المجتمعات والقيم المُوَجِّهَة
أضافه الحوار اليوم في
لا ريب أن سلوك كل مجتمع هو نتاج القيم التي يؤمن بها وتهيمن على مناطق الوعي والفعل في ذهنه، فالمجتمعات الناهضة هي نتاج نهضة فكرية وعقلية قفزت بها فاقتحمت عقبة التنمية والازدهار، والمجتمعات المتخلفة هي نتاج الأفكار المتخلفة التي شاعت بين أفرادها وشكل عوائق ذهنية ومتاريس عملية تعوقها عن الحركة والانطلاق.
لما سبق ظل سؤال (من أين نبدأ؟) مرافقا للحركات الاجتماعية منذ فجر التاريخ حتى يوم الناس هذا، ورغم أن القرآن حدد بوضوح النقطة المثلى لانطلاق مشروع التغيير إلا أن المقاربات الإصلاحية التي أعلنت انطلاقها منه ظلت مرتبكة في التمثل الواعي لنظرية التغيير التي أرساها القرآن بقوله: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فالقرآن كما هو واضح من الآية يجعل ترميم وإصلاح (البنية النفسية) أمرا سابقا ومؤسسا لترميم وإصلاح (البنية الاجتماعية) بالمفهوم الواسع للاجتماع.
وإذا كان القرآن يرى البدء بترميم (البنية النفسية) ضروريا للتمكن من الإصلاح الاجتماعي العام، فهل معنى ذلك أنه يرى أن التغيير الاجتماعي ينبغي أن يكون تلقائيا؟ هنا يكون ضروريا استدعاء النماذج التاريخية التي تمثل مقاربات راشدة لتنزيل الآيات القرآنية في الواقع، وستكون التجربة النبوية هي الأحق بذلك الاستدعاء، ولكن ذلك ليس هو الموضوع الرئيس لهذا المقال.
إن حركات الإصلاح المعاصرة ظلت مترددة بين الأمرين؛ البدء بإصلاح البنية النفسية والبدء بتغيير البنية الفوقية (السلطة والدولة)، فقد عاجلت الأحداث كثيرا من الحركات الإصلاحية فعدلت عن التدرج الذي وضعته في أول أمرها لمسيرة التغيير، حيث البدء بالفرد المسلم ثم الأسرة المسلمة ثم المجتمع المسلم ثم الدولة المسلمة إلى أن ترسو السفينة على جودي الأمة المسلمة الشاهدة على الناس، فهل هذا العدول كان سببه ارتباك مسيرة الإصلاح أم أنه كان تعديلا ضروريا في الخطة الإصلاحية اقتضته طبيعة الواقع والوقائع.
إن الإنسان صاحب الحس الحضاري يستطيع رصد القيم الموجهة لكل مجتمع من خلال سلوكه ومواقفه وعاداته وما يستحسنه أو يستقبحه من أشياء وأفكار وأشخاص، قرأت مرة لمالك بن نبي ملاحظة لا تخلو من عمق ودقة، كان يتحدث في كتابه (العفن) عن معرض حضره أيام دراسته بفرنسا، وقال إنه رأى فيه جناحا يديره يهودي كان يحاول إخفاء هويته، وكان يقدم الآلية التي تحرك ماكينة وعجلة (التاريخ). وبجانبه كان مسلم -مشرقي أو مغربي- يقدم سجادة وعطورا مثيرة. الأول كان يركز على كل ما يخلق القوة، والثاني يدعو إلى الراحة والدعة، ثم قال: لم أر مطلقا هذا المشهد براحة ومن غير أن أكترث.
إن مالكا بن نبي هنا يغوص بعقله إلى ما وراء جمال السجادة المزركشة ونفاذ العطر المشرقي الأخاذ مستحضرا الأبعاد الرمزية لهذين المنتجين، إنهما يمثلان حالة من الاحتفاء بالاسترخاء والتمتع بطيبات الحياة بعيدا عن روح التحفز والاستنفار التي ينبغي أن يكون فيها المجتمع الإسلامي المثخن بالاستعمار الفكري والمادي في تلك الآونة، لأن القيم الموجهة للعالم الاسلامي في تلك الفترة كانت في حالة من الاختلال والتشوه جعلت الإنسان المسلم يظهر بهذه الطريقة في معرض عام، ولا تكتمل هذه الصورة إلا إذا ركزنا على الجانب الموازي وهو صورة اليهودي الذي يبيع ماكينة لتحريك العجلات، تلك العجلات المادية التي يقرأ بن نبي في ما وراءها عجلة التاريخ الدوارة.
قد تكون هذه القيم الموجهة مصابة باختلال في ذاتها أو تشوه في طبيعتها كما بينت في الفقرة السابقة، لكنه أيضا قد تصاب بالتشوه من خلال الممارسات الخاطئة لحامليها وإن كانت هي في ذاتها ناصعة ومحفزة وقويمة، وهذا هو ما سماه عمر بن الخطاب رضي الله عنه (إماتة الدين)، فقد روي عنه أنه قال لجماعة رآهم يمشون بتماوت مثير للشفقة:”لا تميتوا علينا ديننا”، وروي مثل ذلك عن عائشة رضي الله عنها فقد رأت قوما يتماوتون، فسألت عنهم؛ فقيل لها: هؤلاء قوم من القراء. فقالت: لقد كان عمر من القراء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع”.
فعمر بن الخطاب وعائشة رضي الله عنهما في هذه الآثار لا يصادران اختيارات شخصية في المشي والكلام، وإنما ينتبهان بحسهما الحضاري إلى أثر العادات والتقاليد الاجتماعية في ترسيخ القيم الموجهة مشوهةً أو قويمةً، ويمنحان الناظر انطباعا وتصورا عن المجتمع الذي تسود فيه تلك القيم، ولم يكن من المناسب في تلك الفترة التي تواجه فيها الأمة الإسلامية حضارتين عريقتين أن تشيع في المجتمع المسلم مظاهر توحي بالضعف والوهن، ولعل هذا ما جعل أغلب المفسرين يحرص على استدعاء هذين الأثرين عند قوله تعالى واصفا عباد الرحمن: “وعباد الرحمن الذين يمشون في الأرض هونا”.
ولعل نظرة عابرة في سلوك المجتمع المسلم اليوم تبرز أن تشوه القيم الموجِّهَة له هو الذي يعوق مسيرة الإصلاح ويقف حاجزا دون التغيير الحضاري الذي ينشده المصلحون منذ قرن، وإذا لم يتم التركيز على إصلاح تلك القيم الموجِّهَة فإن مجتمعاتنا المسلمة ستظل تراوح مكانها، وستظل جهود الإصلاح ضائعة كما تضيع بذور من يزرع في أرض سبخة.
إنه من اللازم تشخيص القيم المعيقة للنهضة والسعي لسحبها من أوردة المجتمع المسلم، ذلك بأن القيم السائدة الآن في عمومها هي قيم هدم وتعويق، ولذلك لا بد من بلورة قيم بناء وتحفيز تمكن من انطلاقة جديدة للمجتمع المسلم، ولعل من الموجهات الضرورية لبلورة تلك القيم العودة إلى استنطاق الوحي بأدوات العصر ، وغربلة ما تراكم على قيم الإسلام الأصيلة من حقب التاريخ –كما قال محمد إقبال رحمه الله-، حتى تصبح قيما دافعة نحو الإيجابية والفاعلية، لا داعية للدعة والكسل والفراغ.
لما سبق ظل سؤال (من أين نبدأ؟) مرافقا للحركات الاجتماعية منذ فجر التاريخ حتى يوم الناس هذا، ورغم أن القرآن حدد بوضوح النقطة المثلى لانطلاق مشروع التغيير إلا أن المقاربات الإصلاحية التي أعلنت انطلاقها منه ظلت مرتبكة في التمثل الواعي لنظرية التغيير التي أرساها القرآن بقوله: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فالقرآن كما هو واضح من الآية يجعل ترميم وإصلاح (البنية النفسية) أمرا سابقا ومؤسسا لترميم وإصلاح (البنية الاجتماعية) بالمفهوم الواسع للاجتماع.
وإذا كان القرآن يرى البدء بترميم (البنية النفسية) ضروريا للتمكن من الإصلاح الاجتماعي العام، فهل معنى ذلك أنه يرى أن التغيير الاجتماعي ينبغي أن يكون تلقائيا؟ هنا يكون ضروريا استدعاء النماذج التاريخية التي تمثل مقاربات راشدة لتنزيل الآيات القرآنية في الواقع، وستكون التجربة النبوية هي الأحق بذلك الاستدعاء، ولكن ذلك ليس هو الموضوع الرئيس لهذا المقال.
إن حركات الإصلاح المعاصرة ظلت مترددة بين الأمرين؛ البدء بإصلاح البنية النفسية والبدء بتغيير البنية الفوقية (السلطة والدولة)، فقد عاجلت الأحداث كثيرا من الحركات الإصلاحية فعدلت عن التدرج الذي وضعته في أول أمرها لمسيرة التغيير، حيث البدء بالفرد المسلم ثم الأسرة المسلمة ثم المجتمع المسلم ثم الدولة المسلمة إلى أن ترسو السفينة على جودي الأمة المسلمة الشاهدة على الناس، فهل هذا العدول كان سببه ارتباك مسيرة الإصلاح أم أنه كان تعديلا ضروريا في الخطة الإصلاحية اقتضته طبيعة الواقع والوقائع.
إن الإنسان صاحب الحس الحضاري يستطيع رصد القيم الموجهة لكل مجتمع من خلال سلوكه ومواقفه وعاداته وما يستحسنه أو يستقبحه من أشياء وأفكار وأشخاص، قرأت مرة لمالك بن نبي ملاحظة لا تخلو من عمق ودقة، كان يتحدث في كتابه (العفن) عن معرض حضره أيام دراسته بفرنسا، وقال إنه رأى فيه جناحا يديره يهودي كان يحاول إخفاء هويته، وكان يقدم الآلية التي تحرك ماكينة وعجلة (التاريخ). وبجانبه كان مسلم -مشرقي أو مغربي- يقدم سجادة وعطورا مثيرة. الأول كان يركز على كل ما يخلق القوة، والثاني يدعو إلى الراحة والدعة، ثم قال: لم أر مطلقا هذا المشهد براحة ومن غير أن أكترث.
إن مالكا بن نبي هنا يغوص بعقله إلى ما وراء جمال السجادة المزركشة ونفاذ العطر المشرقي الأخاذ مستحضرا الأبعاد الرمزية لهذين المنتجين، إنهما يمثلان حالة من الاحتفاء بالاسترخاء والتمتع بطيبات الحياة بعيدا عن روح التحفز والاستنفار التي ينبغي أن يكون فيها المجتمع الإسلامي المثخن بالاستعمار الفكري والمادي في تلك الآونة، لأن القيم الموجهة للعالم الاسلامي في تلك الفترة كانت في حالة من الاختلال والتشوه جعلت الإنسان المسلم يظهر بهذه الطريقة في معرض عام، ولا تكتمل هذه الصورة إلا إذا ركزنا على الجانب الموازي وهو صورة اليهودي الذي يبيع ماكينة لتحريك العجلات، تلك العجلات المادية التي يقرأ بن نبي في ما وراءها عجلة التاريخ الدوارة.
قد تكون هذه القيم الموجهة مصابة باختلال في ذاتها أو تشوه في طبيعتها كما بينت في الفقرة السابقة، لكنه أيضا قد تصاب بالتشوه من خلال الممارسات الخاطئة لحامليها وإن كانت هي في ذاتها ناصعة ومحفزة وقويمة، وهذا هو ما سماه عمر بن الخطاب رضي الله عنه (إماتة الدين)، فقد روي عنه أنه قال لجماعة رآهم يمشون بتماوت مثير للشفقة:”لا تميتوا علينا ديننا”، وروي مثل ذلك عن عائشة رضي الله عنها فقد رأت قوما يتماوتون، فسألت عنهم؛ فقيل لها: هؤلاء قوم من القراء. فقالت: لقد كان عمر من القراء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع”.
فعمر بن الخطاب وعائشة رضي الله عنهما في هذه الآثار لا يصادران اختيارات شخصية في المشي والكلام، وإنما ينتبهان بحسهما الحضاري إلى أثر العادات والتقاليد الاجتماعية في ترسيخ القيم الموجهة مشوهةً أو قويمةً، ويمنحان الناظر انطباعا وتصورا عن المجتمع الذي تسود فيه تلك القيم، ولم يكن من المناسب في تلك الفترة التي تواجه فيها الأمة الإسلامية حضارتين عريقتين أن تشيع في المجتمع المسلم مظاهر توحي بالضعف والوهن، ولعل هذا ما جعل أغلب المفسرين يحرص على استدعاء هذين الأثرين عند قوله تعالى واصفا عباد الرحمن: “وعباد الرحمن الذين يمشون في الأرض هونا”.
ولعل نظرة عابرة في سلوك المجتمع المسلم اليوم تبرز أن تشوه القيم الموجِّهَة له هو الذي يعوق مسيرة الإصلاح ويقف حاجزا دون التغيير الحضاري الذي ينشده المصلحون منذ قرن، وإذا لم يتم التركيز على إصلاح تلك القيم الموجِّهَة فإن مجتمعاتنا المسلمة ستظل تراوح مكانها، وستظل جهود الإصلاح ضائعة كما تضيع بذور من يزرع في أرض سبخة.
إنه من اللازم تشخيص القيم المعيقة للنهضة والسعي لسحبها من أوردة المجتمع المسلم، ذلك بأن القيم السائدة الآن في عمومها هي قيم هدم وتعويق، ولذلك لا بد من بلورة قيم بناء وتحفيز تمكن من انطلاقة جديدة للمجتمع المسلم، ولعل من الموجهات الضرورية لبلورة تلك القيم العودة إلى استنطاق الوحي بأدوات العصر ، وغربلة ما تراكم على قيم الإسلام الأصيلة من حقب التاريخ –كما قال محمد إقبال رحمه الله-، حتى تصبح قيما دافعة نحو الإيجابية والفاعلية، لا داعية للدعة والكسل والفراغ.
المصدر: https://islamonline.net/28806
الحوار الداخلي:
أنواع أخرى: