مأزق الإسلاميين.. المشروعية وبناؤها

 

أين المشكلة؟

مشكلة الإسلاميين، على اختلاف اختصاصاتهم ومذاهبهم، هي واحدة، سواء أكانوا فقهاء أم مفسرين، فلاسفة أم لاهوتيين، دعاة أم مثقفين. وملخص هذه المشكلة أنهم يتمسكون بنص مقدس أو أصلٍ ثابت يعتبرونه الأساس الوحيد لمشروعية الأقوال والأعمال، ولذا لا يملكون الجرأة على إخضاعه للمساءلة والمراجعة. هذه المشكلة تتجسد في مظاهر مختلفة وآليات متعددة: طرح عناوين لا يستطيعون الوفاء بها لأنها لا تمتّ إلى عالمهم الفكري، الدفاع عن قضايا يجهلون أصولها ولا يعرفون ما تبنى عليه أو تؤول إليه، التمسك بشعارات قديمة لا يحسنون سوى انتهاكها والخروج عليها، التناقض الفاضح بين الأقوال والأفعال، بين المبادئ والمقاصد، إلباس الإسلام لبوسًا ليس له، وفي الحالة القصوى يتحوّل ذلك إلى السطو على الأفكار الفلسفية والعلمية، الحديثة والمعاصرة، لنسبتها زورًا وكذبًا إلى الإسلام والقرآن.

الفيلسوف والفقيه

والمثالات كثيرة: هذه حال الفيلسوف الذي يقدم نفسه كفقيه للأمة، مكلَّف بأن يُجدّد لها أمر دينها، فيما خطابه فلسفي ومعارفه هي في أغلبها نتاج للجامعات الغربية. وهذه أيضًا حال الفيلسوف الذي يطالب بإسلام عصري تنويري تعدّدي تقدّمي تحرّري، يحترم حرية الضمير ويساوي المرأة بالرجل، أي بما يناقض تعاليم الإسلام كمعتقد اصطفائي وفكر أحادي وعقل مغلق يشتغل أصحابه بنفي الآخر ووصمه بتُهم الكفر والضلالة، وبالتعامل مع المرأة ككائن من الدرجة الثانية من حيث كرامته وحقوقه وحريته.

ولا أنسى المتفلسف الذي يدعو إلى الاهتمام بالحياة وعدم الغرق في النظريات المجردة، فيما هو يدعو من جهة أخرى إلى ربط الحياة بالحقيقة المطلقة، أي بما يتعدّى التجريد النظري نحو عالم الغَيْب بتهويماته الخلاصية وأوهامه الماورائية. وبالانتقال إلى جبهة الدين، فالأمثلة هي أيضًا عديدة وفاضحة.

هذه هي حال الداعية الذي يقول للغربيين بأن الإسلام يقبل تعدد الثقافات والديانات، فيما المسلمون لا يقبلون بعضهم بعضًا.

ولا أنسى الفقيه الذي يدعو إلى السفور بقوله: يكفي المرأة المسلمة أن تستر العورتين والإبطين، بحيث يمكنها أن تظهر بلباس البحر. وهذا يخالف منطوق الأحكام الشرعية التي لا تجيز للرجل نفسه أن يظهر أمام الملأ بلباس البحر. ناهيك بالمنظّر الذي يقول لك: لم يطبّق شيء من تعاليم الإسلام، وهو ما يعني أنها غير قابلة للتطبيق. أو المفسر الذي يقول: لا أحد يطبّق شرع الله بالمطلق، وهو ما يعني أن الخطاب الإلهي هو نسبي لا مطلق، ناهيك عن المفسر الذي يطالب بتحقيق إضافات على الشرع الإسلامي، فيما هو يفكر بعقلية المفسر أو الشارح؛ لأنه يبحث عن مسوغ شرعي للإضافات، في الآيات أو الأحاديث أو في اجتهاد العلماء.

