غائيّة المهن والمعنى الأصلي لمفهوم النّحو العربي
علي الشدوي
سأورد هذه الحكاية، وسنعرف السّبب فيما بعد. وقف أعرابي على مجلس الأخفش، فسمع كلامهم في النّحو، فحار وعجب وأطرق ووسوس. فقال له الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب؟ فقال الأعرابي: أراكم تتكلّمون بكلامنا عن كلامنا بما ليس من كلامنا[1]
قبل أن نحلّل الحكاية من المناسب أن نتذكّر أنّ الحاجة إلى تركيب نظري (النّحو) نشأت بسبب نمو المجتمع العربيّ الإسلاميّ وتطوّره؛ حيث استجاب رجال معينون كأبي الأسود الدؤلي لتطور المجتمع العربيّ ونموه، ورسموا لأوّل مرّة مشروعا جديدا هو (النّحو) وجعلوا من تحقيق هذا المشروع مهنة حياتهم؛ أي أنّهم امتهنوا النّحو وخصّصوا له وقتا كما هو الأمر مع أي مهنة أخرى.
قبل الإسلام لم يتوفّر ما يحمل العرب على النّظر إلى (النّحو) لأنّهم في غنى عن أن يعرفوا النّحو؛ فقد ” كانوا ينطقون عن سليقة جبلوا عليها، فيتكلّمون في شؤون حياتهم من دون تعمل فكر، أو رعاية إلى قانون كلامي يخضعون له، قانونهم ملكتهم الّتي خلقت فيهم، ومعلمهم البيئة المحيطة بهم [2] ” . ماذا يعني هذا للأعرابي الّذي حضر مجلس الأخفش النحوي؟ يعني أن الأعرابي يقف خارج العلم؛ أي في الحياة قبل العلميّة (دون تعمّل فكر أو رعاية إلى قانون كلامي)، ولا يوجد في محيطه أشخاص يمتهنون النّحو (غنيون عن تعرّفه)، ولا وجود لتقاليد علمية نحويّة منحدرة من أشخاص نحويين يؤثّرون فيه (معلمهم البيئة المحيطة بهم). ينتمي الأعرابي إلى مجتمع قيل علمي (قانونهم ملكتهم التي خلقت لهم) تشترك في صورة المجتمع، وفي نمطية وضعياته المألوفة كلّ الذّوات الفرديّة لجماعة النّحن؛ أي نحن عائلتنا، نحن فخذنا، نحن قبيلتنا، نحن العرب [3].
في المقابل يقف الأخفش داخل العلم، وفي الحياة العلميّة، وفي تقاليد علميّة منحدرة من علماء أثروا فيه. فأن يكون الأخفش عالما من علماء الطبقة الخامسة في تاريخ النّحاة فذلك يعني أنّه ينتمي إلى جماعة علمية تتشكّل من مجموع الفاعلين فيها، وأن يكون منتسبا إلى جماعة علميّة فذلك يعني أن يُدمج وأن يُخضع لموضوع مراقبة اجتماعية[4] . والخلاصة ” أن الامتثال لانتظارات الزمرة وتوقعاتها ليس ثمرة رغبة الأفراد وحدها: إنّه نتاج مران على دور اجتماعي يسبق دخولنا الحياة المهنية، ونتاج ضبط مستمر (دوزنة) لأبناء المؤسّسة العلميّة بواسطة أنفسهم[5] ” .
يستحقّ مفهوم ” الحياة المهنيّة ” أن أتوقف عنده لأسأل: لماذا لا نعتبر النّحو مهنة من المهن الّتي تنشأ بين مرحلة تاريخيّة وأخرى؟ إن كوْن كتاب سيبويه خرج إلى النّاس بسبب التكسُّب ما يشير إلى مهنة. فقد رُوى أن الجرمي والمازني تشاورا على أن يحيلا بين أستاذهما الأخفش وبين كتاب سيبويه الّذي ضنّ به بترغيبه في المال؛ إذ كان الجرمي ثريا فقرآه عليه [6].
لكلّ مهنة مهمة تخصها. لا يتعلق الأمر بمهمة يؤديها أفراد، إنّما بمهمة مترابطة في حياة اجتماعيّة، وعبر سلسلة من الأجيال والأزمنة التاريخيّة. في البداية يعي شخص ما فكرة في شكل تخمين، أو في شعور. قد تكون فكرته هو، وقد تكون فكرة آخرين تبناها واعتبرها فكرته. إنّ مجرّد كونها فكرة إلى الآن؛ أي فكرة أولية أو مشروع أولي فهي لا تعطي أهدافا؛ لأنّ الهدف يضعه (الأنا) في فعل (أنا أريد) في (على هذا الهدف أن يتحقق)، وبفضل الإرادة (أنا أريد) تصبح الفكرة قصدا جديا [7]. لقد وضع الدؤلي هدفا لنفسه هدفا (أنا أريد) وأصبح أسير هدفه (على هذا الهدف أن يتحقق) وبفضل إرادته (أنا أريد) أصبحت الفكرة قصدا جديا كرس له جهده ووقته.
كيف أفهم أصل التقابل بين الأعرابي والأخفش في الحكاية؟ كيف أفهم التقابل بين الحياة قبل العلميّة والحياة العلمية في العالم؟ من المعروف الآن أنّ اللّغة العربيّة ” لم تؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم لسائر الأمم[8]. وقد أُخرج بسبب هذا قبائل كثيرة وبقي القليل من القبائل التي ينتسب إليها الأعراب الّذين امتهنوا في عصر التّدوين نقل اللغة وبيعها إلى اللّغويين الأوائل. إن مهنة الأعرابي هذه مثلها مثل أي مهنة أخرى في العالم، لها مهام قابلة لأن تُحقق، وقد حُققت من قبل عندما حدث التّحول الأول الّذي أنجزه أعرابي مجهول خطرت على باله فكرة موفّقة، ومنذ ذلك الحين أصبح السبيل سالكا لأعراب آخرين، ومثل كل المحاولات الأولى لم تصل إلينا قصة التّحول في نمط تفكير ذلك الأعرابي الّذي أُعتبر فيما بعد ” طريق العلم الآمن [9]” . توارث الأعراب هذه المهمة، وتوارثوا معها الكيفية الّتي يحققون بها مهمتهم؛ أي الممارسة المتهجية للتنفيذ. ” ذلك أنّ ” تدشين المهن المعتادة يعني في الحقيقة مسبقا توارث ابتكار، تمّ القيام به سابقا وحالفه التوفيق، عبر الأزمان في منهج يمكن تكراره كما نشاء. هكذا تنشأ في كل مهنة دائما من جديد منتجات غائية يمكن التعرف عليها باشتراك بين الذّوات، وبذلك تندرج دائما من جديد في عالمنا المحيط. هكذا توجد فيه الآن موضوعات نافعة تنتمي حسب نوعها للمهن المختلفة المعهودة: أحذية، ألبسة، منازل، ….. إلخ [10]“. كلُّ اهتمامٍ له وقته؛ أي حين يفعّل أحد ما اهتمامه، ويمارسه فعليا فإنه يعلق في الوقت ذاته اهتماماته الأخرى من غير أن يغيّبها تماما، إنما تكون موجودة؛ أي أن الأعرابي الّذي ينقل اللغة ومعه الأخفش الّذي يتحدّث بها وعنها يعلقان اهتماماتهما الأخرى (مثلا كونهما أبوين، يعولان أسرتين، ويربيان أطفالا، ويصرفان عليهم … إلخ)، وهكذا يمكن أن القول إنّه حان وقت الذي ينقل فيه الأعرابي اللّغة، والآن حان وقت الأخفش لكي يتحدّث عن اللّغة باللّغة بما ليس في اللّغة.
يتوفّر كل ُّ شيء من وجهة النّظر هذه على وقته داخل الوقت الشخصي للأعرابي والوقت الشخصي للأخفش، ويتوفّر كلُّ شيء في الأوقات المهنية الأخرى الّتي تفرض نفسها عليهما كأن يكونا مواطنيْن عربيين ومنتمين إلى مجتمع عربي ولهما فيه أدوارهما الاجتماعية، غير أنّ هذا كلّه لا يمنع بقاء مهنتيهما قائمتين؛ فالطبيعي هو ألا يغير اهتمامهما بأسرتيهما مثلا من اهتمامهما بمهنتيهما الّتي تستمر موجودة، وكذلك تستمر مع وجودها صلاحيتها.
ألا تشبه اللّغة الّتي ينقلها الأعرابي الموضوعات النافعة للمهن المختلفة؟ أي: ألا تشبه موضوعات الأعرابي عند النّحوي الموضوعات النّافعة عند الإسكافي والخياط؟ أليس الأمر بالنسبة لمهمّة النّحوي أو النحو مخالفا لمهمّة الأعرابيّ بكيفيّة حاسمة؟ إنّ مهمّة النّحو، أو مهنة النّحوي تتميّز عن مهنة نقل اللّغة وروايتها أو مهنة الأعرابي، بل أكثر من ذلك أنّها مهنة لا تندرج ببساطة في المهن كما يدل على ذلك الحديث المتداول الّذي يقابل بين النظريّة والممارسة. وبالعودة إلى الأخفش يكمن المعنى التّحليلي لمهمّة النّحو ومهنة النحوي في إنشاء معرفة تقابل معرفة أخرى كما هي معرفة الأعرابي القائمة في حياته قبل العلمية وغير العلميّة في العالم.
يختلف الكلام الّذي تتكلّم به جماعة علمية (مجلس الأخفش) اختلافا نوعيا عن الكلام الّذي يستخدم في الحياة اليوميّة (الأعرابي الذين ينقل اللغة كما سمعها في الحياة اليوميّة) ذلك أنّ كلام الجماعة العلميّة يبتعد عن خبرة الحياة اليوميّة. ويعود السبب إلى أنّ الجماعة العلميّة تستخدم المصطلحات والمفاهيم المجرّدة، وتعرّف المعاني بطرق ” فنيّة ” تنتمي إلى العلم. لم يفهم الأعرابي الكلام الّذي سمعه؛ لأنّه يقف خارج الجماعة العلمية التي يُستعمل فيها الكلام على نحو علمي؛ ذلك أنّ مرجعيّة الكلام عند الأعرابي هي خبرة الحياة اليوميّة، بينما مرجعيته عند الأخفش خبرة الجماعة العلميّة.
يحضر الأعرابي في مستوى الشواهد الّتي ليست هي النّحو؛ إنّما هي من جنس الأشياء النافعة الّتي تُحضر إلى الإسكافي أو النجار أو البناء. الشواهد الّتي نقلها الأعرابي ليست النّحو إنّما هي عظام النّحو مثلما أن الجلد هو عظام الحذاء، والصوف هو عظام الثوب، والحجر هو عظام البيت.
تختلف مهنة الأعرابي عن مهنة النحوي مثلما تختلف مهنة الدبّاغ عن مهنة الإسكافي ومهنة الصوّاف عن مهنة الخياط ومهنة من يقتلع الحصى ويشذبها عن مهنة البناء. وهكذا تختلف مهنة النّحوي عن مهنة الأعرابي الّذي عبر عن الاختلاف بقوله: يتحدّثون بكلامنا عن كلامنا بما ليس من كلامنا “. بالفعل هذه هي مهنة النّحوي مثلما جسدها أبي الأسود الدؤلي.
*******
[1] – الحكاية مشهورة وردت في أغلب المصادر القديمة ، انظر مثلا : إنباه الرواة على أنباء النحاة جـ2/42.
[2] – الطنطاوي، محمد، نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة، مرجع سابق، ص 12 .
[3] – إنني هنا أحذو حذو هوسرل وهو يتحدث عن صور الحياة المترابطة تناسليا والمنتمية لوجود البشرية . يقول : نحن عائلتنا، نحن قبيلتنا، نحن الألمانيون المنتمون إلى إحدى القبائل الجرمانية ، نحن شعبنا، نحن الألمان . انظر: هوسرل، إدموند، أزمة العلوم الأوربية والفنومينولوجيا الترنسندنتالية، ص 589 .
[4] – انظر التحليل الرائع في : فوكو، ميشيل، جينالوجيا المعرفة، ترجمة: أحمد السطاتي، وعبد السلام بنعبدالعالي، الطبعة الثانية، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2008، ص ص 17-21 .
[5] – دبوا، ميشال، مدخل إلى علم اجتماع العلوم، ترجمة: سعود الموسى، الطبعة الأولى، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008، ص 113 .
[6] – الطنطاوي، محمد، تاريخ النحاة وتاريخ أشهر النحاة، مرجع سابق، ص 88 .
[7] – أنا هنا أعيد صياغة الفقرة التي أوردها هوسرل . من قوله ” لكل مهنة مهمة خاصة بها. لا يتعلق الأمر بمهمة يضطلع بها أناس منفردون، بل بمهمة مترابطة ( … ) إلى ” يصبح المشروع الأولي قصدا جديا ” . انظر : هوسرل، إدموند، أزمة العلوم الأوربية والفنومينولوجيا الترنسندنتالية . مصدر سابق، ص 564 .
[8] – السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، شرحه وضبطه وعنون موضوعاته وعلق حواشيه: محمد أحمد جاد المولى، وعلي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، د. ط . بيروت، دار الجيل، ودار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، مجـ1/212 .
[9] – درب العلم الآمن، الطريق الملكية، هما التعبيران اللذان استخدمهما كانط لطريقة الرياضة والعلوم الطبيعية. انظر، كنط، عمانوئيل، نقد العقل المحض، ترجمة: موسى وهبة، الطبعة الأولى، بيروت، مركز الإنماء القومي، ص 32 .
[10] – هوسرل، إدموند، أزمة العلوم الأوربية والفنومينولوجيا الترنسندنتالية . مصدر سابق.