الإسلام والمنحى الروسي

الإسلام والمنحى الروسي

مراجعة: أورلاندو فيغس*
يحب المسلمون اليوم أن يفخروا بأنّ الإسلام وصل إلَى روسيا قبل المسيحية. فقد جاء الإسلام من الجزيرة العربية عبر فارس وآسيا الوسطى والقوقاز في القرون التالية لظهوره في القرن السابع؛ بينما بقيت المسيحية خارج البلاد حتى اعتنق أمير (كييڤ) الوثني المسيحية البيزنطية بعد (العام 1000) على المسيح. وفي روسيا اليوم جماعاتٌ إسلاميةٌ كثيرةٌ في شتى النواحي، بالإضافة إلَى المغول الذين اعتنقوا الإسلام عندما كانوا يسيطرون في أقاليم روسية كثيرة بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر. وقد بقي التتار في روسيا؛ في حين دُفعت القبيلة الذهبية التي اعتنقت الإسلام أيضاً باتجاه منغوليا. وعندما بدأت الإمبراطورية بالتوسع بعد القرن السادس عشر اتجهت نحو الشرق؛ وبذلك ازداد عدد المسلمين فيها أيضاً. وقد ظل الروس يتقدمون في القوقاز وفي آسيا الوسطى حتى صاروا أواخر القرن التاسع عشر يحكمون من المسلمين أعداداً أكبر من تلك التي كان يحكمها السلطان العثماني آنذاك.

لقد كانت المقابلة بين الروس والمسلمين قائمةً على السيطرة من جهة، والمقاومة في داغستان والشيشان من جهة ثانية. والمعروف أنّ الداغسْتاني شامل خاض نضالاً عنيفاً ضد جنود القيصر نيقولا الأول (1825-1855م)؛ ولذلك فقد كانت نزاعات الروس مع الشيشان في التسعينات وحتى الآن عودةً للصراع القديم بعد الهدنة القسْرية أيام السوڤيات. بيد أن كروز مؤلّف: من أجل النبي والقيصر، يرى أنّ هذه الرؤية خادعة بعض الشيء. فقد سيطرت كاثرين على شمال القوقاز في القرن الثامن عشر بالقوة والعنف. لكنّ الإدارة القيصرية كَسَبَتْ المسلمين تدريجياً، وصار بالوسع في القرن التاسع عشر أن يعتبروا أنفسَهم روساً ومسلمين بدون حرج. ويذهب كروز إلَى أنّ مؤرِّخي الإمبراطورية الروسية يتجاهلون هذه الحقيقة لأنهم مهتمون بالتاريخ السياسي وليس بالتاريخ والتعايش الديني. فالواقع أنّ القيصر اتبع سياسة تسامحٍ واستيعابٍ مع المسلمين وكسب أكثريتهم وطبقتهم الدينية ونبلاءهم. وقد كانت الإدارة القيصرية تعتبر المسلمين موحِّدين، وهذا يقرّبهم من المسيحيين. ولذلك فقد كانت الشيشان وداغستان استثناءً بسبب الطرق الصوفية التي كانت تجيّش الناس ضد الكفار. ويمكن بالمقارنة مع الاستعمارين الفرنسي والبريطاني في آسيا وإفريقيا اعتبار التجربة الروسية مع المسلمين أكثر نجاحاً. فمنذ الاستيلاء على طشقند (عام 1865م) وحتى (عام 1917م) ما كان هناك أي تمردٍ ضد السلطة القيصرية في البقاع الإسلامية.

يتحدث كروز عن كاثرين الثانية (1762-1796م) تجاه المسلمين والتي وجَّهها فيه الكاميراليون الألمان الذين كانوا يؤمنون بأنّ الاعتراف بالاستقلال الذاتي للجماعات الدينية يساعد على استقرار الدولة. ثم إنّ المستشرقين الروس الذين درسوا عقائد المسلمين وعاداتهم - أفادوا الإمبراطورة أنّ الإسلام قريبٌ من المسيحية، وأنه يمكن استئناس المسلمين بالتسامح وحُسْن المعاملة. وهكذا حاولت الإمبراطورة التعامُل مع الإسلام مثل الكنيسة الأرثوزكسية؛ فأتمرت إنشاء (مجلس إسلامي) قريب من مشيخة الإسلام العثمانية برئاسة محمد خزينوف، للإشراف على شؤون المسلمين الدينية، وتعيين الأئمة والقضاة، وبناء المساجد أَو الإذن بذلك. وقد كان الأئمة يدعون للقيصر على المنابر، ويدعون المسلمين لمبايعة القيصر، وللخدمة العسكرية. وازدادت قوة المجلس وصلاحياته في عهد نيقولا الأول بعد وفاة محمد خزينوف (عام 1824م). وبلغ من أمر نفوذه أنه أقنع المسلمين بالموافقة على عدم دفن موتاهم إلاّ بعد ثلاثة أيامٍ من الوفاة، رغم مناقضته ذلك لأحكام الفقه وعادات الناس. وقد كان مقر المجلس في البداية في أورنا ثم نُقل إلَى أورنبورغ.

تعاملت الإدارة الروسية بطريقةٍ إيجابيةٍ مع المشايخ والأئمة منذ أيام كاثرين الثانية. وشجعت الإصلاحيين والمعتدلين منهم على إصلاح الأحكام الفقهية المتعلقة بالمرأة والزواج والطلاق وخطف العروس وتعدد الزوجات. وكان المرشد في ذلك قيم التنوير، ومحاولة إبرازها باعتبارها متلائمةً مع الشريعة. ثم بدأ الاستشراق الغربي والروسي يتطور، فبدأت الإدارة في القرن التاسع عشر تتخذ من المستشرقين والخبراء في الإسلام مرشدين في إدارة المسلمين، وفي الضغط على الجهاز الديني التقليدي من أجل التطوير. وقد استجاب الفقهاء الأحناف المعتدلون لتلك الضغوط والاعتبارات. وبرز بين مساعدي الإدارة الروسية ميرزا ألكسندر كاظم بيك، وهو مسلمٌ ارتدّ عن الإسلام وصار مسيحياً، وكان على علمٍ دقيقٍ بالكتب الفقهية الحنفية. وقد درّس الرجل الطلابَ الروسَ بجامعة ڤازان، ثم انتقل إلَى جامعة بطرسبورغ (عام 1849م) وصار متنفذاً جداً لدى الإدارة في الشؤون الإسلامية. ولأنّ الكازاخ البدو ما كانوا عميقي الإسلام فقد ترددت الإدارة في كيفية التعامُل معهم. حاولت بدايةً أن تحضّرهم من طريق بناء المساجد، والإخضاع للأئمة، وإقامة القرى والبلدات لهم. ثم كان هناك من قال بل الأفضل الاعتماد على العادات القَبَلية في الإغراء والإخضاع، وعدم خدمة الإسلام. بيد أنّ الملالي بدوا أقوى من العادات والأعراف حتى لدى الكازاخ.

وبدا الإسلام مستقراً وقويَّ المؤسسات في آسيا الوسطى التي سيطر فيها الروس بعد (عام 1865م). وقد اعترف الروس طبعاً بالمؤسسات، وتدخلوا في الصراعات على النفوذ والأموال والأوقاف والضرائب بإعطاء أنصارهم من الملالي ميزات لكي يقووا جانبهم. وقد نجحت هذه السياسة أحياناً، وتسببت في توترات وتمردات أحياناً أُخرى. ويتحدث المؤلّف عن تمردٍ في قيرغيزستان قام به رجال الدين الجدد ضد الروس وضد الصوفية والمؤسسة الدينية التقليدية أواخر القرن التاسع عشر. وهو لا يدري كُنْهَ ذلك؛ بينما كان ذلك في الحقيقة تمرداً سلفياً.

فكرة كروز الرئيسية فكرة جيدة؛ فهو لا يبحث في أسباب زوال الإمبراطورية الروسية؛ بل في أسباب استمرارها هذه المدة الطويلة، ثم في انبعاثها أيام السوڤيات. لكنه يتجاهل في الحقيقة الكثير من أسباب التذمر الإسلامي من الاستيلاء الروسي القيصري. ويتجاهل التأثيرات السلبية لاستيلاء المهاجرين الروس على أراضي الفلاحين. بل ويتجاهل أخيراً في خاتمة الكتاب الحركة الإصلاحية الإسلامية التي وقفت مع السوڤيات ضد الحكم القيصري.

* * *

أمّا شيرين هانتر فتُظهر في كتابها كم كان الظلم القيصري رحيماً مقارنةً بالرحمة السوڤياتية. فقد عمد السوڤيات إلَى ضرب الإسلام بقسوة في كلّ بناه منذ العشرينات من القرن العشرين. في (العام 1917م) كان في روسيا وملحقاتها 26 ألف مسجد و45 ألف شيخ، وفي (العام 1963م) ما بقي غير 400 مسجد وثلاثة آلاف شيخ. ولذلك فقد كان طبيعياً وسط القمع الشديد أن يعتبر الناس الإسلام القديم والإحيائية الجديدة على حدٍ سواء بدائل للهوية والمقاومة. وجاءت حرب أفغانستان والتدخل الروسي فيها ليزيد الأمر هياجاً وسوءًا. فالمسلمون بروسيا ما صار عندهم نموذجٌ فقط للنضال والتمرد؛ بل تماسّوا أيضاً مع السلطيين والوهابيين الجدد الذين انتشروا في الجمهوريات الإسلامية وداغسْتان والشيشان، وسط غياب البنى الدينية التقليدية. وإلى هؤلاء الجدد المتطرفين تنسب هانتر القطائع الذي تماثل فيها هؤلاء مع الجنود الروس في الشيشان، وفي أعمال الخطف والقتل والانتحاريات في التسعينات في روسيا نفسها.

وعلى الرغم من عنف السيدة هانتر ضد الأصولية الإسلامية؛ فإنها ترى أنّ هناك فرصةً لكسْب المسلمين الروس في الشيشان وخارج الشيشان بعد أن خمدت الاضطرابات هناك إلَى حدٍ بعيد. للإسلام مستقبلٌ في روسيا حيث زيادة المواليد بين المسلمين نسبتها 5% بينما هي بين النساء الروس 1،5%. وقد اجتمع على المسلمين عنف الدولة، وتفضيلها في (العام 1997م) للكنيسة الأرثوذكسية في القانون. لا بد أن تحفظ روسيا نظامها العلماني وديمقراطيتها الوليدة، وعندها لن يتطلع المسلمون إلَى كياناتٍ انفصالية أَو تمردات أصولية.

******************

*) مراجعة لكتابي (روبرت كروز وشيرين هانتر): من أجل النبي والقيصر، الإسلام والإمبراطورية في روسيا وآسيا الوسطى، والإسلام في روسيا: سياسات الهوية والأمن (2007، 2006م).

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=373

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك