فرنسا ومسلموها*
فرنسا ومسلموها*
ستيفاني غيري
سياسات الاندماج:
دفعت التفجيرات للقطارات بمدريد ولندن، كثيرين من المراقبين للذهاب إلى أنّ أوروبا تصنع فيما يبدو إرهابييها بنفسها. وأضيفت للأحداث الإرهابية والتفجيرية الفظيعة، حوادث مثل قتل المخرج الهولندي تيو فان كوخ من جانب شابٍّ مغربي متعصب, والثوران في الضواحي الفرنسية, كما الهياج الإسلامي نتيجة الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية. وقد ظهرت تلك الأمور كلهّا بوصفها دليلاً على فشل سياسات الهجرة والاندماج لدى الدول الأوروبية جميعاً. ولا شكَّ أنّ مسألة الإرهاب وأعمال العنف مسألة شديدة الخطورة وينبغي التفكير الجدي في علاجٍ لها. لكنّ المبالغة واليأس لا مبرر لهما. فالراديكاليون العنيفون قليلون جدّاً بين العشرين مليون مسلم في أوروبا, وهناك أمورّ تدلُّ على أنّ الراديكالية ليست جزءاً من التيار الرئيسي بين المسلمين الأوروبيين.
إنّ هناك تحدياً رئيساً يواجه فرنسا الدولة الديمقراطية والتي تحاول وبقوةٍ أن تعيش بصدقٍ مع مبادئها, والتي واجهت قبل عام ثورة الضواحي عبر البلاد من أحياء غالبيتها من المسلمين, الذين يبلغ عددهم حوالي الـ5 ملايين في فرنسا. بيد أنّ الذي يعيشون في الضواحي ما كانوا يعانون من صراعٍ بين الحضارات، ولاهم من أنصار أسامة بن لادن؛ بل كانوا يعبرون عن تذمرهم لأسبابٍ سوسيو-اقتصادية. وفي الواقع فإنّ ما يمكن أن تقوم به فرنسا الآن وفي السنوات القادمة لدمج المسلمين وطمأنتهم، يمكن أن يشكّل نموذجاً مشجعاً في سائر أنحاء القارة القديمة. ونحن نعلم أنّ ثلاثة أخماس المسلمين بفرنسا هم مواطنون عاديون, ولا يشعرون بغربة والسبب دينهم؛ بل لأسباب اقتصادية. وهم غالباً ما يصوّتون يساراً أكثر من الفرنسيين الآخرين. وقد تبنوا الثقافة الفرنسية, بل تبنت أكثريتهم العلمانية الفرنسية القاسية. وهناك كراهيةٌ من نوعٍ ما تُجاههم أو تُجاه الإسلام نمت في العقدين الأخيرين. كما أنّ هناك مشكلات تراكمت وحالت دون دمج فئةٍ قويةٍ من بينهم. وينبغي أخذ كلُ هذه العوامل بعين الاعتبار بدلاً من الحديث بسهولةٍ عن استعصاء المسلمين الفرنسيين الاندماج او استعصاء الإسلام على الاستيعاب والأَوربة القيمية والمعيشية.
وتبرز الصعوبات في هذه الشهور في مواجهة مشكلات الفرنسيين المسلمين التي تراكمت عبر ثلاثة عقود؛ من تحول تلك المشكلات إلى مثيراتٍ أيديولوجيةٍ وثقافيةٍ تقوم بها نُخَبٌ غير حَاسمِة وغير مسؤولة وبعيدة عن الواقع. وقد كان منتظراً أنْ يلجأ السياسيون والمثقفون بسبب اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إلى مُحاسنة المسلمين, ومحاولة النظر لمشكلاتهم بطرائق أكثر واقعية. لكنّ الذي حصل أنّ أكثر هؤلاء مال إلى إثبات فرنسيته من طريق التمايُز عن المسلمين، أو إظهار التبجُّح بمهاجمتهم أو معاملتهم بقسوةٍ في الإعلام على الأقلّ. لا يميز كثيرٌ من السياسيين في التعامُل مع المسلمين بين الخارجين على القانون والمجموعة العامة الهادئة والمتعاونة. كما أنّ هذه الفرصة السانحة لإثبات القدرة على دمج المسلمين توشكُ أن تضيع إذا ظلت النخبة السياسية والثقافية الفرنسية تُظهر عجزاً وتردداً في القيام بذلك في اللحظة الملائمة.
الاستفتاء الفرنسي:
يُقِبلُ الأجانب من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والبلقان على فرنسا منذ مائةٍ وخمسين عاماً. ولذلك يمكن القول بأن ربع السكان الفرنسيين من أصولٍ غيرِ فرنسية، أوروبية أو غير أوروبية. لكنّ الوضع بفرنسا بخلاف الولايات المتحدة. فرغم أنَّ نسبة الأجانب بفرنسا أكبر منها بالولايات المتحدة ما أَثَّرَ ذلك في الهوية الفرنسية، ولا جعل من فرنسا مجتمعاً تعدديّاً من النواحي الدينية والإثنية. وهكذا يمكن القول بأن فرنسا ما تزال أكثر نجاحاً من الولايات المتحدة في دمج الأجانب بداخلها, بحيث ما تأثرت الهوية الفرنسية بهم رغم ضخامة أعدادهم. ويرجع ذلك إلى الطابع المركزي القوي للدولة والإدارة بالبلاد، وإلى ثقة الفرنسيين بمؤسساتهم، وإلى النزعة المساواتية القوية التي لا تأبه للأصول ولا للديانة, وآخِرُ إحصاءٍ بفرنسا تُذكَرُ فيه التابعية الدينية أو الإثنية يعودُ لعام 1872م! نعم، في فرنسا تقاليد جمهورية قوية وعريقة. وفيها تقاليد علمانية وصلت إلى ذروتها في نهاية القرن التاسع عشر وصارت قانوناً لفصل الدين عن الدولة عام1905م. ويقالُ الآن: إنّ مسألة العلمانية أو الطابع المدني للدولة والمجتمع هي المشكلة الرئيسة التي تحول دون اندماج المسلمين الفرنسيين. بيد أنّ العلمانية ليست بالضرورة ضد الدين. إذ يمكن لك أن تكون علمانيّاً وكاثوليكياً أو مسلماً. وينبغي ألاّ يُظنَّ أنّ هذا الافتراق بين الدين والنظام السياسي سببه الراديكاليون الجمهوريون. فالواقعُ أنّ العلمانية سببُها علمانية المجتمع وليس الدولة. وإذا كان الجمهوريون الفرنسيون يملكون مشكلاتٍ مع الكاثوليكية بسبب طابعها الكهنوتي الذي يخشَون منه على الدولة والاندماج الوطني؛ فإنهم يملكون موقفاً سلبياً من الإسلام منذ عصور الاستعمار, وقد زاد ذلك في العقود الأخيرة. وفي الجزائر الفرنسية في القرن التاسع عشر, كان المسيحي واليهودي يستطيعان الحصول على الجنسية الفرنسية أوتوماتيكيّاً وما كان المسلم يستطيعُ ذلك. بل إنّ هناك من يقول: إن الإسلام عانى من نظرةٍ سلبيةٍ إليه في أوروبا منذ العصور الوسطى, والحروب الصليبية، ولا فرق في ذلك بين المتدينين والعلمانيين اليوم.
ظلت الهجرة من شمال إفريقيا إلى فرنسا محدودة حتى الحرب العالمية الثانية. بعد الحرب احتاجت فرنسا إلى اليد العاملة، فبدأت باستقدام العمال المغاربة، الذين زاد عددهم عن المليون في الستينات. وعندما حدثتَ أزمة النفط 1973/1974م أوقفت فرنسا استقدام العمال وأغلقت حدودَها في وجوه الشمال الأفريقي، وعرضت على المهاجرين التجنيس مع عائلاتهم. بحكم أنَّ أطفالهم مولودون فيها. وقد اندمجت أعدادٌ كبيرةٌ من هؤلاء في أحشاء المجتمع الفرنسي بحكم السياسة اللغوية المتشددة. لكنّ الأزمة الاقتصادية التي لم تنته منذ السبعينات، جعلت من هؤلاء المغاربة الأصول معرَّضين للخطر أكثر من ثم متمايزين أكثر. وفي مطلع الثمانينات قاد زعيمٌ عنصريٌ هو جان- ماري لوبان "جبهة وطنية" يمينية تغذَّت على إثارة الكراهية ضد العمالُ المغاربة بحجة أنهم يأخذون الأعمال من الفرنسيين، وأنهم كسالى، وجُبنَاء ومتعصبون، كانوا أولاً عمالاً، ثم صاروا عرباً، وبعد خطوةٍ صاروا جميعاً مسلمين دون تفرقةٍ بين الصالح والطالح. وفي الثمانينات بالذات، وبسبب مشكلات البطالة، بدأ بعض العمال يتظاهرون في مواقف السيارات العامة خارج المصانع، ثم بدأوا يصلّون هناك، وذُعر لذلك الفرنسيون الذين اكتشفوا الإسلام حيّاً في أَوساطهم، ثم ظهرت مشكلة الحجاب، أي غطاء الرأس الذي ارتدته بعض الطالبات بالمدارس، وانفجرت المشكلة بوضوح للمرة الأولى عام 1989م، واستمرت التطورات السلبية والتي أدت إلى صدور القانون المثير الذي يحرّم الحجاب في المدارس، وسائر الشعارات الدينية عام 2004م، بيد أنّ الأحداث لم تتوقف عند الحجاب وإضرابات العمال، ففي عام 1990م جرت بعض التفجيرات في باريس احتجاجاً على دعم فرنسا لانقلاب الجيش الجزائري على نتائج الانتخابات، فشاعت نتيجة لذلك أحاديث المؤامرة والطابور الخامس الذي يمثله الإرهاب الإسلامي، ويذهب فنسنت غَيسر إلى أنّ نزعة معاداة الإسلام لا تنبع من العامة، بل هي من نتاج النخبة الثقافية العنصرية التي تصرُّ على النقاء، وتحتج لذلك بحججٍ ثقافيةٍ مختلفة، ولذلك يقول باتريك فايل: عندما تتواجه فرنسا باختلافٍ ثقافي فإنها تميل إلى تجاهُله، ثم تخالف مبادئها لقمعه، فإذا استمر فإنها تلجأ إلى التطبيق الأسوأ للقانون.
دراساتٌ سريعة:
ليست هناك دراسةٌ عن أصول المسلمين في فرنسا؛ لأنّ جمع المعلومات عن الأصول الإثنية والدينية ممنوع بالقانون، والمسلمون الفرنسيون لا يأتون من شمال إفريقيا فقط، بل من تركيا والساحل الصحراوي وأماكن أخرى أيضاً، لكنْ يبقى مرجَّحاً أنّ أكثر من 70% من هؤلاء أصولهم شمال أفريقية بيد أنّ دراسةً في مطلع الألفية أشارت إلى أنّ المسلمين ليسوا أكثر تديناً من الفرنسيين الآخرين، وقد تحركت ميولٌ دينيةٌ في السنوات الأخيرة لكنها كانت بين 10% من المسلمين الفرنسيين، وأظهر الإحصاء نفسه أنَّ حوالي 30% من المسلمات تحت سن الـ35 تزوجوا من فرنسيين، وهي نسبةٌ مرتفعةٌ جداً، وعندها أُثيرت مشكلة حجاب البنات عام 2002م ذهب 70% من المسلمين إلى أنها مبالَغٌ فيها وليست أمراً مهمّاً. وبالنظر لهذه الوقائع كلهِّا يكونُ من الضروري إعادةُ النظر في المسلَّمات الكثيرة حول المسلمين في فرنسا وميولهم للاندماج أو الاستيعاب، والتي تبالغ وسائُل الإعلام كثيراً في إبرازها بوصفها أمراً مستعصياً.
أثمان الخوف:
تعمل المؤسَّساتُ الرسمية الفرنسية بالفعل على إنصاف المسلمين، فإنها، والحقُ يقال، ما حققت نجاحاتٍ ملحوظة. فنسبة البطالة بين المسلمين ذوي الأصول الجزائرية والمغربية تصل إلى 30% بينما هي لدى الفرنسيين بعامة لا تزيد على 10%. ثم إنّ الوظائف التي تُعْرَضُ على هؤلاء أكثرها مؤقت، وليست من الدرجات التي تتفق مع المؤهَّلات. وقد تبين للباحثين عن التمييز في سوق العمل، أنّ المسألة ليست عنصرية بمعنى أنها لا تتعلق باللون أو الإثنية الإفريقيةِ مَثَلاً، بل تتعلق بهذه الفئة من الناس من ذوي الأصول المغاربيةِ، والتي لا يحب الفرنسيون أن يشغّلوهم، ويلجأ بعض الشباب إلى الجيش للهرب من التمييز، لكنهم في الجيش أيضاً لا يلقَون ترحيباً كبيراً في المراتب الوسطى والعليا، فالمسؤولون يعتبرون المغاربة مسلمين، ويشكّون في أَنَّ أكثر المسلمين الشباب هم من المتطرفين. لكنْ وللإنصاف ينبغي القول بأن الآفاق الاقتصادية في فرنسا ليست زاهرةً بشكلٍ عام، وأكثرية الفرنسيين ترى أنّ أولادها لن ينجحوا كما نجح أهلهم، وما انخفضت البطالة طوال أكثر من عشرين عاماً عن نسبة الـ10% وهي نسبةٌ مرتفعةٌ مقارنةً بالمجتمعات والاقتصادات الأوروبية الأُخرى. وإذا كانت الظروف صعبةً على الفرنسيين, فهي على ذوي الأصول غير الفرنسية وبخاصةٍ المغاربة أصعب بكثير. ومن جهةٍ ثانية فإنّ المسلمين الذين تبلُغُ نسبتُهم بين سكان فرنسا الـ7 أو الـ8% تبلغُ نسبتُهم بين المساجين الفرنسيين حوالي الـ50% وهي نسبةٌ مرتفعةٌ جدّاً ولا تتعلق بأصولهم أو دينهم بل بالظروف التي تحيطُ بهم. وقد بدأت أضطرابات نوفمبر الماضي عندما هرب مراهقان مغربيان من دوريةٍ للبوليس فصعقتهما محطةٌ للكهرباء، وتطورت الأحداث على أثر ذلك. إذ أقبل عشرات الشبان السود والبيض من أصولٍ مختلفةٍ على تدمير السيارات والمحلات، وما نظَمهم أحد, ولا كانت لهم مطالب معينة؛ بل فعلوا ذلك إحساساً منهم باليأس والاضطهاد الخانق.
لقد نظر بعضُ المراقبين والموظفين الرسميين إلى تلك الاضطرابات بوصفها دليلاً على فشل المسلمين في الاندماج، وهذا أمرٌ شديد التعقيد، ولا يصحُّ إذا نُظِرَ إليه من الناحية الإحصائية، وقد لجأ بعض السياسيين مثل وزير الداخلية ساركوزي إلى تشجيع هذه الانطباعات السلبية بإطلاقة ألفاظاً شائنةً على مثيري الاضطرابات، لكنْ عندما استمرت الأحداث وتفاقمت دعا الأئمة والشيوخ للتأثير على الشبان اعتقاداً منه أنهم يملكون نفوذاً دينياً بينهم؛ بيد أنّ ذلك الانطباع كان مخطئاً، وما كانت للاضطرابات أسبابٌ دينية؛ لكنّ هذا الانطباع ما يزال سائداً عن الإسلام والمسلمين في فرنسا وغيرها. وقد لاحظ مراقبون محايدون وباحثون أكاديميون أنّ وسائل الإعلام حتى المحترمة والرزينة منها فشلت في التغطية الموضوعية والفاهمة. والأمر كذلك في تعليل ميل بعض الفتيات المسلمات لارتداء غطاء الرأس. فالذي يجري إغفالُهُ في هذا السياق أنّ الفتيات اللواتي يرتدين غطاء رأس لا تزيد نسبتُهنّ عن الـ2% بين المسلمات، ومع ذلك فإنّ الأخريات المندمجات لا يثرن انتباه أو اهتمام أحد؛ بل يقالُ بشكلٍ عام: إنّ المسلمين يفشلون في الاندماج، والواقع أنَّ المهاجرين القُدامى صاروا جزءاً من الطبقة الوسطى الصغيرة في الأعمِّ الأغلب، وهؤلاء لا يختلفون عن الفرنسيين الآخَرين في شيء.
سلوك المسلمين الانتخابي:
يسلك المسلمون الفرنسيون في الانتخَابات سلوكاً لا يختلف عن الناخبين الفرنسيين، ويشمل ذلك1.2 مليون مسلم أكثرهم من أصول مغاربية؛ ويعني ذلك أنّ الأصول الدينية لا تؤثّر في التصرف الانتخابي لأولئك الناس. ففي تحلَيلٍ لنتائج الانتخابات البلدية الفرنسية عام 2004م لاحظ باحثٌ فرنسيٌ أنه لا يبدو أنَّه كان للدين أو الإثنية تأثيرٌ في السلوك الانتخابي. وفي تقريرٍ صدر عام 2005م ويحلل نتائج الاستفتاء على الدستور الأوروبي، أنّ المسلمين ما اختلفت النسْبة بينهم عن النسبة بين الفرنسيين الآخرين في الموافقة أو الاعتراض على الدستور. ولذلك ذهبت ستيفاني روزس إلى أنه ليس في فرنسا ناخبٌ مسلمٌ أودوافع دينية في التصويت، إلاّ بقدر ما هناك ناخبٌ بروتستانتي أو يهودي بدوافع. ويذهب أو ليفييه روا إلى عدم وجود ناخبٍ "مسلمٍ" في فرنسا؛ لأنّ المسلمين متنوعون، ولا يحبون التوافُقات التي لا يعتبرونها مبدئية. وقد ذهب روا أيضاً في كتابه عن"الإسلام المعولم" إلى أنّ المسلمين فشِلوا في تكوين هوية واحدة تعلو على كل الاعتبارات الأخرى مثل الاستراتيجيات الاجتماعية، والمصالح الاقتصادية، وما شابه. وهكذا هناك كثير من التعميمات التي يمكن أن تقال عن المسلمين في هذا الصدد. وأولُها أنّ الناخب المسلم يميل نحو اليسار في تصويته، ويبتعد عن الأحزاب اليمينية المتطرفة. وهذا سلوك لا يتعلق بالدين؛ إنما لأسباب إجتماعية. بل إنّ المسلم يفضل الانتخاب يساراً حتى لو تحرك على السلَّم الاجتماعي صعوداً. ثم إنه يهتم بالانتخابات البلدية والنيابية، ولا يهتم بالانتخابات الأوروبية. وليست للمسلمين مطالب خاصةٌ بهم ورئيسة. بل إنّ مطالبهم الرئيسة هي أربعة، شأن سائر الفرنسيين؛ البطالة والتمييز الاجتماعي، التربية والتعليم، وتكاليف المعيشة. وما نجح المسلمون في تكوين "لوبي" للدعاية لقضاياهم. كما أنهم لم ينجحوا في تكوين جبهةٍ إسلاميةٍ لخوض الانتخابات وقد جربوا ذلك في القائمة الفلسطينية، والتي لم تحصل على نسبة الـ10% حتى في المناطق التي فيها أكثرية ناخبة مسلمة. وهناك بُعْدٌ آخر من أبعاد التعميم الممكن في حالة المسلمين الفرنسيين يتمثل في النسبة العالية منهم غير المعنية بالتطورات السياسية والانتخابية. فقد أثبت استطلاعٌ عام 2004م أنّ 23% من الفرنسيين المسلمين ذوي الأصول المغاربية لم تسجّل نفسَها للمشاركة في الانتخابات، بينما كانت النسبة بين الفرنسيين الآخرين لا تزيد على 70%. ومما يعكس تدني المشاركة السياسية أنه ليس في البرلمان الفرنسي البالغ عدد أعضائه 902 غير عضوين مسلمين انتُخبا لأول مرةٍ عام 2004م. وتزيد تلك النسبة في البلديات؛ وهذا أمرٌ مشجّعٌ، لكنه يعبر عن انحصار وعي المسلمين بالعناية بشؤونهم الخاصة والمباشرة.
إن النسبية التي تسَودُ المشهد على كافة الصُّعُد، ما خفّفت من الاصطفاف، ولا قلَّلتْ من التوتر. فالطّرفان: الفرنْسي والإسلامي تسُودُ في أوساطهما وجوهٌ من سوء الفهم والتهمة تُجاه الطرف الآخَر. وربما كان هذا الانطباع العامّ سبب محدودية تأثير مبادرات الحكومة الفرنْسية لإزالة التمييز. وقد ذكر "عزوز بجاج" - أول وزيرٍ مسلمٍ من أصول مغربية وهو وزير تكافؤ الفرص- أنه بعد قلة ما استطاع إنجازه لترشيد الموارد، صار يخشى أن يكون مَنْصِبُهُ سبيلاً أو غطاءً لإخفاء التقصير. وقد تلقت وكالة مكافحة التممييز المؤسسة عام 2005م ثمانمائة شكوى من المسلمين لكنها ما أرسلت أكثر من عشرين ادعاء منها إلى المحكمة. ومع ذلك فلا يمكن إنكار أنّ المؤسسات الخاصة تُحاولُ أن تفعل شيئاً؛ سواءٌ الشركات الكبرى أو مؤسَّسات الإعلام: المرئي منها والمكتوب. ففي الصيف الماضي ظهر أولُ ملوَّنٍ بوصفه مذيعاً في نشرات أخبار المساء في التليفزيون الفرنسي بعد جهودٍ شاقّة. وهناك أفكارٌ لتشجيع المؤسسات التربوية التي تنصُرُ مسألة التنوع في طلابها وأساتذتها. بيد أنّ مؤسسات المجتمع المدني الفرنسية قليلةٌ نسبيّاً، ولذلك يبقى العبءُ الأكبر على كاهل الحكومة.
لكنْ عندما نصلُ إلى الأوساط السياسية الرئيسة تبدو الصورةُ غبراء وأكثر قتامة. وذلك لأنّ السياسيين الفرنسيين ولدوافع أيديولوجية أو انتهازية لا يخطُون في ذلك خطواتٍ حاسمة. فنصْف معسكر اليمين وأكثرية معسكر اليسار يركِّزون على مسألة "الفُرَص المتكافئة". فالرئيس شيراك ودي فيلبان تحدثا كثيراً عن تكافؤ الفْرَص؛ لكنهما لم يقدّما اقتراحاتٍ ذات قيمة لتصحيح الأوضاع. ورَفَعَ الحزبُ الاشتراكي شعارات المساواة عالياً، لكنّ لوران فابيوس، رئيس الوزراء السابق، والراغب في الترشح للرئاسة - اكتفى بالقول: إنه سيمثِّل المواطنين، وليس الجماعات الدينية أو الإثنية. كما اكتفت "سيغولين رويال" المرشحة الرئيسة عن الاشترَاكيين للرئاسة بالقول بأنها ستدعو إلى استفتاء لإنهاء التمييز بالقانون. وقام ميشال ساركوزي، وزير الداخلية الفرنسي، بعدة خطواتٍ إيجابية في هذا الصدد؛ لكنّ إجراءاته وتصريحاته بقيت غير متماسكة، وقال الرجل مرار: إنّ رأس الأولويات في فرنسا ينبغي أن يكون دمج ملايين المسلمين الذين يعيشون في البلاد. وفي كتابه الدعائي: "الجمهورية والأديان والأمل" بدا متحمساً لمنع الحجاب بالقانون. وقد شجع فعلاً قيام المجلس الإسلامي لتمثيل المسلمين الفرنسيين تُجاه الدولة. ووقف ضدَّ طرد المقيمين الذين يرتكبون جرائم. وسمح بالانتخاب في البلديات للمقيمين الشرعيين غير المكتسبين للجنسية. وعيَّن في حملته الانتخابية مسلمين لكسْب أصوات المهاجرين إلى جانبه. لكنه من جهةٍ أُخرى اقترح قانوناً يحرم غير المواطنين من المشاركة في النقابة. ثم إنه محتاجٌ لزمنٍ لكي يتناسى المسلمون تصريحاته العنيفة ضدَّهم في أثناء أحداث نوفمبر عام 2005م.
والواقع أنّ السياسيين الفرنسيين الآخَرين لا يتصرفون بطرائق أفضل. ولا يتناولُ هذا المأخذ Le Ran فقط؛ فقد قال اليميني الآخر: ph.de.villians إنه يريد أن يصبح رئيساً لحماية فرنسا من"الأسلَمة".
الحديث عن الثورة:
إنّ الناظر في الوقائع والأحداث في السنوات الأخيرة، يلاحظ أنّ عمليات اندماج المسلمين في فرنسا وفي أنحاء أوروبا الأخرى، سائرة بسرعة رغم الادعاءات والعقبات، صحيحٌ أنّ الأصولية ما تزال تحدياً بارزاً بالنسبة للمسلمين ولغيرهم في فرنسا والبلدان الأوروبية؛ بيد أنّ الأكثرية المسلمة في فرنسا والبلدان الأوروبية الأخرى تفصلُها عن القلة الراديكالية مساحاتٌ ومسافاتٌ من التجارب والآمال والقناعات؛ بحيث لن يستطيع أولئك الراديكاليون تجنيد الكثيرين من المسلمين في صفوفهم من الجاليات التي من المفروض أن يستمدوا منها أنصارَهُم.
هناك مخاوف طبعاً من أَلَّا تُظهر الأكثرية الإسلامية في فرنسا ولاءً مطلقاً للقيم الفرنسية. بيد أنّ المسلمين من أصول غير فرنسية، تُثبتُ الاستطلاعات أنّ كثرتَهم الساحقة هم من المواطنين المستقلين الذين يقعون تحت سقف القيم الجمهورية. إنهم لا يُظهرون خصوصيةً بوصفهم جماعة متمايزة أو منفصلة إلاّ في مواجهة العنصريين أو التمييزيين الذين يتهمونهم على أساسٍ ديني أو على أساسٍ من تحدُّرِهم من بلدانٍ معينة. ويرى المفكر المسلم من أصل سويسري طارق رمضان أنّ السياسيين الفرنسيين تحت القيم الجمهورية، في حين يميّزون في استراتيجياتهم الانتخابية لكسْب الأصوات. وإذا استمرت هذه الاستغلالات فقد يشعر المسلمون مع الوقت بالتهميش، ويبحثون عن هويةٍ بديلةٍ في "الأمة" المتجاوزة للحدود. أَنّ ذلك لو حدث فإنّ فرنسا تكونُ قد ألحقت بنفسها جرحاً عميقاً. والواقع إنّ هذا ليس رأي أكثرية الشعب الفرنسي. ففي استطلاعٍ أُجريَ العامَ الماضيَ قال 50% من الفرنسيين: إنهم لا يَرون أنّ الطبقة السياسية الفرنسية متنوعةٌ بما فيه الكفاية. وطالبوا بأن يدخل للحلبة السياسية مواطنون من المسلمين. وهكذا فإنه بالحكمة والسياسات البعيدة المدى وغير التمييزية يمكن التوفيق بين القيم الجمهورية والهوية الإسلامية العصرية, ويبقى خطِراً إلى حدٍ كبير ذلك الانطباع عن عنف الإسلام أو عن افتراقه عن القيم الجمهورية. وفي هذا المجال لا بد من تنازلاتٍ من الطرفين. فليس من التبصُّر تجاهُل الخطر الأصولي في صفوف المسلمين من جانب المسلمين أنفُسهم، ومن جهةٍ ثانية, ينبغي ألاَّ يكونَ الاندماج لدى بعض الفرنسيين من شروطه أن يأكل المسلمون لحم الخنزير مثلاً, باعتبار ذلك ضرورةً فرنسية. وهكذا فإن التجاهُل التامَّ للهوية الإسلامية وخصوصياتها باسم المساواة غير مفيد، وكذلك الأَمْرُ في اعتبار أنَّ الهوية الإسلامية أساسٌ لخصوصيةٍ منفصلة. لا بد من سلوك طريقٍ وسطٍ يسمح بمعالجة المسائل التي تُهِمُّ المسلمين؛ لكن بوصفهم فئةً من المجتمع الفرنسي وليس خارجه.
هناك مشكلةٌ عميقةٌ في الطبقة السياسية والنافذة في فرنسا والبالغ عددها خمسمائة ألف، وهي طبقةٌ مغلقةٌ منذ عقود، وقد قلَّ إحساسها بمفهوم الخير العامّ. وقد أسهم في هذا الجمود التخثُّر الاقتصادي، وبروز الفروقات الصغيرة بوصفها شيئاً كبيراً. ولذلك لا بد من العودة إلى القيم الجمهورية الفرنسية والليبرالية فعلاً، والتي تؤسِّسُ للاندماج وليس للتفرقة.
*****************
*) عن مجلة الشؤون الخارجية الأميركية، عدد أكتوبر 2006م، ص87-104. والكاتبة من محرري المجلة.