الحوار والتسامح من أجل التعارف

د. علي محمد فخرو

 

في اعتقادي أن الإشارة القرآنية الكريمة ل : وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، تعني في روحها ومقصدها الرباني أهمية وضرورة الحوار بين الناس والشعوب ، وذلك من أجل حدوث تلاقح خلاًّق بين أفكارهم وثقافاتهم يؤدِّي في النهاية إلى الوصول للنتيجة المطلوبة وهي التعارف . فالتعارف لايكون جدياً وعميقاً ومستمراً في الزمن دون أن يبني على حوار جاد ومستمر ومتسامح بين المتعارفين . نحن إذن أمام تشجيع إلهي باجراء الحوار فيما بيننا كمسلمين وفيما بيننا وبين الآخرين من أصحاب الأديان والملل والعقائد الأخرى .

 

ولعلً أهمية أسلوب الأخذ والعطاء في مسرح التعارف الإسلامي يؤكدها كون أن كلمة الحوار ومرادفاتها من مثل كلمات المجادلة والمحاججة جاء ذكرها في القرآن الكريم مرَّات كثيرة وتحت ظروف حياتية عديدة ومتباينة تمتدُّ من الفرد لتشمل الجماعات والأمم .

 

ويستطيع الإنسان أن يستشفَّ بعض المحدٍّدات الكبرى لأهداف وأساليب الحوار في العديد من تلك الآيات الكريمة فالآيـــــــة ( وجادلهم بالتي هي أحسن _ النحًّل 125 ) ، والآية ) ولاتجادلوا أهل الكتاب إلاُ بالتي هي أحسن _ العنكبوت 46 ) تنفيان نفياً قاطعاً إمكانية الحوار المفيد بأساليب التشنُّج والفظاظة والمماحكة والتعصُّب .والآية ( ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدٌحضوا به الحق _ الكهف 56) تمنع الكذب والانتهازية الكلامية والتلاعب بالألفاظ من أجل الإقناع المبنٍّي على باطل . والآية ( يجادلونك في الحقٍّ بعد ماتبيًّن _ الأنفال 6 ) تقف ضدًّ الحوار فقط من أجل الحوار واللًّجاجة . فالحوار التعارفي هو من أجل معرفة الحق واليقين ، فاذا ظهر فلا يبقى مبرٍّر للحوار البيزنطي أو السٌّوفسطائي .

 

والحوار من أجل التفاخر الأجوف مرذول في القرآن . فالآية ( وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعزٌ نفراً – الكهف 34 ) تردٌ عليها آية أخرى بصورة صارمة ( قال له صاحبه وهويحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثمُ من نطفة ثمً سوَاك رجلاً _ الكهف 37 ) ، ولتذكٍّر المغرور المتباهي بماله وجاهه بتواضع خلقه وأصله من أجل أن يبتعد الحوار عن مسرح المباهات ، سواء من قبل الأفراد والأمم ، الذي لايوصل إلى الفهم والمعرفة والتعارف العميق المؤًدي لاكتشاف الآخر ، فكراً وثقافة ومعتقدات ومصالح متبادلة .

 

ومع أن سبيل الربًّ هو الحق المطلق إلاُ أن الله جلً جلاله يذكٍّرنا بأن الدًّعوة لذلك السبيل الواضح الذي لاشكُّ فيه يجب أن تتمً بالحكمة والموعظة الحسنة ، أي بالحوار الهادئ الموضوعي الرَّزين ( أدع إلى سبيل ربٍّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إنُّ ربًّك هو أعلم بمن ضلُّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين _ النحل 125 ) .

 

بل وفي كل حديث حواري هناك أمر صارم ( وقولوا للنًّاس حسناً _ البقرة 83 ) ، والناس هنا تعمٌ الجميع ولاتخصُّ أحداً أو جماعة على الإطلاق . والنتيجة لهذا التوجه مبهرة ( إدفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنُّه وليُّ حميم _ فصلت 34 ) ، إذ أن التعاون لايكتمل في أجواء العداوات والبغضاء والتباعد .

