لماذا نثق بالقرآن الكريم كمصدر للحديث عن دعوة نبي الله عيسى عليه السلام؟
وإنّ الاستعراض العلمي المؤيد بالدليل والبرهان والحجة سيبين أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي والتربوي والعلمي في سرد القرآن الكريم لعدد من المواقف المحددة من سيرة عبد الله ونبيه عيسى ابن مريم عليه السلام، وهذه المواقف تشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق، كما تشهد لرسول الله صلى الله عليم وسلم، بأنه لا يمكن أن يكون قد استقى هذه الحقائق من كتب العهدين القديم والجديد، وذلك للاختلاف الكبير بين ما جاء عن حقيقة هذا العبد الصالح في تلك المصادر، وتكفي في ذلك الإشارة إلى أن هناك من الوقائع القرآنية مالم يرد له ذكر في أيّ من كتب العهدين القديم والجديد. وقد يتساءل الإنسان بصرف النظر عن ملَّته أو نحلته: كيف نجعل القرآن الكريم والسنة التي تعدُّ مكملة وموضحة له، ومصدراً للحديث عن دعوة نبي الله عيسى عليه السلام، وقد أنزل عليه كتاب كما أنزل القرآن؟
هناك عدة عوامل وأسباب تبرز ذلك وتسوّغه، أذكر منها:
1- أن الله جل وعلا قد وصف هذا الكتاب بأنه مصدِّق لما قبله من الكتب ومهيمناً عليه كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ (المائدة: 48)، ويقول في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3، 4).
2- من الناحية التاريخية نجد أن التاريخ لا يسعفنا بالمعلومات الأساسية المؤكدة عن دعوة المسيح عليه السلام؛ وذلك لأسباب عدة منها بُعد العهد واضطراب الروايات التاريخية، بل من المؤكد أن لتدخل العنصر البشري دوراً في هذا حتى اختلط الحابل بالنابل، وتعسر تمييز الطيب من الخبيث، والحق من الباطل.
3- لأن الإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام لا وجود له اليوم حتى في الأوساط النصرانية، فكيف نحد عن وحي سماوي وهو القرآن الكريم إلى مؤلفات بشرية، وهي الموسومة اليوم بالأناجيل؟
4- لأن القرآن الكريم مع السنة النبوية الصحيحة في الحقيقة وحدهما المصدران -علمياً وتاريخياً- اللذان صورا لنا بدقة عالية تاريخ الرسالات الإلهية كلها من أول الأنبياء آدم عليه السلام وحتى آخرهم وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم، بل ليس في الوجود -على الإطلاق- كتاب إلهي أو بشري له من الاحترام العلمي القائم على التواتر وحفظ النصوص وسلامتها، غير هذا الكتاب العظيم. الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تولى حفظه من لا يؤوده حفظ السماوات والأرض سبحانه وتعالى. وأما الأناجيل التي يعترف بها النصارى اليوم، فليس لها حظ من الثقة التاريخية، ولا نصيب من الاحترام العلمي اللازم بسبب ما شوهها من الاختلافات والتناقضات والأخطاء العلمية والتاريخية، وسيأتي في هذه الدراسة ضرب أمثلة لكلها إن شاء الله.
5- إن هذه الأناجيل قد تعرضت لانتقادات عنيفة قديماً وحديثاً سواء، ممن أسلموا من النصارى أو من الذين بقوا على نصرانيتهم ولم يرضوا بغيرها ديناً، فمن الصنف الأول المستشرق الفرنسي (ألفونس إتيان دينيه) الذي قال: أما أن الله قد أوحى الإنجيل إلى عيسى بلغته ولغة قومه، فالذي لا شك فيه أن هذا الإنجيل قد ضاع واندثر ولم يبق له أثر أو أنه قد أبيد. ومن الصنف الثاني (الدكتور نظمي لوقا) حيث يقول: وأعني بالمسيحية هنا ما جاء به المسيح عليه السلام من نصوص كلامه لا ما ألحق بكلامه وسيرته من التأويل.
6- نجد أن للقرآن الكريم مكانته العلمية حتى في الأوساط النصرانية، فنجدهم يقرّون -مع كفرهم به- بجودة مصدريته، ودقة أخباره، وبتواتره المنقطع النظير، وخلوه مما اتسمت به كتبهم من التناقض والأخطاء والتغيير والتبديل والإضافة والحذف. يقول إميل درمنغم: “وللمسيح في القرآن مقام عالٍ، فولادته لم تكن عادية كولادة بقية الناس وهو رسول الله الذي خاطب الله جهراً عن مقاصده، والقرآن يقصد النصرانية الصحيحة حينما يقول إن عيسى كلمة الله أو روح الله ألقاها إلى مريم، وأنه من البشر فهو يذم مذهب القائلين بطبيعة واحدة في المسيح، ومذهب القائلين بألوهية المسيح وما إلى ذلك من مذاهب الإلحاد النصرانية لا النصرانية الصحيحة”.
ويقول واشنطن إيرفنغ:”كانت التوراة في يوم ما هي مرشد الإنسان وأساس سلوكه، حتى إذا ظهر المسيح اتبع المسيحيون تعاليم الإنجيل ثم حلَّ القرآن مكانهما، فقد كان القرآن أكثر شمولاً وتفصيلاً من الكتابين السابقين، كما صحح القرآن ما قد أدخل على هذين الكتابين من تغيير وتبديل”.
وعلى ضوء ما تقدم نخلص إلى حقيقة علمية ثابتة، وهي أنه لا يوجد مصدر آخر- غير القرآن الكريم مع السنة النبوية الصحيحة – يمكن الوثوق به فيما نحن بصدده. وأما الروايات التاريخية المضطربة سواء في داخل الأناجيل أو خارجها فلا يمكن اعتبارها أو الاستناد إليها في هذا المقام، وهذا ما أكده بعض علماء التاريخ من غير المسلمين فقالوا: ظاهرة عيسى عليه السلام لم تثر انتباه المؤرخين المعاصرين له، مما يجعل – من وجهة نظر تاريخية – أي سيرة تكتب عنه تجميعاً هامشياً لأحداث ومعطيات متناقضة، تحيط بفراغٍ لا يكاد يسكنه سوى ظل يكاد لا يدرك.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الآيات القرآنية التي تتحدث عن النصرانية ونبيها وكتابها عموماً، لا تتجاوز مائتين وعشرين آية، أي ما يمثل 5,3 % من مجموع الآيات القرآنية، خلافاً لما يتوهمه كثير من كتاب النصارى من أن غرض القرآن الأساسي هو مهاجمة العقائد النصرانية أو تضليل النصارى، بل إن هذا العدد المذكور إنما ورد في ثمان وعشرين سورة فقط بعضها لا يحتوي أكثر من آية أو آيتين، مع وجود تماثل بين بعضها والبعض الآخر.
مراجع:
د. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام الحقيقة الكاملة، 2019م، ص (44 : 47).
إميل درمنغم، حياة محمد صلى الله عليه وسلم، تحقيق عال زعيتر، دار العالم العربي، ط3، 2016م، ص. ص 131 – 132.
عبد الرزاق عبد المجيد، مصادر النصرانية دراسة ونقداً، دار التوحيد للنشر، الرياض، ط1، 2007م، ص. ص 49 – 53.
عبد المجيد الشرفي، الفكر الإسلامي في الرد على النصارى، الدار التونسية للنشر، تونس، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986م، ص 23.
متولي يوسف شلبي، أضواء على المسيحية، الدار الكويتية للطباعة والنشر، الكويت، ط1، 1388هـ/1968م، ص 17.
ناصر الدين دينيه، أشعة خاصة بنور الإسلام، المكتب الفني، 1960م، ص 51.
نظمي لوقا، محمد الرسالة والرسول، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط1، 1959م، ص 58.
واشنطن إيرفنغ، حياة محمد، ترجمة وتعليق: علي حسن الخربوطلي، دار المعارف، مصر، ط1، 1960، ص 69.
المصدر: https://islamonline.net/30145