ليس بالعلم وحده يحيا الإنسان

 

 

تقوم حضارة اليوم على الحقيقة العلمية، حتى ظن البعض أنها هي الحقيقة الوحيدة التي لا حقيقة غيرها، ولكن هذا القول عارٍ عن الصحة إلى حد كبير، فالحقائق في حياة البشر عديدة، ووظائفها في الحياة متنوعة بتنوع الحياة البشرية. فإضافة إلى الحقيقة العلمية، التي استهلها فرانسيس بيكون (1561- 1626م)، بمنهجية القائم على الملاحظة والتجريب، هنالك حقائق كثيرة في حياة البشر، وتتميز الحقيقة العلمية عن كل هذه الحقائق بالقدرة على إثباتها أمبريقيًّا (تجريبيًّا)، وليس كونها الحقيقة الوحيدة، فهناك مثلًا الحقيقة الدينية، والحقيقة الفلسفية، والحقيقة الاجتماعية، والحقيقة بذاتها، أو الشيء في ذاته، وهكذا. وكل حقيقة من هذه الحقائق يتفرع عنها حقائق أصغر يختلف بعضها عن بعض، ولكنها تشترك في مرجعية واحدة. فالحقيقة الدينية مثلًا، وعلى اختلاف المذاهب والأديان، تقوم على أساس غيبيّ، من وجهة نظر الحقيقة العلمية، هو وجود قوة ما تتحكم في هذا الوجود وهي أساس هذا الوجود، فهي الله في الأديان السماوية، أو الموجود بذاته كما نستشف من فلسفة أرسطو (384 ق. م – 322 ق. م)، أو عالم المثل الغامض لدى أفلاطون (غير معروف الميلاد والوفاة)، وهي قوانين الوجود، كما عند سبينوزا (1632 – 1677م)، وهكذا. والحقيقة الفلسفية تعتمد على النظام الفلسفي للفيلسوف، فهي العقل المطلق لدى هيغل (1770-1831م) أو الحتمية التاريخية لدى ماركس (1818– 1883م)، أو الشيء في ذاته وفق فلسفة كانط (1724– 1804م).

أما الحقيقة الاجتماعية فهي ما تقرره الثقافة السائدة في مجتمع ما على أنه حقيقة، وإن ثبت أن هذه الحقيقة منافية تمامًا للحقيقة العلمية. فقد مر على الإنسان حينٌ من الدهر كان يظن فيه، بل موقن بذلك، من أن الأرض مثلًا هي مركز الكون وأنها مسطحة، وأن الشمس والكواكب والنجوم كافة تدور حولها، ونظم حياته وفق هذه الحقيقة، التي ثبت لاحقًا أنها ليست حقيقة من الناحية العلمية، ومع ذلك بقيت متحكمة في حياة الإنسان لقرون من الزمان.

المراد قوله هنا هو أن الحقيقة ليست واحدة، وهذا على الأقل هو ما نعرفه في هذه الدنيا بعيدًا من التصورات الميتافيزيقة، والفرق بين هذه الحقائق هو منهج الوصول إليها من ناحية، والوظيفة التي تؤديها في الحياة الإنسانية. فالحقيقة العلمية مثلًا، وكما ذكر آنفًا، لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق المنهج العلمي، أي المنهج التجريبي ابتداءً، وتتميز عن بقية الحقائق بكونها نسبيةً وقابلةً للدحض، وفق مفهوم فيلسوف العلم النمساوي كارل بوبر (1902- 1994م)، من ناحية أن هذه الحقيقة تبقى حقيقة حتى تُدحَض أو تُفنَّد، ومن ثم تنتفي من كونها حقيقة. أما الحقائق الأخرى، من دينية وفلسفية على وجه الخصوص، فتفترض الإطلاق في ذاتها، من ناحية كونها حقائق مطلقة غير قابلة للنقض أو الزيادة والنقصان، فإما أن يؤمن بها جُملةً وتفصيلًا، أو تُترَك جُملةً وتفصيلًا.

فالحقيقة الدينية مصدرها: الوحي الإلهي، في الأديان السماوية على اختلافها، أو في الرحلة الداخلية للبحث عن الذات، كما في الأديان الشرق آسيوية. منهج الوصول إلى تفاصيل هذه الحقيقة وتشعباتها، هو الإيمان المطلق أولًا بمصدر هذه الحقيقة ثم تأتي بقية التفاصيل. أما الحقيقة الفلسفية فمرجعيتها الأولى هي العقل، وفقًا لمفهوم صاحب النظام الفلسفي لهذا العقل، فلا يستقيم الأمر مثلًا أن تكون هيغيليًّا من دون الإيمان بالعقل المطلق وتجلياته في التاريخ والطبيعة. كما لا يستقيم الأمر أن تكون ماركسيًّا من دون الإيمان المطلق بالجدل (الديالكتيك)، سواء في التاريخ من خلال صراع الطبقات وتناقضات البنية التحتية والفوقية للمجتمع، أو في الطبيعة بمثل ما شرح ذلك فريدريك أنجلز (1820- 1895م) في كتابه «ديالكتيك الطبيعة». كما لا يستقيم الأمر أن تكون نيتشويًّا من دون الإيمان بمفهوم «الإنسان الأعلى» لدى نيتشه (1844- 1900م)، وعلى ذلك يمكن القياس.

والمشكلة هنا ليست في تعدد الحقائق ومصادرها ومناهج الوصول إليها، ولكنها، أي المشكلة، تكمن حين تتداخل هذه المناهج، فيحاول إثبات حقيقة دينية أو فلسفية، لدى المؤمن بها، مثلًا من خلال منهج آخر لم يؤسس بداية للتعامل مع حقائق غير تجريبية. فمثلًا لا يمكن إثبات وجود الجن، وهذه حقيقة دينية في الدين الإسلامي، من خلال المنهج العلمي، فوجود الجن هو جزء من البنية الدينية، لا يمكن إثباتها أو نفيها من خلال منهج آخر، كالمنهج العلمي أو المنهج العقلي الصرف، فهي مسألة إيمان أو عدم إيمان. كما أن استخدام المنطق العقلي في الاستدلال على حقائق علمية لا يستقيم، وذلك كما فعل أرسطو في منطقه الصوري. خلاصة القول هي أن تداخل المناهج، كأن تحاول إثبات حقيقة علمية من خلال مقولات دينية، أمر ليس في صالح هذه الحقيقة أو تلك.

الحقيقة العلمية مناطها التجريب في العالم المحسوس والملموس، والحقيقة الدينية مناطها الوحي من كائن سام على الوجود لمعرفة الوجود، أو ما هو شبيه بالوحي للوصول إلى ما لا تدركه العقول ولا يمكن التأكد منه، أو نفيه تجريبيًّا، والحقيقة الفلسفية مناطها منطق العقل وفق مفهوم صاحب البناء الفلسفي، والحقيقة الاجتماعية مناطها الثقافة السائدة في هذا الزمان أو ذاك، هذا المكان أو ذاك، ولكل حقيقة من هذه الحقائق وظيفتها التي إن تجاوزتها فسد كل شيء. فالحقيقة العلمية اليوم هي أساس كل هذا التقدم التقني الهائل في عالم اليوم، ومن أراد المنافسة في هذا العالم، فلا بد له من تبني هذه الحقيقة والإسهام في صنعها والإضافة إليها، فحضارة اليوم هي حضارة تقنية، بمثل ما كانت الحضارة الرومانية حضارة قانونية، والحضارة العربية الإسلامية حضارة لغوية فقهية، والحضارة اليونانية أو الإغريقية حضارة ذات أبعاد فلسفية، وحضارات ما بين النهرين حضارات أسطورية في المقام الأول، وإن كانت ذات إنجازات عملية معينة.

المراد قوله بإيجاز هو أن كل حضارة سادت في تاريخ البشرية، كانت تدور حول محور من الحقيقة، على اختلاف أنواعها، وللوصول إلى سر حضارة ما، لا بد من معرفة محورها الذي تدور به ويدور بها.

وإذا كان لكل حضارة محور رئيس تدور حوله، فهذا لا يعني انتفاء بقية الحقائق. فإذا كانت الحقيقة العلمية هي جوهر حضارة هذا العصر، فإن كل حقيقة أخرى وظيفة حيوية لا غناء عنها في حياة البشر. فالحقيقة العلمية مكَّنت وتمكِّن الإنسان من التحكم في الطبيعة وتسخيرها لصالحه من خلال مفهوم «التقدم»، الذي لم تعرفه الحضارات السابقة على حضارة العصر، ولكن الحقيقة العلمية لا تمنح «المعنى»، الذي من دونه يكتشف الإنسان أنه في النهاية يدور في دوامة لا أول لها من آخر، ويبرز في الخاتمة السؤال الوجودي الأهم: «ثم ماذا؟».

فالحقيقة العلمية لا تمنح إجابة لهذا السؤال، ولا هي قادرة على ذلك، فالسؤال وإجابته تنتميان إلى الفضاء الميتافيزيقي، وهنا يلجأ الإنسان إلى الدين أو الفلسفة أو حتى الأسطورة للإجابة عن هذا السؤال والبحث عن المعنى الكامن وراء كل شيء.

فالعلم لا يستطيع مثلًا الإجابة عن تلك الأسئلة الغيبية التي تلازم حياة الإنسان، مثل أسئلة: ماذا بعد الموت، أو هل العقل وحده قادر على اكتشاف المعنى وراء الأشياء، أو هل نحن أحرار فعلًا حين نتحدث عن الحرية، أم أنها، أي الحرية، مجرد وهم نحن فيه تائهون؟

الدين والفلسفة تمنح إجابات لمثل هذه الأسئلة الوجودية الكبرى التي تقع خارج دائرة العلم. بل إنه حتى الحقيقة الاجتماعية تسهم في الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، فالحقيقة الاجتماعية هي في النهاية مزيج من الدين وشيء من الفلسفة والعلم، والكثير من الأساطير المفسرة للمعنى الكامن وراء الأشياء، مثل أسطورة باندورا وصندوقها تفسيرًا لوجود الشر في العالم ونحوها. ولكن المعضلة تكمن في محاولات الدين، أو لنقُلْ مفسِّري ومؤولي الدين بشكل رئيس الدخولَ في منافسة مع العلم، وهنا تختلط المفاهيم وتضيع أهمية المناهج ووضوحها، ولكن هذا حديث آخر قد نستكمله لاحقًا.

المصدر: http://www.alfaisalmag.com/?p=15662

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك