على حافات الانكسار الحضاري
عاشت أجيال العالمين العربي والإسلامي حقبًا متعددة من حقب القرون الثلاثة المنصرمة، خائفين مرعوبين مشفقين على حياتنا الدينية والثقافية والحضارية من أخطار الزحف الفكري والحضاري الغربي وهو يجتاح العالم ويمدُّ سلطانه على عقول الشعوب وأفكارها وثقافاتها وحتى أديانها.
ولئن كانت شرارات هذا الفكر قد أضاءت الكثير من عتمات عقولنا، ومسحت الكثير من جهالاتنا، غير أننا بقينا نؤوي بين تارة وأخرى إلى “القرآن” دماغنا المركزي، لنتغذى منه على قدر ما كانت معداتنا الذهنية آنذاك قادرة على هضمه منه.
أمَّا اليوم، فلم نعد نجد ما يبرر هذا الخوف والرعب من هذا الفكر على أصول أفكارنا وجذور معتقداتنا، لأن الكثير من عورات هذا الفكر، والكثير من نقائضه وأضداده، والكثير من الثغرات التي يمكن أنْ يؤتَى منها وترشحه للسقوط والانهيار، بانَتْ عن نفسها، وتعرّت من أرديتها من خلال الفكر النقدي الذي اعتمده هذا الفكر نفسه منهجًا لتقويم بناه الفكرية والحضارية.
ولابد من الإشارة هنا، إلى أنَّ أعلام تراثنا الإسلامي عرفوا النقد ومارسوه في كبرى القضايا الفكرية والعقائدية، ولولا اشتطاط بعضهم وذهابهم بعيدًا عن سواء الصراط المستقيم، لظلَّتْ مناهجهم النقدية تعيش بين ظهرانينا حتى هذا اليوم.
ولا أحسب أحدًا يجادل في أنَّ “الغزالي” (450-505هـ) هو أحد أعلام المدرسة النقدية التي أرسى قواعدها الرصينة من خلال كتبه العقائدية، فاستطاع أن يجهز حتى الموت على المشتطين من الفلاسفة والمعتزلة والباطنيين وغيرهم من المدارس والمذاهب التي لم تكن تحظى بالقبول من لدن الدين القويم.
فالقرآن ظلَّ هو “العقل المركزي” الكبير الذي تستمدُّ أذهاننا منه الغذاء، ولا تنفك تعود إليه بين فترات مدِّها الفكري وجَزْرِهِ، وتستظل بظله من لهب الشوق إلى الروحانية العالية وظمأ الاحتراق بنيران هجره والبعاد عنه، وقد بقي صامدًا في الجانب الأسمى من أفئدتنا، ومحتفظًا بقدراته الفائقة على إسعافنا في أصعب الأوقات وحين نبدو وكأننا على شفا خطر ماحق سيودي بنا إلى هاويات الضياع والنسيان.
فالزمن بكل أهواله أعجز من أن يغير شيئًا من عناصر هذا العقل الأصيل، أو يزيد عليه أو ينقص منه، لأن الكون بكل طاقاته متجوهر فيه، ولأنه أزلي المأتى وأبدي المآل، حتى إنَّ روح الوجود سرعان ما يسري في أوصالنا ونحن نقرأ فيه أو نستمع إليه، وكلما أضلّنا الفكر واشتطَّ بنا النظر، مدَّ إلينا يد الهداية والرعاية والكلاءة.
وعلى الرغم من كوننا قادرين على الاستمداد من القرآن محركات هائلة للعقول والأرواح تساعدنا على استيعاب الجانب التنشيطي والتحفيزي من هذا الفكر، غير أن الكثيرين لا زالوا يرون في زحوفه خطرًا على العقول وبخاصة الفتية منها.
صحيح أن لنا -نحن المسلمين- بعض الخصوصيات التي تحول بيننا وبين الاندغام الكلي في الجانب الإيجابي لهذا الفكر، غير أن أخصَّ طاقاتنا المكونة لشخصياتنا، هي -في الوقت نفسه- من أعمِّها انفتاحًا على الجوانب المشرقة من أي اتجاهات فكرية وحضارية معاصرة.
فالشخصية السليمة والموزونة لا تجد ما يمنع من الاستجابة لكل ما هو صادق وعادل حيثما وجدته أو حيثما تراءى لها، وعكس ذلك يدل على إيمان ضعيف وعقل فجٍّ لم ينضج بعدُ.
فمن صفات التفردية في شخصية المسلم، سعيه الكدود لاستكناه الجوهرية الخالصة للأفكار والأشياء، باعتبارها القمة المعرفية التي يسعى الجميع لاكتشافها والارتقاء إليها. فالقرآن بلمساته التحسسيَّة المتتالية يبعث الحياة في الأرواح الثقيلة، ويمنح العقول أعينًا باصرة تخترق ظلمات الطبيعة والحياة، وتسمو حتى ترتقي العوالم والأكوان وكأنها تريد أن تقاسمها حياتها وعلو شأنها.
إن العالم المزدحم بشتى صنوف الأفكار والمعتقدات، في زخم رهيب إلى حد الاختناق… إن هذا العالم لم يعد يجد في الأيام الفارغة من أيّ مُزْدَحَمٍ فكري أو عَقَدي ما يؤهلها للقبول في مجاميع أيامه ولياليه المملوءة بالخصب والعطاء.
إن دوار الرؤوس من أثر دق طبول الفراغ، هو من أخطر ما يمكن للإنسان المتعطل أن يواجهه في هذه الدنيا، وما يصدق من هذا على الأفراد يصدق كذلك على الشعوب والأمم.
فالعقول السامية والقوية تندفع بشكل طبيعي، لملءِ هذا الفراغ والتسلط بكل قواها على العقول الضعيفة والبائسة العَوَّامة فوق مسطحات الفراغ. فهذه القوة هي أهم ما تحتاجه الدنيا في كل وقت وآن، إذ تتحول إلى رافد أفكار في جميع الأذهان. وكم تكون الأمة -أية أمة- محظوظة إذا هي أوتيت فضيلة النطق بالفكر الجليل لكل الأمم، لأن هذا الفكر قمين بأن يأتي النفوس الكبيرة من كل أطرافها ليملأها بحوافز الإدراك وحصافة الاعتقاد.
فقماءة الشعوب وضئالتها وانكسار حضارتها، إنما هو سقوط مريع لا ينبغي للأمم ذات السلطان أن تسمح به في هذا العالم الذي قد تقاربت أزمانه وأمكنته، واختلطت أفكاره ومعتقداته حتى غدا كبيت واحد تتأثر جدرانه بتصدع جدار واحد منه. وعلى هذه الأمم أن تختار بين أن تكون عاملاً من عوامل الهدم والتخريب لضعفاء الشعوب وبذلك تكون قد ضربت أول معول في بنيان نفسها، أو أن تكون عامل بناء وإعمار للمهدومين وبذلك تساعد نفسها على بقاء بنيتها سالمة من السقوط والانهيار… ولن يكون هذا ما لم ترتقِ هذه الأمم إلى أخلاقية عالية مستوحاة من أخلاقيات الأديان التي ترى في الإنسان أخًا للإنسان، وترى البشرية كلها مختزلة فيه، وتراه مرآة ترى فيها نفسها بضعفها وقوتها، وخيرها وشرها، وقبحها وجمالها… ولعل ثقافة الحوار الذي بدأ العالم يجد فيه مخرجًا من أزماته الطاحنة، دليل من أدلة تنبه هذا الحس الأخلاقي الذي كان غائبًا عن ممارسة أيِّ نشاط في كبرى قضايا العالم… ولعل هذا الحس يعود من جديد ليأخذ مكانه في ضبط سلوكيات الأمم والأفراد أقويائهم وضعفائهم، وبهذه الأخلاقية العالية يجمل العالم، وتزدهر الفضيلة، وترتقي الإنسانية، وتصبح الحياة جديرة بأن تُعاش.
فالحياة بتدني مستويات الحس الأخلاقي والديني -كما هي عليه اليوم- أصعب حياة يمكن أن تطاق، كما أن الكثير من الشكوك بدأت تساورنا في قدرة البشرية على إنشاء حِسِّها الأخلاقي بما تملكه من ملكات، من دون استمداد هذه الأخلاقية من مصادر علوية ذات قدسية جلالية لتكنَّ لها الاحترام والتقديس ثم القبول والانصياع.
إن الفكر الحضاري الذي يرون فيه الكفاية عن أية أخلاقية علوية، ما هو إلا محض وهم. فهذا الفكر مصاب بالإرهاق، ولم يعد قادرًا على أن ينشئ منظومة أخلاقية ذات نفوذ على الناس -كل الناس- أفرادًا وجماعات… فأي فكر خال من الإيحاء بضرورة العودة بثقافاتنا إلى الإيمان بوجود الله تعالى والتأكيد على الجوانب الروحية من الطبيعة البشرية، فهو فكر مدلس وسيصير إلى الانكسار ثم السقوط والانهيار طال الزمن أو قصر.