الجابري جرّاح العقل العربيّ .. في ذكرى رحيله التَّاسعة
أحمد العطار
وللمقال صلة، هذا ما كتبه الجابري على حاسوبه، ولم تمهله يد المنون أن يصل اللاّحق بالسّابق في كتب ومقالات كثيرة تحلّل وتنتقد تفكّر وتجادل، كما عودنا هذا الهرم الثقافي الكبير. لم يصل الجابري المقال بالمقال ولا الفكرة بالفكرة، فالدورة البيولوجيّة توقّفت، وتوقّف معها سيلان إبداعي مسح به الجابري قارّة التراث وموضوع الحداثة، مشروع النّهضة، وقضايا في الفكر والسياسة والتّعليم وغيرها.
غير أنّ الموت الّذي يوقف الحياة في الأبدان غير قادر على وقف الحياة في الأفكار. فأفكار الجابري منارة كبيرة ستظلّ تنير درب الفكر العربيّ، كما أنّها عصيّة على الغياب و النّسيان، إنّها من طينة الأفكار الّتي أخذت موضعها في الطّبقات الجيولوجيّة للعقل العربيّ.
قارئ الجابري، سواء اتّفق أو اختلف معه، لابدّ أن يسلّم بأنّ صاحب” نقد العقل العربي” يشكّل لبنة أساسيّة في صرح الثّقافة العربيّة المعاصرة، وأنّ الرّجل بكتاباته وتفكيره، بمواقفه ونضالاته – السّياسية والثقافيّة- يشكّل مثالا ينبغي أن نتوقف عنده بتفكّر وتأمل، وبنقد واستشكال، وعلى عقول أخرى مجايلة وقادمة أن تضخّ دماء الاستمراريّة في مشروعه الفكريّ ورؤيته النهضويّة الخلاّقة.
إنّ اسم وعطاء الجابري لا يتكرّر، ولقد هالني حقّا ما وصف به أحد الكتّاب في إحدى الصحف اليوميّة قلّة وشح المفكّرين في زمننا بقوله: “إنّ المفكّر الوحيد الّذي حضر جنازة الجابري هو هذا الأخير نفسه” . في إشارة إلى غياب المثقّف والمفكّر بمعناه الغرامشي: أي العضوي الملتزم والمنخرط فكرا وعملا في قضايا عصره ووطنه. لا غرو أنّ الجابري فلتة في هذا الزّمان الرّاهن، وأكيد أنّ رحيله قد ترك فراغا كبيرا في السّاحة الثقافيّة. لكن الحياة لن تعدم أن تهبنا مفكّرين كثر ومثقفين عصبة من طينة “جرّاح العقل العربيّ” و “كانط العرب”. علينا فقط أن نزرع الأرض ونسقيها بجوّ الفكر والحريّة والعقلانيّة والحداثة، وبقيم الحوار والتّسامح وروح الإبداع، حتّى لا نجد أنفسنا نحصد يوما مّا العاصفة -كما يقول المثل المعروف-.
لقد استطاع الجابري القادم من شرق المغرب (فكيك)، والّذي استوطن العاصمة الإقتصاديّة (الدار البيضاء) أن يعيد للمغرب مكانته الثقافيّة، دون أن يقع في شوفينيّة متعصّبة للمغرب على حساب المشرق. شوفينية كانت تهمة من طرف بعض من يقفون عند ” سمعنا من فلان” دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء قراءة النّصوص وفهم مراميها قبل الحكم عليها. وهو ما جعل الجابري نفسه يجد حرجا في فهم بعض الأقوال المنتقدة لبعض أفكاره أو مفاهيمه الإجرائيّة لنقد العقل العربي (مثلا مفهوم العقل العربي، القطيعة الإبيستيمولوجيّة، اللاّمعقول العقلي…) والّتي أوضحها وأعاد توضيحها في كتبه وحواراته. فكان أن اختار في الغالب الإعراض عن الدّخول في حوار لم يكن قد بدأ أصلا لعوز المحاور المعرفيّ وأرضيته المتهالكة. وقد عبّر عن هذا بقوله :” أجدني أحيانا مطالبا باستدعاء النّاقد أمامي لأقرأ عليه ماكتبت”. ويكفينا في هذا المقام أنّه هو صاحب مقولة :” لقد تمشرق المغرب، وتمغرب المشرق”. هذا ودون أن نبخس مشاريع فكريّة عملت على نقد المشروع الجابري بكلّ موضوعيّة وروح علميّة.
اشتغل الجابري لعقود عدّة، بصبر وأناة وعمق ومداومة، مقلّبا أمّهات الكتب متقلّبا في ساحات فكريّة متعدّدة، مداوما حتّى في ظروفه الصحيّة الحرجة وإلى آخر لحظات حياته على التّفكير والكتابة والإبداع. كيف لا وهو الّذي جعل شعاره الأوّل:” إقرأ ما دمت حيّا ترسم لنفسك مسارا قابلا للقراءة”.
ما أحوجنا اليوم لقراءة الجابري، ما أحوجنا للوقوف عند مشروعه، لا لاجتراره أو الثّناء عليه، وإنّما لاستئناف النّظر من خلاله وفي تجاوزه ونقده معا، حتّى تحقيق النّهضة العربيّة وترسيخ قيم الحداثة والعقلانيّة والديموقراطيّة الّتي آمن بها الجابري وعاش يرسم ملامحها.
وبهذا سنكون قد أوفيناه حقّه، هو الّذي ظلّ مؤمنا إلى آخر يوم بالنّقد والتّغيير والإصلاح والوحدة، وجيل المستقبل. هو من قال: ” إنّ المستقبل الزّاهر للثّقافة العربيّة على الأبواب، فالجيل الصّاعد يتحرّك … و يشرئب”.
أكيد أنّ الرّاحل الكبير، سيكون سعيدا إذا ما سمع طرق الأبواب قريبا، ولو من وراء حجاب.