كيف نخرج من حروب استخدام الأديان؟

كيف نخرج من حروب استخدام الأديان؟
بقلم الدكتورة إلهام كلاب البساط
في مواضيع العلاقة بين الأديان في الحرب والسلم، نتوقف عند النقاط الآتية:
.1 علم الأديان المقارن، والتساؤل عن تموضع الحدث الديني في الحدث التاريخي والاجتماعي، كما عن اسهام هذه المناهج العقلية للتعرف على الأديان، في صياغة جديدة لمفاهيم ثقافة السلام والتسامح. وبالتالي هل في الامكان اعتمادها كآلية من آليات الحوار، ومساحة لقاء من دون تباهٍ او تماهٍ أو تبرير أو سيطرة؟
يجول علم الأديان المقارن بين موقعين مختلفين:
احترام اللاهوت الديني الغيبي، واعتبار الدين ظاهرة فلسفية - اجتماعية يعالجها العقل.
ولا يحتكر هذا المنهج منذ القرن التاسع عشر، الدراسة الموضوعية للأديان. فلقد تطورت علوم تاريخ وسوسيولوجية الاديان، وافترقت عن الاقتراب اللاهوتي او الفقهي منها، وخصوصاً مع انتروبولجيا الأديان التي تحاول، وراء الطقوس والممارسات، فهم الانسان المتعامل مع رموز المقدس الروحي.
كيف تساهم هذه المناهج العقلية للتعرف على الأديان، في صياغة جديدة لمفاهيم ثقافة السلام؟
لقد استطاع هذا الدخول العقلي الى مجال الغيبي تدريبنا على امكان الوقوف على مسافة موضوعية من انتمائنا، كما استطاع ان يرفدنا بالتفسير الواقعي التاريخي للعديد من الشرائع والتعابير والمرجعيات الجغرافية. كما ساعد الأديان على الخلاص من الاتهامات المبسطة المرتبطة بالزمن التاريخي، وادخلها في سياق تاريخ الانسانية كمعطى صنع تاريخ الانسانية في مجال صنع تاريخه الخاص.
لم يعد الدين حكراً على المؤمن به. فقد تعرّض للهواء الخارجي ولنظر الآخر، فازدادت حاجته الى الحوار مع المختلف، لا للتبشير، بل لتحديد ملامح تجليه ومدى رحابته في تقديم نفسه وفي قبول الآخر.
واليوم، تدرس الانتروبولوجيا الدينية الأديان في اتجاهين: اتجاه التواصل أي التآلف المستمر بين التعاليم والطقوس مما يؤدي الى صياغة النماذج، واتجاه الانفصال، أي التحوّل المستمر في المسار التاريخي مما يؤدي الى صياغة التوازنات.
وفي حقل هذا النشاط الرمزي، نلتقي الممارسات الاركيولوجية التي فقدت منطقها، كما نلتقي الديني في ما ليس دينياً، ونلتقي مسارات الحرب والسلام في صياغاتها العسكرية المتلفعة بالدين.
.2 تحديد ماهية الدين ونحن غالباً لا نسأل أنفسنا عما هو الدين لأننا نعيش في بديهية الإيمان ومناخ الدين، ديننا ودين الآخرين.
ويردّنا الجواب الى جذور ثلاثة مترابطة: الجذر الغيبي، النظام الأخلاقي، والسلوك اليومي.
لو حاولنا عملياً متابعة القواسم المشتركة التي تشكّل أرضية دائمة وثابتة للقاء والتفاعل من دون هيمنة واستيعاب، لوجدنا ان السلوك اليومي في مواجهة مصير واحد، والنظام الأخلاقي المتأثّر بالواقع المعاش، يشكّلان موقع لقاء وتأثير متبادل ومستديم.
فالانسان في موقع جغرافي واحد في زمن واحد، يفرح ويحزن ويعيش قيمه ويكيّف طقوسه ويهندس رموزه بطريقة متشابهة.
ولنا في التجاور التاريخي بين المسيحية العربية والاسلام العربي، مثال مقنع يجعل المسيحي العربي شبيهاً للمسلم العربي أكثر من شبهه للمسيحي الغربي. فنظم العيش، ومفاهيم الشرف والنجدة، ومعنى احترام الحياة وحتى طقوس الاحتفالات، تردّ الى جوهر واحد متشابه. وأمثلة التشابه لا تنضب.
يبقى الجذر الغيبي، وهو يكمن في خصوصية الرؤية الدينية للوجود، وللعالم، وللعالم الآخر. لكنه في اختلافه وفرادته، يدرّبنا على قبول الاختلاف، وعلى احترام هذا الاختلاف.
هذا الجذر الغيبي الذي يؤكد على انطلاق الاديان من الله وانسكابها فيه، يواجه مسارها على الارض بين أيدي البشر. يجوهرون جوهرها بقدر سموهم في الايمان، ويشوهون رسالتها بقدر سقوطهم في العصبيات.
.3 الحرب والسلام والعلاقة بين الأديان.
لماذا لم تستطع الأديان، وهي دعوة للسلام، منع الحروب، أو لماذا جيّشت كل هذه الحروب؟
لقد كانت العلاقة التاريخية بين الأديان، بتماهيها مع السلطة، علاقة حرب، خصوصاً في الأديان التوحيدية - داخل كل دين، وبين كل دين وآخر - لأن المؤمن يرى ان دينه هو الحق الوحيد، لذا وجب عليه نشر دينه واقناع غير المؤمن به. وبذا يصبح "انقاذ" الآخر من النار حجة نبيلة، ولو عن طريق القتال. وهي معادلة ذهنية مبسّطة سادت منذ حروب القرون الوسطى حتى حروب اليوم.
واذا استعدنا علم الأديان المقارن وانتروبولوجيا الأديان، طالعتنا الرحابة الايمانية عند الأديان التي نسميها "وثنية" والتي كانت لتنوع آلهتها، لا تحتكر حقاً ولا تقيم خصاماً إلا بين مساحة سلطة الآلهة، وليس بين قناعات البشر، مع ان العالم القديم تؤرخه حروبه. ونذكر دوماً في مجال الحروب الدينية الصليبية. وقد آن لنا ان نكسر التسمية والخطاب والاستنتاج المتوارث، والمرجعية الخاطئة لتحالفات هذه الحروب.
لقد اصبح هذا الاسم وثيقة اتهام. وقد تبدل محتواه، وزلّ لسان رؤساء دول ومرجعيات دينية في استعادته، من دون معرفة صدى رنينه في آذان الشرق.
اننا، بقدر ما نستطيع إماطة اللثام عن أهداف هذه الحروب ومبرراتها ونتائجها وتحالفاتها، من خلال دراسة متوازية لوثائق الشرق والغرب في مراياها المتقابلة، نستطيع سبر أهدافها الاقتصادية والاستعمارية تحت غطاء الدين الذي يستحث الشعوب، ويخدم سلطة الحكام. وربما استطعنا التيقّن من الضرر المزدوج والمستمر الذي لحق بمسيحيي الشرق. لقد اعتبرهم الغازي حلفاء، ثم احتقرهم لاختلافهم اللاهوتي عنه. وحاربهم خلسة وبالواسطة. واعتبرهم المسلمون متعاونين، بينما تعلّمنا الوثائق التاريخية والنصوص التجارية، عن اهتمام الغازي بالتعاون مع السلطة الاسلامية، استشرافاً لمصالحه الدائمة.
لقد احدثت هذه الحروب شرخاً بين المسلمين والمسيحيين، انطلاقاً من اسمها الذي ربط الصليب بالحرب، الى تداعياتها التاريخية المتعاقبة. فالمسيحية الشرقية لا تزال تعاني من ويلات هذه الحروب، كأنها تحتاج كل مرة الى صك براءة من خطأ تاريخي، يستنجد به بسهولة من يجهل حقيقة التاريخ وخفاياها.
ولا بد ان نذكر في هذا المجال الحرب على العراق.
هذه الحرب وهي أحدث حرب في التوقيت وفي تقنيات بداية هذا القرن، ليست بالتأكيد حرباً دينية. هي حرب سيطرة على دول الشرق ومصائرها وثرواتها، ومستقبلها. نهايتها هي بداية عراق آخر، وشرق آخر، بحجم تداعيات المخططات على كل المنطقة التي تترقب زلزالها وتخشاه.
لكن هذه الحرب التي اعلنها رئيس رسم لنفسه دوراً خلاصياً، واعتبر انه يمتلك الرؤيا الدينية الصائبة في بلد أعلن دوماً ايمانه بالله حتى على عملته الوطنية، توجهت نحو رئيس يشهد الله على غزوة الكفار، ويدعو الى الجهاد ضدهم معلناً ايمانه بالله على علم البلاد.
هذه الحرب اللادينية، تتحول الى دلالة على مستقبل الأديان المتحولة الى انظمة تشترع، وتحكم، وتتحكم في مسيرة المستقبل، وتؤسس لحروب لا تنتهي.
ان الاستخدام الديني لهذه الحرب المفصلية في تاريخ الشرق، والتي ستودي بالمنطقة الى صراعات كبيرة لا نعرف مداها، سيجعل من شظاياها شظايا دينية، حرباً عنقودية اذا استوحيت التسمية من اسلحتها المحظورة.
فالاستخدام الديني، لفظياً كتعابير الدول الكافرة او المارقة، والخير والشر، والشيطان والرؤيا والخلاص، وفعلياً، سيؤدي الى تعزيز الأصوليات، وتناحرها بالعنف والإرهاب. وأبعد من صراع الحضارات الذي رفضناه، سنرزح تحت ما يمكن ان نسميه صراع الأصوليات.
صراع الأصوليات هنا يتحول فيه الدين الى خطاب بدائي شعبوي، تسانده وسائل الاعلام الحديثة، ويتحول به العنف الى فخ قدري تسانده وسائل التسلح الحديثة.
ولكننا وللمرة الاولى، نعتبر هذا الانقسام منفذ نجاة، فهذه الحرب احدثت شرخاً في خريطة العالم المسيحي، ولم يعد الغرب غرباً واحداً، والمسيحية مسيحية واحدة، سيما اذا تساءلنا اليوم عما تعني كلمة الغرب، كما احدثت شرخاً في خريطة العالم العربي والاسلامي، بين دول شاجبة ودول مساندة وخربت في المعادلة الصراعية المبسطة.
لقد قسّمت الحرب، في الغرب وفي الشرق، بين مسيحية وأخرى، وقسّم القبول والرفض بين إسلام وإسلام آخر، مما كذب التحالفات الدينية، وافصح من جهة عن وجه المصالح والسلطة، ومن جهة اخرى، عن تقاسم قيم الحق في الأديان المختلفة، وعن صحوة الضمير المتحالفة بين أديان مختلفة، كي لا يصيبنا اليأس من انسانية تتأرجح بين السمو والانحدار.
.4 ثقافة السلام
ما معنى ثقافة السلام اليوم في أفق هذا العالم المكفهر، وأي مستقبل لها؟
اننا بعد تكريس القوة الأحادية في هذه الحرب، واستباحة بلاد وعذابات شعبها وكرامته، نحتاج الى شحنة أمل مضاعفة التضامن معاً، كي نعيد صياغة شروط ثقافة السلام في عالم مجروح ومدمّى ومستفز، أوقظت فيه كل الغرائز التي قضت الانسانية دهوراً في تشذيبها وتطويرها.
لقد أعلنت الأونسكو (وقد يثير ذكر مؤسسات الأمم المتحدة الابتسام المرير اليوم) السنة الـ2000 سنة ثقافة السلام، بعد اعلان برشلونة 1994 عن دور الدين في النهوض بثقافة السلام، وبعد اعلان القضاء على جميع اشكال التمييز القائم على الدين السنة الـ.1981
لقد أطلقت الاونسكو هذا النشاط من مدن عانت الدمار او العبودية او الظلم، وحددته بستة مبادئ: احترام كل حياة، رفض العنف، المشاركة، الاصغاء، التضامن، المحافظة على الكرة الارضية.
أي ان ثقافة السلام هي مجموعة القيم، والمواقف، والممارسات، وطرق الحياة التي ترفض العنف وتنفي النزاعات بمعالجة جذورها، من خلال الحوار والتفاوض بين الافراد وبين الدول.
ان ثقافة السلام هي دليل تعايش ومشاركة تستوجب الإقرار بمشروعية الاختلاف، واعتباره أمراً طبيعياً ودليلاً على الغنى الانساني وتأكيداً على أهمية الحوار.
انها ترتكز على مبادئ الحرية والتسامح والقيم الأخلاقية المشتركة بين الأديان، وعلى رفض كل تعصّب وإقصاء وعنف.
وكي لا نبقى في مجال اعلان المبادئ، يتجه تفكيرنا الى العمل الميداني من خلال بعض آليات الحوار الممكنة مثل:
- اعادة قراءة التاريخ وكتابته، التاريخ الانساني والتاريخ العربي، لتخليصه من الافكار المسبقة والنمذجة والتعصب.
- مراجعة الكتب المستخدمة في التعليم الديني في جميع انحاء العالم العربي، وفي جميع الاديان والمذاهب، وتنقيتها مما يتناقض مع مبادئ التسامح ويبرر العنف والكره.
وقد يكون في تعرف الجميع على أديان الجميع، توجهٌ الى التوعية على القيم المشتركة بين الأديان، ومقاربة جديدة للتعليم الديني، وللإيمان، ولتاريخ الاديان، الى تخليص صورة الآخر من العدائية والإقصاء، ومن الدونية والإلغاء.
- تحويل التربية في المدارس من تلقين المعلومات والمهارات، الى تكوين المواطن المسؤول والمتسامح، من خلال المحتوى التعليمي والممارسات التربوية، المرتكزة على الحوار وعلى الديموقراطية.
- دور وسائل الاعلام في اتقاء التبسيط البدائي والشعبوي للدين ولمفاهيمه، وفي ادراك مسؤوليتها عن صياغة ذهن محاور وفكر متسامح.
* أجزاء من مساهمة د. كلاب في ندوة "الاسلام والسلام".

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك