الحقوق المدنية للذميين من أهل الكتاب من خلال الفقه الإسلامي

الحقوق المدنية للذميين من أهل الكتاب من خلال الفقه الإسلامي

هشام قريسة*

يتوقف أمر البحث بداية على تحديد مصطلحات ثلاثة تكون بمثابة الضوابط الحاصرة للبحث وهي مفهوم الحق ومفهوم المدني ومفهوم الذمي، فإذا ما تبلورت هذه الجوانب الثلاثة ضمنا ألاَّ يتوسع البحث إلى ما لم يثبت في العنوان.

مفهوم الحق

للحق في اللغة عدة معان ترجع كلها إلى الثبوت والوجوب قال -تعالى-: ﴿لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلَى أكْثَِرهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمنُونَ﴾(1) أي ثبت ووجب عليهم(2)، أما في اِصطلاح المتشرّعة فهو فائدة مادية أو أدبية(معنوية) مقررة لشخص قبل غيره يحميها القانون(3).

وهي أنواع عديدة باعتبارات مختلفة منها حقوق عامة، ومنها حقوق خاصة، وباعتبار آخر منها حقوق سياسية، وأخرى اجتماعية، وثالثة مالية، وباعتبار ثالث حقوق دينية وحقوق مدنية.

مفهوم المدني

تقسيم الحقوق إلى مدني وديني هو تقسيم حديث للحقوق وهو تقسيم مفاده قائم على اعتبار أن كل أمر لا يتصل من قريب بالعقيدة الدينية هو مدني أي متصل بالجوانب الدنيوية للإنسان فيكون المدني في مقابل الديني.

فالحق الديني يتصل بالعبادة والحق المدني يتصل بالحياة، ولا يخفى أن هذا التقسيم للحقوق إلى ديني ومدني متأثر بمنهج التفكير الغربي الذي يقوم على فصل القضية عن الجوانب الحضارية الأخرى للإنسان، وبقطع النظر عن الخلفية الفكرية لهذا التقسيم فإنني أردت من تخصيص البحث في هذا الجانب توضيح أنماط من الحقوق المادية والأدبية التي كفلها الإسلام لأهل الذمة عامة وللذين هم من أهل الكتاب خاصة في مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية وآقتصرت على ذلك مع أنه لا تخفى قيمة الحقوق المتصلة بالاعتقاد والعبادة بل إن حق الاعتقاد والعبادة هو أهم حق يمكن أن يتمتع به الإنسان في حياته.

مفهوم الذمي

الذمة في اللغة: الأمان والعهد، وأهل الذمة هم المعاهدون من اليهود والنصارى وغيرهم ممن يقيم في دار الإسلام(4) فعقد الذمة هو عقد بمقتضاه يصير غير المسلم في ذمة المسلمين أي في عهدهم وأمانهم على وجه التأييد، وله الإقامة في دار الإسلام على وجه الدوام مقابل ضريبة شخصية تؤدّى للدولة تُعْرَفُ بالجزية.

فالجزية عند الحنفية هي تكليف مالي يلتزم بها الذِّمِّيّوُن بدلا عن نصرتهم لدار الإسلام(5)، وقال الشافعي والحنابلة: هي بدل عن حقن دمهم وإقامتهم في دار الإسلام(6). والإمام أو نائبه هو الذي يتولّى إبرام عقد الذمة، وتُدَوَّنُ هذه العقود المبرمة دفعا لمضرة الإنكار والجحود وقد حفظ لنا التاريخ الإسلامي نماذج كثيرة منها.فإذا ما طلب الذمي إبرام عقد الأمان وجب على المسلمين إجابة طلبه إلا أن يكون جاسوسا يخشى ضرره على المسلمين فلا تعقد له الذمة فإذا عقد أصبح لازما في حق المسلمين فلا يملكون نقضه ما لم يظهر من الذمي ما يقتضي نقضه، ويعتبر عدم امتلاك المسلمين الحق في نقض هذا العهد أهم حق لأهل الذمة لأنه بفضله تترتب لهم سائر الحقوق الدينية والمدنية.

فإذا نقض أحد الذميين عقده فإن حكم النقض لا يسري على غيره ممن دخل في الذمة تبعا، كالأولاد الصغار والزوجة؛ لأن الشريعة الإسلامية لا تؤاخذ الإنسان بجريرة غيره قال –تعالى-: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾(7) فالذمة أشبه ما يعرف اليوم بالجنسية في القوانين الوضعية ذلك أن الجنسية هي رابطة سياسية وقانونية تنشئها الدولة بقرار منها تجعل الفرد تابعا لها أي عضوا فيها(8) فالذميون من تبعة دار الإسلام ومن أهل هذه الدار فهم إذا يحملون هذه الجنسية ويتمتعون بآثارها. يقول الكاساني: "والذمي من أهل دار الإسلام"(9) فهم مرتبطون بدار الإسلام بفعل عقد الذمة (عقد الجنسية) وقال الأستاذ أحمد طه السنوسي: "إن الذميين لا يتمتعون بالجنسية الإسلامية، وحجته أنهم لا يتمتعون بالحقوق نفسها التي يتمتع بها المسلمون، ولا يلتزمون بالالتزامات"(10). ولكن هذه الامتيازات ليست القاعدة بل هي استثناء لأن القاعدة هي التساوي في الحقوق والالتزامات، إن هذه الفوارق في الحقوق والواجبات مبناها على العقيدة الدينية ويدل على هذا المعنى من المساواة القول المشهور للفقهاء في خصوص الذميين: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وقد ذكر الكاساني في "بدائعه" حديثا بهذا المعنى عن الرسول e قال: "فإذا قبلوا عقد الذمة فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين"(11) وهذا الحديث وإن لم يرد في كتب الحديث المعروفة إلا أن معناه مقبول عند الفقهاء, وقد روي عن الإمام علي أنه قال: "إنما قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا" (12) إذاً القاعدة العامة أنهم كالمسلمين في الحقوق والواجبات إلا أن هذه القاعدة يرد عليها استثناء وهو أن الدولة الإسلامية تشترط للتمتع ببعض الحقوق توافر العقيدة الإسلامية في الشخص ولا تكتفي بتبعيته وإذا كان هذا الوصف الديني مناط التمييز بين المسلمين والذميين في بعض الحقوق فهو نفسه مناط التمييز في بعض الواجبات فالزكاة يلتزم بها المسلم دون الذمي والجزية يلتزم بها الذمي دون المسلم.

ولكن يجب الإشارة إلى أمر مهم، وهو أن الأصل في عقود الذمة كما بين ذلك القرآن الكريم إنما هو اتفاق بين أهل الكتاب والدولة الإسلامية ثم ألحق النبي e سائر المجوس وعبدة الأوثان بهذا العهد فقال: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْل الِكتَابِ"(13) غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم.

وميزة أهل الكتاب على غيرهم من عبدة الأوثان أن معهم من التوحيد والإيمان وبعض أثار الأنبياء ما ليس مع عباد الأصنام، وهم أيضا يؤمنون بالمعاد والجزاء والنبوات بخلاف المجوس والوثنيين.

ومع هذا فقد حقن الإسلام دماء المشركين وأعطاهم الأمان وقبل منهم الجزية وأمنهم على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم لا تمس ما داموا ملتزمين بمبدأ الجزية والنصح للمسلمين. ولهذه الميزة التي لأهل الكتاب على غيرهم من أهل الذمة اقتصرت على بيان حقوقهم المدنية في دار الإسلام.

1- الحقوق السياسية

يعتبر هذا الصنف من الحقوق أقرب ما يكون إلى الالتزامات الخاصة بالمسلمين في الدولة الإسلامية إذ إن أكثر الحقوق السياسية اليوم هي في نظر الإسلام التزامات دينية بمعنى أنها واجبات أكثر منها حقوق، فمن ذلك حق تولي الوظائف العامة هو في نظر الإسلام ليس حقا للفرد على الدولة بل هو تكليف تكلفه به الدولة إذا كان أهلا له، فمن ذلك ما جاء في الصحيح عن أبي موسى الأشعري قال: " دخلت على النبي e أنا وَرَجُلاَنِ مِنْ بَنِي عَمِّي فقال أَحَدُهُمَا: يا رسول الله أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاّكَ الله -تعالى-. وقال الآخر مِثْلَ ذَلِك فقال: إنّا وَاللهِ لاَ نُوَلِّي هَذَا العَمَلَ أَحَدًا سَأَلَهُ، أَوْ وَاحِدًا حَرَصَ عَلَيْهِ" (14) فلو كان حقا للفرد لما منع منه. ثم إن بعض الوظائف العامة لا يكلف بها الذمي لأن طبيعتها تقتضي أَلَّا يتولاها إلا مسلم كالخلافة والإمارة على الجهاد لأن الإمامة في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به(15)، فكان من البدهي أن يكون رئيس الدولة مسلما، أما إمارة الجهاد فَلأنّ الجهاد يلتزم به المسلم دون الذمي وإن كان للذميين أن يشتركوا مع المسلمين في الدفاع عن دار الإسلام وفيما عدا ذلك فقد دل التاريخ الإسلامي على اشتراك الذميين مع المسلمين في بعض الوظائف التنفيذية كوزارة التنفيذ(16) ووزير التنفيذ يبلغ أوامر الإمام ويقوم بتنفيذها ويمضى ما صدر عنه من أحكام، فمركزه شبيه بمركز الوزراء في الدول الحديثة من حيث إنهم ينفذون قرارات مجلس الوزراء(17). كما نص الفقهاء على جواز إسناد وظائف أخرى للذميين كجباية الجزية والخراج(18) إضافة إلى وظائف العمران والكتابة والديوان والتعليم وغيرها وسيرة الخلفاء والأمراء تدل على ذلك مما دعا "آدم متز" أحد مؤرخي الغرب إلى أن يقول: " من الأمور التي نُعْجَبُ بها كثرة عدد العمال والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية" (19).

أ- الحرية الشخصية

حماية شخصه من الاعتداء مصداقا لقوله –تعالى-: "إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ"(20) ولقوله e: "مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ فَأَنَا حَجِيجُهُ"(21) وفي عهد النبي e لأهل نجران: "وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَِبِيّ رَسُولِ اللهِ … وَلَاُ يؤْخَذُ مِنْهُمْ رَجُلٌ بِظُلْمِ آخَرَ"(22).

وكان عمر في خلافته يوصي عماله بأهل الذمة ويسأل الوفود عنهم ليتأكد من حسن معاملتهم، من ذلك ما رواه الطبري في "تاريخه" عنه أنه قال لوفد البصرة: " لَعَلّ المُسْلِمِين يُفْضُونَ إِلَى أهْلِ الِذمَّةِ بِأَذًى؟ فقالوا مَا نَعْلَمُ إلَّا وَفَاءً"(23).

وعلي بن أبي طالب يعلن مساواة الذميين للمسلمين في حرمة المال والدم فيقول: "إنما بَذَلُوا الجِزْيَةَ لتَكُونَ أمْوَالُهُمْ كأمْوَاِلنَا وَدمَاؤُهُمْ كَدِمَائنَا "(24).

والفقهاء حين تحدثوا عن وظيفة المحتسب قالوا: إن عليه أن يمنع المسلمين من التعرض لهم بسب أو أذى، ويؤدب من يفعل ذلك لهم وقد أنكر الأوزاعي على الوالي العباسي صالح بن علي(عم المنصور) عندما أجلى قوما من أهل الذمة من جبل لبنان فقال في رسالته إليه: "وقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالئا لمن خرج على خروجه ممن قتلت بعضهم، ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت فكيف تأخذ عامة بذنوب خاصة حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم، وحكم الله –تعالى-: ﴿أَلَّا تَزِرَ وَازِرَة وِزْرَ أُخْرَى﴾ … ثم يقول: "فإنّهُمْ لَيْسُوا بِعَبِيد فتكون من تحويلهم من بلد إلى بلد في سعة ولكنهم أحرارٌ, أهل ذمّةٍ"(25). وبلغ الأمر بالفقه الإسلامي في ضمان هذا الحق الشخصي أنه أوجب على أولي الأمر من المسلمين أن يســتـنقذوا الذميين إذا ما وقعوا أسرى في أيدي العدو ولو بدفع المال لفدائهم قال الليث بن سعد إمام مصر: " أَرَى أَنْ يَفْدُوهُمْ مِنْ َبْيتِ المَال ويُقَرُّون عَلَى ذِمّتِهِمْ "(26). ولا يجوز إلقاء القبض على الذمي أو حبسه أو معاقبته إلا بمقتضى القانون وبموجب جرم يستوجب مثل هذه الإجراءات لأن القاعدة في الشريعة الإسلامية: "أَنْ لاَ جَرِيَمةَ وَلَا عُقُوبَةَ إِلَّا بِنَصِّ الشَّرْعِ"(27).

ب- حريته في التنقل والإقامة حيث شاء

على أن استعمال هذا الحق ترد عليه استثناءات قليلة وهي منعهم من دخول الحرم المكي لا مقيما ولا مارّا, وهذا قول أكثر الفقهاء, وقال الحنفية له دخوله، لكن لا يقيم فيه وأما الحجاز وهي مكة والمدينة وقراهما كالطائف (ما سوى الحرم) فلا بأس بدخولهم له للتجارة ولقد كان النصارى في زمن عمر يتجرون في المدينة ولكن لا يسمح لهم بالإقامة أكثر من ثلاثة أيام وقال الحنابلة إن دعت الحاجة أو المصلحة إلى أن يبقى أكثر من ذلك فلا بأس لأن منعه من ذلك قد يؤدي إلى امتناعهم عن جلب البضائع إلى الحجاز فتضيع المصلحة وما عدا ذلك فإنه يسمح لهم بالتنقل والتجارة في جميع بلاد الإسلام وكذلك بالخروج منها إذا كان هناك مسوغ للخروج كالتجارة أو صلة رحم مثلا مع أمن عودته إلى بلاد الإسلام(28).

ج- حرمة المسكن

يتمتع الذميون بحرمة المسكن فلا يدخل عليهم أحد إلا بإذنهم ورضاهم، ولا يجوز لأحد أن يخرق هذه الحرمة أو يعتدي عليها لأن الاعتداء على حرمة المسكن اعتداء على الشخص نفسه، قال –تعالى-: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُوا وتُسَلِّمُوا عَلَى أهْلِهَا ذلكم خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وإنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَاَرْجعُوا هُوَ أَزْكَى لَكَمْ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾(29) والآية عامة وليس هناك ما يدل على خصوصها.

د- حرية العقيدة والعبادة

هذا يدخل في الحقوق الدينية وموضوع المداخلة يتعلق بالحقوق المدنية للذميين ولذلك تركت الحديث عنه.

هـ – حق التمتع بالمرافق العامة للدولة وكفالة بيت المال

كوسائل المواصلات ومشروعات الريّ والإنارة ومياه الشرب ولهم كذلك حق في بيت المال في حالة عجزهم وحاجتهم، فمن ذلك ما أبرمه خالد بن الوليد في صلحه مع أهل الحيرة زمن أبي بكر الصديق في هذا المجال: "وجعلت لهم(مخاطبا الخليفة) أيمَا شيخٍ ضَعُفَ عن العمِل أو أصابتْهُ آفةٌ من الآفاتِ أو كان غنيًّا فأفْتُقِرَ وصار أهلُ دِينه يَتَصَدَّقُونَ عَليْه طرَحْتُ جِزْيَتَه وَعِيلَ من بَيْتِ مَاِل المسلمِينَ مَا أَقَامَ بِدَاِر الهجْرَةِ ودَارِ الإسلاَم"(30) ويعتبر ما قام به خالد أساسا لإرساء أول نظام تكافلي للتقاعد والحيطة الاجتماعية، وروى البلاذري في "تَاِريخِهِ" عن عمر بن الخطاب أنه عند مقدمه " الجَابِيَةَ " من أرض دمشق مر بقوم مجْذُومين من النصارى فأمر أن يعطوا من الصدقات وإن يجرى عليهم القوت(31). فكان هذا إجراء ثانيا في الحيطة الاجتماعية عند المرض أو ما أصبح يعرف(بالتأمين على المرض) وروى أبو يوسف في كتابه " الخراج " أن عمر بن الخطاب مر بباب قوم وعليه سائل يهودي(شيخ كبير ضرير البصر) فقال: ما أنْصَفْنَاكَ أَنْ كُنا أخذنَا مِنْك الجِزْيَةَ في شَبِيَبتك ثم ضَيَّعْنَاك في كِبَرِكَ قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه(32).

2- الحقوق الإجتماعية

وهي مجموع الحقوق الخاصة التي تنشأ عن علاقات الأفراد فيما بينهم وفقا للتشريع سواء أكانت هذه العلاقات عائلية أم جِوَارِية أم نَسِبيَّة كحق الزواج وحق الطلاق وحق إنشاء أسرة وحق النفقة وحق الميراث وحقوق الجوار من رد التحية ومن عيادةٍ وتعزيةٍ وتهنئةٍ وإجابةِ دعوةٍ وغير ذلك، ورغم أهمية هذه الحقوق فإنها لا تحددها تشريعات ولا تُلْزِمُ بها أوامر أو ضوابط قانونية بل الأمر موكول لهمة المسلم وأدبه وخلقه، وإن كان هناك في الشريعة الإسلامية ما يحض على المعاملة الحسنة والخلق الرفيع.

أ- حق الزواج والطلاق

الأصل أن الدولة الإسلامية لا تتدخل في عقود الذميين ومن ثم لا تجري عليهم أحكام الإسلام في مجال الأحوال الشخصية لأن ذلك من حقوقهم الخاصة إلا إذا ترافعوا إلى الحكام المسلمين أو كان الزواج أو الطلاق بين مسلم وذمية، وحينئذ تجري عليهم أحكام المسلمين وكان مبدأ الدولة الإسلامية في هذه القضية أنها تمنح رجال دينهم صلاحية إبرام عقد الزواج والطلاق كما جرت عليه عادتهم الدينية لأن ذلك يعتبر من أمورهم الخاصة, ومن الشواهد على ذلك أن جل الوثائق التاريخية المتعلقة بزواج الذميين وطلاقهم تحمل العبارة الآتية: إذا هربت ذمية من زوجها الذمي أو تزوج ذمي من ذمية أو طلقها فلا يتدخل أحد فيه ولا يتعرض له إلا الراهب(33) ولأنه حق شخصي أُمِرْنَا أن نتركهم وما يدينون قال –تعالى-: ﴿فإن جَاؤُوكَ فاحكُمْ بَيْنَهُمْ أو أعِْرضْ عَنْهُم وإن تُعِرضْ عنهم فلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئَا وإنْ حَكَمْتَ فاحكُمْ بينَهُمْ بالقِسْطِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾(34). وتبعا لذلك فإن عقودهم من زواج وطلاق وعدة ونفقة وغيرها صحيحة ويقرون عليها إذا أسلموا فلو تزوج ذمي من ذمية بغير شهود أو بغير مهر أو بمهر محرم أو تزوجها في عدتها ثم أسلما فإنهما يُقَرَّان على ذلك إلا أن يكون أحدهما مَحْرَمًا للآخر فإنهما لا يُقَرَّانِ على ذلك.

استثناء: لا يكون الذمي وليّاً لابنته المسلمة في عقد النكاح وإنما يكون وليُّها مسلمًا إما من قرابتها فإن لم يكن فالسلطان وليها(35) ويجوز للذمية أن تتزوج ذميا أو كافرا بعد موت زوجها المسلم أو طلاقها، ووجبت عليها العدة حفاظا على حق الزوج المسلم.

ب- رد التحية

الذي تقتضيه قواعد الشريعة وآدابها أنك إذا حُيِيّتَ بتحية أن تَرُدَّ مثلها أو خيرا منها لقوله –تعالى-: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾(36) قال العلماء: إذا قال لك الكتابي: "سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ" فالعدل في التحية يقتضي أن تَرُدّ عليه نظير سلامه(37).

ج- عيادة أهل الكتاب وتعزيتهم وشهود جنائزهم

سئل أحمد بن حنبل عن الرجل له قرابة نصراني يعوده؟: قال نعم. وسئل مرة أخرى عن الرجل يَعُودُ اليهودَ والنّصارَى، قال: أَلَيْسَ عَادَ النبيُّ e اليهوديَّ ودعاه إلى الإسلام(38).

وأخرج البخاري في "صَحِيحِهِ" من حديث أنس بن مالك قال: "كان غلام يهودي يخدم النبي e فمرض فأتاه النبي e يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم فخرج النبي e وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار"(39).

أما تعزيّتهم فلم يؤثر في ذلك عن النبي e شيء لا في جواز تعزيتهم ولا في صيغة التعزية، وقد توقف في ذلك طائفة من أهل العلم وقال آخرون: يُعزَوّنَ فروي عن الحسن البصري أنه قال: إذا عَزَيّْتَ الذميَّ فقل: "لاَ يُصِيبُكَ إلاَّ خَيْرٌ" وقال إبراهيم النخعي: إذا أردت أن تعزي رجلا من أهل الكتاب فقل: "أكثر الله مَالَكَ ووَلَدَك وأطال حَيَاتَك أو عُمُرَكَ" وَعَّزى الأجْلَحُ نصرانيا فقال: "عليك بتقوى الله والصبر".

أما عن شهود جنائزهم فقد روى أصحاب الحديث عن أبي وائل قال: ماتت أمي نصرانية فأتيت عمر فسألته فقال: اركب في جنازتها وسر أمامها. وسئل أحمد بن حنبل عن المسلم تموت له أم نصرانية أو أبوه أو أخوه أو ذو قرابته هل يلي شيئا من أمره حتى يواريه؟ قال: إن كان أبا أو أُمًّا أو أخًا أو قرابة قريبةً وحضره فلا بأس، وقد أمر النبي e علي بن أبي طالب أن يوارِيَ أبا طالب، وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: يشهده ويدفنه(40).

د- في تهنئة الذّميين

الكلام فيه كالكلام في التعزية والعيادة ولا فرق، فيه الجواز كتهنئتهم بزوجةٍ أو ولد أو قدوم غائبٍ أو عافيةٍ أو سلامةٍ من مكروه ونحو ذلك، أما تهنئتهم بشعائر الكفر المختصة بهم فحرام بالاتفاق مثل تهنئتهم بالأعياد والعبادات، فمن هَنَّأَ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه(41).

وقد استفتي أبو السعود الحنفي. في مسلم قَبِلَ من ذمي يوم عيدهم الباطل بعض المأكولات وبيضات حمراء(42) فماذا يلزمه شرعا؟ فقال: "لا بأس به إِنْ قَبِلَ ذلك بناءً على مراعاة حقوق الجيران لا تعظيما لذلك اليوم"(43).

هـ – في ذبائح أهل الكتاب

قال –تعالى-: ﴿وطَعَامُ الذّينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾(44). ولم يختلف السلف أن المراد بذلك الذبائح. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أنه لا بأس بذبائح أهل الكتاب إذا أهلُّوا لله وسموا عليها، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه: لا تؤكل ذبائحهم التي سموا عليها المسيح، وذلك أن الله –تعالى- حين ذكر طعامهم وأحله أي الطعام الذي أبيح لهم لا ما يستحلونه مما حرم عليهم كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلَّ به لغير الله فإن ذلك محرم في جميع الشرائع السماوية(45) فهل يجوز أن يذبح أهل الكتاب للمسلمين؟ قال ابن حنبل: يجوز ذلك إلا النسيكة(أي الهدْيُ والأضْحِيَةُ).

و- في طلب العلم عن الذميين

تنقسم العلوم إلى قسمين علوم دينية(وتشمل العقيدة والعبادة والأخلاق وأصول المعاملات) وعلوم دنيوية(وتشمل علوم الصناعة والفلاحة والطب والفلك والحيوان وغيرها) أما الأولى فلا يجوز أن تؤخذ إلا عن مسلم وأما الثانية فأجيز أخذها عن الذميين إذا كانوا أكثر اهتماما من المسلمين بهذا العلم أو أقل كلفة أو كانوا أدرى بهذه الفنون من غيرهم(46).

ز- الإنفاق على الآباء الذميين

الذي يقوم عليه الدليل وجوب الإنفاق وإن اختلف الدِّينَان لقوله –تعالى-: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بوَاِلَديْهِ حُسْنَا﴾(47) وليس من الإحسان ولا المعروف تركُ أبيه أو أمه في غاية الضرورة والفاقة وهو في غاية الغنى، فَصِلَةُ الرحم واجبة وإن كانت لكافر.

3- الحقوق المالية: (أحكام المعاملات) حقوق التعامل

أ- أحكام البيع والشراء من الذميين:

ثبت عن النبي e «أنه اشْتَرَى من يهوديٍّ سلعَةً إلى مَيْسَرَةٍ، وثبت عنه أنه أخذ من يهوديِّ ثلاثينَ وَسقاً مِنْ شعير ورَهَنَهُ دِرْعَهُ»(48).

وفي هذا دليل على جواز معاملتهم ورهنهم, وثبت عنه أنه زارعهم وساقاهم ولكن ليس لهم أن يُظِهروا الخمر وأن يَتّخِذُوا الخنزيرَ في أمصار المسلمي(49) وكذلك يمنعون من التعامل بالربا كما هو الحال بالنسبة للمسلمين.

ب- في شركتهم ومضاربتهم

ثبت عن الرسول e أنه "شاركهم في زرْعِ خيبَرَ وتَمِْرها"(50) سئل أحمد ابن حنبل عن الرجل يشارك اليهودي والنصراني قال: "يشاركهم ولكن يلي هو البيع والشراء وذلك أنهم يأكلون الربا ويستحلون الأموال"(51)، والذي عليه أكثر أهل العلم جواز مشاركتهم على أن تكون المعاملة في البيع والشراء للمسلم وأنه هو الذي يشرف على ذلك.

ج- في الإجارة المتبادلة

أما استئجار أهل الذمة في عمل من أعمال المسلمين فلا خلاف في جوازه لما ثبت عن النبي e أنه استأجر دليلا يدله على طريق الهجرة وكان مشركا فأمنه ودفع إليه راحلته هو والصدّيقُ.

وأما إيجار المسلم نفسه للذميين فلا يخلو الأمر من أن تكون إجارة للخدمة أو إجارة للعمل فأكثر العلماء على منع إجارة الخدمة أي يؤاجر نفسه للذمي يخدمه لأن في ذلك نوعا من الإذلال للمسلم وأجازوا إجارة العمل، كأن يعمل لهم بَنَّاء أو نَجَّارا، واستثنى العلماء من ذلك ألاَّ يكون إيجار العمل يتضمن تعظيمَ دينهم وشرائعِهِم أو القيامَ بمحرّمٍ كأن يؤجر نفسه لحمل خمر أو خنزير أما إجارة المسلم داره لأهل الذمة فإن كانت واقعة في محلَّةٍ للمسلمين فأكثر العلماء على عدم الجـواز لما يقع فيها من المعاصـي وقال بعضهم: يجوز إذا أمِنَ المسلم ألاّ ينتفع بها المستأجر الذمي في المحرَّمِ(52) وهناك من أجاز الإجارة بشرط ألاّ ينتفع الذمي بسكنى الدار العالية.

قال ابن القيم: "والذي يقتضيه أصول المذهب وقواعد الشرع أنهم يُمنعون من سكنى الدار العالية على المسلمين بإجارة أو عارية أو بيع أو تمليك بغير عوض"(53).

د- في ثبوت الشفعة لهم

الذي عليه جمهور علماء الإسلام ثبوت الشفعة لغير المسلم على المسلم، وقال الحنابلة والشيعة الإمامية والإباضية: لا شفعة لكافر على مسلم، واستدلوا بحديث رواه ابن عدي والبيهقي: "لاَ شُفْعَةَ لنَصْراِنيِّ "(54) وبأن الشفعة إنما ثبتت للمسلم دفعا للضرر عن ملكه.

أما جمهور المالكية والشافعية والحنفية فقد استدلوا بعموم الأخبار الواردة في ثبوت حق الشفعة للشفيع دون تفريق بين المسلم وغير المسلم مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لاَ يَحِلُّ لَه(أي المالك) أن يبيعَ حتى يستَأْذِنَ شريكَه وإنْ باعه ولم يُؤْذِنْه فهو أَحَقُّ بِهِ"(55) ثم إن الشفعة كالخيار الثابت لدفع الضرر بالشراء فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالبيع(56).

هـ – في حق إحياء الأرض

مذهب الحنفية والحنابلة وأكثر المالكية أن الذمي يملك الأرض الموات بالإحياء محتجين بعموم قوله e: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهْيَ لَهُ"(57).

وهناك من اشترط من العلماء أن يأذن في ذلك الإمام, والذين اتفقوا على جواز امتلاكه للأرض بالإحياء اختلفوا فيما يجب عليه من أداء فقيل: يلزمه عنها خراج وقيل: عُشْر(58).

و- ما جاء في شراء أرض المسلمين

أكثر الفقهاء وخاصة فقهاء المدينة لا يدعون ذميا يشتري من أرض المسلمين، ويرون أن في شرائهم للأرض ضررا على المسلمين لأن ذلك يؤدي إلى إسقاط الزكاة أما إجارة الأرض العشرية للذمي فقد نص أحمد بن حنبل على صحة الإجارة مع الكراهة(59).

ز- في الوقف

أجاز جمهور العلم من مختلف مذاهب الإسلام وقف الذمي على ذمي أو مسلم كما أجازوا الوقف عليه من مسلم أو غير مسلم واحتجّوا على جواز الوقف بما روي أن صفية بنت حُيَيْ بن أخطب زوج النبي e وقفت على أخ لها يهودي.

كما احتجوا من جهة المعقول بأن الوقف صلة وصلة الذمي جائزة، واشترطوا لصحة وقف الذمي ألاّ تكون الجهة الموقوف عليها جهة معصية في نظر الشريعة، وإن كان الذمي يعتقدها جهة بر وقربة كما لو وقف ماله على بيعة أو كنيسة، وأجاز الشيعة الإمامية وقف الذمي على البيع والكنائس اعتبارا باعتقاده وإن كان مثل هذا الوقف لا يصح من المسلم.

أما لو وقف ماله على بيوت الدعارة فالوقف باطل باتفاق العلماء لأنه ليس بقربة عندنا ولا عندهم(60).

ح- في حق الميراث

الاتفاق حاصل بين العلماء أن لا توارث بين ملة الإسلام والملل الأخرى الكتابية وغيرها لما جاء في النصوص الصريحة، منها قوله -عليه السلام-: "لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَاِفَر ولاَ الكَاِفرُ المُسْلِمَ"(61) ولكن هل يرث الذميون من ملل أهل الكتاب بعضهم من بعض فالذي عليه جمهور العلماء أبوحنيفة والشافعي وأحمد وأهل الظاهر أنهم يرثون بعضهم بعضا، وخالف في ذلك فقهاء المدينة مالك وأصحابه فقالوا: لا يتوارث أهل ملتين شتى لأنهم لا يتناصرون ولا يتعاقلون ولا يُوَاِلي بعضهم بعضا(62).

ط- تساويهم مع المسلمين في أداء ما يلزمهم تجاه بيت المال

الضرائب التجارية

يخضع الذميون لضريبة تجارية تفرض على أموالهم المعدة للتجارة، وتكون هذه الضريبة حينما ينتقل الذمي بأمواله التجارية من بلد إلى بلد داخل دار الإسلام، ومقدارها نصف العشر، والمسلمون يخضعون أيضا لهذه الضريبة التي تسمى عندهم الزكاة، والتي تشمل جميع عروض التجارة من ثياب وحيوان ومتاع ونحو ذلك، وكذلك الذهب والفضة نقودا كانت أو معدنا ويستوفي هذه الضريبةَ عمالُ الدولة المعنيون لهذا الغرض، ويشترط في المال الذي تؤخذ منه الضريبة أن يبلغ نصابا كما هو الحال في المال الزكويّ، وهذا الشرط عند أغلب الفقهاء بحيث إن المال التجاري إذا لم يبلغ نصابا فإنه لا ضريبة فيه، وكذلك لا ضريبة على الذمي في أمواله التي يتاجر بها داخل البلد، وقد يتساءل عن سبب إعفاء الذمي من هذه الضريبة في بلده الذي هو فيه ووجوبها عليه بانتقاله من بلد إلى بلد والجواب ما أشار إليه الفقهاء من أن الضريبة إنما كانت بسبب الحماية يقول الكاساني الحنفي: "وَإِنَّ الجِبَايَةَ بِالحِمَايَةِ"(63) وكذلك بسبب انتفاعه بالمرافق العامة التي توفرها الدولة(64).

وتُستوفَى الضريبة مرة واحدة في السنة، وهذا ما قاله جمهور الفقهاء إلا المالكية مستدلين بما روي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز من أن المال الواحد لا تؤخذ منه ضريبة أكثر من مرة واحدة في السنة كالزكاة(65) فإذا تم استيفاء الضريبة كَتَبَ لهم العاشر(جابي الضريبة) وثيقة بالأداء لتكون بأيديهم حجة خلاص فلا يستوفيها منهم عاشر آخر، وإذا كانت الضريبة لا تُستوفَي عن المال إلا مرة واحدة في السنة فإن هذا الحكم لا يشمل الزيادة عليه وإذ إن هذه الزيادة تخضع للضريبة كما خضع المال الأصلي(66).

فإذا مر الذمي على العاشر بخمر أو خنزير فإنه لا يُؤْخذُ من أعيانها شيءٌ وإنما يُؤْخذ من أثمانها لقول عمر t: "وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وخُذُوا أنتم من الثمن" وذلك أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزيتهم ثم يتولى المسلمون بيعها حتى نهاهم عن ذلك عمر بن الخطاب(67).

ضريبة الأرض: "الخراج "

والخراج هو ضريبة مالية تدفع عن الأرض التي فُتِحَتْ عنوة، وأُقِرَّ عليها أهلها الذين يدفعون أداءً مقابل الانتفاع بها، فإذا أسلم أهلها يضاف إليــها أداء عشري أي يجتمع عليها العشر والخراج، وقال أبو حنيفة: لا يجتمع العشر والخراج في أرض، وللعلماء في ذلك تفصيلات وآراء ليس هذا مقام مناقشتها، ولكن ما يهمنا أن مقدار الخراج المضروب على الأرض معتبر بما تحتمله الأرض وبقدر الطاقة وذلك يختلف من جهة جودة الأرض ورداءتها، ومن جهة الزرع والشجر فإن منه ما تكثر قيمته ومنه ما تقل، ومن جهة خفة مؤونة السقي وكثرتها فإن منها ما يشرب بالدوالي والنواضح، ومنها ما يشرب بالأمطار والأنهار فلا بد لواضع الخراج من اعتبار هذه الأوصاف ليعلم قدر ما تحتمله الأرض فيقصد العدل في وضعه فلا يجحف بأربابها ولا بمستحقي الخراج، يجب عليه أن يدع لأرباب الأرض بقية يجبرون بها النوائح والجوائح كما أمر النبي e في خرص الثمار في الزكاة أن يترك لأهل النخل الثلث أو الربع(68) فإن تعطلت الأرض وبارت أو انقطع شربها ويكون ذلك بسبب لا صنع لهم فيه كانقطاع المياه وإجلاء العدو لهم عن أرضهم، أو جور لحقهم لم يمكنهم الإقامة عليه أو تخرب الأرض بالأمطار والسيول أو يُبْس الزرع بالجفاف، ونحو ذلك فهذا يسقط الخراج عنهم حتى تعود الأرض كما كانت ويتمكنوا من الانتفاع بها، وعلى إمام المسلمين أن يعمّر الأرض من بيت المال من سهم المصالح، ولا يجوز إلزامهم بعمارتها من أموالهم، فإن سألهم أن يعمروها من أموالهم ويعتد لهم بما أنفقوا عليها من خراجها فرضوا بذلك جاز ولم يجبروا عليه إلا أن يكون سهم المصالح عاجزا عن ذلك فإن أمكن أن تستغل الأرض بعد أن بارت لصيد أو مرعى جاز أن يستأنف عليها خراجا بحسب ما تحتمله ولا يجوز أن يحمل عليها خراج الأرض العامرة، فإن أعسر الذمي بالخراج انظر: إلى يساره ولم يسقط بالإعسار، وإن أعسر بالجزية سقطت عنه ولم تستقر في ذمته، والفرق بينهما أن الجزية لا تجب مع الإعسار فهي كالزكاة والنفقة الواجبة، وأما الخراج فهو أجرة الأرض فيجب مع اليسار والإعسار؛ ولهذا لِمَا ضربه عمر t على الأرض لم يراع فيه فقيرا من غني(69). فإن ترك أرضه فلم يعمرها فللإمام أن يدفعها إلى من يعمرها حتى لا تخرب.

وهكذا نلاحظ أنه حتى الالتزامات المالية التي التزم بها أهل الذمة فلها ما يقابلها مفروضا على المسلمين حقا لبيت المال والتساوي في دفع الضرائب، والالتزام بها مِنْ أَلْزَمِ الحقوق في المجتمعات المدنية المعاصرة.

******************

الهوامش:

*) باحث من تونس.

1- سورة يس، آية: 6.

2- الفيروز ابادي، القاموس المحيط، 3/323.

3- عبدالكريم زيدان، أحكام الذمّيين والمستأمنين في دار الإسلام، ص77.

4- أحكام الذميين والمستأمنين، ص22.

5- السرخسي، المبسوط، 10/78، ص81.

6- الشيرازي، المهذب، 2/267.

7- الأنعام، آية:166، الإسراء، آية:15، فاطر، آية:18، الزمر، آية: 8.

8- أحكام الذميين والمستأمنين: 57.

9- بدائع الصنائع، 5/281.

10- السنوسي، فكرة الجنسية في التشريع الإسلامي المقارن، ص63،57،44.

11- بدائع الصنائع، 7/100.

12- أحكام الذميين والمستأمنين، ص70، انظر: الدار قطني، 2/350 والحديث: "مَنْ كَانَتْ لَهُ ذِمّتُنَا قَدَمُهُ كَدَمِنَا".

13- الموطأ – الزكاة – باب جزية أهل الكتاب والمجوس حديث43.

14- البخاري – أحكام: 7، مسلم – إمارة – 14. انظر: ابن تيمية، السياسة الشرعية، ص6.

15- الماوردي، الأحكام السلطانية، 33.

16- أحكام الذميين والمستأمنين، 77.

17- محمد الرايس، النظريات السياسية الإسلامية، ص215.

18- أبو يعلى، الأحكام السلطانية، ص124. الماوردي، الأحكام السلطانية، ص126.

19- أحكام الذميين والمستأمنين، ص82.

20- سورة البقرة، آية: 189.

21- سنن أبي داود، 2/255.

22- أبو يوسف – الخراج، ص72.

23- تاريخ الطبري، 4/218.

24- المغني، 8/445.

25- البلاذري، فتوح البلدان، ص222، أبو عبيد، الأموال، ص170.

26- أبو عبيد، الأموال، ص127.

27- عبدالقادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي، 1/118.

28- أحكام الذميين والمستأمنين، ص93.

29- سورة النور، آية:27.

30- أبو يوسف، الخراج، ص144.

31- البلاذري، فتوح البلدان، ص177.

32- الخراج، ص150، وكذلك ابن القيم، أحكام أهل الذمة، 1/38.

33- فتاوى أبي السعود، ص45.

34- سورة المائدة، آية:41.

35- ابن القيم، أحكام أهل الذمة، 2/410.

36- سورة النساء، آية:85.

37- أحكام أهل الذمة، 1/200.

38- ن.م، 1/200.

39- صحيح البخاري – جنائز – ص80، وكذلك أبو داود – جنائز – ص2.

40- أحكام أهل الذمة، 1/203 – 204.

41- ن.م، 1/206.

42- لأن النصارى يصبغون البيض بألوان مختلفة في عيدهم المسمى "خميس العهد".

43- فتاوى أبى السعود، ص61.

44- سورة المائدة, آية: 6.

45- ذهب طائفة من أهل العلم إلى حلّية ذلك منهم الشعبي وعطاء وإبراهيم النخعي وروي عن مالك أنه كره ذلك من دون تحريم.

46- فتاوى أبي السعود، ص64.

47- سورة الأحْقَاف، آية: 14.

48- البخاري – استقراض -1، بيوع -14-مسلم-المساقاة-126,124 الموطأ – جهاد: 18.

49- أحكام أهل الذمة، 2/674، 1/269.

50- ابن ماجه، الرهون – باب معاملة النخيل والكرم.

51- أحكام أهل الذمة، 1/270.

52- أحكام الذميين والمستأمنين، ص553.

53- أحكام أهل الذمة، 2/705.

54- أحكام الذميين والمستأمنين، ص556.

55- مسلم-مساقاة ص135، الترمذي-بيوع ص69، النسائي-بيوع- ص107، ابن ماجه شفعة، ص1.

56- المغني، 5/358.

57- الموطأ – كتاب الأقضية، باب القضاء في عمارة الموات، حديث 26.

58- أحكام أهل الذمة 1/298.

59- ن.م، 1/149.

60- أحكام الذميين والمستأمنين، ص486.

61- البخاري-حج- ص44، فرائض- ص26، مغازي- ص48، مسلم-فرائض- ص1، الموطأ-فرائض- ص10.

62- أحكام أهل الذمة، 1/446.

63- بدائع الصنائع، 2/37.

64- أحكام الذميين والمستأمنين، ص181.

65- أبو عبيد، الأموال، ص538.

66- ابن قدامة الحنبلي، المغني، ص8/519.

67- أحكام أهل الذمة، 1/194.

68- ن.م، 1/115.

69- أحكام أهل الذمة، 1/117،123.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=335

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك