بين عولمتين: عولمة الغرب وعولمة الإسلام، وعلى العاقل أن يختار

د. محمود عكام

 

القسم الأول : عولمة الغرب :



أولاً : تعريف العولمة : 

العولمة : من العالم ، على وزن " فوعلة " أو " فعللة " وهو رباعي مخترع . وتعولمنا : أي صرنا عالميين . والعالمية : اتحاد شعوب العالم في جميع أمورها على نحو واحد وهيئة واحدة بالجملة . ويغدو الانتماء للعالم كله بدلاً من الانتماء لدولة ، فهي باختصار : إعطاء الشيء صفة العالمية من حيث النطاق والتطبيق . 

وقد عرفت العولمة بأنها : الحركة الاجتماعية التي تتضمن انكماش البعدين الزماني والمكاني مما يجعل العالم يبدو صغيراً يحتم على البشر التقارب بعضهم من بعض . 

وهناك تعريف يقول : هي التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك ، دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة ، أو انتماء إلى وطن محدد لدولة معينة ، ودون حاجة إلى إجراءات حكومية . وهي باختصار : هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي وانتشاره في الصميم ، مضافاً إلى انتشاره في الظاهر . 

وبعبارة أخرى : هيمنة النمط الرأسمالي الأمريكي ، ليتلازم معنى العولمة في مضمار الإنتاج والتبادل المادي ، مع معنى الانتقال من المجال الوطني أو القومي إلى المجال العالمي وذلك ضمن مفهوم تعيين مكاني جغرافي وهو الفضاء الكوني برمَّته ، وتعيين زماني تاريخي وهو حقبة ما بعد الدولة القومية . 

وإن هذا المعنى يصب في عودة الهيمنة الغربية من جديد ، ولكنها تحمله على أجنحة المعلوماتية والعالم المفتوح ومدججة بالعلم والثقافة ، حتى وإن كانت غير إنسانية ، وهكذا خرج النظام الرأسمالي من واجهة المزاحمة والمنافسة الحرة إلى واجهة الاحتكار والهيمنة والاستعمار . 

ونؤكد هنا أمراً نستعجل ذكره فنقول : إن الرأسمالية والعولمة مخالفة للفطرة والعقلانية ، وسيكون مصيرها نتيجة لهذا نفس مصير الشيوعية والاشتراكية سقوطاً وزوالاً ، ولعل " عولمة الإسلام " الجادة الصحيحة هي المرشح البديل . 



ثانياً : جذور العولمة الغربية : 

ظهرت الليبرالية الجديدة بعد انتهاء الحرب الباردة وبعد سقوط الشيوعية وتفكك الاشتراكية وتفسخ اليمين التقليدي ، وكان ظهورها بثوب العولمة لتغزو كل الدول وتدعو إلى حرية انتقال رأس المال ، وإلغاء الحواجز الجمركية ، والإطاحة بالأنظمة لتعزيز حرية المبادلات التجارية ، بحيث أفرز نوعاً من التباعد بين النشاط المالي والنشاط الاقتصادي ، فمن أصل رأسمال قدره ألف وخمسمائة مليار دولار تدور في دوامة العمليات اليومية على الصعيد العالمي نجد أن هناك واحداً بالمائة فقط يخصص للبحث عن ثروات جديدة ، بينما يدوَّر الباقي في إطار المضاربات . ومعه تحول النظام الرأسمالي إلى نظام عالمي بقيادة أمريكا ، والسبب هو أن أمريكا واسعة من حيث الثروات وديموقراطية ولو بنسبة من حيث النظام ، وممتدة من حيث الجغرافية ، ووفيرة من حيث السكان ، وقد ابتدأت أمريكا بسلوك اتجاه فرض هيمنتها على العالم ، مع تعاظم القوة الاقتصادية للشركات المتعددة القوميات ، والتي مثلت سلطة هذه العولمة دون أن تعلن عن هويتها أو ولاءاتها . 

