قضية الجبر والحرية الإنسانية في علم الكلام (جدل الديني والسياسي)
قضية الجبر والحرية الإنسانية في علم الكلام (جدل الديني والسياسي)
أحمد محمد سالم*
-1-
تعتبر قضية حرية الإنسان من القضايا الهامة التي انشغل بها الفكر الديني والفلسفي على مدار التاريخ الإنساني، ولقد احتلت هذه القضية مكانتها البارزة في تاريخ علم الكلام في ثقافتنا الإسلامية، وإذا كان علم الكلام هو العلم الذي يقدم قراءات مختلفة للعقيدة الإسلامية، فلا يمكن لنا أن ننطلق في عرض وجهات نظر علم الكلام في القضية دون الإشارة إلى عرض موقف القرآن الكريم منها.
عرض القرآن لآيات الجبر في ﴿إنا كل شئ خلقناه بقدر﴾و ﴿وما تشاءون إلا أن يشاء الله﴾ و﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير﴾ وبالمقابل نجد في القرآن آيات تدل على حرية الإرادة الإنسانية مثل ﴿من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾و (كل نفس بما كسبت رهينة﴾ و﴿لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾.
وإذا كان القرآن يحدثنا عن الجبر وشمول القدرة الإلهية، ويحدثنا من جانب آخر عن حرية الإنسان، ومسؤوليته عن أفعاله فإن هناك بعض الآيات في القرآن الكريم تحدثت عن الجبر والاختيار معاً، وذلك مثل (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) و(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
فقد تعرض القرآن الكريم في قضية حرية الإنسان لثلاثة مواقف هي الجبر، والحرية، والتوفيق بين الجبر والحرية، ولا شك أن هذا التنوع في موقف القرآن من قضية حرية الإنسان جعل التفسيرات الإنسانية له في علم الكلام متعددة، ومتباينة، ولعل هذا ما أكد عليه الإمام علي حين بعث عبد الله بن عباس إلى الخوارج فقال له "لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال أوجه "(1).
ولكن لا مفر لنا من تقديم تفسيرات ورؤى بشرية للعقيدة الإنسانية، وهو ما يطلق عليه علم الكلام، وذلك لأن "القرآن خط مستور بين دفتين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال"(2). وحينما ينطق العلماء ويقدمون تفسيرات وتأويلات للقرآن هنا يحدث التعدد والتباين نتيجة للاختلافات الإيديولوجية بينهم.
وحدث التباين والاختلاف بين المسلمين كفرق ومذاهب نتيجة لأن الإسلام خرج من الجزيرة العربية إلى بيئات، وثقافات، وحضارات، ولغات مختلفة، وكان من الطبيعي أن تتأثر رؤية الإسلام بهذا التنوع في المحيط الذي انتشر فيه. ويجسد أحمد أمين هذا الأمر فيقول: "الحق أن الامتزاج كان قويا شديداً، وأن الموالي وأشباههم كان لهم أثر في كل مرافق الحياة، وأنه كانت حروب في المسائل الاجتماعية، كالحروب البدنية بين الجنود، فقد كانت حرباً بين الإسلام والديانات الأخرى، وكانت حرباً بين الآمال العربية وآمال الأمم الأخرى، وكانت حرباً بين اللغة العربية واللغات الأخرى، وكانت حرباً بين النظم السياسية والاجتماعية البسيطة وبين النظم الفارسية والرومانية، والحق أن العرب وإن انخذلوا في النظم السياسية والاجتماعية، وما إليها من فلسفة وعلوم، ونحو ذلك فقد انتصروا في شيئين عظيمين هما اللغة، والدين، حيث سادا في أرجاء العالم الإسلامي، وإن تأثرت اللغة باللغات الأخرى، والدين حدثت فيه الفرق"(3).
ولعبت السياسية دورها البارز في تعدد المذاهب الدينية بحيث يمكن القول: "إن معظم الفرق التي ظهرت في الإسلام يرجع أصلها في المقام الأول إلى أسباب سياسية تتصل بالسياسة، والتنازع على الحكم"(4) ويظهر الدور السياسي بوضوح في ظهور الخوارج، والشيعة منذ الفتنة الكبرى، وحدوث الخلاف بين على بن أبى طالب وأصحاب الجمل، وبينه وبين معاوية، وبعد مشكلة الخلافة بدأت العلاقة الواضحة بين الديني والسياسي، وكانت الفرق عبارة عن أحزاب، ولكن هذه الأحزاب لم تتخذ الشكل السياسي البحت، بل اصطبغت بصبغة دينية قوية، وصار كل حزب سياسي فرقة دينية، وصار الذين يقتلون سياسياً يقتتلون دينياً، وبدلاً من أن يسمى الحزب اسماً سياسياً يدل على المبدأ السياسي الذي يدعو إليه تسمى اسماً يدل على المذهب الديني كشيعة وخوارج، ومرجئة، وبدلا من أن يتحاجوا بما ينتج عن أعمالهم من مصالح ومفاسد تحاجوا بالكفر والإيمان، والجنة والنار(5).
ومن هنا يمكن القول: "إن الاختلاف في العقائد النظرية نشأ في علم الكلام بكيفية عرضية نتيجة للاختلاف في الأمور السياسية ومشاكلها العملية(...) وهو بالفعل موقف كلامي، ولكنه كلام في السياسة، وفى الكبائر السياسية(6)، فليس جديدا أن يتخذ الدين قناعاً للسياسة وستاراً، ولم يكن الإسلام يوماً استثناءً لهذه القاعدة، فالإسلام في تاريخه المفعم يزخر هو الآخر بهذه الظاهرة، وصحيح أن الإسلام لا يعرف كهنوتية، أو وساطة بابوية، أو وصاية رجال الدين، ولكن تاريخه لم يخل من تداخل الدين والدولة بصورة ما، بحيث عانى كثيراً من استغلال الدين لخدمة السياسة، وتغطية أغراضها، ولعل ظهور الفرق في معظمه يعود لهذه العلاقة بين السياسي والديني.
ومن خلال علاقة الديني بالسياسي يمكن التعرض لقضية حرية الإنسان في علم الكلام، والتي تناقش الحرية من منظور أنطولوجي صرف، وذلك لأن مبحث أفعال العباد في علم العقائد هو ملحق بقضية الألوهية، ويتمحور حول الإجابة عن مجموعة من التساؤلات الهامة مثل:
1- ما هي حدود قدرة الإنسان في مقابل قدرة الله؟
2- ما هي علاقة عقيدة القضاء والقدر بالفعل الإنساني؟
3- هل الإنسان مسير في أفعال أم مخيَّر؟
إن التصور الأنطولوجى –الميتافيزيقي– للحرية في علم العقائد هو نتاج للثقافة الإسلامية التي تشكل مثلثا قاعدته الإنسان والطبيعة، وقمته الله(التوحيد)، فأصبح النظر إلى الإنسان والطبيعة –القاعدة- يتحدد فقط في ضوء علاقته بالله –القمة– وذلك بسبب مركزية التوحيد في الثقافة الإسلامية، ولهذا فقد زخر علم الكلام بالحديث عن انطولوجيا الحرية الإنسانية، ولم يتم تناول قضية الحرية بالمعنى السياسي والاجتماعي.
وفى ضوء ما سبق يمكن التعرض لقضية الحرية الإنسانية في علم الكلام في ضوء الرؤى القرآنية لها، فنجد مواقف في علم الكلام تتكلم عن الجبر، وأخرى تتكلم عن الحرية، وثالثة تحاول الجمع بين الجبر والحرية، ولا شك أن القراءة السياسية لهذه المواقف يمكن أن تكشف عن رؤى جديدة لها.
2
الجبر: لقد تبنى عدد من الأعلام القول بأن الإنسان مسيَّر في كل أفعاله، وأنه مجبور لا استطاعة له على الفعل مثل الجعد بن درهم ت(124هـ)، وسعيد بن جبير ت(95هـ)، وجهم بن صفوان ت(128هـ) وإليه تنسب الجهمية، والعديد من الشخصيات الأخرى، والملاحظ أن معظم هذه الشخصيات إن لم نقل كلها هم بالأساس من موالى، وتعرض كتب العقائد لآراء أعلام المذهب الجبري في علم العقائد، ومعظم هذه الآراء تتعرض لآراء جهم بن صفوان، وليس لأستاذه الجعد بن درهم.
وفى قضية الحرية الإنسانية قالت الجهمية "أنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا الله وحده، وأنه هو الفاعل , وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز"(7) ويرون "أن العبد ليس بقادر البتة"(8)، ويبدو الإنسان لديهم فيما يتعلق بقدرته على الفعل والاختيار كمثل الريشة المعلقة في الهواء تميلها الرياح حيث شاءت دون أن يكون لها تأثير، فالإنسان مجرد ريشة في يد القدرة الإلهية تسيرها كيفما شاءت.
ويقول البغدادي(429هـ) عن الجهمية "هؤلاء أتباع جهم بن صفوان الترمذي الذي قال بالإجبار، والاضطرار إلى الأعمال، ونفي الاستطاعات كلها، وقد زعم أن الناس إنما يضاف إليهم الأفعال على المجاز، وكما نقول تحركت الشجرة، ودارت الرحى، وزالت الشمس، من غير أن يكون لهذه الأشياء استطاعة على الفعل"(9).
ويعرض الشهرستاني (548 هـ) رؤية جهم بن صفوان ويذكر أن جهماً يرى أن الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله، لا قدرة له، ولا إرادة، ولا اختيار، وإنما يخلق الله –تعالى- الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وتنسب إليه الأفعال مجازاً، كما تنسب إلى الجمادات، كما يقال أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغربت، وغيمت السماء وأمطرت، واهتزت الأرض وأنبتت إلى غير ذلك، والثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال كلها جبر"(10).
وإذا كان الجهمية ودعاة الجبرية ينفون القدرة عن الإنسان فإنهم في الإلهيات كانوا ينفون الصفات، ويقولون بخلق القرآن، وكانت معظم معتقداتهم في الإلهيات تغاير معتقدات أهل السنة والجماعة، وفقهاء السلف الصالح، وكانوا ينادون بأن الخلافة بالاختيار، ويرفضون القرشية كشرط أساسي للبيعة.
وإذا انتقلنا من الديني إلى السياسي نقول: إن آراء الجهمية الجبرية ظهرت في عهد الدولة الأموية، والغريب أنه "حين استتب الأمر لبني أمية في حكم العالم الإسلامي , وقيام الدولة الأموية بالشوكة والغلبة والقهر لا بالبيعة والاختيار، فكان من الضروري توظيف العقيدة لصالح استمرار حكمهم، وتوارث هذا الحكم تحت شعار الجبرية وسيادة قدر الله" فقد روي عن معاوية أنه قال في بعض خطبه: لو لم يرني ربي أهلا ً لهذا الأمر ما تركني وإياه، ولو كره الله ما نحن فيه لغيره وهذا صريح الجبر، وكان يقول: "أنا عامل من عمال الله أعطى ما أعطى الله، وأمنع ما منعه الله "(11). وبالتالي فبناء على عقيدة الجبر التي ترى الله أن حكم أزلاً أن تصل هذه الأسرة إلى الحكم، وأن ما يعملون ليس إلا أثراً أو نتيجة لقدر إلهي محكم، وكان حسناً لهم أن تتأصل هذه الأفكار في الشعب حتى كانوا يسمعون وهم راضون شعراءهم يمجدونهم بنعوت تجعل سيادتهم وسلطانهم قدراً مقدراً من الله، وأن القضاء الأزلي لا محيد عنه، وعقلية الرعية الهادئة المطيعة يجب أن تعتبر أمير المؤمنين وما يجيء عنه من آلام قدراً من الله، ولا يمكن لأحد أن يتهم ما يصدر عنه أو يشكو منه"(12).
وإذا كانت الدولة الأموية تحكم تحت عقيدة الجبر فلماذا اتخذت موقفاً سلبياً من أعلام الجبرية؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا في ضوء موقف الدولة الأموية من الموالى والعجم، فقد اتخذت هذه الدولة موقفاً سلبياً من الموالى، وهذا ما جعل الموالى يثورون عليها فتحكي كتب التاريخ " أن الحجاج بن يوسف لما خرج عليه ابن الأشعث، وعبد الله الجارود، ولقي ما لقي من قرى أهل العراق، وكان أكثر من قاتله وخرج عليه الفقهاء، والموالى من أهل البصرة، فلما علم أنهم –الموالى– السواد الأعظم، والجمهور الأكبر أحب أن يسقط ديونهم، ويفرق جماعتهم فأقبل على الموالى، وقال أنتم علوج وعجم، وقراكم أولى بكم، ففرَّقهم، ورفض جمعهم، وسيَّرهم كيف شاء، ونقش على يد كل رجل منهم اسم البلدة التي وجهه إليها"(13).
والمفارقة الغريبة أن الدولة الأموية كانت تشكك في إسلام الموالى من أهل بلاد فارس وخراسان بحجة أن إسلامهم غير خالص(لله)، وظلَّ الأمويون لأسباب اقتصادية يأخذون نصف الجزية من هؤلاء المسلمين حاكمين على عقائد هذه الجماهير بأنها دون المستوى المطلوب(14) وإذا كانت الدولة الأموية قد اتخذت موقفاً سلبياً من الموالى مما أدى إلى ثورتهم فقد اتحد معهم الفقهاء في ذلك، بدعوى التشكيك في عقيدتهم "فكان فقهاء الشام والجزيرة يحيطون بالخلفاء الأمويين، ويكفَّرون مرجئة الجبرية، ويفتون بقتلهم، فمحقوا أكثر من ثار منهم، وسفكوا دم من قبضوا عليه منهم سفكاً، ولم يعفوا عن أحد منهم مهما يكن علمه، وخيره، وفضله إلا في القليل النادر(15)، وقد قدم فقهاء السلف الأداة للسلطة السياسية -التي كان غرضها سياسي- لتكفير الموالى، فكفروهم في قولهم عن نفي الصفات، وحدوث القرآن.
وتبدو المصنفات التاريخية واضحة في الكشف عن طريقة تصفية الجبرية الأوائل، فسعيد بن جبير كان من الجبرية الأوائل، وكان مولى لبني والبة بن أسد "خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث فلما انهزم بن الأشعث في دير الجماجم هرب سعيد إلى مكة فأخذه خالد بن عبد الله القسري، وكان والى عبد الملك بن مروان على مكة فبعث به إلى الحجاج، وقال الحجاج لسعيد: اختر أي قتلة شئت قال: بلى أنت فاختر لنفسك فإن القصاص أمامك، فقال له: يا شقي بن كسير، ألم أقدم الكوفة وبها العرب فجعلتك إماماً؟ قال: بلى، قال: ألم أولَّك القضاء فصاح الناس وقالوا: لا يصلح القضاء إلا لعربي، فاستقضيت أبا بردة وأمرته ألا يقطع أمراً دونك؟! قال: بلى، قال: أما جعلتك من سماري؟ قال: بلى، قال: أو ما أعطيتك من المال كذا وكذا تفرقة في ذوى الحاجة، ولم أسألك عن شيء منه؟ قال: بلى قال: فما أخرجك، قال: بيعة كانت لابن الأشعث في عنقي، فغضب الحجاج وقال: بيعة أمير المؤمنين من قبل في عنقك, والله لأقتلنك , وقتله الحجاج وهو ابن سبع وأربعين سنة"(16) وكان ذلك في عام (95هـ). ولأن سعيد بن جبير كان معروفاً بالزهد والورع، ولم تكن الدولة الأموية تستطيع التشكيك في عقيدته، فأخذت عليه نقضه لبيعة بني أمية، لأنه كان يدعو إلى الثورة عليهم، ويلوم الحسن البصري(110هـ)لأنه كان يثبط الناس عن الخروج، ويحثهم على القعود، ويحملهم على المسالمة والموادعة، وقال ابن سعد في طبقاته الكبرى "كان سعيد بن جبير يقول يوم دير الجماجم، وهم يقاتلون: قاتلوهم على جورهم في الحكم، وخروجهم من الدين، وتجبرهم على عباد الله، وإماتتهم الصلاة، واستذلالهم المسلمين"(17).
أما الجعد بن درهم فقد قتله خالد عبد الله القسري عام (124 هـ)، ويصوّر ابن العز الحنفي مقتله في كتابة فيقول: "الجهمية هم المنتسبون إلى جهم بن صفوان، وهو الذي أظهر نفي الصفات والتعطيل، وهو الذي أخذ عن الجعد بن درهم، الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط، فإنه خطب في الناس في يوم عيد الأضحى، وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد ابن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً ثم نزل فذبحه، وكان ذلك بعد استفتاء علماء زمانه، وهم السلف الصالح رحمهم الله"(18). وهنا نرى أن تشكيك السلطة السياسة في عقيدة الجعد جاء في مبحث الإلهيات، ولم يكن الأمويون يقيمون وزنا لدعوتهم عن الجبرية التي كانوا يحكمون بها، وقد كان هذا التشكيك يتم باستشارة فقهاء السلف الصالح.
ويبرر أحد العلماء المحدثين مقتل جهم بن صفوان بأنه كان ذا أسباب سياسية فقد كان جهم بن صفوان يناصر الحارث بن سريج الذي خرج على الدولة الأموية، وكان الحارث حريصاً على إقامة أحكام الكتاب والسنة، وجعل الأمر شورى، ورفض الانغماس في إمرة الظالمين، ورفض أعليتهم، والعمل لهم(19) واتبع بنى أمية مع جهم بن صفوان طريقة التشكيك في عقيدته فرماه هشام بن عبد الملك بالدهرية، ولهذا وجب قتله، ويرد القاسمى "بأن نبز هشام له بأنه من الدهرية، إنما أراد به زيادة الإغراء بقتله ليكون حجة له، وتمويهاً على العامة، ولمن لا يدرى حقيقة الأمر في هدر دمه، فقد علمت أن الباعث على قتله أمر سياسي محض، لأن جهماً كان خطيب الحارث، وقارئ كتبه في المجامع، والداعي إلى رأيه، وإلى الخروج معه على بنى أمية وعمالهم لسوء سيرتهم، وقبح أعمالهم، وشدة بغيهم(20)، وينتقد القاسمي نبز جهم بالدهرية لأنهم -أي الدهرية- لا يقرون بألوهية ولا نبوة، في حين أن جهماً كان له مناظرات مع السمنية للدفاع عن الإسلام.
ومما سبق يمكن أن نتساءل: هل اتحدت سلطة الفقه وسلطة السياسة لمقاومة مد الموالى وتهديداتهم لدعائم الدولة الأموية، فالسياسة تقتل لأسباب سياسية، وتتذرع أحياناً بذراع دينية، وسلطة الفقه تخشى على العقيدة من قراءة الموالى لها؟! وهل كانت سلطة بنى أمية في قتل الجبرية -الذين يستندون إلى نفس إيديولوجيتهم في تكريس حكمهم– ترسى دعائم أركانها من ثورات الموالى، وتستمد شرعيتها في نفس الوقت من رضي فقهاء هذا العصر بدعوى الحفاظ على العقيدة؟! أو بمعنى آخر هل اتحدت سلطة الفقه مع سلطة السياسة لمواجهة مد الموالى ضد بنى أمية مهما اختلفت الأسباب بينهما؟ أم نتفق مع من يذهب إلى تبرئة الفقهاء ويقول إنه "حجب عن العديد من الفقهاء الأبعاد الحقيقية لاصطدام بعض أوائل المتكلمين مع السلطة السياسية، وهو الذي أدى بالتالي إلى سكوت أغلب الفقهاء عن إدانة العنف الذي قابل به الولاة السياسيون المواقف السياسية لأولئك المتكلمين، ويرجع هذا السكوت من جانب الفقهاء إلى غفلتهم عن الأبعاد السياسية الواضحة التي طرأت عن تلك المواقف الكلامية، وأعطتها معانيها الأولى، وسوف يستغل رجل السلطة هذه الغفلة من جانب الفقهاء ليجهز على خصومه بحجة حفظ الدين والعقائد من زيغ أصحاب الأهواء، والملل، والنحل"(21).
ومن هذا نلاحظ في موقف الجبرية مدى قدرة السلطة السياسية على توظيف الجوانب الدينية لخدمة أغراضها السياسية مثل توظيف موقف الفقهاء والسلف من الجهمية ودعاة الجبر، وإقصاء الجبرية الذين يثورون ضد حكم بني أمية ويهددون أركانه، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه كيف تستقيم دعوة الجبر لدى الجهمية وغيرها على المستوى العقائدي مع الثورة على أركان الدولة الأموية؟ لقد كان من الممكن بنفس المنطق الجبري القدري قبول ظلم بني أمية، ولعل هذا يجعلنا نطرح تفسيراً لعقيدة الجبرية، هو أن الجبرية تعني الخضوع لله بالكلية، ولكنها من ناحية أخرى قد تعني التحرر من عبودية وإذلال البشر سواء كان ذلك من سلطة سياسية أو غيرها، وبهذا فقط يمكن أن تتسق عقيدة الجهمية الجبرية مع طبيعتهم الثورية.
3
الحرية: ينقسم دعاة الحرية في الفكر الإسلامي إلى القدرية الأوائل الذين ظهروا في عهد الدولة الأموية، والمعتزلة الذين ظهروا أيضاً في عهد الدولة الأموية، وازدهر مذهبهم ازدهاراً كبيراً في عهد الدولة العباسية، وأما عن القدرية الأوائل فمنهم عمر المقصوص(80هـ) ومعبد الجهني(80هـ) وغيلان الدمشقي، وكانت آراء هذه الفرقة تقول بحرية الإرادة الإنسانية، وبأن "القدر خيره وشره من العبد"(22)، وكذلك يقولون بحدوث القرآن، وحدوث الصفات الإلهية.
وبسبب هذه الآراء، ونتيجة لموقفهم السلبي من حكم الدولة الأموية، فقد قام خلفاء بني أمية بالتشكيك في عقائدهم، وقتلوا عمر المقصوص، ومعبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وما يهمنا هو عرض الموقف السياسي منهم، فتروى كتب التاريخ أنه حين تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة حاول أن يرد المظالم فما كان منه إلا أن دعا غيلان الدمشقي "وقال له عمر: أعنيَّ على ما أنا فيه فقال غيلان: ولَّني بيع الخزائن، ورد المظالم فولاه، فكان يبيعها، وينادى عليها ويقول: تعالوا إلى متاع الخونة. تعالوا إلى متاع الظلمة، تعالوا إلى متاع من خلف الرسول في أمته بغير سنته وسيرته، وكان فيما عليه جوارب خز فبلغ ثمنها ألف درهم، وقد ائتكل بعضها، فقال غيلان: من يعذرني ممن يزعم أن هؤلاء كانوا أئمة هدى، وهذا يأتكل والناس يموتون من الجوع.. فمر هشام بن عبد الملك فقال: أرى هذا بعيني، ويعيب آبائي، والله إن ظفرت به لأقطعن يديه، ورجليه، فلما ولَّى هشام خرج غيلان وصاحبه صالح إلى أرمينية فأرسل في طلبهما فجيء بهما فحبسهما أياماً ثم أخرجهما، وقطع أيديهما وأرجلهما، وقال لغيلان كيف ترى ما صنع ربك بك؟ فالتفت غيلان فقال: لعن الله من فعل هذا، ومات صالح، وصلى عليه غيلان، ثم أقبل على الناس، وقال: قاتلهم الله كم من حق أماتوه، فقيل لهشام قطعت يدي غيلان ورجليه، وأطلقت لسانه إنه قد أبكى الناس، ونبههم على ما كانوا عنه غافلين، فأرسل إليه من قطع لسانه فمات رحمه الله(23) وهذا النص يطرح مجموعة من التساؤلات المهمة ومنها: كيف يستعين الخليفة عمر بن عبد العزيز –التقى الورع- برجل يتهم بالزندقة والخروج عن تعاليم الإسلام لكي يوزع المال الزائد عن حاجة بني أمية؟ لماذا سمح له عمر بن عبد العزيز أن يتهم جلدته بأنهم ظلمة وخونة، ويتركه يوزع الأموال التي أخذوهما ظلماً؟ إن ثورة غيلان الدمشقي على ظلم بني أمية، ورفضه للظلم هي التي دعت الخليفة هشام بن عبد الملك أن يقطع يديه ورجليه ثم لسانه بعد ذلك، فالأسباب كانت سياسية، وإن اتخذت أحياناً بعض المبررات الدينية، ولقد أسهمت حدة بني أمية في تصفية فرق الجبرية، والقدرية الأوائل.
وتعتبر المعتزلة كفرقة كلامية امتداداً للقدرية الأوائل بحيث تبنوا آرائهم وعمَّقوها من الناحية الفلسفية، ولهذا سمَّي المعتزلة بالقدرية، وقد ظهرت المعتزلة في عهد بني أمية -وأغلبهم موالى أيضا- ولم يحدث لهم ما حدث للقدرية الأوائل، لأنهم كانوا بعيدين عن السياسة.
وفى قضية الحرية الإنسانية –من وجهة إنطولوجية – رأى المعتزلة "أن أفعال الإنسان غير مخلوقة لله"، وأن من قال: "أن الله سبحانه خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه لأنه يستحيل أن يكون فعل واحد مفعولا لفاعلين، ومقدوراً لقادرين وأثرا لمؤثرين"(24).
واتفق المعتزلة جميعاً على أن أفعال العباد من تصرفهم، وأنها حادثة من جهتهم، وعلى أن الإنسان محدث وفاعل لما يصدر عنه من أفعال، وأن جهة تعلق هذه الأفعال بالناس الفاعلين لها إنما هو الحدوث، أي أن جهة تعلق هذه الأفعال بفاعلها ليست "الكسب" بالمعنى الذي تحدثت عنه الأشعرية، ومن باب أولى ليست الظرفية والمحلية كما رأت ذلك الجبرية والمجبرة الخلص(25) ومن ثم فإن المعتزلة تنسب أفعال العباد إليهم، وتقر بأنهم يملكون القدرة والحرية على الفعل والاختيار، ولهذا فقد لقب المعتزلة بدعاة الحرية في الإسلام، بل إن المعتزلة أقروا بمقدرة العقل البشرى على التمييز بين الحسن والقبيح، والخير والشر بعكس الاتجاهات الأخرى التي كانت ترى أن الحسن والقبيح شرعيان.
ومن جانب آخر فإن المعتزلة قد ذهبت في مبحث الإلهيات إلى القول بنفي الصفات وسموا بالمعطلة، وكذلك قالوا بحدوث القرآن، ومجمل آرائهم في مبحث الإلهيات هو نفسه تقريباً ما قال به القدرية والجهمية الأوائل -في عهد بني أمية وتم تصفيتهم بسببه- فلماذا لم يحدث للمعتزلة في عهد الدولة العباسية نفس ما حدث لهؤلاء؟ نقول بأن الدولة العباسية قد قامت على أكتاف الموالى والعجم، وأتاح العباسيون لهؤلاء مساحة من الحرية لم تكن موجودة من قبل، وبسبب هذه الحرية لم يستطع خلفاء الدولة العباسية كسب مشروعية وجودهم بسلطة الفقه، وقد تعرض بعض الفقهاء للتعذيب بسبب مواقفهم من الدولة العباسية "فحين سئل الإمام مالك عن البيعة قال: إذا أكرهت عليها وتخوفت إن لم تحلف بها أن تقتل أو تعاقب فلا شيء عليك، ولقد ضرب الإمام بسبب هذه المسألة مائة سوط"(26)، والتاريخ الإسلامي يثبت أن ثمة علاقة متوترة بين السلطة السياسية للدولة العباسية وسلطة الفقهاء التي كانت تملك القدرة على تحريك العوَام.
ومن جانب آخر فقد ترتب على مد الموالى والعجم الواضح في خلافة الدولة العباسية أن انتشرت النزعات الباطنية، والملاحدة، فوقعت سلطة الخلافة العباسية تحت تهديد تلك النزعات وما نتج عنه من حركات تمرد من ناحية، وبين توتر واضح في العلاقة مع سلطة الفقهاء من ناحية أخرى، وفي تلك الأجواء ظهرت المعتزلة على الساحة السياسية لتلعب دوراً هاماً في تاريخ الدولة العباسية فقد وعى المعتزلة ما حدث للقدرية في عهد الدولة الأموية، وذلك لأن "القدرية الأوائل كانوا سيئي الحظ، فقد جلبوا على أنفسهم غضب الأمة وسخطها، وتعرضوا لنقمة الخلفاء الأمويين الذين تتبعوهم بالقتل، وتناولوهم بالاضطهاد، فلما قامت القدرية -المعتزلة- أدركوا ناحية الضعف هذه فيهم، وعلموا أن ليس لهم بقاء ما لم يجدوا قوة كبيرة تسندهم، وتشد أزرهم، فخطر لهم أن يستعينوا بالسلطة الحاكمة، ويستميلوها إلى جانبهم، لكي يظهروا آراءهم بلا خوف، ولا وجل، ويبلغوا أهدافهم"(27). وبعدما كان المعتزلة يرفضون الحديث عن بني أمية أثناء ولايتهم لمقاليد الحكم أصبحوا في عهد الدولة العباسية ينتقدون قولهم بالجبر، وأنهم حكموا بمشيئة الله وقدره، وكان ذلك يرضي خلفاء الدولة العباسية.
وبدأت علاقة بني العباس بالمعتزلة منذ العلاقة الوثيقة بين عمرو بن عبيد أحد رواد المعتزلة وأبو جعفر المنصور، فكان المنصور يعجب بزهد وتقوى عمرو، ثم تطور الأمر في عهد هارون الرشيد الذي حاول توظيفهم للرد على الباطنية التي كانت تهدد أركان الإسلام في عهده.
وبدأ عصر ازدهار المعتزلة الحقيقي في عهد المأمون(218هـ) الذي تربى تحت سيطرة المعتزلة وخضع لنفوذهم، ولبعض كبرائهم كيحيى بن المبارك، وكان لثمامة بن الأشرس مكانة عظيمة لديه فتشَّرب آراءهم، وشبَّ على مبادئهم، ويقولون "أن ثمامة هذا هو الذي أغواه، ودعاه إلى الاعتزال ثم إن المأمون كان متعطشاً إلى العلم والفلسفة، وكان شغوفاً بالآداب، وأرباب الجدل، ولهذا قربهم منه، وارتاح إلى أحاديثهم"(28) وحين تولى المأمون الخلافة استطاع ابن أبى داود بلباقته وغزارة علمه، وذلاقة لسانه أن يسيطر على المأمون حتى حمله على نشر مقالة خلق القرآن، وامتحان الناس فيها، والكتَّاب مجمعون على أن ابن أبي داود مسؤول عن المحنة، فهو الذي زينها للخليفة، وهو الذي دسَّ له القول بخلق القرآن وحسنه عنده، وصيره يعتقده حقاً(29).
ومن الغريب أن المعتزلة دعاة الحرية الإنسانية الذين يقولون بنفس كلام القدرية والجبرية في الإلهيات –وتم ذبحهم على يد بني أمية– قد استطاعوا من خلال التحامهم بالسياسة أن يفرضوا عقائدهم بقوة البطش والإرهاب، وتروي كتب التاريخ أن المأمون طلب من رئيس شرطة بغداد أن يجمع القضاة، ويمتحنهم في خلق القرآن فمن امتنع عن الإقرار به أقصاه عن عمله، ومن أقرّ به عاد إلى عمله، وطلب من القضاة الذين يقولون بخلق القرآن امتحان الشهود فيه، فمن لم يقر به رفضوا شهادته، وحجته في ذلك أن من لم يكمل دينه، ويصح إيمانه لا يمكن أن يوثق بقوله ولا عمله(30). وهنا نلاحظ أن المعتزلة الذين ينادون بحرية الفكر، وحرية أفعال العباد –قد مارسوا نفس دور سلطة الفقه في عهد الدولة الأموية مع الجبرية والقدرية– فحاولوا أن يفرضوا عقيدة خلق القرآن، وكان ما فعله المعتزلة بمساعدة المأمون يمثل نوعاً من فرض عقيدة معينة بقوة السياسة، والتفتيش في عقائد الناس، وعلى الرغم من ذلك نجد بعض المفكرين المعاصرين أمثال فهمي جدعان، ومحمد عابد الجابري(31) يدافعون بشدة عن المعتزلة، ويرون أن المعتزلة كانوا ضحية السلطة السياسية التي وظفتهم في محاربة سلطة الفقه.
وقد أراد المعتزلة أن ينشروا عقيدة خلق القرآن دون أن يتصدى لهم الفقهاء، ولهذا سعى المعتزلة إلى استنفار سلطة بني العباس ضد سلطة الفقهاء، ويتضح هذا من كلام أحمد بن أبي داوود ضد الإمام أحمد ابن حنبل أثناء مناظرتهم، ويصوّر ابن المرتضى هذه المحنة فيقول: "كانت المناظرة في شهر رمضان سنة(220 هـ) قال ابن حنبل: لما أحضره أن لي سبقاً في هذه الدعوة فليسعني ما وسع أصحاب رسول الله e والتابعين من السكوت والرضا من جمعيهم بأن القرآن كلام الله، فقال المعتصم لابن أبى داوود: ما عندك فيما قال؟ فقال أحمد: "كان لعمري يسعه ما وسعهم حيث كان الناس جميعاً ساكتين عن هذا الأمر، فأما وهو رأس مذهب قد جمع عامته، وغوغاء، ينادون في الطرقات ليس شيء من الله بمخلوق"(32) فهنا إشارة واضحة في كلام ابن أبى داوود في مدى سلطة الفقه الواضحة على العوام في قضية خلق القرآن، فهل كان ينبغي على الفقهاء وهم يرون السلطة السياسية بمساندة المعتزلة يفتشون في عقائد الناس، ويفرضون عقيدة خلق القرآن، أن يصمتوا وهم أصحاب السلطة الفقهية التي تملك القدرة على تسيير شؤون الناس بما يفوق أحياناً قوة السلطة السياسية في تسييرها؟!
إن الصراع بين المعتزلة والفقهاء كان في جوهره صراع بين من يمتلك سلطة العلم والفقه –الفقهاء– ويدير شؤون العوام، ومن يوظف السلطة السياسية -المعتزلة- لنشر آرائهم الفكرية بقوة هذه السلطة، في حين قامت السلطة السياسية –من جانب آخر– بتوظيف المعتزلة حتى تحاصر سلطة الفقه على العوام "فكانت دعوى الفقهاء والمحدثين أنهم أصحاب السلطة الشرعية، وورثة السلف الصالح، ويتسلل العلم إليهم مباشرة ابتداءً من الرسول وعبر الصحابة والتابعين، أما الدولة العباسية فهي كأي دولة إسلامية تدعي الوراثة المزدوجة للسلطتين معاً: الدينية والدنيوية وكانت حملة الدولة العباسية خلال فترة المأمون والمعتصم والواثق هي في جوهرها منع الفقهاء وأهل الحديث من ادعاء أنهم الأمناء على السنة، والناطقون باسم الجماعة، ومالكو الحق"(33). ولهذا يظهر من قضية خلق القرآن أن الدولة العباسية تحاول سحب السلطة كليةً من يد الفقهاء لكي تكون السلطة الدينية في يدها بجوار السلطة السياسية.
وتبدو المشكلة أحياناً في دفاع البعض عن المعتزلة بمبرر أو غير مبرر، ومحاولة إظهارهم دائماً بأنهم دعاة حرية الرأي والفكر، وحرية الإنسان، ويحاولون أن يجدوا تبريراً لما فعلوا، فيرى القاسمي أن الإرهاب الذي تم على يد المعتزلة هو "انتقام لاضطهاد سابق، ومقابلة له بالمثل، إذ كان للأثرية –السلف– دولة في عهد بني أمية، وكانت أقوالهم في تكفير مخالفيهم من الجهمية، ورميهم بالزندقة وهدر دمهم تغري بهم، ولم يكن قطع الجعد بن درهم، وغيلان الدمشقي... وغيرهم إلا جراء مقالاتهم فيهم"(34).
ولاشك أن التحام المعتزلة بالسلطة السياسية، وممارستهم الاستبداد في فرض آرائهم، ومحاولة البطش بالمخالفين لهم في الرأي، كانت من الأسباب الكبرى في انهيار مذهبهم، فحين تخلت السلطة السياسية العباسية عنهم تحت ضغط العوام عليهم، وكراهية الناس لما فعلوه، تم حرق معظم تراث المعتزلة على أيدي العوام، وأتباع أحمد بن حنبل –الحنابلة– وقد اتجه المعتزلة بعد ذلك إلى الاحتماء بالدولة البويهية "فلم يصل المعتزلة من القوة في القرن الرابع إلا في وزارة الصاحب ابن العباد(326 – 385 هـ) وعمل الصاحب بن عباد على نشر الاعتزال، وحمل الناس على انتحاله متبعاً في ذلك شتى الطرق، ومختلف الوسائل، ولذلك كان الصاحب بن العباد قوة عظيمة للمعتزلة أعاد لهم شيئاً من مجدهم وهيبتهم، ولذلك كان فقده كارثة كبيرة نصبت على رؤوسهم، وخسارة عظيمة ضعضعتهم، لأن الملك سحب ثقته من أصحابه"(35).
ومما سبق نلاحظ أن المعتزلة دعاة الحرية في الإسلام مارسوا مع المعارضين لآرائهم القمع والاستبداد، وهو نفس ما قام به الفقهاء مع الجبرية والقدرية في عهد الدولة الأموية، وخلف كل هذه الاتجاهات الفكرية والفقهية تشكل السلطة السياسية اليد الطولي في تحريك هؤلاء ضد أولئك، وأولئك ضد هؤلاء، وذلك من أجل استمرار مصالحها واستقرار النظام الحاكم، ويعكس هذا أولوية السياسي على الديني والثقافي في الثقافة العربية الإسلامية، وأن ثمة سعي لدى السياسي دوماً لتوظيف الديني لمصالحه.
4
التوفيق بين الجبر والحرية:(الأيديولوجيا الوسطية)
تمثل الايدولوجيا الوسطية التي تجمع بين الجبر والحرية الرؤية المحورية عند السواد الأعظم للفرق الإسلامية الكلامية سواء الإباضية أو الإمامية أو الزيدية أو الأشاعرة، فقد ظهرت المحكّمة في مرحلة مبكرة من تاريخ الإسلام تعود إلى الفتنة الكبرى، وقد قالوا في مشكلة حرية الإرادة الإنسانية بالتوسط والتوفيق فذهبت الإباضية إلى "أن الاستطاعة عرض من الأعراض لا يبقى زمانين، وهي قبل الفعل، بها يحصل الفعل، وأفعال العباد مخلوقة لله –تعالى- إحداثا وإبداعا، ومكتسبة للعبد حقيقة لا مجازا"(36) وذهب العجاردة إلى "أن الله –تعالى- خالق أعمال العباد، والعبد مكتسب لها قدرة وإرادة، مسئول عنها خيرا وشرا، مجازى عليها ثوابا وعقابا، ولا يكون شيء من الوجود إلا بإرادة الله"(37).
ويسجل التاريخ الإسلامي عن المحكّمة أنهم خرجوا من نبت طبقة القراء –حفظة القرآن- ويقول عنهم فلهوزن: "أنهم كانوا قوما شديدي التقوى تنحل لهم صفات أولئك القراء، كانوا يقرأون القرآن لا بلسانهم فحسب، بل ليتعبدوا به، ويفكرون فيه آناء الليل وأطراف النهار، وكانوا أنصار عبادة وأطلاح سهر قد أكلت الأرض جباههم من كثرة السجود"(38).
وشهد التاريخ الإسلامي بأنه بعد مقتل علي بن أبي طالب قام المحكّمة بالعديد من الثورات ضد حكم بني أميه الظالم، وكانت أرائهم تدعو إلى الثورة على الحاكم الظالم بل إنهم "جوّزوا أن تكون الإمامة من غير قريش، وكل من نصبوه برأيهم، وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل والإنصاف واجتناب الجور كان إماما، ومن خرج عليه يجب القتال معه، وإن غيّر السيرة وعدل عن الحق وجب عزله وقتله وهم أشد الناس قولا بالقياس، وجوّزوا أن لا يكون في العالم إمام أصلا، وإن احتيج إليه فيجوز أن يكون عبدا أو حرا، نبطيا أو قرشيا"(39). وبسبب هذه الآراء الحرة تم تصفية معظمهم على يد بني أمية، فيقول فلهوزن: "كان زوالهم يتبع زوال بني أمية حذو النعل بالنعل"(40). فكانت أسباب التصفية سياسية وإن تذرعت بذرائع دينية(41).
ومن جانب آخر تعبر نظرية الكسب عن موقف الجمع بين الجبر والحرية، ولقد ظهر الأشاعرة في القرن الرابع الهجري، حيث ساد في هذا القرن التماس الحلول الوسطى في شتى مظاهر الفكر، وكان لابد للناس من مذهب يجمع بين عقلانية المعتزلة، وظاهرية الحنابلة، والناس يريدون ديناً يعتقد ويعتنق لا فكر للبحث والتأمل(42).
ويهمنا من نظرية الكسب أنها تعكس الموقف من أفعال العباد، وفحوى هذه النظرية "أن الفعل البشري من خلق الله، وأن العبد يكتسب ما يسأل عنه" فالله خالق أعمال العباد كما أنه خالق الأجسام، والألوان، والطعوم، والروائح. لا خالق غيره، وإنما العباد مكتسبون لأعمالهم ومع أن الله خالق أكساب العباد كما أنه خالق الأجسام والأعراض، فإن العبد مكتسب لأفعاله دون الأجساد والأعراض، إذ ينحصر الكسب في الحركة والسكون، والإرادة والعلم والجهل والقول والسكوت، ولا يصح اكتساب الألوان والأجسام والطعوم والقدرة والعجز والسمع والرؤية والعمى والكلام"(43) ويعني هذا أنه لا كسب للعبد فيما لا يسأل عنه الإنسان.
وهذه الرؤية توضح "أن استطاعة الإنسان على الفعل هي حال الفعل فلا يقدر الإنسان على الفعل قبل الكسب، وذلك لأن القدرة الإنسانية عرض لا يبقى زمانين، وإلا أمكن استغناء الإنسان بفعله عن ربه أن يعينه عليه، وإنما تكون الاستطاعة مع الفعل"(44)، ومن ثم فقد التزموا بمعارضة المعتزلة الذين يقولون بحرية الإرادة الإنسانية، ومعارضة المجبرة في قولهم بالجبر، وقد فرقوا بين الأفعال الاضطرارية، والأفعال الاختيارية، الأولى تقع من الله وقد عجزوا عن ردها، والثانية يقدر عليها العباد غير أنها مسبوقة بإرادة الله في حدوثها واختيارها، وبهذه المقدرة الحادثة يكتسب الإنسان أفعاله، فالإنسان المكتسب هو المقدور بالقدرة الحادثة، فإذا أراد العبد الفعل وتجرد له خلق الله له في هذه اللحظة قدرة على الفعل مكتسبة من العبد مخلوقة من الرب، فيكون الفعل خلقاً وإبداعاً وإحداثاً من الله، وكسباً من العبد لقدرته التي خلقها الله وقت الفعل(45).
ولا شك أن هذا التوسط بين المذهب السلفي الذي يعتمد على المروى والمأثور، وبين مذهب المعتزلة الذي يقوم على العقل قد أدى إلى تسكين حالة الصراع في الثقافة العربية الإسلامية بين الأثرية دعاة النقل من ناحية، والمعتزلة دعاة العقل من ناحية أخرى، ولاشك أن حالة الصراع التي سبقت ظهور الأشاعرة خلقت ازدهاراً واضحاً في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، ولكي ندلل على صدق قولنا فإن أزهى عصور الثقافة العربية الإسلامية في شتى المجالات كان في الفترة منذ أواخر القرن الثاني الهجري حتى أواخر الخامس.
خلاصة القول إن قضية أفعال العباد بين الحرية والجبرية تكتسب دلالتها العميقة من خلال الكشف عن الأفق السياسي الذي يحركها، فلا يمكن دراسة أي قضية في علم الكلام دون الكشف عن السياق السياسي الذي تخلقت فيه، لأن ذلك يضيء مساحات مظلمة في تاريخنا الثقافي، والذي قام فيه السياسي بالدور الفاعل في تحريك الديني والثقافي لخدمة أغراضه.
****************
الحواشي
*) أكاديمي من مصر.
1) الشريف الراضي، نهج البلاغة، مجموع خطب الإمام على، تقديم محمد عبده الهيئة العامة لقصور الثقافة 2004م، جـ3، ص136.
2) المرجع نفسه، جـ2، ص5.
3) أحمد أمين، فجر الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1997م، ص95.
4) سيد أمير على، روح الإسلام، ج3، ص251.
5) أحمد أمين، ضحى الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998م، ج3، ص5.
6) عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، دار المنتخب، بيروت، 1994م، ص43.
7) الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محيى الدين عبد الحميد، بدون، ج2، ص279.
8) فخر الدين الرازي، اعتقاد فرق المسلمين والمشركين، ص68.
9) عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، مؤسسة الحلبي، القاهرة، بدون، ص128.
10) عبد الكريم الشهرستانى، الملل والنحل، تحقيق جميل صدقي، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 1997م، ص70.
11) ابن المرتضى، المنية والأمل في شرح الملل والنحل، تحقيق جواد مشكور، المؤسسة الثقافية، بدون، ص87.
12) جولد تسيهير، العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة محمد يوسف موسى وآخرين، دار الرائد، بيروت، بدون، ص86، 87.
13) ابن عبد ربه، العقد الفريد، تحقيق أحمد أمين وآخرين، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2004م، ج3، ص421.
14) محمد عمارة، المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1988م، ص31. وأيضاً حسين عطوان، الفرق الإسلامية في بلاد الشام في العصر الأموي، دار الجيل، 1986م، ص105.
15) حسين عطوان، الفرق الإسلامية في بلاد الشام، ص96.
16) محمد بن أحمد التميمى، المحن، تحقيق وهيب الجبورى، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986م، ص226 – 227.
17) ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص263 نقلاً عن حسين عطوان، الفرق الإسلامية، ص93.
18) ابن العز الحنفي، شرح الطحاوية، تحقيق أحمد شاكر، دار التراث، القاهرة، بدون، ص471.
19) جمال الدين القاسمى، تاريخ الجهمية والمعتزلة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص16.
20) المرجع نفسه، ص17 – 18.
21) عبد المجيد الصغير، مرجع سابق، ص44.
22) الشهرستانى، الملل والنحل، ج1، ص127.
23) ابن المرتضى، المنية والأمل، ص138.
24) محمد عمارة، المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، ص78.
25) المرجع نفسه، ص78 – 79.
26) محمد بن أحمد التميمى، المحن، ص331.
27) زهدي جار الله، المعتزلة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1990م، ص166.
28) المرجع نفسه، ص50.
29) المرجع نفسه، ص174.
30) المرجع نفسه، ص175.
31) انظر فهمي جدعان، المحنة... دراسة في جدلية الدين والسياسة، دار الشروق، عمّان، 1989م، وأيضاً محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1995م.
32) ابن المرتضى، المنية والأمل، ص204.
33) على أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999م، ص41.
34) جمال الدين القاسمى، تاريخ الجهمية والمعتزلة، ص69.
35) زهدي جار الله - المعتزلة – ص217، 218.
36) الشهرستانى، الملل والنحل، ص108.
37) المرجع نفسه، ص106.
38) يوليوس فلهوزن الخوارج والشيعة..المعارضة السياسية الدينية ترجمة عبد الرحمن بدوى، دار الجليل للكتب والنشر، ط5 1998 ص27.
39) الشهرستانى، الملل النحل، ص94.
40) فلهوزن المرجع السابق، ص93-94.
41) أمين الخولى القادة والرسل الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م ص140-141.
42) أحمد صبحي – في علم الكلام – ج2 / الأشاعرة، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، 1980م، ص69.
43) البغدادي - أصول الدين – نسخة مصورة عن طبعة اسطنبول، دار المدينة، بيروت، ص150.
44) الباقلانى – تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل – تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة، مكتبة الكليات الأزهرية، ص287.
أحمد صبحي – مرجع سابق – ج2، ص63.