الشيوعية بعيون إسلامية: متخيّل العداء والاحتواء
نسعى من خلال هذا المقال، إلى دراسة متخيّل الشيوعيّة في الفكر الإسلاميّ من خلال بعض العينات التي تنتمي إلى دائرة الإسلام السياسيّ. وقد انتقينا مواقف رموز هذا التيّار الذين مثّلوا الموجة الأولى المؤثّرة في مسار الحكم على الشيوعيّة. ولم نكتف بمجرّد دراسة ما ظهر من مواقف العداء المعلنة، وإنّما حفرنا أعمق للبحث في ما خفي من أثر الفكر الشيوعيّ في مواقف دعاة الإسلام السياسيّ، وهو ما وسمناه بالاحتواء. فما بدا أصوليّة مغرقة في استنساخ الأنموذج الإسلاميّ القديم، أخفى تأثّرا بالفكر الشيوعيّ واستثمارا لمقولاتها؛ فمتخيّل دعاة الإسلام السياسيّ وسم الشيوعيّة بالمادّية من أجل إضفاء الشرعيّة على البعد الروحيّ الذي قدّمه الإسلاميون بديلا عنه وبحثا عن ملء الفراغ الذي شعر به الإسلاميون، وهُم يواجهون مقولات أسسها فلسفيّة وتتّصل بالواقع اتصالا مباشرا.
1- متخيّل العداء:
لعلّ أكثر المواقف جلاء هي تلك التي وسمت فكر "المودودي" و"حسن البنّا" و"سيّد قطب"، وهي تشترك في اعتبار الشيوعيّة مقترنة بالكفر لمخالفتها الإيمان بالمقدّسات وإنكارها الغيب؛ فضلا عن التأكيد أنّ منطلقات هذه الإيديولوجيا مخالفة للفطرة الإنسانيّة. ولئن اختلفت طرائق التعبير عن هذه الحقيقة، فقد جمعت تلك الأحكام بين روّاد الإسلام السياسيّ، إذ اعتبر "المودودي" أنّ الشيوعيّة تنبعث من عقليّة يهوديّة: عقليّة ماركس، واحتضنتها روسيا.[1] ومن أهمّ عيوبها أنّها تعطي الحكومة قوّة وسلطة أكثر من الحدّ اللازم وتسلب الأفراد والأسر والقبائل حرّيتهم جميعا. فيُسخّر الفرد لخدمة المجتمع، ويتحوّل إلى آلة بلا روح، وهي أسوأ شكل من أشكال الظلم الاجتماعيّ من خلال الاستيلاء على الأراضي والمصانع وتحويل البلد إلى سجن. وزرع الجوسسة بين المواطنين. فالفكر الشيوعيّ يقيم أسسه على وهم التوزيع العادل للملكيّة، وهو أمر لم يتحقّق على أرض الواقع. إنها باختصار دكتاتوريّة أقليّة مغترّة بفكرها تحاول فرض وجهة نظرها على الآخرين بالقوّة. فالمساواة والعدالة في الفكر الشيوعيّ وفق منظور دعاة الإسلام السياسيّ حكر على الجانب الاقتصاديّ وتتجاهل الأبعاد الأخرى للإنسان التي يختص الإسلام وحده بطابع الشموليّة في فهمها وتقنينها بحكم مصادره الإلهيّة المقدّسة.[2] أمّا "حسن البنا" ، فقد رأى أنّ النظام الشيوعي يشترك مع النظام الفاشي في قيامهما على أساس عسكريّ مدنّس، مقابل إسلام قدّس القوّة وآثر عليها السلم. وما الشيوعيّة سوى صورة من الغرب المادّي الذي أقصى الدّين عن مظاهر الحياة الاجتماعيّة وبخاصّة الدولة والمحكمة والمدرسة.[3] ونبّه "سيّد قطب" على الأصل الفلسفي للشيوعيّة، فقال إنّها "نظريّة فلسفيّة تنكر في هذه الحياة كلّ مؤثّر في سيرها خارج عن مادتها، فهي تنكر منذ اللحظة الأولى أن يكون هناك إله، ليس كمثله شيء في هذه الحياة."[4] وأكّد على تفسيرها المادّي للتّاريخ وعدائها للإسلام بسبب الاختلاف بينهما في طبيعة التفكير، وهو عداء لكل الأديان. فالشيوعيّة تسعى إلى تشويه صورة الحكم الإسلاميّ وتقسيم العالم إلى كتلتين: شرقيّة وغربيّة. وإنّ عدم الانضمام إلى الكتلة الشرقيّة معناه تقوية الكتلة الغربيّة. أمّا التفكير في كتلة ثالثة، فيسهم في تقوية الجبهة الغربيّة. فضلا عن كون الشيوعيين يتعصّبون لمذهبهم؛ فهو غاية في حدّ ذاته ولا وسيلة في نظرهم لتحقيق عدالة اجتماعيّة إلاّ الشيوعيّة.[5]
وخلاصة هذه المواقف، أنّ الطبقة الأولى من دعاة الإسلام السياسيّ التي تلقّت الفكر الشيوعيّ قد قامت بخلط كبير بين النظريّة والتطبيق. ولذلك، فقد تشكّل المتخيّل الإسلامي من مزيج بين نقد النظريّة الماركسيّة ونقد الحكومات التي حاولت تطبيق النظام الشيوعيّ. وقد كان هذا المتخيّل سببا في إعلان القطيعة بين النظام الإسلاميّ والنظم الشيوعيّة على أساس محاكاة العداء الشيوعي للدّين بعداء دينيّ للشيوعيّة. وكان هذا المنطلق أساس الطعون التي قدّمها روّاد الإسلام السياسيّ بحديثهم عن الجانب المادّي مقابل تقديمهم البديل الروحي وإنكارهم العدالة في مفهومها الشيوعي ونعتهم بأنهم دعاة عنف واستبداد ووسم نظامهم بالظلم والجور مقابل عدالة إلهيّة يجسّدها الإسلام.
وقد أضحى رأب الصدع الإيديولوجيّ بين الإسلاميين والشيوعيين أمرا صعبا، رغم قيام تيّار اليسار الإسلاميّ الذي حاول روّاده الإفادة من الفكر الشيوعيّ. ولكن ظلّ تأثيره محدودا، بينما وجدت دعوات العداء صداها في فكر الإسلاميين. وقُدّمت التبريرات الكافية للجهاد ضدّ النظام الشيوعيّ الكافر حين دعت الحاجة إلى القتال في أفغانستان. ومن أبرز الأمثلة عن تمكّن العداء بين الإسلاميين والشيوعيين مواقف "عبد الله عزّام" الذي برّر مشاركة مقاتلين من العرب المسلمين في الحرب الأفغانيّة ضدّ السوفييت بالمواجهة بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر؛ فقد انتقل الجهاد بحسب رأيه "إلى صراع شديد بين العقيدة الإسلاميّة والعقيدة الشيوعيّة، وعندها يصبح الكفاح بين الأمّة المسلمة والأمّة الشيوعيّة."[6] ولا ولاء إلاّ للمسلمين و"أكبر مصيبة هي ولاية الكفّار الروس والشيوعيين."[7]
لقد رسّخ دعاة الإسلام السياسيّ عداء الشيوعيّة، وصنعوا متخيّلا وسم ذلك الفكر بالكفر والإلحاد. فأسهم تأويلهم في إعدام إمكانيات التفاعل الفكريّ بين منظومتين فكريتين؛ كان من الممكن أن تمثّلا جبهة قويّة في مواجهة الرأسماليّة. ولقد أحسنت الأنظمة الرأسماليّة استغلال ذلك العداء، فمن بعد حرب باردة وُظّف الإسلاميون فيها لمواجهة المدّ الشيوعيّ تحوّلت المواجهة إلى حرب ضدّ الإسلاميين في إطار ما سمّي بصدام الحضارات. فقد حجبت زاوية النظر العقديّة عن دعاة الإسلام السياسيّ إمكانيات استثمار التقارب بينهم وبين الشيوعيّة وخوض جدل يمكن أن يؤدّي إلى تطوّر المقولات الشيوعيّة وتقريب النظريّة الإسلاميّة على أساس الاشتراك في كثير من الأهداف الاستراتيجيّة.
رسّخ دعاة الإسلام السياسيّ عداء الشيوعيّة، وصنعوا متخيّلا وسم ذلك الفكر بالكفر والإلحاد
2- الاحتواء والإخفاء:
لقد وجد دعاة الإسلام السياسيّ منذ جيل الروّاد في المقولات الشيوعيّة ما يملأ الفراغ الإيديولوجيّ الذي وسم دعوتهم لاستعادة أنموذج إسلاميّ جاهز طبّق قديما، ولكنّه احتاج إلى تحويل تلك المقولات إلى نظريّة تنافس الإيديولوجيتين الرأسماليّة والشيوعيّة. وقد أدرك الإسلاميّون من خلال انتشار الإيديولوجيا الشيوعيّة أنّ بإمكانهم تأسيس نسق فكريّ يحاكي الشيوعيّة في الطموح إلى مشروع دولة منطلقاتها فكريّة. ويختلف معها في مقوّمات ذلك الفكر. ولقد وعى "المودودي" بهذا المسار بقوله: "قامت الشيوعيّة تبثّ الدعاية لمبدأ الدولة الفكريّة لأوّل أمرها وقد سعت في تأسيس دولة على أساس هذا المبدأ، حتّى بدأ العالم يستأنس به ويتفطّن لما يشتمل عليه من حسنات، إلاّ أنّه قد دبّ دبيب الوطنيّة الملعونة في عروقها أيضا. فالإسلام هو المنهاج الفكريّ الوحيد الذي يمتاز من بين الأفكار والمذاهب –منذ أقدم عصور التاريخ إلى يومنا هذا- بأنّه يقيم على أساس الفكرة فحسب نظاما للدولة مطهّرا من العصبيات الجنسيّة وأقذارها، ويدعو الناس كافة إلى الإيمان بهذه الفكرة والانضواء تحت لوائها، حتى تتشكّل دولة فكريّة غير مقيّدة بجنس ولا قوميّة."[8]
فقد كان هاجس الاختلاف واحتكار الشرعيّة محرّك الأسانيد النظريّة التي قام عليها فكر دعاة الإسلام السياسيّ. ومفهوم العدالة الاجتماعيّة الذي قام عليه الفكر الشيوعيّ، أضحى بدوره مفهوما مركزيّا في فكر دعاة الإسلام السياسيّ. وقد أقام "سيّد قطب" مفهوم العدالة الاجتماعيّة في الإسلام على أساس التحرّر الوجدانيّ المطلق والمساواة الإنسانيّة الكاملة والتكافل الاجتماعيّ الوثيق. وفي كلّ أسّ من هذه الأسس محاولة للاختلاف عن العدالة الاجتماعيّة في مفهومها الشيوعيّ. فالتحرّر فيها مادّي محض والمساواة منقوصة والتكافل الاجتماعيّ هشّ.[9]
لم يكن مفهوم العدالة الاجتماعيّة مفهوما مركزيّا في المنظومة الفقهيّة التي استمدّ منها "سيّد قطب" أسس المشروع الإسلاميّ، وإنّما اقتضى التنافس الفكريّ مع الفكر الشيوعيّ توليد المفهوم وتلوينه بلون إسلاميّ ينزع الشرعيّة من الفكر الشيوعيّ واحتكاره ليصير إسلاميّا خالصا. فكانت النتيجة إهدار الأسس الفلسفيّة للنظريّة الماركسيّة وتجاهل النقود التي وجّهتها للأنظمة الرأسماليّة. وليس ذلك سوى مظهر من مظاهر النرجسيّة الإسلاميّة والدوغمائيّة الفكريّة التي وسمت مشروع الإسلام السياسيّ، وجعلت دعاته يغلقون الباب على أنفسهم ويمنعون كلّ أشكال التواصل مع الفكر الفلسفيّ عامّة والفكر الماركسيّ خاصّة، بل إنّهم رسّخوا سلوك الانغلاق ورفض الآخر[10]. وعملوا بمبدأ الخلاف، فبرزت في فكرهم كثير من المقولات التي لا غاية لها سوى تحقيق تنافس رمزي مع المفاهيم الجديدة وإعلان العداء المطلق للحداثة والشيوعيّة على حدّ سواء. فلم يكونوا مبدعين في المفاهيم التي أقاموا عليها دعواتهم، وإنما أكّدوا عقليّة التسليم والتواكل التي وسمت تعاملهم مع التراث بعقليّة العداء والمحاكاة الخفيّة لمقولات منافسيهم.
لقد كان لحملة "نابليون بونابارت" أثرها العميق في الوعي العربيّ الإسلاميّ، وكانت بداية صدمة الحداثة التي قدمت نموذجا جديدا للحريّة والعدالة. وما كاد الفكر العربيّ الإسلاميّ يتلقّى تلك الصدمة، حتّى وجد نفسه إزاء صدمة جديدة أثّرت في المنظومات الفكريّة والتصوّرات الإيديولوجيّة فكان أنموذج "وحدة عمّال العالم" حافزا لوحدة المسلمين، وأثّر مفهوم العدالة الاجتماعيّة القائم على الحدّ من نفوذ رؤوس الأموال وتوزيع الملكيّة إلى ولادة مفهوم إسلاميّ للعدالة.
لقد قضت عقليّة العداء بعزلة الإسلام السياسيّ وفشل دعاته في تقديم نظريّة أسسها علميّة. ولعلّ ذلك ما يفسّر الفراغ الذي يسم الأنظمة التي حكمت باسم الإسلام السياسيّ. فقد تدرّجت في مواقفها من عداء المقولات الغربيّة الرأسماليّة منها والشيوعيّة إلى القبول بها. وقد وجدت نفسها مدفوعة إلى قبول الديمقراطيّة من بعد استعدائها. ولو كتب للشيوعيّة أن تهيمن على الأنظمة العالميّة مثلما كتب للرأسماليّة لرضي دعاة الإسلام السياسيّ بتغيير مقولاتهم وإعلان الهدنة مع الشيوعيّة. وليس ذلك سوى نتيجة لفراغ هيكليّ في الأسس الفلسفيّة والمقوّمات العلميّة التي يمكن أن تقدّم الحلول الناجعة لأزمات المجتمعات الإسلاميّة وتواكل فكريّ جعل الدعاة يحتمون بالتراث الإسلاميّ، ويوهمون جمهورهم بأنّ نجاح السلف الصالح هو عنوان نجاحهم وأنّ قداسة الدعوات الدينيّة يمكن أن تتحوّل إلى قداسة سياسيّة تسم الدولة وهياكلها وتحقّق النعيم لمواطنيها. فكانت نزعاتهم الطوباويّة سببا في نشأة دوغمائيّة جعلتهم يكوّنون منظومة من رفاء المقولات التي يتواكلون فيها على التراث وسائر الإيديولوجيات المنافسة لها. فكان متخيّلهم للشيوعيّة مزيجا من نظرة عدائيّة ورغبة في احتكار الشرعيّة لقيت صداها في فكر التابعين.[11]
[1] انظر: أبو الأعلى المودودي، الإسلام والمدنيّة الحديثة، ص 29. نسخة إلكترونيّة
انظر الرابط التالي:
http: //www.kotobdown.com/book/186978191817979
[2] أبو الأعلى المودودي، الحكومة الإسلاميّة، ط2، القاهرة، دار المدار، 1980، ص 215، 216
[3] انظر حسن البنا، رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، ط1، بيروت، دار الأندلس، 1965، ص 219
[4] سيّد قطب، معركة الإسلام والرأسماليّة، ط13، مصر، دار الشروق، 1993، ص 109
[5] المرجع نفسه، ص 109-111
[6] عبد الله عزّام، موسوعة الذخائر العظام في ما أثر عن الإمام الهمام عبد الله عزّام، ط1، باكستان، مركز الشهيد عزام الإعلامي، 1997، ج2، ص89
[7] المرجع نفسه، ج3، ص447
[8] أبو الأعلى المودودي، منهاج الانقلاب الإسلاميّ، ط3، السعوديّة، الدار السعوديّة للنشر والتوزيع، 1988، ص ص13- 14
[9] انظر: سيّد قطب، العدالة الاجتماعيّة في الإسلام، ط1، مصر، دار الشروق، 1995، ص 32- 62
[10] يقول سيّد قطب: "التصوّر الإسلاميّ الصحيح لا يلتمس عند ابن سينا أو ابن رشد أو الفارابي وأمثالهم ممّن يطلق عليهم وصف "فلاسفة الإسلام"؛ ففلسفة هؤلاء إنّما هي ظلال للفلسفة الإغريقيّة غريبة في روحها عن روح الإسلام، وللإسلام تصوّره الأصيل الكامل. يلتمس في أصوله الصحيحة القرآن والحديث." العدالة الاجتماعيّة في الإسلام، ص 20
[11] ظهرت كثير من الكتب التي تتبنّى عقليّة العداء للشيوعيّة، وتغلق كلّ أبواب التفاعل الفكريّ والحضاريّ مع الشيوعيّة.
انظر مثلا:
أحمد عبد الغفور عطّار، الشيوعيّة خلاصة كلّ ضروب الكفر والموبقات والشرور والعاهات، ط1، بيروت، دار الأندلس، 1980
صالح اللّحيدان، نقد أصول الشيوعيّة، ط1، الرياض، مكتبة الحرمين، 1984
محمّد بن إبراهيم الحمد، الشيوعيّة، ط1، السعوديّة، دار ابن خزيمة للنشر والتوزيع، 2002