الدّعاة الجدد وإشكالية تجديد الخطاب الديني
في عمل بحثي لنا صادر منذ مدة عن الفضائيات الدينية، أفردنا مبحثا عن طبيعة الخطاب الديني الذي يقدمه الدعاة الجدد، على اختلاف أعمارهم ومشاربهم، وتلاوين المواد التي يعرضونها. وقد تبين لنا من المتابعة الدقيقة لما يعرضونه بهذه القنوات، أن القاعدة الناظمة لذات الخطاب إنما تتمثل البعد، كل البعد، عن السياسة وأمور الشأن العام، و"التركيز على فكرة الإيمان والخلاص الفردي، وعلاقة الفرد بنفسه وبالآخرين، مع الابتعاد عن لهجة الزجر والترهيب والتخويف، أو الاحتجاج على الحاكم".
خطاب الدعاة الجدد لم يراهن يوما على التصادم مع السلطة، بل كان ولا يزال يدعو إلى إرجاع الأمور إلى مسألة الابتلاء والقضاء والقدر
وتبين لنا أيضا، أن خطاب الدعاة الجدد لم يراهن يوما على التصادم مع السلطة (وعلى أولي الأمر ضمنها)، أو على الدعوة إلى رفع السلاح في وجهها، بل كان ولا يزال يدعو دائما إلى "الصبر" والاحتكام إلى "الدعاء" وإرجاع الأمور إلى مسألة الابتلاء والقضاء والقدر. لذلك، فعندما انفجرت انتفاضة الأقصى في فلسطين، أواسط ثمانينيات القرن الماضي، "صدم عمرو خالد بعض جماهيره حين أعلن رفضه للمظاهرات، وقال إنه يفضل استخدام سلاح الدعاء...خاصة الدعاء في أوقات السحر...إن القدس لن تتحرر إلا بعد أن يغالب كل واحد من المسلمين شيطان نفسه...ويمتنع الشباب عن السلوكيات الخاطئة...: طهر نفسك تتحرر القدس"، لا بل إن عمرو خالد يؤكد أن "القدس لن تتحرر إلا عندما يصبح عدد من يصلون الفجر في المسجد مساويا لعدد من يصلون الجمعة"... لا سبيل هنا للجهاد أو المقاومة إلا سبيل "محاسبة النفس" والتعامل مع القضايا من موقع نفسي وروحي خالص.
وتبين لنا، فضلا عن ذلك، أن مجمل خطاب الدعاة الجدد، إنما هو خطاب موجه لشرائح راقية من المجتمع (رجال أعمال وموظفون سامون وأثرياء وفنانون)، وعليه، فهو مطالب بأن يحمل لكل هؤلاء وصفة جاهزة وعلى المقاس، عن مباهج الحياة الدنيا وعن رغد العيش. إنه موجه لشريحة من الناس على استعداد وتتوفر لديهم القابلية، لقبول تدين يضيف إليهم ولا يخصم منهم، يمنحهم ولا يحرمهم. إنهم يريدون تدينا لهم لا عليهم...يريدون تدينا "يفرج عنهم"، لا دينا "يكدر عليهم الأجواء".
من الطبيعي جدا هنا أن "يختفي الزهد ككتاب وكقيمة، وتظهر عشرات القصص عن أثرياء الصحابة، الذين أفادوا الدعوة بأموالهم كما لم يفعل أحد. وتظهر أخرى عن أناقة التابعين وطيب ملبسهم ومشربهم، وكيف أن طيب حال دنياهم لم يمنعهم من الانشغال بآخرتهم".
ولذلك، فإن نقطة قوة خطاب الدعاة الجدد باللقاءات المباشرة (صالونات راقية ومجالس مع علية القوم ولقاءات مع جمهور من خاصية معينة) أو من خلال برامج الفضائيات، إنما تتمثل في التركيز على تقديم "منتوج ديني" عصري، بمواصفات معينة وأدوات خطاب مركزة: إيمان يدافع عن الأمن الروحي الداخلي، موجه لتقييم الأحاسيس، يرفض تقديم إله ملازم للعقاب لفائدة "إله ناعم"، يعبر عن الحب والرحمة والمغفرة وغسل الذنوب.
إنه منتوج تتمظهر فيه بقوة الذاتية، والتطوير الذاتي، وترقيق القلوب، وتهذيب السلوك، وحسن التعامل، وتحقيق السعادة والنجاح، والابتعاد عن مكدّرات الدنيا أو إكراهاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
بالتالي، فإن ابتعاد الدعاة الجدد عن السياسة وقضايا الشأن العام الجاري، إنما دفع بهم بجهة توجيه كل جهدهم على قضايا الشأن الخاص، على اعتبار من لدنهم واعتقاد بأن إصلاح الفرد يصب صوبا وبالضرورة في خانة إصلاح المجتمع. ولهذا السبب، نراهم يركزون على الوصفات الوعظية والإرشادية الموجهة للشباب، مثلا "حول كيفية تحقيق النجاح في العمل، كيفية الصعود والترقي، كيف يطورون قدراتهم، كيف ينمون مهاراتهم، كيف يستمتعون بحياتهم، كيف يسعدون في الدنيا والآخرة، كيف يرضون والديهم، كيف يجددون حياتهم، كيف يخططون، كيف يفكرون بطريقة مختلفة، كيف يحققون نجاحا في الحياة الزوجية، كيف يرفعون درجتهم في الجنة"، وغيرها من الموضوعات المتعلقة بتنمية الطاقات الفردية الكامنة في الإنسان...بعيدا كل البعد عن قضايا الاجتماع البشري أو ضغوطاته.
يجب أن نلاحظ هنا أن الداعية هو مركز العملية برمتها، سواء بالصالونات أو باللقاءات المغلقة أو من على استوديوهات الفضائيات أو من خلال الحوامل الأخرى، كتبا كانت أو أشرطة مسجلة أو أقراصا مدمجة، إذ لا نجد بجانبه مقدما أو ضيفا أو معلقا، بل خطابا مهيكلا، قائما، ذا طابع ديداكتيكي، نقطة قوته أنه يراهن على ترويج القيم الإسلامية، لكن في بعدها السمح والمسالم، البعيد عن المزايدة، الخالي من عبارات العنف، والممتنع عن كل عبارات التشدد والغلو والتحامل على الآخر.
بالمقابل، فقد نجد داعية آخر، هو أيضا مركز العملية برمتها، يقدم مادته وفق مواصفات إخراج مختلفة، إذ يخاطب جمهورا موحدا، متجانسا، بناء على مادة دينية محددة، لكنه يمنحه إمكانات التفاعل معه، من خلال التعليق أو طرح الأسئلة أو مناقشة بعض التفاصيل، وهو حال عمرو خالد مثلا، الذي يشجع "جمهوره" على التعبير عن تجاربه الحياتية، عن مشاكله النفسية وعما يدور في خلده. خاصية التفاعلية هنا أساسية لأنها تعطي الداعية سبل قياس درجات تركيز الجمهور، واستلطافه للخطاب المقدم.
يقول عمرو خالد في البدايات الأولى لبرنامجه "كلام من القلب": "إننا نلتقي هنا ليس للاستعراض أو للتقييم على الشاشة. إننا جئنا هنا لنحكي مشاعرنا، ونعبر عن انطباعات الناس الذين يحبون الله ويحبهم الله". إن الله، بمنطوق عمرو خالد، هو حب، هو نداء الحب، هو تطلع للغفران وللتوبة، هو تنقية النفس، والتكفير عما صدر أو يصدر عنا.
يبدو، بالبناء على ما سبق، أن الدعاة الجدد، إنما يعمدون إلى اختيار مواضيعهم بدقة متناهية، لا بل إنهم يراهنون على أن تكون جذابة ومشوقة لاستقطاب أكبر عدد من المتابعين والمشاهدين. لذلك، نرى أن كل المواضيع المثارة غالبا ما "تركز على التبشير بالرحمة والمغفرة، وليس التخويف؛ وذلك لأنهم ليسوا من المتخصصين في الفقه...إن لديهم هدفا عاما وهو التأثير في حياة الناس؛ أي تغيير حياة الأفراد، ثم تغيير المجتمع من أسفل، على طريقة ما يسمى بالانقلاب السلمي في المجتمع. أو بمعنى آخر، هو تدين النخب المؤثرة في مجتمعاتها من دون تغييرها هي نفسها، وهو ما يمكن تسميته بالأسلمة من الأسفل، أو الانقلاب الناعم، خاصة بعد انحسار دور التيارات والتنظيمات الدينية العنيفة، مثل جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر"، والتي تدعو إلى التضحية بالدنيا مقابل مكسب الآخرة.
يقول عمرو خالد بخصوص هذه الجزئية: "إني أريد أن أكون غنيا لينظر إلي الناس ويقولون: انظروا رجل دين غني. إنهم سيحبون الله من خلال ثروتي. إني أريد أن أحصل على المال وعلى اللباس الجميل، لتحبيب الناس في ديانة الله...إني أريد أن أكون غنيا لاستعمال مالي في سبيل الله، ولأعيش حياة كريمة".
الغنى، بنظر عمرو خالد، هو تعبير عن رضا إلهي حقيقي، و"عندما ترى الظروف الاقتصادية السيئة التي يعيشها الناس، فاعلم أن ثمة ذنبا مرتكبا. ترتكب معصية، فيحرمك الله من الدخل" ...هكذا توضع جانبا كل أشكال التدافع الإنساني، ويركن للخلف كل تصور مبني على توزيع الثروة أو هيمنة البعض على أرزاق البعض الآخر.
في المقابل، فإن المتتبع لخطاب عمرو خالد، بالصالونات أو بالفضائيات (ولغيره من الدعاة الجدد الآخرين)، يلاحظ تركيزهم على ضرورة بذل الجهد، وإعمال الصبر والالتزام بالوقت: "إن الصبر لا يتعلق فقط بالالتزامات الدينية، بل يتعلق أيضا بالأنشطة الاجتماعية... إن الصبر لا يجب أن يعني اللامبالاة، بل التصميم على العمل والاستعمال الجيد للوقت، مقابل تضييعه في المتعة غير المفيدة، أو المبالغة في النوم...وأول عنصر لبناء حياة معقولة، هو ضرورة تحديد الأهداف وتسجيلها في مكان ما".
يزعم البعض بأن الدعاة الجدد إنما هم حداثيون بامتياز في طبيعة خطابهم، لكنهم لا يتوفرون على مشروع حداثي
ثم إن على الفرد، يتابع هؤلاء، أن يكون متشبعا بقيم الإنتاج: "منتج في المساعدة التي تقدمها لأصدقائك، منتج في إنجاز مشاريعك، منتج في تطوير المجتمع"، وهكذا.
ليس ثمة من شك إذن في أن العملية، إنما تروم أسلمة الناس من الأسفل، ليس فقط لأنها تشتغل على قيم بسيطة بمقدور المستمع فهمها دون صعوبة، ولكن أيضا لأن صيغ التدين الجديدة، إنما تراهن على تأسيس تضامنات دينية خارج الأطر التقليدية، التي كانت سائدة إلى حدود تسعينيات القرن الماضي، ولا يزال جزء منها يشتغل ببعض دول الخليج.
ثم هي أسلمة من الأعلى أيضا، لأنها موجهة (بالنوادي وبالصالونات تحديدا، أكثر ما بالفضائيات الدينية) لنخبة من رجال ونساء الأعمال، الذين يبحثون عن شرعنة دينية لمناخ الحداثة التي يعيشونها أو يتفاعلون معها، أو يشتغلون في إطارها ووفق معاييرها.
ولذلك، يزعم البعض بأن الدعاة الجدد، إنما هم حداثيون بامتياز في طبيعة خطابهم، لكنهم لا يتوفرون على مشروع حداثي. إنهم (لربما) لا يتمثلون كنه الحداثة كما نراها في الغرب، لكنهم يمارسونها، أو لنقل يعرضون منتوجا دينيا يبدو لهم ضروريا لبلوغ الحداثة بهذا الشكل أو ذاك.
ثم إنهم لا يخفون رفضهم لخطاب الإسلام السياسي، ويفضلون عليه الأخلاق، لكن ليست الأخلاق التي تدفع بها المؤسسة الدينية، بل "أخلاق الطبقة وأصولها، أخلاق ابن العائلة الراقية"، الذي يتماهى مع حب الثروة والرفاه والسعادة الداخلية، والذي يجسد تدينه خارج إطار العائلة أو الطقوس التقليدية.
وهو أمر يسهل ملاحظته جليا في وسط النساء، حيث التوجه بجهة التخلص من العائلة الباترياركية السائدة، والبحث عن سبيل فردي للخلاص، من خلال الانفتاح على العمل والمطالبة بالاستقلالية الذاتية، والانتفاض على القيم التقليدية في الحب أو في الزواج أو في الاختلاط أو فيما سواها.
يبدو بالتالي، وبتتبع دقيق لخطاب هؤلاء، أن الأساس لديهم إنما هو الدعوة للاهتمام بالنفس، لترقيق السلوك، لضمان التوازن الداخلي، وليس العودة للغوص في أطروحات (من قبيل "الانطلاق من الشك لبلوغ اليقين") تنفر الناس وتتوزع في ظلها أهواؤهم ورؤاهم. إننا هنا، إنما بإزاء انتقال تدريجي للدعوة من العائلة والمسجد، لفائدة الصالون والفضائية، وهذا مؤشر على الانتقال التدريجي صوب حالة دينية جديدة...حداثة دينية جديدة...حداثة "ما بعد إسلامية"، وفق تعبير باتريك هايني.