد كتبت: «وهناك مجال آخر يمكن أن يكون فيه الحوار الداخلي مهماً وهو تفكيرنا بشأن الخطأ والصواب» أعلم أنه لا يوجد بحث في هذا الموضوع بعد، لكنني أرغب في معرفة رأيك. كيف يمكن للطريقة التي نحادث بها أنفسنا أو نستنطق بها معتقداتنا في عقولنا، أن تؤثر على أحكامنا الأخلاقية؟ هل هذه هي الطريقة التي نستطيع بها تغيير آرائنا؟
فيرنيهو: يمكنني القول أنني أحادث نفسي حين أتعامل مع معضلة ما. ليس هذا وحسب، لكنني أفعل هذا قليلا حين تواجهني مشكلة ينبغي علي حلها وقد تكون مشكلة عادية. ومن المنطقي بالنسبة لي أن هذا الأمر الذي يعتبر أداة فعالة للإدراك، قد يكون مفيدا حين يتعلق الأمر بالتفكير في القضايا الأخلاقية. وبطبيعة الحال، هناك الكثير حول الأخلاق مما هو لحظي وعاطفي ولا يُفكر فيه فعلياً، لكن لن يدهشني إن اتضح أننا نستخدم اللغة أكثر بقليل في أنواع محددة من التفكير الأخلاقي.
وهناك عنصر في هذا كله ألا وهو الحدس. لقد اعتدت الوثوق بحدسي في كثير من الأوقات؛ لأنني كنت أشعر ببعض الإنجاز. فأنا أبذل بعض الجهد العقلي لكنه ليس جهدا واعيا، وقد يكون شيئا لا أستطيع وصفه بالكلمات. لكنني على يقين بوجود أجزاء من ذلك الحدس إن تحدثت عنه أو فكرت به بيني وبين نفسي، فسيكون مفيداً. يشبه الأمر تماماً الاستفادة من التحدث عن مشكلة مع صديق ما. فنحن نشعر بارتياح جزئي حين نتحدث مع صديق حول مشكلة لأننا قادرون على التعبير عنها، ولدينا ذلك الحوار المتمثل في اثنتين من وجهات النظر — إن هذا الأمر مفيد حد إصابتنا بالدهشة. وحتى مجرد النطق بالكلمات بصوت مسموع قد يكون ناجحاً بشكل مذهل.
ترجمة: شذى الطيار