الدين والعلمانية من منظور علم الاجتماع
ماهية الدين ومحدداته
يعترف الدارسون لعلم الاجتماع بأن المعتقدات الدينية هي من التنوع والكثرة بحيث يتعذر إعطاء تعريف جامع مانع للدين، ويرون أن التعريف الشائع للدين بوصفه الإيمان بقوة علوية يخضع لها البشر توجههم أخلاقيا وتحدد سلوكياتهم تعريف قاصر لا يصدق على جميع المعتقدات في العالم. ويفترضون أننا حتى نعرف الدين تعريفا دقيقا ينبغي أن نميز أولا بين الدين والوحدانية، أي الإيمان بإله واحد، لأن بعض الأديان تؤمن بأكثر من إله واحد وبعضها الآخر لا يؤمن بمفهوم الألوهية الشائع أي بمعنى وجود إله متعالى مفارق للكون. ومن جهة أخرى علينا أن نتجنب الربط بين الدين والتوجيهات الأخلاقية التي تحدد السلوك البشري لأن بعض الأديان الحاضرة لا تنطوي على أي سلوك محدد ينبغي اتباعه.
وعلى الجهة المقابلة يعترف علماء الاجتماع بمجموعة من الخصائص التي تشترك فيها جميع الديانات، ويرون أنها تشكل محددات لمفهوم الدين، وأهمها الرمزية الجماعية؛ وتعني أن جميع الديانات تتضمن مجموعة من الرموز التي تستدعي الرهبة (صليب، هيكل،..)، وأنها ترتبط وثيقا بمجموعة من الطقوس والشعائر والممارسات التعبدية: مثل الصلاة أو القراءة أو الترتيل أو تناول طعام محدد، أو الامتناع عنه، وربما اتخذت هذه الشعائر طابع السلوك الفردي غير أن ثمة اجماع بين علماء الاجتماع أن السلوك الجمعي الاحتفالي هو أبرز خصائص المعتقدات الدينية التي تميزها عن ممارسات أخرى مثل السحر.
وعندما ننظر في هذا التعريف نجده يتضمن ثلاثة عناصر محددة وهي: الرمز الديني المقدس، الشعيرة الدينية، الأداء الجمعي للشعائر، غير أن ثمة عناصر أساسية تغيب عن هذا التعريف حتى ليعد تعريفا ناقصا برأينا، وهي: عدم وجود جماعة مخصوصة يعهد إليها بأمر إقامة الشعائر وظبط سلوكيات المؤمنين، وغياب نص مقدس تستمد منه الجماعة المؤمنة تعاليم دينها، وافتقاد مكان محدد تقام فيه الشعائر الدينية التي هي شعائر جمعية بالضرورة.
وعلى أي حال تأثرت المقاربات النظرية لعلم الاجتماع تأثرا كبيرا بالآراء التي طرحها ثلاثة من كبار المنظرين لعلم الاجتماع وهم: ماركس ودركهايم وماكس فيبر، ولم يكن أيا من هؤلاء الثلاثة متدينا ولذلك تكهنوا بانحسار أهمية الدين وآثاره في المجتمعات الحديثة حيث سيحل مكانه العلم والتقنية وحول هذا المعنى قال دوركهايم (لقد ماتت الآلهة القديمة)، وكان كل منهم يعتقد أن الدين في جوهره يمثل واقعا موهوما ومضللا ولكنه عظيم الأثر في الحياة البشرية. واستنادا إلى هذا ذهبوا إلى أن أشكالا أخرى ستحل محل العقائد الدينية التقليدية، وافترضوا أن العلمانية هي المرشحة لذلك.
العلمانية والعلمنة
ظهر مصطلح العلمانية للمرة الأولى في أوروبا خلال القرن السابع عشر، وضمن هذا السياق الغربي المسيحي تطور المفهوم وأصبح يُستخدم لوصف ما هو “غير مقدس” و”غير كنسي” ثم أصبح يعني الفصل بين الديني والسياسي، وقبيل “العصر العلماني” -حسب تعبير تشارلز تايلور- لم يكن ثمة فصل بين الديني والسياسي في المؤسسات الحاكمة المختلفة عبر العالم، وخلال القرن الأخير أصبح مفهوم العلمانية يتحدد من خلال ثلاث خصائص مترابطة بينها تايلور في كتابه العصر العلماني، وهي: الميل لإقصاء الدين عن الحكومة والشئون العامة، التراجع الكبير في الروحانية وفي مظاهر التدين، وسيادة فهم عام بأن الإيمان ليس سوى جانب بشري ضمن جوانب إنسانية أخرى متعددة.
وفي المقابل يشير مصطلح “العلمنة” إلى العملية الإجرائية التي تفضي إلى تحول المجتمعات وتبدلها من مجتمعات دينية تقليدية إلى مجتمعات علمانية حديثة، وخلال عملية العلمنة يتم إقصاء الدين عن كافة المؤسسات: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية حيث كانت هذه المؤسسات في السابق تخضع بشكل مباشر أو غير مباشر لسيطرة رجال الدين، كما يتم تجاهل الدين وتعاليمه من المجال العام بأسره، ومعها لا يصبح للدين أي تأثير على المؤسسات ولا يكون لديه ما يقوله بشأن القضايا العامة، وإن كان موجودا ومحصورا داخل المؤسسة الدينية.
وهناك ثلاث مؤشرات يقيس بها علماء الاجتماع معدلات العلمنة داخل المجتمعات المعاصرة؛ أولها يتعلق بتدني معدلات الانتساب إلى المؤسسات الدينية التقليدالعقيية، أو في ضعف الإقبال المجتمعي على التردد على المؤسسة الدينية لحضور الصلوات وأداء الشعائر الدينية وهو ما يؤشر إلى تآكل القاعدة الاجتماعية لهذه المؤسسات.
ويرتبط المؤشر الثاني للعلمنة بمستوى التأثير الاجتماعي والثروة والمكانة الذي تتمتع به المؤسسات الدينية؛ إذ كانت هذه المؤسات تتمتع في الماضي تتمتع بنفوذ معتبر في أوساط الجماعات المحلية وكان لها سطوة على النخب الحاكمة، ولكنها فقدت ذلك النفوذ والتأثير الاجتماعي في المجتمعات الغربية وفي بعض المجتمعات الأخرى.
ويتجسد المؤشر الثالث للعلمنة في مدى التزام الناس بمنظومة العقائد والقيم أو ما يسمى بالتدين، ومن الواضح أن المشاركة في أداء الشعائر لا يعبر بالضرورة عن العقيدة والقيم العليا، فكثير من الناس يمارس الشعائر بل ويتردد على أماكن العبادة لكن سلوكياتهم الفردية تكون بعيدة عن الامتثال للقيم الدينية والخضوع لها.
نقد أطروحة انتصار العلمنة
على الرغم من اتفاق علماء الاجتماع على أن معدلات العلمنة تتعاظم في كافة المجتمعات إلا أننا لا نذهب إلى هذا الرأي، ويجدر بنا في هذا السياق الإشارة إلى عدد من الظواهر التي تقوض فكرة حتمية انتصار العلمنة.
الأولى، أن العلمانية نشأت في ظل سياق زماني ومكاني محدد هو السياق الغربي، وحتى داخل هذا السياق لم تحرز العلمانية نجاحا إلا بعد هزيمة الطوائف المسيحية المتنافسة التي أنهكتها الحروب المذهبية، وعندئذ بدت العلمانية خيارا يمكن أن يوحد الغربيين بدلا من أن يفرقهم باسم الدين والكنيسة، وهذا السياق لا يمكن تعميمه عالميا ويظل مرتبطا بالخصوصية الغربية وهناك أعداد من الدارسين الغربيين بدأت تؤيد هذا القول.
والثانية: افتقاد العلمنة في أكثر المجتمعات غير الغربية، بل إن هناك في المقابل تعاظم للأصولية الدينية في معظم المجتمعات التقليدية وهي تتجلى في ظهور الحركات الدينية وتعاظم دورها الاجتماعي والديني.
والثالثة: أن موقع الدين داخل المجتمعات الغربية ذاتها هو أكثر تعقيدا وتشعبا مما يظن أنصار العلمنة؛ فما زالت العقائد الدينية والروحية تؤثر في حياة الأفراد تأثيرا بالغا، وتحدد سلوكهم وذلك بصرف النظر عن مدى مشاركتهم في الشعائر الدينية المعتادة، إن أعدادا هائلة من الغربيين لا زالوا يؤمنون بالله أو بقوة علوية قادرة وهم يمارسون هذا الإيمان بطرائق مختلفة خارج المؤسسة الدينية.
والرابعة: أن العلمنة لا يمكن قياسها على أساس الانتساب إلى المؤسسات الدينية المتعارف عليها، فمثل هذا القياس لا يأخذ في الحسبان الاتجاهات والحركات الدينية التي نشأت في العقود الأخيرة خارج المجتمعات الغربية، وعلى سبيل المثال تتضاءل نسبة مشاركة الغربيين في الأنشطة الكنسية، لكن نسبة المشاركة في الأنشطة الدينية تتزايد بصورة مضطردة في أوساط كل من المسلمين والسيخ والهندوس واليهود.
الخلاصة، أنه رغم تأكيدات علماء الاجتماع بتضاؤل نفوذ الدين وانحساره في المجتمعات الغربية الصناعية وحتمية انتصار العلمانية إلا أن الدين ما زال يؤدي دورا مهما في المجتمعات الغربية، ودورا بالغ الأهمية في المجتمعات غير الغربية.
المصدر: https://islamonline.net/30285