الدين والدولة والإحيائيات الإسلامية

متى يتحرر الدين من المهمات السياسية لتشارك فئات المجتمع في إقامة الدولة المدنية؟

 

رغم كثرة الكتابة عن نظرية الدولة وممارسة السلطة في الزمن الكلاسيكي للإسلام، ورغم الضجة التي أثارها كتاب الشيخ علي عبدالرازق: الإسلام وأصول الحكم (1925م) عن «دنيوية» الخلافة الإسلامية والردود الكثيرة عليه؛ فإنَّ أحدًا لم يتوقع النجاح ولو مؤقتًا لما قام به تنظيم داعش أو تنظيم الدولة الإسلامية، من إعلانٍ جديدٍ لإقامة الخلافة أو استعادتها (2014م).

في عام 1914م وعلى إثر دخول الدولة العثمانية في الحرب إلى جانب ألمانيا واليابان، قام وُجهاء هنود بإنشاء «حركة الخلافة» لنصرة الدولة العثمانية. وظلت «حركة الخلافة» قائمةً حتى عام 1927م، تقوم بنشاطات تارةً لإعادة الخلافة لتركيا بعد أن ألغاها مصطفى كمال عام 1924م، وطورًا لاختيار خليفةٍ جديد -على إثر تخلّي مصطفى كمال عن الخلافة ودولتها عام 1924- لكنّ التطور الذي حدث في أربعينيات القرن العشرين، مختلفٌ عن كلّ السابق؛ إذ إنّ حزب التحرير الإسلامي بزعامة تقي الدين النبهاني الفلسطيني هو الذي استمر وحده في الدعوة لتجديد الخلافة التاريخية أو استعادتها، أما الآخرون وعلى رأسهم أبو الأعلى المودودي، مؤسس الجماعة الإسلامية بالهند (1941م)، وحسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين بمصر (1928م)؛ فقد انصرفوا -بخلاف ما ذهب إليه علي عبدالرازق- إلى إثبات أنّ الدين الإسلامي يمتلك نظريةً للدولة أو نظامًا سياسيًّا. وعَبْر أربعة عقودٍ جرى تطوير تلك النظرية من جانب الحركتين، ومفكرين آخرين غير حزبيين في أدبياتٍ كثيرةٍ تضمنت ثلاثة عناصر: الآيات والأحاديث التي تُشْعِرُ بوجود نظام سياسي في الإسلام-والذكريات والوقائع والصورة التاريخية لدولة الخلافة الإسلامية- والمبادئ والنُّظُم والمؤسسات المُناظِرة في الإسلام للفقه الدستوري للدول الحديثة وفي الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وربط قضية الشرعية في الدولة والمجتمع بها أو بقيامها، ثم في زمن صعود الأيديولوجيات في الحرب الباردة الإستراتيجية والثقافية تبلورت رؤية الحاكمية الإلهية، التي ترى ضرورة إقامة سلطةٍ دينيةٍ في ديار الإسلام تكون وظيفتها «تطبيق الشريعة»، وهي رؤيةٌ خطيرةٌ على الإسلام وعلى المسلمين معًا.

وتأتي خطورة عدّ الإسلام دينًا ودولة كما في نظرية المودودي وسيد قطب وسائر الأصوليين الذين أسميهم الإحيائيين (revivalists) من عدة جهات؛ الأولى أنها تربط شرعية النظام السياسي بل الاجتماعي بالدين. والثانية أنها تعدّ الوظيفة الأولى للنظام السياسي تطبيق الدين أو الشريعة وليس حُسْنَ إدارة الشأن العام كما هو المعهود في كل الأنظمة السياسية القديمة والمعاصرة. والثالثة أنها تفترض أنّ الدين غير مطبَّق الآن وأنه ينبغي تطبيقه من طريق الدولة والنظام السياسي. والرابعة أنها بوصفها النظام السياسي ركنًا من أركان الدين توجب اللجوء إلى العنف بالداخل (الذي لم يَعُدْ مسلمًا خالصًا في نظرها) وتجاه الخارج (الذي يعارض هذه الرؤية)، ومن هناك لجأت إلى استخدام أيديولوجيا الولاء والبراء أو أيديولوجيا الفسطاطين؛ فسطاط الإيمان (المنحصر بالأصوليات)، وفسطاط الكفر (المنتشر في العالم وفي ديار المسلمين!). والخامسة: الذهاب سِراعًا باتجاه الفصام مع العالم من خلال التطرف العنيف وغير العنيف، وعدّ ذلك ضرورةً دينيةً، وهو ما أحال الإسلام إلى مشكلةٍ عالمية. 

تقنين الشريعة

لقد عارضت جهاتٌ دينيةٌ كثيرةٌ منذ الستينيات هذا التبرير للعنف باسم الدين أو نُصرته. لكنها ما أدركت خطورة الأصل الذي نجمت عنه كل هذه التداعيات؛ وهو عدُّ الإسلام دينًا ودولة. ولذلك، ومع معارضتها للعنف بالداخل باسم الدين، سعت للضغط على إدارات الدول من أجل تقنين الشريعة، ثم تطبيقها بواسطة المجالس التشريعية للدول، وبواسطة مجالسها أو محاكمها الدستورية. وبذلك، ومن حيث لم تقصِدْ نشرت الرياح في أشرعة الإحيائيين، الذين صاروا يأخذون على إدارات الدول الوطنية أنها تُعارضُ تطبيق الشريعة؛ لأنها علمانية ومتغربة. وزادت من مبادراتهم ونشاطاتهم لهدم الدول الوطنية بوصفها الحائلة دون تطبيق الشريعة الإلهية! لقد كانت وجهة النظر الأُخرى -منذ اشتداد الوعي بالخطر بقيام الثورة الإيرانية (لهدم الدولة الوطنية بإيران باسم الإسلام)، ومقتل الرئيس السادات على أيدي الجهاديين عام 1981م، وذهاب الجهاديين للقتال في أفغانستان- أنه ينبغي الخروج على هذه الإشكالية المصطنعة كلّها، وليس على جوانبها العنيفة وحسْب. وذلك بالقيام بحملة نقدية جذرية من جهة، والعمل على بناء سردية دينية وثقافية جديدة على ثلاثة أُسُس: استعادة السكينة في الدين من طريق الخروج من الثنائية المهلكة: الإسلام دين ودولة- وتجديد تجربة الدولة الوطنية، دولة الحكم الصالح، لصرف الشبان عن المُضيّ وراء أوهام الدولة الدينية- وتصحيح العلاقة بالعالم، من طريق الذهاب إلى أننا لا نريد أن نُخيف العالم، ولا أن نخافه، بل الأمل والعمل على الدخول في نظامه، والتأثير فيه من خلال أعرافه ونُظُمه بحيث نصون استقرارنا، ونحفظ مصالحنا الكبرى بصفتنا أُممًا وشعوبًا ودولًا، ونشكِّل جزءًا بنّاءً في نظام العالم. 

في مجال الأساس الأول: استعادة السكينة ينبغي إخراج الدين من بطن الدولة، وعدم إدخاله في الصراع على السلطة، فالشريعة مطبقة، ولا حاجة لإيلاء أي نظامٍ سياسيٍّ سلطة وصلاحية إقامة الدين، بحيث يتيح ذلك المجال للحركات الراديكالية للتحكم في إدارة الشأن العام. نحن نقيم عباداتنا دونما اعتراض، بل إنّ الدول الوطنية تحرس العبادات وترعاها بعدِّ ذلك جزءًا من النظام العام. وليس صحيحًا أننا في جاهليةٍ جديدةٍ تحتاج إلى إدارةٍ للتوحش، كما يزعم الداعشيون. بل إنّ عباداتنا ومعاملاتنا وأخلاقنا على سويةٍ مستقيمة الأصول والأعراف. أما تحديات الحداثة التي تواجهها كل الأديان والمذاهب، فنحن نستطيع مواجهتها بالمناعة التقليدية، وبالوسائل التي نستطيع استحداثها بالمعرفة وتجديد البنى والإصغاء إلى الجديد البنّاء في فهم الدين وحركيات المجتمعات. وعندما نقوم بتجربة أو تجارب التجديد والاجتهاد الديني، نقوم بعملياتٍ كبرى في تصحيح المفاهيم وتحريرها مثل الدين والشريعة والجهاد والولاء والبراء والدولة وعلائقها بالدين. إذ إن كل ما يقوله الإحيائيون والصحويون عن هذه المفاهيم الأساسية هو جديدٌ ومبتدَع، ولا أصل له في ثوابت الدين وأعراف المسلمين. فالعملية التجديدية الزاخرة تتضمن ثلاثة جوانب: تحرير المفاهيم، وتجديد بنى المؤسسات الدينية، وإقامة شراكة جديدة بنّاءة بين المؤسسات الدينية، والسلطات، وجهات المجتمع الجديدة الثقافية والإعلامية ووسائل التواصل. من الذي يقوم بذلك؟ نحن جميعًا في الجهات التي ذكرناها، وللمؤسسات الدينية، ورجالات الإسلام المتنور دورٌ خاصٌّ في العملية كلها.

وفي مجال الأساس الثاني: تجديد تجربة الدولة الوطنية. فقد عملت الأصوليات والإحيائيات طوال عقود على هدم الدولة الوطنية بوصفها دولة تَغَرُّبٍ وتغريب. وبالطبع ما كانت هي العامل الرئيس فيما أصاب بنى الدول الوطنية وشرعيتها. إنما لأنّ الإحيائيات والصحويات والجهاديات لعبت دورًا خاصًّا في عمليات الهدم باسم الدين؛ فإنّ للعلماء دورًا خاصًّا أيضًا في تحرير تجربة الدولة وتجديدها. فعلماؤنا القُدامى الكبار ما كانوا يعدُّون الإسلام دينًا ودولة، بدليل أنهم قالوا: إنّ الإمامة ليست أمرًا تعبديًّا، بل هي مصلحية وتدبيرية واجتهادية، وتقيمها الأمة لصَون مصالحها، وإدارة شأنها العام. ولا مستند لها غير الإجماع أو توجُّه الأكثرية. فالدولة في الإسلام هي مثل أي دولة في القديم والحديث، من حيث إنّ مهمتها حُسْن إدارة الشأن العام، وليست ركنًا من أركان الدين. وعندما يحتج الأصوليون بمقولة وجوب الإمامة؛ فإنّ المقصودَ بها وجوب أن تكونَ هناك سلطة تدير المجتمع وتصون أمنه ومصالحه، ولذلك يقولون: إنّ هذا الوجوب هو عقلي وشرعي، وهو عقلي لأنه موجودٌ لدى كل أُمم الأرض، فالمجتمع لا يستمر من دون سلطة. وهو شرعي؛ لأنّ السلطة موكولٌ إليها مع قوى المجتمع صون «مقاصد الشريعة» وهي الضروريات الخمس التي استنبطها الفقهاء: حفظ النفس والعقل والدين والعِرْض والمال. أما الوجه الآخر من تجديد تجربة الدولة الوطنية، فهو معنيٌّ بالحكم الصالح والرشيد، الذي كان الافتقار إليه في أنحاء كثيرة من العالم العربي بين أسباب تصدع تجربة الدولة الوطنية. وعلى كل الجهات اليوم الدعوة إليه وحملُهُ وتطوير إمكانياته، للقيام بواجباته التي أخلَّ بها من قبل.

تصحيح العلاقة بالعالم

وفي مجال الأساس الثالث؛ تصحيح العلاقة بالعالم: هذا الواجب مشتركٌ بين الجهات السياسية والمدنية والإعلامية والدينية، وقيادات المسلمين في عوالم الاغتراب، ومواطن المسلمين في الديار غير الإسلامية. علينا أن نمضي من واجب أو ضرورة عدم الاعتداء (ألَّا نخيف العالم) إلى خيار ألَّا نخاف من العالم. إنه لا خوف ولا تخويف؛ إذ لا تقوم على ذلك علاقات سوية بين الأفراد، فكيف بين الأمم والدول والأديان. بل لا بد أن نسعى بكل قوانا الفكرية والمصلحية والإعلامية للمشاركة في العالم. وهذا الأمر ليس تجربة إنشائية أو بيانية، بل هو حياةٌ ومصلحةٌ ومستقبل. ويتبين لنا ذلك عندما نعلم أنّ ثلث المسلمين يعيشون في دولٍ ليست ذات أكثرية إسلامية.

وأخيرًا، لماذا تجددت تجربة استعادة الخلافة؟ قلنا من قبل: إنّ الذي ظهر وتبلور هو عقائدية الدولة الإسلامية في زمن العقائديات الأُخرى في الحرب الباردة. ولأنّ خيار الصحويين والإحيائيين (الدولة الإسلامية) هو خيارٌ هجين أو حداثوي (الجمع بين العقائديات والأدوات الحديثة)؛ فإنّ الجهاديات الملقَّحة بالسلفيات الجديدة لجأت للخلافة، بوصفها مؤسسة تاريخية قديمة وأدنى إلى الزمن الإسلامي الأول أو العصر الذهبي للإسلام. وقد عَدَّتْ ذلك أنجح، وهو الأمر الذي ثبت فشلُهُ في مدةٍ قصيرةٍ. وكما في كل الانشقاقات؛ فإنّ تجربة الخلافة المستعادة، أحدثت من التخريب أكثر مما أحدثته تجارب الصحويات. لكن من ناحيةٍ ثانيةٍ فقد أظهرت جهاديات داعش إمكان استخدام الموروث الديني والسياسي على طريقتها. ولذلك ينبغي التفكير في كيفية الخروج من هذه التجربة المضنية التي لا شِفاءَ منها بالكامل إلّا بنجاح تجربة الدولة الوطنية، ونجاح النضال الفكري والديني من أجل استعادة السكينة في الدين. الموروث ينبغي فهمه وتجاوُزُ صِيغِه القديمة دونما اعتسافٍ أو إنكار أو تنكُّر. إنّ الإسلام ليس دينًا ودولةً بأي معنًى كان. وهو الأمر الذي يجب علينا جميعًا أن نعملَ له وعليه لمصلحة الدين قبل الدولة، ولمصلحة الدولة المدنية التي تظل هي الحاضر الباقي، والمستقبل المأمول. فعندما يتحرر الدين من المهمات السياسية التي زوَّدهُ بها الإحيائيون والجهاديون، يصير بديهيًّا أن تشارك سائر فئات المجتمع على قدم المساواة في إقامة دولة الحكم الصالح أو الدولة المدنية، بمعنى أنها ليست دولةً دينيةً، ولا نظامًا عسكريًّا وأمنيًّا استبداديًّا.

المصدر: http://www.alfaisalmag.com/?p=13930

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك