الأديب وصناعة الحياة
مهمة الأديب في المجتمع مهمة عظيمة، ومن خلال مهمته تنجلي مهمة الأدب التي هي جزء من وظيفة الفن في البناء الحضاري. إن النظرة الضيقة التي تظن بأن الاهتمام بالفنون أمر ثانوي ينبغي تأجيله إلى ما بعد بناء الأسس والركائز نظرة قاصرة، بل هناك من يرى إلغاء النظر فيها بالمرة نظرًا لعدم أهميتها في الحياة والمجتمع. تحتم شمولية الرؤية باعتبارها ركنا من أركان التصور الإسلامي ومقوماته، أخذ جميع مناحي الحياة المرتبطة بالإنسان بعين النظر، المنهج في ذلك هو آيات القرآن الحكيم وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. لأن الفراغ المتروك بسبب تأجيل النظر وتوفر الفراغ لذلك قد يملأه الغير، بما قد يفسد أمة بكاملها. الإبداع الأدبي والإبداع الفني بصفة عامة ركيزة من ركائز بناء الحضارة والإنسان، لأن الرؤية الطامحة إلى البناء وعمارة الأرض، والمتشوقة إلى ميراث الأرض الذي بشر به الخطاب القرآني في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(الأنبياء:105) لا مندوحة لها من أن يكون فيها للإبداع الفني والأدبي حيز لا يقل مجاله عن حيز أي مجال آخر من مجالات الحياة الإنسانية ونشاطها.
مجالات البناء متعددة بتعدد مجالات الحركة الإنسانية، ومتنوعة بتنوع مجالات الحياة، والأصل هو كل ما فيه مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة، وليس المجالات التي فيها مفسدة، فهذه يلزم محاصرتها بالحضور القوي لطاقات الفعل النافع وكثرته.
لقد مرّ على الفنون والآداب حينٌ من الزمن، رتعت فيه دون ضابط يضبطها ولا حدود تؤطرها، فأنتجت أنواعًا شتى من الفنون والآداب، هدمت ولم تبن، وربطت المقبل عليها بلا جدوى، وعملت جاهدة على إلغاء النظام والتوازن، ونشرت الفوضى ومختلف أنواع الرذيلة والسقوط الأخلاقي، وبسببها انهارت القيم، موظّفة في ذلك شعارات براقة تخلب الألباب وتسلب العقول، من قبيل الحرية المطلقة والتعبير عن الذات وتحقيقها. وقد تحقق لها ذلك في دائرة التركيز على الفرد باعتباره مركز العالم ومصدر كل شيء، انطلاقًا من كونه مادة خالصة أوجدتها الطبيعة.
وقد روجت بعض المذاهب الأدبية والفنية -وما تزال- لكل مقومات السقوط الأخلاقي، وتراجع القيم، وتزوير الحقائق الكونية، وإبراز الشر على أنه حقيقة إنسانية مطلقة، وأصلٌ في صلب فطرته، وليس على أنه ضعف ينبغي مقاومته، وإلغاؤه من حيز التصرف الإنساني. وتكاد تكون هذه الفكرة هي المحور الذي تدور حوله أغلب المذاهب الأدبية، مرة باسم “الرومانسية”، وأخرى باسم “الواقعية” أو “الطبيعية”، ومرة باسم “الوجودية” أو “الشخصانية”، وتارة باسم “السوريالية” أو “الدادائية”، وغيرها تتعدد الأسماء لكن المسمى واحد والمرمى واحد.
الأمل وابتغاء الحقيقة
وفي المقابل نجد نموذج الأدب الباني الذي تعود السمو لا النزول، وتعود الصعود لا السقوط وألف الأعالي، وتعود النظر إلى كل شيء نظرة الفاحص العارف بحقيقة المفحوص بحكم موقعه وسموه.
الأدب الباني ليس أدبًا “دونكشوطيًا” وبطله ليس “دونكشوط”، ولا ينبغي له ذلك، فهو لا يحارب الوهم ولا يركض وراءه، ولا يواجه طواحين الهواء، ولكنه بطل يعيش بالحقيقة ويعبر عن الحقيقة ويطمح إلى الحقيقة، وقد يتوسل بالوهم والتخيل (أو التخييل) في التعبير عما يريد الوصول إليه من الحقائق التي يبشر بها في دائرة الإبداع، لكنه لا يعبر إلا عن الحقيقة ولا يتحرك إلا من أجل الحقيقة.
الأدب الباني يتقدم عندما يتأخر الآخرون، ويبقى مسكونا بالأمل عندما ييأس الآخرون، شعلته دائمة التوقد لا تعرف الفتور، وهو دائم الجرأة لا يتخاذل وإن تخاذل الآخرون، وهو صوت العاجزين عن إيصال صوتهم، عندما يصمت الآخرون.
ومن هنا فالأديب الحق؛ مصباحٌ يستمد نوره من نور السماوات والأرض لينير حياة الآخرين ويملأها بالضياء، بل ينير ظلام حياتهم عندما ينجلي الزيف، لأن نوره يبدد الوهم، ولأن ضياءه لا يزول ما دام يستمد من مصدر لا نهاية لنوره؛ إذ هو نور السماوات والأرض… فهذا النور الذي يستمد منه الأديب الحق طاقته، يستمر مشرقًا يغطي كل الأنوار الأخرى، على فرض أن هناك أنوارًا أخرى.
الأديب الحق، يؤثر الاحتراق من أجل ضياء الآخرين وإن كانت به خصاصة، لأنه يعرف أن مَن يوق شح نفسه فقد فاز فوزًا عظيمًا. فالأدب الحقيقي، إذا غابت عنه الحرقة غاب عنه النور وغاب عنه التأثير.
الأدب الباني ينشر الانشراح الروحي، وينشر الطمأنينة في القلوب وفي النفوس. ومن شأن ذلك جعل أفراد المجتمع غير منزعجين مما يتواصلون معه من أدب وفن، الأمر الذي يوفر الجهد ويمكن من صرفه في مجالات أخرى مختلفة تعود بالنفع على الإنسان والإنسانية… وكم من طاقة ظلت مكتوفة غير مستغلة بسبب عدم الوعي بالأسلوب الأمثل لتوظيف طاقاتها، بعبارة أخرى عندما يتوحد المنهج، لا تهدر الطاقات في البحث عن أنجع سبل التناول، كما أن الطاقات الكامنة لا تتيه أثناء رحلة البحث عن الذات، ولا تسقط في شرك الشيطان في رحلة استيعاب المنهج.
الأديب الحق، مركز جذب هو وإبداعه، لكل واحد منهما جاذبية خاصة؛ الأديب بتميزه الفكري والأخلاقي والرؤيوي، والإبداع والفن بما يتوفر عليه من مقومات التأثير الإيجابي. فهذه الجاذبية القوية تجذب العقول والأفهام، وتخلب الأرواح والوجدان، لأنها نذرت طاقتها من أجل الآخرين.
يتألم الأديب الحق ويئن ويبكي ويتطلع ويطمح، ويعبر عن دقائق الأشياء بحرقة وشوق، ولا يستهين بشيء، فكل ما في الحياة مهم ويتوجب التفاعل معه بالقوالب الفنية اللازمة، بل لا يتوانى عن إعادة صياغتها بما يتلاءم ومهمته الجليلة.
أطول فترات المخاض هو مخاض الأديب، وهو أطول عند الأديب المسؤول الذي يعي حقيقة مهمته والدور الذي أنيط به. فهو يعيش المخاض الطويل من أجل ميلاد كامل ومتكامل؛ إذ لا يرضى بأنصاف الأشياء ولا يرضى بالتافه، لأنه مسؤول مهمة كبيرة، ولأنه تعلم قول الرسول الرسول صلى الله عليه وسلم: “رحم الله عبدًا عمِل عمَلا فأتقنه” (رواه البيهقي)، وهو إلى جانب ذلك صاحب همّة عالية لا يرضى بأنصاف القصائد والأعمال الإبداعية. فهو دائم الحلم بالنص الكامل من أجل الآخرين؛ إذ هو كالشمعة تذوب وتحترق من أجل إنارة عالم الآخرين، وليس في ذلك موتًا لهذا الأديب، بل -على العكس من ذلك- فحياته مرتبط بما يحققه للآخرين من إضاءة لقلوبهم وعالمهم وأرواحهم، وحياته تستمر بمقدار ما يحييه من القلوب والأرواح والنفوس… وهو في كل ذلك لا ينتظر الأجر من أحد سوى من الله سبحانه وتعالى.
التحلّي بالهوية الذاتية
والأدب الباني ليس ردة فعل ولا ينبغي له ذلك، قد يتبنى قضايا الطبقات المنهوكة والمهمشة والمظلومة باعتبارها قضايا إنسانية، كما قد يتبنى قضايا الطبقات الأخرى ولا فرق لديه. فهو لا يسجن في سجن الأيدلوجيات، ولا يضع نفسه في مقابل التيارات الأدبية أو الفكرية وغيرها من أجل الإلغاء، بل يقدم رؤيته بصدق وأمانة، شعاره في ذلك المصلحة الإنسانية.
الأديب الحق متجدد الروح والنفس، هذا ما يحرك دواليب الإبداع في روحه وقلبه، لأن الأديب الذي لا يملك القدرة على إعادة إحياء روحه بالمعنى المعنوي، مستدعيًا كل الشروط الواقعية والتاريخية أديب جامد لا قدرة له على التأثير في محيطه، ولأن الأديب بما وهبه الله من قدرات يختلف بها عن باقي الناس ،ينظر إلى الأشياء والمحيط والوجود نظرة مختلفة، وإذا لم يكن قادرًا على نقل تفاعله مع الوجود وخالق الوجود بأدوات توصل المراد بيسر وسرعة، فقد قصر عن مهمته. ومن هنا فإن مسؤولية الأديب عظيمة جدًا، لأنه مطالب بإعادة النظر في أدوات تعبيره كلما دعت الحاجة إلى ذلك. إذ يستحيل عليه أن يؤثر وأدواته عتيقة، ولا ينبغي فهم هذا على أنه دعوة لرفض القديم، بل إن القديم أصل للجديد، لكن المقصود هو الأشكال والأساليب التي من خلالها يتم تقديم القديم وصبه فيه.
الشاعر نبض المجتمع
كان الناس في القديم يعتقدون بأن الأدباء والشعراء أفراد غير عاديين، لأنهم يملكون القدرة على التواصل مع قوى غائبة وربطوا ذلك بالآلهة والجن وغيرهما، وكان الشاعر في اعتقادهم وسيطًا بين الآلهة وعموم الناس. وكان الناس يظنون أن الشعراء كالأنبياء، ولهذا -كذلك- عمد كفار قريش إلى التشكيك في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا إنما هو شاعر قبل ترك ذلك عندما ظهر لهم سذاجة ادعائهم. وهذا أبو زيد القرشي في كتابة المشهور “جمهرة أشعار العرب” يتكلم عن شياطين فحول الشعراء ويذكر أسماء بعضهم من زاوية تفسير ظاهرة الإلهام والموهبة. يكشف هذا كله عن نظرة المجتمع إلى الشاعر والأديب. فهؤلاء بالنسبة للمجمع أناس غير عاديين يستحقون التقدير والاحترام أو العكس، أي يستحقون النبذ والإبعاد والعيش على هامش المجتمع. وتذكر مصادر تاريخ الأدب العربي كيف كانت القبائل العربية تحتفل بنبوغ الشاعر فيها وتولم الولائم، وكيف يرتفع شأنها بين القبائل ويصير لرؤيتها قيمة بين القبائل، وهي تدرك هذه المرتبة من خلال إقدام الشاعر الأديب على صياغة موقفها بأسلوب فني رائق يؤثر في النفوس ويقنع العقول. وكم من شاعر تسبب في قيام حرب ضروس، وكم من شاعر تمكّن من إخماد حرب دامت عقودًا، ومعلقة الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى خير دليل على ذلك. ألم تقم هذه القصيدة الرائعة والزاخرة بقيم النبل الإنساني الرفيع بتخليد قيم السلم ورأب الصدع بين بعض مكونات المجتمع العربي في الجاهلية؟! وقد عرف المجتمع الجاهلي صنفًا من الشعراء رفضوا قيم المجتمع فانعزلوا، أو إن المجتمع عزلهم، لأنهم نغمة نشاز تعزف إيقاعًا غير إيقاع المجتمع، والحال أن الأديب مطالَب بأن يكون نبضه من نبض مجتمعه وإيقاعه؛ هو إيقاع المجتمع.
الفائدة الجمة هي أن ينخرط الأديب في المجتمع فيكون نبضه هو نبض المجتمع، وليس معنى هذا أن يجامل الأديب الأصوات الشاذة في المجتمع باعتبارها جزءًا منه، بل هو مطالَب بالانحياز إلى الحق، ومطالَب بأن يكون الضمير الحي المتيقظ القادر على رصد كل مظاهر الانحراف، والتنبيه على ذلك. والأديب بما يملكه من قدرة على النفاذ إلى عمق الأشياء وفهمها على حقيقتها، فالله سبحانه وتعالى منح الأديب نعمة لم تمنح لغيره من الناس فميزه عليهم، ولذلك فهو ملزم بإحسان توظيف النعمة.