 

مثل هكذا حوار ، بالمتطلبات والتوجيهات القرآنية تلك ، سيعني خلق الأجواء المطلوبة الضرورية للتفاهم والتعاضد بين البشر وسيخلق مجتمعات إنسانية متناغمة في مكوناتها ومتكافلة في أنشطتها ومتسامحة في طرائق نظرها لبعضها البعض .

 

والواقع أن أكثر المجتمعات حاجة للتمعُّن في آية التعارف التي نحن بصددها ، وللخروج بمبادئ وأسس وأساليب لممارسة التعارف ، هي المجتمعات العربية والإسلامية . فهذه المجتمعات تعيش وضعاً مفجعاً من الانقسامات ومن سوء الفهم فيما بين أفرادها ومؤسساتها وشعوبها ، وعلى رأس تلك الانقسامات تلك المتعلقة بالصٍّراعات المذهبية الطائفية التي انقلبت في الآونة الأخيرة إلى أسلحة وأدوات سياسية في يد أنظمة الحكم في بلاد العرب والإسلام .

 

فاذا أضيف إلى ذلك الهوس الغربي بالصورة المشؤَهة للإسلام والمسلمين وجعله منطلقاً لحملات شعواء ظالمة ضدُ كل ماله علاقة بدين الإسلام ، وبالتالي جعله مبرٍّراً لفلسفة صراع الحضارات من خلال صراع الأديان كما طرحها بقوة الكاتب الأميركي صموئيل هنتنجتون وتبنًّتها بقوة وعمى بصيرة بعض الدوائر الأميركية الرسمًية ، فان الحاجة لبناء أصول فكرية إسلامية وإنسانية لموضوع التعارف من خلال الحوار تصبح أمراً مستعجلاً ، بل وتعطى له الأولوية القصوى .

 

إن بناء مثل ذلك الفكر الحواري ، حيث الاحترام المتبادل والنديًّة العاقلة والتسامح دون التفريط فيما هو بيِّن حق والصًّبر الحميد ، مطلوب بقوَّة لمجتمعات عاشت عبر القرون الطويلة في أجواء الاستبداد السياسي والاجتماعي والثقافي ، وتعوُّدت شعوبها على قبول الذلٍّ والعبودية تحت مسمًّيات تبريريَّة ملفًّقة وتشبًّعت نفوس أفرادها بالخوف من كل جديد والرٌّفض للتغُّيير خوفاً ممًا أسموه البدع وممًّا أسموه الفئة الوحيدة النًّاجية وغيرها من المخاوف المتخيًّلة أو الادًّعاءات المغلوطة .

 

لننظر إلى واقعنا العربي لنرى كيف أن الحوار بين أصحاب الفكر الإسلامي وبين الفكر القومي ظلً غائباً لعقود طويلة ، وأدُّى في الماضي إلى صدامات عنيفة أضرًت بالجميع ، ليكتشف الجميع في الآونة الأخيرة بوجود مساحة كبيرة مشتركة في ساحات السياسة والاقتصاد والثقافة . وينطبق الأمر نفسه على الصٍّراعات بين القوميين والشيوعيين ، بين المدارس الفقهية ، بين الآراء المختلفة في المذهب الواحد ، بين الأحزاب في الحكومة الواحدة ، بين مؤسسات المجتمع المدني العاملة في نفس الحقل ، بين الأنظمة السياسية العربية ، بين الدول العربية أو الدول الإسلامية . إن كل ذلك يعني أن هناك حاجة ملحُة لمدرسة حوارية مبنية على أسس فكرية وقيمية للبدئ باجراء حوارات مثمرة بين مئات الأطراف المتصارعة في مجتمعاتنا.

 

ويخطئ من يعتقد أن الحوار مع الخارج له أولوية تفوق إجراء الحوار فيما بين عناصر الأمة المتنازعة . ذلك أن أمة منقسمة على نفسها بالنسبة للأسس الفكرية والفلسفية والعقيدية التي يجب أن تهتدي بها مجتمعاتها ، والتي يجب أن تكون الإطار الذي تدور في داخله كل أنشطة تلك المجتمعات ، لاتستطيع أن تمارس حواراً مع الآخرين بنديًة فكرية وسياسية . والحوار الداخلي ، وعلى الأخصِّ السياسي والإيديولوجي منه ، موضوع كبير سنتجاوزه اليوم ، إذ له مناسبة أخرى ، وسنركٍّز على موضوعي السَّاعة اللَّذين يمثٍّلان أولوية قصوى في حياة العرب والمسلمين الحاضرة .

 

أما الأول فهو الحوار بين المذهبين الإسلاميين الرئيسيين ، السنٍّي والشيعي ، بعد أن نجحت قوى الخارج الامبريالية والصهيونية وبعض قوى الداخل المريضة في شقٍّ صفوف الأمة بشكل مفجع . وأما الثاني فهو الحوار الحضاري والثقافي مع الخارج ، الذي أصبح يكوٍّن إشكالية ساسية وأمنيًّة كبرى في حياة العرب والمسلمين.

 

الحوار السنٍّي _ الشيعي

لايمكن لأمة الإسلام ان تتعارف مع بقية الأمم ، كما يدعوها الله سبحانه وتعالى أن تفعل ، وهي منقسمة على نفسها ديناً بالشكل المفجع الذي يعرفة القاصي والًّداني ، وانسياح هذا الإنقسام على أمور السياسة والثقافة وعلى فهم التاريخ والتراث الإسلامي . ولقد عقدت عشرات المؤتمرات تحت شعار تقريب المذاهب الاسلامية واتٌّخذت الكثير من التوصيات ، ومع ذلك بقي هذا الموضوع يلعب دوراً كبيراً في إضعاف الأمة وتمزيقها .

 

وقضية هذين المذهبين هي في الأساس قضية سياسية تاريخية بين أناس طواهم الموت ، وهم واجهوا أو سيواجهون ربًّهم ليحكم فيما بينهم ، لكنًّ الأهواء والأطماع الدنيوية والتعصٌّب المرذول وألاعيب السياسة وصراعات القوى تصٌّر على أن تحمٍّل أجيال الحاضر والمستقبل أوزار فتن كبرى طواها التاريخ .

 

إنها تريد للمسلمين أن يعيشوا التاريخ في حاضرهم ومستقبلهم ، وكأنه لايكفيهم حمل أعباء الحاضر والمستقبل البالغة الكبر والتعقيد والتحدٍّي . ويدرك الجميع أن هذا الإصرار المجنون على العيش في التاريخ هو أحد أكبر العقبات التي تمنع هذه الأمة من الانتقال من وضعها المتخلف ، الذي طال أمده ، إلى وضع التقدم والعصرنة والنًّماء الحضاري الشامل .

 

ولعلُّ أفجع ما في الخلاف السنّي _ الشيعي هو ترديد الجهتين يومياً الآيـــــة الكريمة: ( وتعاونوا على البرٍّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) لكنًّهم يتعاملون مع بعضهم البعض في ساحات الصٍّراعات السياسية ، باسم الغيرة على المذهب ، بالإثم والعدوان والقتل وهتك الأعراض والإقصاء المتعًّمد والتمييز السًّافر . وليس صحيحاً أن هذا التعامل الشًّائن هو موضوع سياسي ، وذلك أن التعصٌّب المذهبي يؤجٍّجه ويبرٍّره ويساهم في إبقاء نيرانه مشتعلة . ومن هنا فقد أصبح الحوار المذهبي بين السنًّة والشيعة ليس ترفاً فكرياً ولا أمراً مستحسناً ، وإنما هو ضرورة حياتية تمسٌّ وجود ومستقبل معتنقي هذا الدٍّيــن .

 

ويشعر الإنسان بأسى عندما يرى أن بعض محاولات الحوار انقلبت الى نوع من الجدل العقيم السفسطائي وذلك من خلال إلباس الخلافات لباس القدسًّية وجعلها قضايا لايمكن المساس بها ولا الحوار حولها . يحدث كل ذلك مع أن رسول الجميع ( صلعم ) قالها بوضوح تام : ماضلًّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلاً أوتوا الجدل ” .

 

ولعلُّ من أكثر أنواع الجدل سطحية الحديث عن الإختراقات المذهبية لبعضها البعض ، لكأننا نتعامل مع دينين متضادين وليس مع مدرستين فقهيتين معتمدتين على فهم بشري لدين واحد .

 

وينطبق الأمر نفسه على الإصرار على الوصول إلى فهم واحد لأحداث التاريخ وبالتالي محاولة كتابته من جديد ، مع أن التاريخ هو في الأساس ملك لمن عاشوه وعايشوه ، وفهمه فهماً موضوعياً هو لأخذ العبر وليس لعيشه من جديد .

 

ولو تمعُّن الإنسان في التوصيات التي صدرت في السنين الأخيرة بشأن التقريب بين المذاهب ، ومنها مؤتمر مملكة البحرين للتقريب بين المذاهب سنة 2003 ومؤتمر طهران للوحدة الإسلامية سنة 2005 ومؤتمر القمة الإسلامية الذي أصدر وثيقة مكة في سنة 2005 ، لوجد إن هناك قواعد يمكن الإنطلاق منها لأجراء حوارات غنيًّة ومفيدة . لكن المشكلة هي تعدٌّد الجهات وضعف المتابعة مُّما يحرم النشاط من صفة التراكمية الضرورية لموضوع كبيرفي حجم التفاهم المذهبي الجاد غير الخاضع للأهواء والمصالح .

 

ومن الواضح أن هناك شبه إجماع على البدئ بابراز ما يتفق عليه المذهبان ، ثم إعطاء أولوية لمحاولة الإتفاق على الأصول والكليات والمقاصد الكبرى ، ثم الإنتقال إلى حوار جاد وموضوعي وهادئ ، حسب التوجيهات القرآنية التي ذكرنا ، وذلك حول الفروع المختلف عليها .

 

تعارف المسلم على المسلم يجب إذن أن يعطى الأولوية القصوى . وأمام كل مؤتمر يعقد بين المسلمين والآخرين من أصحاب الديانات والثقافات الأخرى يجب أن يكون هناك أكثر من مؤتمر بين المسلمين أنفسهم . وبدلاً من أن يشدُّ المسلمون الرُّحال إلى روما لمقابلة الفاتيكان وإلى عواصم الغرب الكبرى لمحاورة الكنائس الأخرى وكبار الفلاسفة والمفكًّرين في حضارة الغرب دعنا نرى شدُّ الرٍّحال فيما بين مكًّة وطهران ، بين الأزهر وحوزات قم ، بين الرُّباط والنجُّف ، بين معاقل السًّنة ومعاقل الشيعة كمدن ودول وكليات شريعة وأحزاب وفضائيات .

 

ذلك أن العرب والمسلمين قد سمحوا لشرخ الفتنة الكبرى التاريخي أن يتًّسع ويتعمًّق عبر الأزمنة . وهم يجنون العلقم المر في يومنا هذا بسبب ذلك الإهمال . وحتى لو تطلٌّب الأمر قيام مدارس فقهية جديدة ، تجُّب المدارس الكلاسيكية القديمة وتتجاوز الكثير من استنتاجاتها ، وكان ذلك في مصلحة الأمة ، فأننا يجب أن لا نتردُّد في الخطو نحو الإنتقال إليه .

 

فالذين أسًّسوا المدارس القديمة ليسوا قدٍّيسين ولامعصومين ولا أنبياء رسل . وقد أختطف بعض الفقهاء الإسلام وآن الأوان أن يعود هذا الدين إلى موقعه الأصلي : رسالة السماء إلى البشر عن طريق الرسول المبشًّر المنذر الصٌّادق . كل مادخل الإسلام بعد ذلك قابل للأخذ والردٍّ ، وهو مايجب أن يقوم به ذلك الحوار التعارفي . وإذا كان فقيه عالم كأبي حامد الغزالي قد قال منذ عدة قرون : ” إطرح هذه المذاهب فليس مع واحد منها معجزة يرجح بها جانبه .. ولا تكن أعمى مقلداً ، بل خذ الحق أينما وجدته ، وفي اي ناحية كانت ” ، فكيف بنا بعد قرون من ذلك القول ؟

 

الحوار الإسلامي مع الخارج

لا نحتاج لتأكيد أهمية هذا الحوار بعد أن عاد الهوس الجنوني بالخوف من الإسلام والمسلمين إلى مايشبه سنوات الحروب الصليبية وبلادات شعاراتها . ومع أن جنون بعضنا باستعمال شعار مقدًّس طاهر كشعار الجهاد استعمالاً سيٍّئاً يصبُّ في تأجيج جنون الغرب وظلمه ، إلاُ أن القضية ليست قضية مؤقته عابرة وليست مرتبطة بموضوع الإرهاب وبالظلم التاريخي الذي ارتكبه الغرب بحق أمة العرب وأمة الإسلام ، وإنما هو موضوع مرتبط أشدُّ الإرتباط بفهمين مختلفين لأسس الحياة الإنسانية وللقيم التي يجب أن تحكم تلك الحياة ولعلاقة الإنسان بهذا الكون الفسيح ومصدر وجوده . إنها اختلافات فكرية عقيدية تعكس نفسها على واقع حياة المجتمعات فتوجد ذلك التبرير عند البعض للصٍّدام وللصٍّراع بدلاً من التعايش والتعارف والتعاون .

 

والواقع أن ذلك الحوار يجب أن يكون في بدايته حواراً دينياً وفكرياً وليس حوراً بين حضارات . فلا توجد نديٌّة لحوار بين حضارة وثقافة العرب والمسلمين الحالية الهامشية وبين حضارة الغرب المركزية . فتقدم العلوم والتكنولوجيا والأنظمة السياسية والادارية وأنشطة الثقافة والاجتماع في الغرب يجعل الحوار الحضاري غير متكافئ . لكن في اعتقادي أن الحوار الديني والفكري مع الغرب يمكن أن يكون متكافئاً ونديٌاَ وهو مايجب البدئ به لإيجاد مواقع متفاهمة أو حتى مشتركة مع الآخر . ومايساعد على ذلك هو أن الغرب نفسه يقوم بمراجعة عميقة وكبيرة للأسس التي قامت عليه حضارته عبر القرون الأربعة السابقة .

 

لكن ذلك الحوار الديني الفكري المبدئي لايعفينا على الإطلاق من وضع جهود مكثًّفة لاستكمال المسيرة التاريخية العربية والإسلامية في أستيعاب منطق العصر وبناء أسس الحداثة الذاتية ، تماماً مثلما فعل الآخرون بالنسبة لحداثتهم . وسيكون من المستحيل بناء أسس تلك الحداثة الذاتية دون الانتهاء من عملية القراءة العصرية المبدعة الموضوعية الشُّجاعة للتراث العربي الإسلامي من أجل تحليله تحليلاً يأخذ بعين الاعتبار المنجزات المعرفية والوسائل المنهجية الجديدة في العلوم كلٍّها ، وعلى الأخص العلوم الإنسانية والاجتماعية ، ومن ثمًّ الإنتقال لغربلة ذلك التراث وإعادة تركيبه ، وذلك من أجل هضمه وإدخاله في نسيج حياتنا الحاضرة تمهيداً لتجاوزه إلى الأفضل والأحسن.

 

ولقد جرت محاولات فرديُّة كثيرة لإجراء تلك المراجعة لذلك التراث . لكن تلك المحاولات لم تصبح بعد تياراً تاريخياً كبيراً ولم تتجمُّع في صورة مؤسًّسات دراسية وبحثية يحترمها الناس العاديون ويستمعون إلى ماتقوله . بل أن العكس هو الصحيح ، إذ لايزال الجهلة والموتورون والعاجزون عن فهم العصر يحتكرون قراءة ذلك التراث العظيم بصورة منغلقة .

 

في بحث مقدًّم للمؤتمر العام التاسع للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في عام 1997 ، لخُّص الدكتور أحمد كمال أبو المجد المطلوب من الخطاب الديني الإسلامي ليساهم في موضوع الحوار فيما بين الحضارات الذي طرحته هيئة الأمم المتحدة . يقول الدكتور أبو المجد بأن ذلك يحتاج إلى ستة أمور :

 

ألا يظل الماضي متحكماً في الفكر والوجدان ، أن تسقط نهائياً تلك المقابلة العقيمة بين العقل والنقل ، أن تسترد قيمة الحرية مكانها في التصور الإسلامي عند العامة والخاصُّة والحكام ، أن نعيد النظر في علاقتنا بالآخرين ، أن نتسلُّح بالعلم ، وأن ( نقوم ) بعمل إعلامي يؤكد للجميع أن الأمة الإسلامية أمة تعمير لاتدمير ” .

 

إن أهم مايجب أن يظهره ذلك الحوار هو ماتوصٌّل إليه المفكر الفرنسي روجيه جارودي من ” أن هيمنة الغرب وإن كانت أخطر حدث في تاريخ الكون ، فانها لم تثمر إلا خشية الإنسان من أخيه الإنسان ، والذعر والخوف من المستقبل ” وها أن العالم العولمي بعد ثلث قرن من تلك النٌّبوءة يعيش حالة الخوف والرُّعب لا من أخيه الإنسان فقط ، وإنًّما من أهوال الطبيعة والبيئة التي شوَّهها فعادت فارتدَّت عليه بعنف .

 

خاتمة :

في قلب عملية التعارف القرآني بين البشر ، التي أداتها الحوار وحسب الشروط الربًّانية التي تتضح في الآيات القرآنية وأقوال سيرة الرسول ( صلعم ) ، تكمن فضيلة التسامح . إنها القيمة الأخلاقية المحرٍّكة لعمليٍّتي التعارف والحوار. بدون فضيلة التسامح تصبح عملية التعارف عملية هيمنة من قبل هذا الطرف أو ذاك وتؤدي إلى نوع من العبودية المستترة. وبدون التسامح تصبح عملية الحوار صراعاً تعصبياً منغلقاً على نفسه مؤدياً إلى الهيمنة والعبودية ذاتها . في كلتا الحالتين يصبح الموضوع موضوع غلبة للأفصح والأقوى والأكثر تشدٌّداً .

إن لفظ التسامح لم يرد ذكره في القرآن الكريم لكن دعوة القرآن الكريم للمؤمنين لممارسة التراحم والتواصي والتآزر والتشاور تعطي نفس المعنى ، مثلما تعطيه العديد من الآيات . فقول الله تعالى ( لا إكراه في الدين ، قد تبيٌّن الرشد من الغيٍّ _ البقرة 256 ) وقوله : ( فذكٍّر إنما أنت مذكٍّر ، لست عليهم بمسيطر _ الغاشية 21 ) وقوله : ( فمن اهتدى فلنفسه ومن ضلًّ فأنما يضلُّ عليها ) هي كلها إشارات إلى مكوٍّنات وظلال التسامح . فاذا أضيفت القاعدة الإنسانية التي وضعها رسول الإسلام ( كلكم لآدم وآدم من تراب ) ، وما استقرٌّ في الفقه الإسلامي كقاعدة عبًّر عنها خير تعبير الإمام الشافعي بقوله ( : رأيي صواب يحتمل الخطأ .. ورأي غيري خطأ يحتمل الصًّواب ) ، وما أصبح أقوالاً مأثورة في التراث الإسلامي من مثل قول الإمام علي رضي الله عنه : ( ولاتكونن على الناس سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم ، فانهم صنفان إما أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق ) ، أو قول الخليفة العادل عمر بن الخطاب الشهير: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أماتهم أحراراً ؟ ) أو قول الخليفة الصدٍّيق أبو بكر ( وٌلٍّيت عليكم ولست بخيركم ، فان أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوٍّموني ” … إذا أضيف كل ذلك إلى التوجيهات الربانية القاطعة أدركنا كم أن التعارف بين الشعوب والبشر ، من خلال الحوار والمجادلة الحسنة وبروح التسامح ، هو في قلب التنظيم الإسلامي للمجتمعات الإنسانية حتى يسودها السٍّلم الأهلي والتعايش الخلاُّق وفي ظلٍ تعددية متناغمة متعاونة ، لاتعددية متضاددة ومتصارعة .

المصدر: https://tajdeed.org/hoqooq/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B3%D8%A7%D9%85%D8%AD-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%AC%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D9%81/

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك