التسامح بين النص والممارسة
د. محمود عكام
"الإسلام وتاريخة"
أ- التسامح مفهوماً :
إن المفهومات الإنسانية لا يمكن أن تقارب المصطلحات العلمية من حيث الدقة والضبط، ولا يمكن أن يُجمع الناس فيها على تعريف وتحديد واحد، وثمةَ صعوبة أخرى تتجلى في التطبيق بعد التحديد، أي بالبحث عن "المصاديق" في الواقع والعمل .
وسبب ذلك كله هو أن المفهومات الإنسانية تُعرِّف وتحدِّد أشياء ناطقة ومتحركة ونامية ومجردة، فلا توجد إلا حين يُنتجها الإنسان، فهي من وضع عقله وتفكيره ومتأثرة بظروفه المتبدِّلة وانحيازاته المتحولة، وتتعلق بسلوكه وفهمه المتغيِّرين.
ولعلنا بعد هذا الموجز الإشكالي - حين نسعى للحديث عن مفهوم "التسامح" - ندرك ما نلقاه وما سنلقاه من عَنَتٍ ومشقة، ونحن نبغي التحديد والتعريف، ولا سيما وأن المصطلح المعنيَّ - وهو التسامح - سُجِّل له في دراسات مختلفة أكثر من عشرين تعريفاً، فعلى سبيل المثال يقول الدكتور حسن حنفي في تعريف "التعصّب" الذي هو مقابل التسامح ومن باب "وبضدها تتميز الأشياء"، التعصب: هو الانحياز إلى شيءٍ من الأشياء، فكرة أو مبدأ أو معتقد أو شخص، إما مع أو ضد، ويظهر التعصب في مجالات متعددة أهمها الدين والفكر والسياسة والقومية. ويقول عن التسامح بأنه : استعداد المرء لأن يترك للآخر حرية التعبير عن رأيه، ولو مخالفاً ولو خطأً.
وأما ناصيف نصار المفكر اللبناني فيقول: إن السمة الظاهرة الأولى للفرد المتعصب هو أنه لا يحب المناقشة، لأنه يعتقد أن رأيه صحيح تماماً... ولا يحب الحوار، وإن تظاهر بالدخول فيه، ويميل إلى مجموعة قليلة وبسيطة من الآراء، ويعمد إلى فرضها لمنع الرأي المخالف من الانتشار والظهور.
وفي مقابل هاتيك الصّفات للمتعصب سيغدو المتسامح محباً للنقاش، غير جازم بصحة رأيه، ولا يعمد إلى فرض قناعاته على الآخرين، ويسمح لآراء الآخرين بالتفاعل مع آرائه، لتتكاثر أفكاره وتتسع رؤيته للحياة.
وها نحن أولاء نذكر هنا أيضاً بعضاً من الإجابات المتعددة التي تلقتها منظمة "اليونيسكو" عن سؤالها الذي طرحته عام 1995: ما هو التسامح ؟
فكان من الإجابات :
- التسامح هو احترام حقوق الآخرين وحرياتهم.
- التسامح هو اعتراف وقبول بالاختلافات الفردية، وتعلم كيفية الإصغاء للآخرين والاتصال بهم وفهمهم.
- التسامح هو تقدير التنوع والاختلاف الثقافي، وهو انفتاح على أفكار الآخرين وفلسفاتهم، منبثق من الرغبة في التعلم والاطلاع على ما عند الآخرين، والاستعداد لعدم رفض ما لا نعرفه.
- التسامح هو الاعتراف بأن ليس هناك فرد أو ثقافة أو وطن أو ديانة تحتكر المعرفة والحقيقة.
- التسامح هو شكل من أشكال الحرية وعدم التحيز وعدم التمسك بالأفكار، فالمتسامح هو سيد رأيه وفعله.
- التسامح هو موقف إيجابي تجاه الآخرين دون أي مقدار من الاستعلاء.
- وأضيف هنا تعريفي الذي سجَّلته في رسالة نشرتها تحت عنوان "11/9/2001" "تعليقات ومصارحات ومناشدات" حيث قلت: "التعصب هو: اجتماع قوة على غير حق ولغير حق". في حين أن التسامح هو: "تعاون قوى عقلية وفكرية وحركية تعاوناً بنّاءاً للوصول إلى حق من أجل الحق، وهذا التعاون يحتوي في تجاويفه على اعترافات متبادلة بين القوى المتعاونة، كلٍّ بالأخرى، ومن دون استعلاء".
ب- التسامح في مصاديقه من خلال الحضارة العربية الإسلامية:
يجب أن نميز بين منهجين في دراسة التسامح في الحضارة المذكورة:
فالأول: منهج اعتماد النصوص من قرآن كريم وسنة شريفة.
والثاني: اعتماد التاريخ وممارساته.
ونستعجل فنقول: إن المنهج الأول هو الأكثر رواجاً اليوم، ويَلجأ إليه أرباب مخاطبة الجماهير البسيطة، فهو لا يحتاج إلى أكثر من نقل وتفريغ.
أما المنهج الثاني فهو - في رأينا - ما يجب تشريحه وبحثه، حتى نكون على بينة من أمرنا ونحن نتحدث عن المفاهيم الإنسانية ورصدها من المكلَّفين لا من المكلِّف، وإلا فما الذي سنجنيه من فائدة لو كان ثمة فجوة هائلة بين التكليف في نصوصه، وبين التنفيذ في واقعه ؟! سوى التقريعِ من المكلِّف: (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)، والرفضِ من قبل الآخر الذي لا ينتظر منا تنميق ألفاظ، بل همُّه أن يرى انسجاماً بين القول الجميل وفعله في الواقع والحياة.
بيد أننا نبغي ممن يتعرَّض لبعض المفاهيم الإنسانية بالدراسة والبحث أن يتناولها عبر المنهجين معاً، فإنَّ في اقتصاره على واحد منهما إجحافاً وظلماً.
فالذين كتبوا عن التسامح وسواه من المفاهيم في الحضارة الإسلامية، من خلال التاريخ فقط ظلموا الإسلام وشوَّهوه، وكذلك الذين كتبوا عنه من خلال النصوص فحسب ظلموه أيضاً بإبعاده عن مسرح الحياة وتقلباتها، ونؤكد هنا على أننا نفضّل أن تُدرَس الحضارة الإسلامية ممارسة تاريخية، لا مثالاً مجرداً مختبئاً في النصوص، ونصوصاً مطبقة في الواقعة، لا ممارسة مجردة عن المستندات النظرية.
وما قلنا هذا الذي قلنا عن المنهجين إلا لأن العلماء المهتمين بثقافة الإنسان لاحظوا أن الزمن التاريخي - بطبيعته المختلفة - له دوره البارز في حسن سيرورة المفهوم الإنساني أو في سوئها، والإنسان في النهاية ابن ظرفه وبيئته.
وعلى هذا لا يمكن أن نتصور إنساناً مسلماً يعيش - على سبيل المثال - في بيئة فقيرة غير متعلمة، ويعاني في ظلالها من ظروف اقتصادية صعبة، يكون متسامحاً ومتقبلاً للانفتاح والتغيير، حتى ولو كان يحفظ كل الآيات والأحاديث الداعية إلى الحرية والتسامح، لأنه سيفسر كل هاتيك النصوص حسب سياق الزمن وظروفه التي يعيش فيها.
ومن هنا نرى أنه من الأفضل أن نتحدث عن ظروف الإنسان العربي أو المسلم التي مرَّ بها، حينما نبتغي دراسة فكرة التسامح في حضارتنا.
وقديماً قال ابن خلدون : "فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيات، وتختلف باختلاف المصالح، ولكل واحدة منها حكم يخصه، لطفٌ من الله بعباده".
ج - وبتطبيق المنهجين معاً على حضارتنا نرى :
أن التسامح بمعانيه المختلفة توزّع على مساحات واسعة من تلك الحضارة، ولعل أول وجهٍ منه تسجله لنا هذه الحضارة هو عدم الإكراه في الدين، ولأول مرة في التاريخ يتقبل فيها دينُ حضارةٍ قوية التعايشَ مع ديانات أخرى من غير اضطهاد ولا إجبار على الدخول في الديانة الرسمية للحضارة الحاكمة.
صحيح أن تسميات أهل الكتاب والذمة تعبر عن درجة أدنى، إلا أنها في الوقت نفسه - وبمقاييس ذلك الزمن - تعبّر عن وضع تنظيمي أفضل وأكثر أمناً للإنسان الذي لا تُحترم كرامته إلا حين يوافق دينُه دينَ الملك الذي يحكمه.
ولو قارنَّا هذا الوضع بوضع الاضطهاد الديني الذي عاشته أوروبا في القرون الوسطى (500 - 1500) وبدايات القرون الحديثة، ضد مذاهبها المختلفة الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية، فضلاً عن الديانات المخالفة لها، لعرفنا مدى ما تحمله التسميات (ذمي، أهل كتاب) من تسامح أفضل وأمن أوسع.
في ظل هذا المبدأ التسامحي وسط الحضارة العربية الإسلامية، نشأ في القرن الرابع الهجري جيل من المفكرين شغلتهم قضية الإنسان، وقد ضمّ هذا الجيل مجموعةً من الأدباء والفلاسفة كالجاحظ وابن مسكويه والتوحيدي، وإن اهتمام هذا الجيل بالإنسان يعني اهتمامه بالعلاقات التي تربطه بالإنسان فحسب الذي لا يشترك معه في الدين أو في العرق أو في اللغة، كما يعني اهتمامه بإنسانية الإنسان وحقه في العيش وبما يحقق سعادته الدنيوية، وهذه الاهتمامات تشكل أهم مرتكزات التسامح.
ولن أقتصر على الإشراقات فسأذكر - معترفاً بالتقصير - نقاطاً بالأحرى مساحات من تاريخنا تجلى فيها التعصب صفة سائدة للإنسان المتدين آنذاك، ويكفي أن أشير إلى تهمة ابن المقفع والبيروني والطبري بالمروق، ومعاناة ابن رشد في فترة لاحقة، وكذلك ما ألحق من سوء بالمعتزلة وإخوان الصفا، وحتى الأئمة الأربعة، فقد طالتهم آثار التعصب فسجن بعضهم، وعُذِّب آخر، واتُّهم ثالث... وهكذا،... وما ابن حزم ومعاناته أيضاً عنا ببعيد.