منظومة مستهلكة

نحن إزاء نماذج تشهد على أن ما يصنع خطابات الإسلاميين ومواقفهم هو الجهل والخداع أو الزيف والنفاق. هذا هو المأزق الذي ينقاد إليه المدافعون عن الثقافة الإسلامية، أو الداعون إلى إقامة دولة الخلافة لتطبيق الشريعة تحت شعار: الإسلام هو الحل والبديل. إنهم يدافعون عن منظومة ثقافية قد استهلكت وآلت إلى انحطاطها منذ زمن، ولم يعد بالإمكان اعتمادها كصيغة للعمل الحضاري، أو كأساس لمشاريع النهوض والتقدم، أو لبناء علاقات تحكمها قواعد المداولة والشراكة. من هنا فإن محاولات استعادتها من جانب الإسلاميين أفضت أولًا إلى الإطاحة بالمكتسبات الحضارية التي حققتها المجتمعات العربية بعد دخولها في العالم الحديث، وانتهت ثانيًا هذه النهايات الكارثية، كما تتجسد في الحروب الأهلية بين المسلمين، وفي إدخال العرب والعالم في عصر الإرهاب. هذه حصيلة المشروع الإسلامي والصحوة الإسلامية والنهضة الإسلامية: عودة الاستعمار عودته المدمرة والبربرية، وعودة الدين عودته المرعبة والمظلمة.

التجديد والتطوير

وإنه لمن الخداع للنفس والغير، أن ندعي تجديد قراءة القرآن، لأن التجديد إذا لم يكن مجرد «شرح»، أو قياسًا للفرع على الأصل أو للحاضر على الماضي، إنما يعني فتح ملف الدين بوضع الأصول والفروع على مشرحة النقد التنويري، بما يعنيه التنوير في مستواه التحرري من الجرأة على كسر الوصاية على العقل بقول ما يمنع قوله أو الجدل فيه؛ وبما يعنيه على المستوى المعرفي من القدرة على تفكيك الممتنع، بالدخول على المناطق المستبعدة من التفكير، وعلى النحو الذي يتيح تجديد أطر النظر وقواعد العمل، أو بتطوير مفهوم العقل أو تجديد صيغ العقلنة.

بهذا تتعدّى المسألة الخلافَ على منهجية التفسير، بحيث يجري العمل، لا على تحييد الأصول من عمل النقد، بل على إعادة النظر بمفردات الخطاب الديني… وذلك بوضعها على مشرحة الدرس والتحليل، لتعرية مسبقاتها وهتك بداهاتها أو فضح طياتها ومحجوباتها. الأمر الذي يتطلب استخدام أو ابتكار عدة جديدة، من الرؤى والمفاهيم أو النماذج والقيم تترك أثرها التحويلي في عقل المسلم، بقدر ما تحرّره من عبادة الكتب والأشخاص.

قراءات نضالية

غير أن ما نشهده من تفاسير وقراءات مُتداوَلة، لم يأتِ بالجديد من الأفكار الخارقة والمعارف القيمة، بل هو لا يرقى إلى ما أنجزه القدامى. فقد أعمل هؤلاء عقولهم في النص، تفسيرًا وتأويلًا، أو تشكيكًا وتفكيكًا، وكانت الحصيلة أن طوّروا العلوم والمعارف القديمة، وافتتحوا فروعًا معرفية جديدة، كالتفسير وأصوله أو الفقه وأصوله، فضلًا عن علم الكلام ومدارسه. أما المعاصرون فلم ينجحوا في تقديم قراءات خلّاقة تحوّل العلاقة بالتراث الهائل إلى عملة ثقافية راهنة تصلح لبناء حياة معاصرة. بل هم، وانطلاقًا من إيمانهم الأعمى بأن النص القرآني ينطوي على العلم بكل شيء، لم يتركوا نظرية علمية مبتكرة، إلا وقالوا بأن القرآن قد سبق العلماء للنص عليها أو الإشارة إليها. وهكذا فما هو متداول هو قراءات أيديولوجية، دفاعية، تعيد إنتاج المشكلة، فيما هي تدعي إيجاد حل لها.

المقدس مآله الانتهاك

والعلّة في ذلك أن أصحابها يقرؤون كتبهم وأصولهم بمنطق تقليدي هو منطق المماهاة والثبات، فيما نحن نتجاوز هذا المنطق نحو منطقٍ تحويلي علائقي تنكسر معه مقولة المطابقة على غير مستوى: الأول هو أنه لا تطابُقَ بين المقروء والقارئ. فكلّ قراءة للنص تختلف عنه. والفارق بين واحدة وأخرى هو أن هناك قراءات هشّة، سطحية، اختزالية، مقابل قراءات خصبة، تحويلية تجدّد معرفتنا بالنصّ وبالمعرفة.  وهكذا لا قراءة تقبض على معنى النص، بل كل قراءة فعّالة تشكل هي نفسها واقعةً تخلق حقيقتها، لكي تندرج في سجل الحقيقة وتُضاف إلى رصيد المعرفة. الثاني هو أنه لا فكرة تبقى على ما هي عليه بانتقالها من مستوى إلى آخر، كالانتقال من صعيد النظر إلى مستوى العمل، بل يُعاد إنتاجها أو ابتكارها إمّا بصورةٍ إيجابية وبنّاءة، أو يجري إفقارها ومسخها، أو تُتَرجَم بضدّها كما تُتَرْجَم الأفكار التي تُعامَل كيقينيات أو معسكرات. الثالث والأهم أنّ المطلقات والمقدّسات والمتعاليات لا يمكن أن تترجَم إلا على سبيل الخَرْق والانتهاك أو التبديل والتغيير، على أرض الواقع البشري بما هو طارئ ومُفاجئ أو متعدد ومتغير أو متناهٍ ومحدود. ولذا لا جدوى من التعامل مع النصوص الدينية بوصفها المرجع الأوحد والمقدس للمشروعية. الأجدى أن تُعامل كتراث حي، بحيث تُقرأ قراءة نقدية تنويرية، بالمعنى الإيجابي والبنّاء، بوصفها مساحة للإمكان يجري العمل عليها، في ضوء التحولات الهائلة والتحديات الكبيرة التي يشهدها العالم، لابتكار حلول أو إيجاد مخارج للأزمات الحضارية والمآزق الوجودية التي تواجهها المجتمعات المعاصرة.

المواطنة والهوية

في ضوء هذه المقاربة، فإن المشكلة هي نقيض ما يحسبه الإسلاميون. إنها ليست في كون الثقافة الإسلامية، التي يعدّونها المرجع والحصن، هي الآن في خطر، بل في كون هذه الثقافة، التي يتعاطى معها أهلها بصورة فقيرة، عقيمة، عدوانية، هي مصدر الخطر على المجتمعات العربية، بعقائدها الاصطفائية وثنائياتها التكفيرية، بنماذجها البائدة ودعواتها المستحيلة. من هنا لا مخرج من المأزق، من دون الخروج من الفلك الديني. وذلك يقتضي أمرين: الأول هو إطلاق حرية الاعتقاد وكسر وصاية رجال الدين على العقول والأجساد.  والثاني هو نزع الصفة الدينية عن المجتمعات والدول العربية، للاكتفاء عند تعريف الهوية بالصفات والعناصر التي تتعلق بالبلد والوطن أو اللغة والانتماء للمجموعة العربية. وهذا المطلب يكتسب أهميته اليوم، على المستوى العربي، كون الإسلام ليس هو المستهدف، بل أكثر من بلد عربي، من جانب اللاعبين على مسرحه، من روسٍ وأميركيين وإيرانيين، تفوقوا على إسرائيل في أعمال التهجير والقتل والتدمير.

وإذا كان العالم قد خرج من الحداثة إلى ما بعدها، ومن العلمنة إلى ما بعدها، ويكاد يخرج الآن من الحقيقة إلى ما بعدها. فذلك لا يعطي مصداقية للمشروع الديني. بالعكس ثمة أفق ينفتح أمام المجتمعات العربية لكي تنصرف إلى تدبر شؤونها وبناء حياتها، بابتكار ما تحتاج إليه من الصيغ والعناوين أو النماذج والمفاهيم أو القيم والأساليب التي تمكنها من صنع حقيقتها وممارسة حضورها على المسرح العالمي، عبر المشاركة الخلاقة والبناء في صناعة الحضارة القائمة.

صناعة مشتركة

لنحسن القراءة كي نجد المخرج، بحيث نفكر بصورة مختلفة. لم تعد تجدي محاولات البحث عن شرعية للدعوات والمشاريع أو للأقوال والأعمال، في هذا النص أو ذاك، كما يُفكر صاحب العقل الأصولي الذي تستعبده أسماؤه وأصوله وثوابته. إن المشروعية العُليا، التي يريد أصحابها إدارة دولة أو تنمية بلدٍ أو النهوض بمجتمع، لا تقرّ اليوم بالرجوع إلى الكتب المقدّسة أو إلى مبدأ الواحد الذي لا شريك له. إنها ليست مقدسة ولا واحدة، بل متعددة المصادر. ولها آليات إقرارها وإنتاجها أو تعزيزها وتفعيلها، ومن غير وجه:

كسر نرجسيتنا الثقافية بالانفتاح على ما تنتجه أو تبتكره المجتمعات الغربية وسواها، من الأفكار والمعارف أو الصيغ والنماذج، للإفادة منها واستثمارها في أعمال النهوض والبناء. هذا هو التحدي. ليس السطو عليها، بل العمل على تجديدها في ضوء التحديات والتحوّلات. بهذا المعنى فالمشروعية لا تستمد مما قرره وأفتى به الماضون، بل مما نصنعه وننجزه في مجالٍ من المجالات، كي لا نعيش عالة على الماضين أو على المعاصرين.

اعتماد الديمقراطية كنظام لتداول السلطة عبر الاقتراع العام. غير أن الديمقراطية لم تعد مجرّد ديمقراطية موسمية، معطلة، تجري كل أربع سنوات. إنما هي ديمقراطية، حية، يومية، مركبة، تتطور بفتح مفهومها على ممكناته. من هنا الكلام اليوم على أكثر من شكل ديموقراطي، قطاعي، أو ميداني، أو ميديائي…

إدارة الشؤون والأعمال بمبدأ الاعتراف وقواعد الحوار والتسوية أو التنسيق والتعاون أو المداولة والشراكة. ولا سيما أننا ننتقل من المجتمع النخبوي إلى المجتمع التداولي، الذي هو شبكة تأثيراته المتبادلة وصيرورة تحولاته المتواصلة. وفي المجتمع التداولي كل فرد يملك قدرًا من الخبرة والمعرفة، وكل مواطن هو فاعل ومشارك، بقدر ما هو منتج ومبتكر. وكل فكرة مبتكرة تحتاج إلى التحويل الخلاق لكي تتحول إلى إجراء تنموي أو تطور مجتمعي أو سلوك ثقافي، بحيث أن من يطلقها أو يتبناها أو يستثمرها، يقوم بتطويرها ويعمل على إنتاج نسخته الخاصة منها.

بهذا المعنى فالفكرة المثمرة والبنّاءة، ليست هي التي تصح في أذهان العلماء والفلاسفة، بل هي التي عندما توضع على محك التجارب تسهم في تغيير الواقع بقدر ما تتغير هي نفسها. إنها إمكاناتها على الفهم والتشخيص، بقدر ما هي طاقتها على الفعل والتأثير في المجريات.

من هنا لم تعد المشكلة تتعلق اليوم بغياب الأفكار الكبيرة التي ينتجها العلماء والفلاسفة، كما كان الحال في عصر الروايات الكبرى والنظريات الشمولية والأيديولوجيات الخلاصية التي آلت إلى الغرق في الطوباويات الفردوسية أو إلى إنتاج أنظمة شمولية وأحزاب فاشية.

الأجدى أن نتحدث عن أفكار حية، خلاقة، فعّالة هي صناعة مشتركة يساهم فيها كل الفاعلين الاجتماعيين، كلٌّ بحسب موقعه واختصاصه. بذلك تأتي قرارات السلطة السياسية، بوصفها حصيلة كل النشاطات والحراكات أو المداولات والاقتراحات التي يشهدها المجتمع بمختلف فئاته وحقوله وقواه.

وإذا كان للمؤسسات الدينية دور تضطلع به، فهو أن تكف عن التصرف كمعسكر عقائدي يمارس أهله الإرهاب الفكري وإقصاء الآخر، بحيث يتم التركيز على القيم الجامعة لبني البشر، كالتعقل والتواصل والتعارف والتكافل، ويجري الاهتمام بحماية البيئة مما يتهددها من أخطار التلويث والتبديد والتصحير. مثل هذا الاهتمام هو أولى من العقائد والشرائع. فهذا أحوج ما يحتاج إليه الآن العرب والعالم. من غير ذلك نهرب من مواجهة المشكلة، لكي نعود القهقرى إلى الوراء، فنضيع الفرص، لكي نشوّه الماضي وندمّر الحاضر أو نلغّم المستقبل.

المصدر: http://www.alfaisalmag.com/?p=12301

الأكثر مشاركة في الفيس بوك