المرونة في عصر التّأسيس الأول؛ مدخل إلى مشروع مصطفى تاج الدين (القضاء / الخراج / السجون)
المعيارية في التّفكير: الخطأ القاتل
كثيرة هي أعطاب ثقافتنا وأنماط تفكيرنا، والقوالب الجاهزة الّتي نمتح منها طرائق سلوكياتنا ونظرتنا للذّات والآخر والمحيط. فبالرّغم من أنّ مسار التّاريخ البشري هو مسار التمرّد على الأفكار، إلاّ أنّ هناك من يصرّ على أنْ يدسَّ في هذا المسار يقينه الخاص (الحقائق)، ونقاط توقّفه (الثوابت)، وزواياه المحرّمة (المقدّسات) على أنّها الجزء الأصيل في هذا التّاريخ. وهنا مقتل الفكرة، ومكمن الدّاء. فحين تتجاوز هذه الأخيرة شروط إنتاجها تتحوّل إلى صنم، وهنا لا بُدَّ من استحضار نصيحة نتشه: "احترِسوا من أنْ يقتُلكم صنمٌ ما"[1].
هو المسار نفسه يتكرّر ويتكرّر، ويلبس نُسخاً تختلف في الشّكل وتتّفق في المضمون لتؤكِّد أنّ استسلام الإنسان وانبطاحه أمام أفكاره ومسبقاته وثوابته ينبع من الهدر الّذي تعرَّض إليه، وليس من قوّة اليقين الذي انبنت عليه. وتلك هي وظيفة الشّموليات، فهي الوحيدة القادرة على أنْ تضع الإنسان في حالة انتظار طويلة الأمد ترقّباً لأحلام وهمية. الخوف والتردّد من ملامسة المسكوت عنه مهمّة صعبة في واقع ثقافي مغلق، يقف فيه الباحث عاجزاً عن إدراك حجم التّحريم والتّأثيم والتّجريم الّذي تمارسه الثقافة لضمان استمراريتها وبسط نفوذها على هذا الكائن الإنساني، في رغبة ملحَّة وأبدية هدفها التّكرار من أجل الاستمرار. ولا ضير ما دامت وظيفة كلّ فكرة مغلقة، هي أنْ تنزَع بالإنسان ليكون فردا ضمن قطيع، بدل أنْ يجترح مواطن السّؤال، يتحوّل همّه إلى البحث عن إجابات نهائية، وهنا يقع ضحية الإيديولوجيات، والسّرديات الكبرى، والأسطرة، والتّفكير من داخل صندوق الحقيقة أو التّفكير من داخل النّسق الفكري الذي ينشأ فيه الإنسان، إذ لم يبتكر العقل البشري مكيدة أبشع من مكيدة الحقّ والحقيقة. وبدل الانزياح نحو رؤية الآخر بمنظاره الفكري، نتحيّز إلى مصالحنا العقلية ونهدر ذواتنا بحثاً عن السّراب.
كلّ فكرة تموت لحظة التوقّف كما قال جمال علي الحلاّق[2]. لهذا يأتي الكتاب قيد الدراسة والموسوم بـ "مؤسّسات الإسلام في عصر التّأسيس: جدلية الشّريعة والسّلطة والمجتمع" لصاحبه المصطفى تاج الدّين، كي يخوض بنا تجربة من نوع خاصّ، وسط ألغام ثقافية لا يراد لها أنْ تكشِف محنتنا، أو مواطن تزييف الوعي، وتلك آفة تفكيرنا. فالخروج من دائرة المغلق هي المهمّة المستحيلة في نظر البعض، وفي الوقت ذاته هي الأمل المرجوّ للكتابة، باعتبارها البداية للبحث عن هوامش الانفلات من القبضة المحكمة التي تفرضها سطوة العقل الجمعي على مفاصل تفكيرنا. وهذه هي وظيفة الكتاب قيد الدّراسة، حيث الاقتراب من كشف بعض خبايا الفم المقموع كما يحلو للبعض تسميته، وليس فقط قراءة التّاريخ وفق ما تناقله الفم النّاطق.
كتاب "مؤسّسات الإسلام في عصر التّأسيس: جدلية الشّريعة والسّلطة والمجتمع" ليس استقراءً وحصراً لمؤسّسات الإسلام، ولكن هو دراسة ثلاث مؤسّسات مركزية في التّاريخ الإسلامي: الأولى مؤسّسة التّشريع ممثّلة في القضاء، والثّانية المؤسّسة العقابية ممثّلة في السّجون، والثّالثة المؤسّسة المالية ممثّلة في الخراج جمعاً وتوزيعا، وبما أنّ أزمتنا هي أزمة مفاهيم فلقد كان الكتاب واعياً بخطورة تحديد مفهوم المؤسَّسة تضييقا وسيولة احتاج إلى وضعه بين ثلاثة تعريفات شائعة:
- تعريف اصطلاحي يحصرها في البعد التشريعي
- تعريف أشمل بوصفها تكوينات اجتماعية تتحرّك وفقاً لقواعد ومعايير. وهذا هو الذي اطمأنّ له تاج الدين باعتباره يتمتّع بإجرائية علمية.
- تعريف يرى المؤسَّسة عبارة عن سلوك متكرّر ومطرّد على نمط ما.
وهدف القراءة هنا ليس تسلية، أو تغنّياَ بمجد ليس لنا فيه سوى التّقديس. وإنّما هي صرخة في واقع لا زال يكرّس نفسه ضحية لنزعة معيارية صنمية للتّراث، ملغيا بذلك طابعه الإنساني، نازعاً عنه الدّوافع المحرّكة للتّاريخ والبشر، في انتقائية تحوِّل الحدث الإيديولوجي، والفكرة التّاريخية إلى صنمٍ يفضي بالإنسان إلى تقديس المعيار، أو بتعبير أدقّ تقديس الوهم. ومن هنا يعيش المرء حالة الاغتراب أو حالة الجحيم كما هو الشأن بالنسبة لبطل هنري باربوس، لسببين:
- إكراه الواقع للانسجام مع المعيار يخلق التطرّف
- إكراه المعيار للانسجام مع الواقع عبر التّأويل يخلق تطرّفاً أشد إذا فشلت تجربة الملاءمة والمواءمة.
المؤسّسة التّشريعية ممثّلة في القضاء
بما أنّ تاريخ النّشأة والبدايات مهمّة صعبة فإنّ الكشف عن نشأة المؤسّسة التّشريعية في المجتمع الإسلامي يأخذ نفس الطّابع، وهو ما أكّد عليه تاج الدّين في نقاشه المستفيض حول ملابسات النّشأة والتطوّر. فلقد كان هذا الأمر خاضعاً لنظرتين أو اتِّجاهين: الأوّل تقليدي والمقصود به هو صدوره عن نزعة معيارية تفضيلية تحكُمها القواعد المحدثة والمناهج المكتملة.
والثّاني: جديد ينزع إلى تحييد النّظرة المعيارية، ويتعامل مع الأحداث والأخبار والتّواريخ نظرة واقعية كما هي مبثوثة في كتب التّراث. ولعلّ أهمّية هذا الاتّجاه تكمن في أنّه يعرّي النّظرية التّشريعية من طابع القدسية المحاط بها، ويتعامل معها على أساس أنّها ليست مجهودا نظريا لعقل عبقري، بقدر ما هي خلاصة الوعي التّشريعي بحركة المجتمع والإشكاليات المرتبطة به.
ينفي تاج الدّين وجود مؤسّسة للقضاء عند العرب قبل الإسلام بالمفهوم الذي تمّ طرحُه سابقا، مع تأكيده على وجود أشكال معيّنة لفضِّ النِّزاعات أو المشاكل التي تعترض أيّ مجتمع. وهنا لا بدّ من التمييز بين القضاء بوصفه مؤسّسة، وبين التّحكيم الذي لا يعتمد في أصوله على مساطر محدّدة، ولا على نمطٍ واحد في البحث عن الدّليل الجنائي، حيث أنّ البوادر الأولى لتشكُّل القضاء كانت توحي بأنّ هناك خلطاً واضحا بينه وبين مفهوم التّحكيم، فهذا علي بن أبي طالب لمّا أرسله النّبي قاضياً إلى اليمن عبَّر عن حرجه من ثقل المسؤوليّة بسبب حداثة السنّ وانعدام العلم بالقضاء، ممّا يوحي بغياب مرجعية تشريعية قضائية يمكن الاستناد عليها حينذاك.
ولعلّ سبب اللبس في اعتقاد من يتحدّثون عن مؤسّسة قضائية في بدايات الإسلام أو في عصر التّأسيس الأول هو حديث معاذ بن جبل حينما بعثه النبيّ قاضيا إلى اليمن، حيث قال له: "كيف تقضي إذا عرض عليك قضاء: قال أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله، قال: فبسُنّة رسول الله، قال فإن لم تجد في سُنّة رسول الله، قال أجتهد رأيي ولا آلو. قال فضرب رسول الله على صدره بيده، وقال الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله". وهنا مكمن المغالطة حسب تاج الدين، فما تريد تمريره الرّواية هو إعطاء الانطباع الأوّلي باكتمال ونضج النّظرية الفقهية منذ النشأة الأولى. وهذا مجانب للصّواب لاعتبارات كثيرة:
- الوحي والفعل النبوي ما زال مستمرّا زمن بعث معاذ إلى اليمن، وبالتالي لم تكتمل السُنّة التي اعتبرها معاذا أصلا ثانيا في من أصول التقاضي.
- تدوين السنّة النبوية تمّ تأخرّه بكثير عن هذا الحدث، إلاّ إذا كان المراد بالسنّة فعل النّبي وتحكيمه في بعض القضايا.
- جواب علي بن أبي طالب واضح في عدم اكتمال نظرية قضائية زمن البعثة النبوية. أمّا جواب معاذ، فيؤكّد العكس.
- تعرّض حديث معاذ للنّقد من طرف كبار المحدّثين يجعله موضع شبهة.
- تناقض معاذ في أصوله القضائية حينما قضى مثلا بأنْ يرث المسلم أخاه اليهودي، وقضاؤه لبنت الميّت وأخته بالنصف لكلّ واحدة منهما زمن النبي، مخالفا بذلك أصله الثّاني وهو الرجوع إلى سُنّة النبي.
كلّ هذه الوقائع وغيرها من الأحداث والمرويات تؤكّد على غياب مفهوم التّشريع في الفترة النبوية، لأنّه من الصعب على تجربة دينية في بداياتها الأولى أنْ تتحوّل بين عشية وضحاها إلى نظام تشريعي متكامل الأركان، ولو كان ثمّة وعي بمركزية القرآن والسنّة في مرحلة التّأسيس كما يقول تاج الدين لتبلورت النّظرية الفقهية بوصفها شرطاً من شروط تطوّر التّشريع يمكنه أنْ ينعكس إيجابا على تطوّر القضاء. ولكي يتضّح الأمر بشكل جليّ، فإنّ الكتاب يطرح تصوّرا مفاده أنّ لا وجود لنظرية فقهية - متكاملة المعالم يمكن أنْ يستند عليها القاضي في إصدار أحكامه - إلى حدود أواخر المئة الأولى من الهجرة. ففي عهد عمر بن عبد العزيز (99 هـ /101 هـ) مثلا كانت القضايا التي ترفع إلى قاضيه تتفاوت بين الجدّي منها والبسيط، كقضية الصّبي الذي افترع صبية بأصبعه، حيث حوّلها إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز فأجاب أنّه لم يبلغه شيء في المسألة: "فاقض فيه برأيك"، فحكم القاضي بغرامة خمسين دينارا على الصبيّ لصالح الفتاة".[3]
ما يهمّ هنا هو غياب المرجعية التشريعية والقضائية بما في ذلك القرآن والسنّة من خلال النّصوص الدّاعية لتفعيل مبدأ القصاص، وهي ملاحظة توحي لنا بأنّ القاضي في فترة التّأسيس مع جيل الصحابة وتابعيهم لم يكن يرى في النّصوص القرآنية مصدراً للتشريع أو يرى أنّ القرآن يمكن أنْ يكون مرجعاً منفصلا عن إرادة القاضي. ولتأكيد هذا الأمر يمكننا الاستعانة ببعض أخبار القضاة من الجيل الأول، فهذا عبد الله بن مسعود قاضي عمر بن الخطّاب في الكوفة: "وقد أتي برجل من قريش وجد مع امرأة في ملحفتها ولم تقم البينة على غير ذلك، فضربه عبد الله أربعين، وأقامه الناس، فانطلق قوم إلى عمر بن الخطاب فقالوا: فضح منا رجل، فقال عمر لعبد الله، بلغني أنك ضربت رجلا من قريش، فقال أجل أتيت به وقد وجد مع امرأة في ملحفتها ولم تقم البيّنة على غير ذلك، فضربته أربعين وعرفته للناس. قال: أرأيت ذلك؟ قال نعم: قال: نعم ما رأيت. قالوا جئنا نستعديه عليه فاستفتاه "[4]. وكذلك فعل علي في بعض قضاته، وبعض كبار الصّحابة الذين لم يروا في النصّ القرآني مصدراً تشريعيا ملزماً، بل تعاملوا معه تعاملا مرناً. وهكذا ظلّت الأمور إلى أنْ جاء العصر العبّاسي، وبدأت ملامح الفقه المذهبي في التشكّل، وحينذاك بدأت المرونة تندثر شيئا فشيئا لصالح التمذهب، وأصبح الحكم القضائي مرتبطا هذه المرّة بمرجعيات ومصادر فقهية يجب على القاضي الالتزام بها.
إنّ القاضي في مرحلة التّأسيس لم يكن سوى مسؤول يعيّنه الخليفة أو أمير المنطقة، إذ إنّ سلطته كانت تفويضية نابعة من موقف الأمير، وليس من سلطة تشريعية أو قانونية. وهذا الأمر راجع إلى تصوّر الدولة الأموية لمركزية الدّولة، فلقد كان ولاء الجيش وحكّام الأمصار عن طريق البيعة كافيا للحكم بقوة الدّولة وهيبتها، خاصّة تأمين وصول الخراج من مختلف أقطار الدولة. وهذا يفسّر لنا عدم توحيد القضاء في مرحلة التّأسيس، والنّظر إليه، باعتباره مؤسّسة مستقلّة عن الجهاز التّنفيذي، إضافة إلى ما تمّ الإشارة إليه سابقا من كون الشريعة لم تكن إطاراً مرجعيا ملزماً بالنّسبة إلى الرعيل الأول، بل كانت المرونة والتّحكيم والاجتهاد هي السّمات التي تطبع تعامل القاضي مع القضايا والإشكاليات المطروحة حينذاك. أمّا النّزوع نحو توحيد القضاء، فقد ابتدأ مع الخلافة العبّاسية التي استحدثت منصب قاضي القضاة المستلهم من الدّولة الساسانية.
بعيدا عن النّزعة المعيارية التي تنحو دوماً بالإنسان إلى تصديق الوهم، والمثالية في التّفكير يعود بنا تاج الدين إلى الحديث عن جدلية القضاء والدّين والمجتمع، ليضعنا أمام سياق إشكالي ينظر إلى العلاقة القائمة بين الشّريعة والرّعيل الأوّل، وكيف ساهمت هذه الرؤية في إنتاج تجربة سلوكية وفكرية تميّزت بالمرونة والتّفاعل الإيجابي، بعيداً عن منطق التحنيط والجمود النصّي. ليس بغرض الانتقاص، ولكن بغرض الفهم والمعرفة. وهناك شواهد كثيرة تبرز هذا المعطى أهمّها مفهوم العدالة كما ترسّخ في الذّهنية الجمعية للمسلمين. إذ عرف المجتمع الإسلامي في فترة التّأسيس كما في الفترات اللاّحقة انتهاكات كبيرة لهذا المفهوم، نتيجة تدخّل الأمراء في أحكام القضاء خدمة لمصالحهم، أو مصالح ذويهم. فالقاضي إبراهيم بن إسحاق السرّي لمّا ولاّه السري بن الحكم القضاء أغلظ له في القول وقال له: "تحدّون وأنتم تزنون وتقطعون وأنتم تسرقون وتجلدون وأنتم تشربون...فاختصم إليه رجلان في شيء فأمر بالكتابة على أحدهما بإنفاذ الحكم فتشفع المحكوم عليه بابن أبي عون إلى الأمير السري بن الحكم، فأرسل إليه السري أنْ يتوقف في الحكم إلى أن يصطلحا، فإن لم يصطلحا أنفذ الحكم، فجلس إبراهيم في منزله وامتنع عن القضاء فركب إليه السري وسأله الرجوع، فقال: لا أعود إلى ذلك المجلس أبدا ليس في الحكم شفاعة "[5]. والأمر نفسه ينسحب عن علاقة القاضي بالارتشاء والسّرقة والتّزوير كما تدل على ذلك العديد من الروايات التي يسردها الكتاب قيد الدراسة. وهذا أمر طبيعي إذا ما نزعنا عن قراءتنا طابعها المقدّس، أو لنقل تخفيفا طابعها المعياري. فالقاضي هو إنسان في تركيبته، يخضع لكلّ الأبعاد النّفسية والاجتماعية والتّاريخية التي يخضع لها غيره، سواء انتمى إلى الصّدر الأوّل، أو إلى العالم المعاصر. وهذا واضح في عصر التّأسيس الذي كان يعطي الأولوية للعدالة في الحكم على الورع الشّخصي، فهاشم البكري أحد أحفاد أبي بكر الصديق: "كان لا يجلس في القضاء حتّى يتغذى ويشرب ثلاثة أقداح نبيذا". كذلك الشأن بالنّسبة إلى ظاهرة المخنّثين التي انتشرت بالمدينة المنورة، إلى درجة أنْ طلب عمر بن عبد العزيز بإحصائهم، فأمّ سلمة زوج النبي تروي أنّ النبي دخل عليها، وعندها مخنّث كما روى ذلك البخاري. والنّبي كما هو معلوم قد لعن المتشبّهين بالنّساء من الرجال كما في روايات أخرى. والقاضي محمد بن عمر قاضي أبي جعفر المنصور على المدينة، حينما تقدّم إليه مخنّث يشكو تعريض خصم به، فقال الخصم...تكلّمني بهذا الكلام مع ما في عينيك من الاسترخاء فقال دنية، وهو اسم المخنث. أصلح الله بالقاضي قد عرض بي فأدبه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الغناء، فهو وإنْ ارتبط في المخيال الجمعي بالمجون والفسق، فإنّ الكثير من القضاة كانوا يستمعون للغناء ولا يرون فيه رأي الكثير من الفقهاء كما دلت على ذلك شواهد الكتاب.
المؤسّسة المالية ممثّلة في الخراج
لا يمكن الحديث عن مفهوم الدّولة إلاّ في ظلّ سلطة مالية، أو مؤسّسة مالية. لهذا كان لزاما أنْ تتأسّس الدّولة الإسلامية نفسها على هذا الشقّ، بعيداً عن النّزعة المعيارية التي تمنع من رؤية الكيفية التي تفاعل بها المجتمع الأول مع مؤسّسة المال. ولعلّ أول شيء يطالعنا في هذا الصدّد هو التّدبير النّبوي للخراج إذا اعتبرنا هذا الأخير وفي هذه المرحلة بالذّات صنواً للغزوات والحروب. وبعيدا عن الطّهرانية في التّفكير، فإنّ الواقع السّياسي للمسلمين لم يسمح لشعار: "بعثنا دعاة لا جباة" إلاّ بحيّز زمني بسيط، وإلاّ فإنّ الجزء الأكبر والأهمّ هو أنّ المال شكَّل القاعدة الأساسية لعملية التوسّع في الدّولة الإسلامية. وما فعله النّبي حين غزوه ليهود خيبر هو الحيلولة بينهم وبين حلفائهم من غطفان، ولتثبيط الحلفاء عمد المسلمون للتّرويج لأخبار كاذبة عن عزم للسّيطرة على أموال غطفان، ممّا أجبرهم على الرجوع ليتركوا يهود خيبر يواجهون مصيرهم. فهذا التّدبير النبوي وغيره يعطينا الانطباع على شكل الدّولة المرتقب والآخذ في التشكّل والتوسّع. نفس الشيء ينطبق على التّرتيبات النّبوية المتعلّقة بالأموال الخراجية كالفيء والغنائم.
إذا ما انتقلنا إلى مرحلة الفترة الراشدة يرى تاج الدين أنّ استمرار المشروع المحمدي خاصّة مع خلافة أبي بكر الصديق هو وعيٌ من هذا الأخير بالهدف السّياسي من الرّسالة المحمّدية، فلا يمكن توحيد القبائل العربية إلاّ بمنظور أنّ المتصرف في المال هو الخليفة وليس القبيلة، لهذا قاتل مانعي الزّكاة، بالرغم من عدم وجود نصّ صريح على قتالهم. وبالرّغم من الاعتراض الكبير الذي أبداه بعض الصّحابة اتّجاه هذا الموقف وعلى رأسهم عمر بن الخطاب. إضافة إلى ذلك سنّ أبو بكر تدبيرا خراجيا مبنيّا على المساواة بين المسلمين دون اعتبار للسّبق أو الهجرة أو الجهاد. الشيء الذي خالفه فيه عمر بن الخطّاب الذي تميّزت سياسته المالية بالتّفضيل على الأسس السابقة وخلق فوارق طبقية تصرّ على إنكارها كتب الفقه ذات المنزع المعياري كما تمّت الإشارة إلى ذلك، والتي تسوِّق لصورة نموذجية مثالية عن عصر وشخصيات لا عن طريق القراءة والبحث، ولكن عن طريق الوعظ والرّقائق.
من الطبيعي ونحن نتحدّث عن مجتمع إنساني أنْ نشير إلى اختلاف المصالح، وتضارب الرّغبات والأهواء خاصّة إذا كان المال هو المحرّك الأساسي والمغذّي لهذا الصّراع. فهذا الواقع خلق نوعاً من تضخّم الثروة وتركيزها في يد فئة قليلة من الصّحابة ذوي السّبق، فقد ذهب المسعودي إلى أنّ جماعة من الصّحابة زمن عثمان اقتنوا الضّياع والدّور في البلاد المفتوحة. وأنّ نصيب الصحابي طلحة بن عبيد الله من خراج العراق بلغ ألف دينار يوميا. وغير ذلك من الوقائع والأحداث التي أشارت إليها كتب التاريخ. وهذا الواقع غير بعيد عن ما قرّره القرآن نفسه حين أشار إلى هذا المنزع الإنساني البعيد عن المعيارية والتّفاضلية الفقهية والتّاريخية حين قال: "تريدون عرض الدّنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم "الأنفال 67. كما تحدّثنا كتب السّيرة النّبوية عن دور الغنائم في هزيمة معركة أحد. ناهيك عن التّدبيرات المالية التي كانت تطبّق على أهل الذمّة، خاصة في العصر الأموي كما تدلّ على ذلك بعض مرويات كتب التّاريخ. وقد انتُهجت في تلك التدبيرات سياسة التّعذيب في جمع أموال الخراج في غالب الأوقات.
إنّ ما ينسف خطة الفقه المعياري، أو الفكر الطّهراني في تدبير السياسة المالية للرّعيل الأول، هو أنّ في هذا العصر نفسه كانت تسنّ ضرائب على تجارة المحرّمات الدّينية كالخمر والخنزير، الشيء الذي جعل هذه التجارة تعرف تطوّرا كبيرا في عصر التّأسيس. ولبيان موقف الصحابة أنفسهم من الخمر أورد تاج الدين رواية في صحيح مسلم: "بلغ عمر أنّ سمرة باع خمرا فقال فاتل الله سمرة يعلم أن رسول الله قال: "لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها". والسؤال الذي يمكن طرحه هنا هل يمكن أن يكون سمرة مخالفا لأحكام الدين؟ ولماذا لم يتمّ تطبيق حدّ الخمر واكتفى عمر فقط بالتقريع واللوم؟ وهل يعقل أنّ صحابيّا لا يمكن أن يبلغه حكم من أحكام الدين وهو المعاصر لزمن الرسالة؟. كل هذه أسئلة تضع الرواية موضع شبهة. ولكن الأهمّ من ذلك هو أنّ عمّال عمر بن الخطّاب يقبلون الخراج على الخمر والخنزير، فهذا بلال بن رباح قال لعمر: "إنّ عمّالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال: "لا تأخذوها منهم ولكن ولّوهم بيعها وخذوا أنتم الثمن"، وهي المرونة نفسها التي تميّز بها العصر العمري إن جاز التعبير، قبل أنْ تتحول أحكام الشريعة إلى سيف مسلّط على العباد والبلاد.
المؤسّسة العقابية ممثّلة في السّجن
بالنسبة إلى مؤسّسة السّجن يشير الكتاب إلى أنّ العرب عرفوا السّجون في المناطق المتاخمة للحضارتين البيزنطية والفارسية. أمّا العرب، فلم تعرف المؤسّسة السّجنية بمفهومها المعاصر إلاّ إذا كانت أماكن معيّنة للاعتقال والحبس خاضعة لمزاج الملوك، وليس نتيجة طبيعية لتطبيق وتنزيل القانون، مع أنّ القرآن يتحّدث عن السّجن في مجموعة من الآيات خاصّة صورة يوسف. لكن هل كان للنّبي سجن يحبس فيه المجرمين والمخالفين والمتّهمين؟ سؤال يمكن أن يجيبنا عليه دعاة تطبيق الشّريعة من الإسلاميين المعاصرين. فمن الواضح أنّ مؤسّسة السّجن لم تكن موجودة بمعناها المؤسّسي المشار إليه في الكتاب في عصر النّبوة، ولم يظهر السّجن إلاّ في زمن عمر، حيث اشترى بيتا بمكّة وحوّله إلى سجن. وهناك بعض المصادر التي تقول إنّ وجود السّجن زمن عمر كان عبارة عن ربط في سواري المسجد والحبس في الدور. ويمكن إرجاع الظهور الأولي لمؤسّسة السجن إلى مرحلة الفتح الإسلامي، والتوسّع الذي عرفته الدّولة. وبما أنّ السّجن عقوبة تقديرية للحاكم، فإنّ السّجن أصبح جزءاً لا يتجزّأ من نسيج المجتمع، وحاجة الدّولة إليه. وبالرغم من أنّ هناك قلّة قليلة من الفقهاء كانت رافضة لفكرة السّجن، إلاّ أنّ الجمهور والغالبية الكبيرة أكّدت على مشروعيته، خاصّة بعد ذكره في القرآن.
خلاصة
إنّ كتاب "مؤسّسات الإسلام في عصر التّأسيس: جدلية الشّريعة والسّلطة والمجتمع" لصاحبه المصطفى تاج الدين استنطاق للتّاريخ في بعده الصامت، أو في بعده المسكوت عنه نتيجة النّزعة المعيارية التي لا تزال تطبق على العقل المسلم اليوم، وهي النّزعة ذاتها التي تتعامل مع الأشياء بانتقائية شديدة. فبما أنّ عصر التّأسيس هو عصر الرّسالة والنّبوة، فهو بهذا المنطق المغلوط عصرٌ يتجاوز إنسانيّته ليعانق الطّهرانية في أجلى صورها، وهو الأمر الذي يشير إليه الكتاب، ويخصّص له فصولا ومباحث ونقاشات بغية العودة إلى الرشد لا بمفهومه الديني، ولكن بمفهومه البحثي؛ أيْ عدم تجاوز الفكرة للشروط المنتجة لها. فكثيرة هي المغالطات التي تقبض بيد من حديد على تصوّراتنا ورؤانا وتحيّزاتنا.
ثمّة فرق كبير بين أنْ يكون الدّين أصلاً للدّولة، وبين أنْ تكون الدّولة أصلا للدين، لأنّ في الحالة الأولى حسب الكاتب يتحوّل الدّين بمرونة كبيرة إلى إطار عام للتّشريع ينتهي بلباس مدني خاضع لتطوّر المجتمع. وفي الثانية، يتحوّل الدين بعد أنْ توظّفه السّلطة إلى مصدر للعنف ضدّ المخالفين.
[1]- نتشه، فريديريك. هذا هو الإنسان. ترجمة علي مصباح. منشورات الجمل. دون طبعة أو تاريخ نشر. ص 12
[2]- الحلاّق، جمال علي. مسلمة الحنفي قراءة في تاريخ محرّم. بغداد، منشورات الجمل، ط1، 2008. ص 6
[3]- الكندي، أبو عمر محمد. أخبار قضاة مصر، تحقيق رفن كوست، بيروت، مطبعة الآباء اليسوعيين، 1908 ص334 نقلا عن تاج الدين المصطفى، مؤسسات الإسلام في عصر التأسيس جدلية الشريعة والسلطة والمجتمع. الدار البيضاء، المركز الثقافي للكتاب، ط1، 2018. ص 79
[4]- وكيع، محمد بن خلف، أخبار القضاة، بيروت، عالم الكتب. دون طبعة أو تاريخ نشر.(2/188). نقلا عن المرجع السابق. ص 83
[5]- العسقلاني، ابن حجر. رفع الإصر عن قضاة مصر. تحقيق علي محمد عمر. القاهرة، مكتبة الخانجي، ط 1، 1998. ص 22. نقلا عن المرجع السابق. ص 147