وكلنا يعلم ويذكر المظاهرات الاحتجاجية التي نظمت في " سياتل " عام ألفين ، بمناسبة اجتماع وزراء الدول الأعضاء في منظمة التجارة الدولية , وقد استطاع المتظاهرون احتجاز الرئيس الأمريكي " بيل كلينتون " في الفندق أربع ساعات ونصف , وبعد أن وصل إلى المؤتمر أشار في خطابه إلى أن الدول يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الشعارات التي نادى بها المتظاهرون , وقد سمعها بنفسه وكان منها : 

- " الرأسمالية وحش قاتل " . 

- " نطالب بقيم الإنسان , وليس بقيم ملاَّك الشركات الكبرى " . 

- " النظام الرأسمالي يدفع المواطنين إلى الانتحار " .

وكذلك جرى في " ما لبورن " باستراليا , إذ قامت مظاهرة مناهضة ومنددة إبان افتتاح " قمة آسيا المحيط الهادي للمنتدى الاقتصادي العالمي " , وكان من جملة ما رفعه المتظاهرون من شعارات : 

- " ناهضوا العولمة قبل أن يملكنا رجال الأعمال والمال " . 

وفي بيان وقعته / 1200/ منظمة من سبع وثمانين دولة جاء فيها : " إن منظمة التجارة العالمية في السنوات الخمس الأخيرة قد أسهمت بدور بارز في تركيز الثروة في أيدي أقلية من الأثرياء , جنباً إلى جنب مع تفشي الفقر لأغلبية سكان الأرض , ... إن الاتفاقات التي أبرمت في الأرغواي للتجارة قد استهدفت فتح أسواق جديدة لصالح المؤسسات متعددة الجنسيات , وعلى حساب الاقتصاد الوطني والعاملين الزراعيين " .



ثالثاً – أهداف العولمة الغربية : 

إن أهم أهداف العولمة الغربية : سيادة النظام الغربي , وهيمنة الأفكار الغربية وثقافتها , إذ أن جوهر وكُنه عملية العولمة يتمثل - وبصورة خاصة – في تسهيل حركة الناس وانتقال المعلومات والسلع والخدمات على النطاق العالمي . 

وتشمل الحركة والانتقال , إذاً , أموراً ستة : 

أ – رأس المال . 

ب – السلع . 

ج – الأفكار . 

د – الأفراد . 

هـ -الخدمات . 

و – المعلومات والمؤسسات الاقتصادية . 

وعلى هذا : فالعولمة الغربية تتجلى أكثر ما تتجلى في مجالين أساسيين هما : المجال الاقتصادي والمجال السياسي . وقد تداخل المجالان وتبدًّيا من خلال : 

أ – الإقبال المتنامي على التكتل الاقتصادي . 

ب – تعاظم دور الشركات متعددة الجنسيات وتنامي أرباحها . 

ج – إثارة المشكلات الاقتصادية وتدويلها : كالفقر والأمية والتلوث . 

د – تزايد دور التقنيات والتغييرات السريعة في أسلوب الإنتاج ونوعيته . 

هـ - شيوع ظاهرة القرية العالمية والأسرة الواحدة , وكثرة الاحتكاك بين الشعوب . 

و – تقدم وسائل الإعلام وتطورها , وتأثيرها الكبير على حياة الإنسان , وتشابك الثقافات وتداخلها . 

ولا يخفى بعد هذا : أن العولمة أضحت تعني " الأمركة " والأمركة تعني السيطرة والهيمنة والتحكم والتلاعب بالسياسة والاقتصاد في مختلف البلاد والعباد , بل قد أخذت تمتد وتمتد لتطال ثقافات الشعوب , وتنال من الهويات الوطنية والقومية , وطفقت تسعى جادة لتعميم نمط من السلوك والأخلاق والآداب وأساليب العيش والتدبير , والأمر في حقيقته احتلال للعقل وللتفكير , وتسييرهما بعد الاحتلال وفق أهداف المحتل ومصالحه الشخصية , وقد أشار الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب إلى ذلك وأكد عليه حين قال في أجواء الاحتفال بالنصر في حرب الخليج الثانية : " إن القرن القادم سيشهد انتصار القيم الأمريكية وأنماط العيش والسلوك الأمريكي " . 



رابعاً : أدوات العولمة الغربية : 

1- الشركات متعددة الجنسيات : إن الشركات تعد اليوم من أهم الأدوات التي تستخدمها الرأسمالية الغربية ، ولا سيما الأمريكية ، وذلك للعوامل التالية : 

أ – الشيوع الواسع والانتشار السريع ، ولقد بلغ عدد الشركات متعددة الجنسيات ما يقرب من أربعين ألف شركة ، يطال نشاطها القارات الخمس والمحيطات الست . 

ب- نهوض تلك الشركات بمهمة تدويل المنتجات والخدمات والتجارة والاستثمارات ، مما أدى إلى سيادة أنماط عالمية في ميدان الاستثمار والاستهلاك والتصدير والتسويق . 

جـ - انسلاخ النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي عن المواقف المشرفة وعن المشاعر والعواطف الإنسانية كلما تصادم حق الإنسانية مع حيوية الاقتصاد ، وقد فصل عن العمل في المؤسسات الأمريكية ما يقارب خمسين مليون عامل ، في مدة لا تتجاوز العشرين عاماً الماضية . 

2- إسرائيل إحدى أدوات العولمة : لأنها تفتت الوحدة المنشودة لمنطقة الشرق الأوسط ، أو للأمة العربية ، في رأس حربة تغرز في جسم من يمكن أن يحمل لواء عولمة مقابلة ، بل محبطة لعولمة الغرب . 

وقد سعت أمريكا منذ فترة ليست وجيزة إلى دعم إسرائيل مادياً وعسكرياً واقتصادياً ، وقد صرَّح أحد الرؤساء الأمريكيين قائلاً : " إن لأمريكا مصلحة خاصة ليس في إسرائيل فقط ، بل في التعاون المشترك بين بلدينا في المنطقة ، ونحن نتفهم ونؤيد بحزم حاجة إسرائيل إلى الاحتفاظ بالتفوق العسكري النوعي على خصومها العرب ، ويلزم إقامة لجنة أمريكية إسرائيلية مشتركة في ميدان التقنيات وصنائع القرن الحادي والعشرين " . 

3- الفساد الجنسي : لأنه يجلب اقتصاداً للشركات الكبرى ، وهذه الشركات لا يهمها إلا الربح ، ولم يعد الأمر بالنسبة لها فضيلة أو سواها ، بل القضية احتكار ربح . وتفيد أرقام منظمة الصحة العالمية أن خمسمائة ألف امرأة وصلن إلى دول الاتحاد الأوروبي في نهاية 1995 عبر المتاجرة بهم ، وقدر المسؤولون الأمريكيون في مؤتمر بكين الخامس عدد تلك النساء اللواتي دخلن إلى الولايات المتحدة الأمريكية بخمسين ألف امرأة . 



خامساً : سلبيات أخرى في العولمة الغربية : 

1- يحكم هذا النظام قانون تضخيم الأرباح ولو على حساب أرواح جياع ملايين من الناس. 

2- يحكم هذا النظام العلمانية " التي ترفض كل الشرائع الإلهية ، ومرجعية النظام العلماني : المنفعة الخاصة المادية " . 

3- أشاعت الفساد الأخلاقي ، فقد انتشرت المخدرات ، وجرائم القتل ، وسقطت كرامة الإنسان ، وبُدِّل أمنه خوفاً ، وهبطت المثل ، وتفوقت الماديات على المعنويات في كل شيء .

4- انتشر الفقر وازداد سطحاً وعمقاً ، فقد دلت الدراسات على أن ثلاثة مليارات ونصف المليار من سكان العالم لا يحصل إلا على 6% فقط من الدخل العالمي ، فيما يحصل الملياران ونصف المليار الأخرى على 94% من الدخل العالمي ، وفي تقرير رسمي نشر فيه : " إن أربعين ألفاً يموتون يومياً جوعاً ، وإن ما يقرب من مليار إنسان يعانون من سوء التغذية ، وإن حوالي مليار ونصف المليار من دون مياه صالحة للشرب ، وإن مليار إنسان عاطل عن العمل ، وإن ثلاثمائة وخمسين ألف طفل يموت يومياً في أنحاء العالم ، بينما يقدر ما تسيطر عليه شركات السلاح وأسواق المخدرات من المال بـ 90% من الاقتصاد العالمي . 

5- إن العولمة الغربية قضت على حقوق الإنسان الثقافية : فالعولمة الغربية كالوحش الكاسر ، التي تأتي على الأخضر واليابس الذي نبت خارج إطارها ، لتمحوه وبدون هوادة ، ومن المعلوم أن لكل مجتمع قيمه المتجذرة فيه ومُثله الراسخة في ضميره ، وهذه القيم وتلك المثل هي التي تشكل نظرته ، لكن العولمة تقضي عليها وتُحلّ محلها قيمها ومثلها المادية ، ولا يخفى أن المعاهدات الدولية تؤكد على أن للإنسان الحق في التمسك بثقافته الخاصة ، والتكلم بلغته الخاصة ، والتجاهر بدينه الخاص والإعلان عن مذهبه الخاص ، ولكن العولمة تبغي تعميم ثقافة واحدة على سائر أركان المعمورة ، وهل هذا إلا افتراء ؟! وقد عرف عن أمريكا تفوقها على بقية الدول في نسبة ما تصدر من مواد ثقافة فكرية وترفيهية ، تنشيطية ، ومسرحيات وأفلام وبرامج ، إلى حد أن صادراتها في هذا الشأن تفوق صادراتها في المجالات الأخرى . 

6- بلاء التلوث الذي سببته الصادرات الصناعية الأكثر تلويثاً للبيئة ، وقد تكون المجتمعات المستوردة ليست ذات حاجة ، لكنها وبفعل ضغط الدعاية العولمية والتسهيلات المادية ظاهراً تغدو في حالة شعور بحاجة إلى ذلك . 



القسم الثاني : عولمة الإسلام :



أولاً : تمهيد : 

خلق الله الإنسان على فطرة اجتماعية ، فهو أبداً يهوى العالمية " العولمة " والتعولم ، فقد قال تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) الحجرات : 13 . والإنسان أينما كان وحيثما كان موطنه فهو إنسان ، له ذات المشاعر والأحاسيس التي يحملها الآخر بشكل عام ، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : " المؤمن آلف مألوف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف " . ولهذا فالعولمة الصحيحة غاية إنسانية لا بد منها ، ولعل أهم الهواجس الإنسانية لدى الإنسان البحث عنها والدخول فيها فرداً ذو مستوى معين يرتقي ويرتقي حتى يصل إلى سدة الخواص ، فخواص الخواص ، وذلك بالسعي النافع والعمل الناجع والعطاء المفيد ، فخير الناس – على سبيل العموم – عند الله أنفعهم لعياله ، كما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . 



ثانياً : الإسلام نادى بالعولمة ودعا إليها : 

وها نحن نستعرض نداءات القرآن للناس كافة من أجل أن ينضووا تحت لواء الإسلام , دين الإنسان العالمي منذ بدء الخليقة وإلى قيام الساعة . 

قال تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) . آل عمران : 19 . ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) . آل عمران : 58 . وقال أيضاً مخاطباً رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . سبأ : 28 . وقال تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) . الأنبياء : 107 . وقال تعالى : ( يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ) الأعراف : 158 . 

وقال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل نذكر منه موطن الشاهد ، أخرجه مسلم : " وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " . وقال صلى الله عليه وآله وسلم : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " . 

أجل ، لقد نادى الإسلام بالعولمة وفق أسس لا مناص من قبولها إذا أعمل الإنسان عقله وفكره فيها وأخلص للخير والنفع العام ، لكن الحكام غير الشرعيين الذين تعاقبوا على حكم قسم أو أقسام من عالم الإسلام غيَّروا وبدلوا وحرفوا وألحقوا بالإسلام ما ليس منه ، نقصوا منه ما هو من صميمه ، فحرموا العالم أو بعضه أو ربما جله رحمة العولمة الخيرة . 

وتقدم الزمان وتوالت أجيال محرومة من عولمة الإسلام ، وتململ الغرب من جهته ، وتحرك من تحت سياط الاستبداد ونير الاستعباد باحثاً عن النور فلم يبصر من جهة بلاد الإسلام إلا مظالم صادرة عن حكام ، وأخرى مثلها أنتجها تجار لبسوا لَبُوس الإسلام في ادِّعائهم ، لكنهم كانوا أُسارى منافعهم وأهوائهم وأغراضهم ، لذلك حنقوا على الإسلام ، وجهدوا باتهامه بعدم الصلاحية ، وجدوا في القضاء على الخلافة العثمانية التي ساهمت بنصيب غير قليل في تغيير صورة الإسلام النقية ، وقسموا العالم كتلتين ، إحداهما غربية والأخرى شرقية ، ولما ذاقوا وبال هذا التقسيم عملوا على توحيد العالم فحذفوا الكتلة الشرقية من الخارطة ، وقرروا توحيد العالم تحت عولمة غربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية . 



ثالثاً : مقومات العولمة الإسلامية : 

إن الواجب علينا نحن الذين أسلمنا لربنا تحقيق العولمة الصحيحة ، وذلك بإعادة الاعتبار للإنسان وفق ما أمر الإسلام ، وإحياء الخلق الإسلامي ، ومفاهيم الحوار الحر ، كما كان الأمر جارياً مع كل الأديان والمذاهب على طول التاريخ الإسلامي ، انطلاقاً من مبدأ الأخوة الإنسانية والإسلامية غير المنحصرة في ضيق القوميات والعرقيات وغير المحدودة في الجغرافية المصطنعة والإقليمية ، وذلك على غرار ما أسسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة بعد الهجرة إليها . وعلى ضوء هذه التقدمة نذكر المقومات التي هي : 

1- الشرعة الإلهية ، أو الدستور الرباني : فالله هو الخالق والمنشئ والمبدع والعليم والحكيم ، وهو بالتالي المفوّض وحده بالتشريع وإرساء أسس التعامل وقوانين العلاقات المختلفة بين الإنسان والإنسان ، وبين الإنسان وربه ، وبين الإنسان والكون ، ومن أَولى بالإنسان منَ الله بذلك ؟! لا سيما وأنه طرح ذاته لهذه القضية فقال : ( ألا له الخلق والأمر ) الأعراف : 54 . أي له وحده خلق الخلق والتشريع ، وقال تعالى : ( ومن أصدق من الله قيلاً ) النساء : 122 . وقال تعالى : ( إنِ الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين ) الأنعام : 57 . ( ثم رُدُّوا إلى الله مولاهم الحقِّ ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ) الأنعام : 172 . ( إنِ الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) يوسف : 40 . ( وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون ) القصص : 70 . ( ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم ) الممتحنة : 10 . ( واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ) يونس : 109 . 

2- شخصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن قبله سائر الأنبياء عليهم السلام : والأنبياء يقومون بتجسيد الشرعة والتشريع , و تجلية الدستور في سلوك وسيرة , والإنسان عامة ً بحاجة ماسة بعد المبدأ المنطقي المناسب بحد ذاته إلى رؤيته مطبًّقاً منفذاً , وقد قلت في أكثر من مناسبة : " منطقية الفكرة تورث القناعة , ورؤيتها من خلال أنموذج عملي واقعي تخلِّف في القلب – مركز الإنسان – الاستقرار والاطمئنان " . 

وقد قال تعالى عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وينسحب هذا على سائر إخوانه الأنبياء : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) آل عمران : 31 . وقال أيضاً : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ) الأحزاب : 21 . وها هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذاته يخاطب العالم كله عبر رسائل وجهها إلى الملوك والرؤساء الذين كانوا في عهده ، ويبقى خطابه موجهاً إلى كل من جاء بعدهم فملكَ أو رأسَ أو حكم ، وحسبي هنا أن أشير إلى بعض ما ورد في هاتيك الرسالات على سبيل المثال وليس الحصر ، فقد جاء في الرسالة التي وجهها إلى هرقل عظيم الروم : " من محمد عبد الله ورسوله ، إلى هرقل عظيم الروم ، أسلم تسلم ، يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) آل عمران : 64 . وجاء في رسالته صلى الله عليه وآله وسلم إلى كسرى : " أدعوك بدعاية الله عز وجل ، فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين " وقال في رسالته إلى ملك البحرين : " فإنه من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم ، له ذمة الله وذمة رسوله ، فمن أحب ذلك من المجوس فإنه آمن ومن أبى فعليه الجزية " . 



4- الاعتراف بالإنسان الآخر والإقرار بحقوقه كاملة : 

جعل الإسلام الإنسان وحقوقه محور عولمته ، فالإنسان مكرّم أيَّما تكريم ، وحقوقه جدُّ مصونة ، وينبغي الأخذ بعين الاعتبار اتساع دائرة حقوق الإنسان اليوم اتساعاً كبيراً ، بحيث أصبحت تتناول قضايا لا يمكن معالجتها في نطاق إقليمي محدود ، بل تجب معالجتها على مستوى العالم ، كالحق في تحقيق السلام الذي غدا بحاجة إلى تصميمات أوسع نطاقاً من الدول المتنازعة والأطراف المتخاصمة ، وكذلك الحق في تحقيق التنمية الذي غدا بحاجة إلى تصميمات أوسع نطاقاً من الدول المتنازعة والأطراف المتخاصمة ، وكذلك الحق في تحقيق التنمية الذي أضحت فيه مسؤولية الدول القادرة متجلية واضحة تجاه الدول التي تنعدم فيها إمكانات التنمية ، لنقص الموارد وفقد المواد الخام ، وكذلك يكون الحق في امتلاك بيئة نظيفة عديمة التلوث . وعلى هذا فالحقوق الإنسانية كلها ما قَدُم منها وما جدّ ، ما ضاق وما اتسع ، مرعية ومحفوظة ومعتبرة ، بدءاً من حق الحياة ، ومروراً بحق الكرامة ، وانتهاءً بحق التعبير عن الرأي والفكرة . 

ولا نريد هنا سرد الآيات والأحاديث التي فصَّلت هذا الشأن ، لكننا نكتفي بالتقرير فقط ، لنحيل راغب الإطلاع على المستندات والأدلة الشرعية ، إلى محالِّها من المصحف الشريف وكتب الحديث وكتب السيرة النبوية ، ومؤلفات الوقائع الاجتماعية لمراحل إسلامية ، وهكذا . 



خامساً : وفي النهاية أمران : 

1- تحذير : إذا لم ينتبه المسلمون لأنفسهم ويُعنَوا بأحوالهم ، فستكون خاتمتهم استعماراً جديداً تلفهم به العولمة ، وإذا ما وَعوا فإنهم قادرون على مواجهة العولمة الغربية الجانحة بعولمة إسلامية عادلة ، وهم يمتلكون مقوماتها ، وقد ذكر العالم الألماني " بول اشميد " في كتاب له كتبه قبل نصف قرن ، يحذر الغربيين من المسلمين ، ويحرِّضهم على إشعال الحروب الصليبية ورعادتها ضدهم ، ويعلل ذلك بأن المسلمين سيتغلبون عليهم إذا لم يتدارك الغرب الأمر ، وذلك لنقاط قوة المسلمين ، وهي : 

1- قوة الثروات الطبيعية . 

2- كثرة النسل . 

3- الموقع الجغرافي ، فهو في منطقة حساسة هامة . 

4- وثَّابية الدين الإسلامي ، وانتشاره السريع ، واستقطابه للجماهير ، بما يحمله من سهولة ومرونة وانفتاح وحرية ومنطق وعقلانية وحركة ونشاط . 



2- مصير العولمة الغربية : إن العولمة الغربية في نظر ذوي العقول السليمة لم تؤسس على أسس عقلية ومنطقية ، ولا على قواعد أخلاقية ولا إنسانية . 

وعولمةٌ هذه ملامحها السقوط مآلها ، كما حدث للعولمة الشرقية الشيوعية التي قامت يوم قامت على ذات المعايير المتخلية عن العدالة والفضيلة ، التي تقوم عليها عولمة الغرب اليوم . 

وعلى الجميع أن يعلم : 

إن عولمة الإسلام هي التي ستبقى ، لأنها تجمع بين ضرورة الازدهار المادي والعدالة والفضيلة والإحسان ، وليحذر المسلمون الذين يخالفون في دعوتهم للعولمة هذه الأسس أن يصيبهم ما أصاب أصحاب الشرق وما سيصيب أهل الغرب ، لأن لله سنناً عادلة تطال الناس بالسواء دون تمييز ، قال تعالى : ( كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء

 ربك وما كان عطاء ربك محظوراً ) .

المصدر: http://www.akkam.org/topics/20/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك