وجوه الهوية الوطنية وأبعادها موقع الجاليات الإسلامية في أوروبا
وجوه الهوية الوطنية وأبعادها موقع الجاليات الإسلامية في أوروبا
بيتر إيدنبرغ*
إنّ الموضوع الذي أريد التحدث فيه هو موضوعٌ بالغ الحساسية، إذ يقعُ، كما يمكن لنا أن نزعُم، في قلب النقاش الأوروبي العامّ. وسأُركّز النقاش في بلدي، في هولندا. ولستُ أُعلّل هذا التركيز بأنني أعرف الموضوع وأعيشُهُ في هولندا فقط؛ بل ولأننا في مملكة هولندا في مرحلةٍ حسّاسةٍ جداً من مراحل الحوارات والتقاطعات والتحولات، والتي تسبّب فيها حادثان اثنان بارزان؛ سمع بهما ولا شكّ كثيرٌ من العرب والمسلمين.
الحادث الأول: مقتل الصحافي الهولندي تيوفان كوخ في 2 نوفمبر عام 2004م بأمستردام، والذي أحدث صدمةً كبيرةً، ليس لدى الهولنديين بعامةٍ وحسب؛ بل ولدى المسلمين من بينهم والمقيمين بين ظهرانيهم. فقد انتشرت المخاوف بأن يدفع ذلك إلى تقوية الأفكار المسبقة والمشاعر السلبية ضد المسلمين بالذات. وليس بالوسع الإنكار أنّ هذا الحادث أثار تلك الأحاسيس بالفعل. لكنْ من جهةٍ أُخرى، ينبغي أن يكونَ واضحاً أنّ الأكثرية الساحقة من الهولنديين، وخاصة السلطات، أعرضت عن القيام بردود فعلٍ سلبيةٍ، بل حاولت أن تجنّب المسلمين والعرب أيَّ شيءٍ من ذلك.
أما الَحَدثُ الآخرُ الذي ترك تأثيراتٍ عميقةً في الوعي والواقع فهو الاستفتاء الذي جرى في هولندا على الدستور الأوروبي. ويمكن القول إنّ النتائج السلبية للاستفتاء فاجأت كثيرين بداخل هولندا وخارجها. والعلةُ الأولى للتفاجؤ أن الهولنديين معتبَرون من بين الآباء المؤسسين للفكرة الأوروبية وللاتحاد الأوروبي. وقد ذهب محللون سياسيون وثقافيون إلى أنّ مسار عمليات الاندماج الأوروبي، صارت هماً مقيماً للنُخَب السياسية في أمستردام وبروكسل. إذ ما تزال تلك النخب في قلب التقييم للاندماجات ونتائجها وتأثيراتها واتجاهاتها، ومن ضمن ذلك الأفكار الأساسية للأوروبيين من وراء السوق والاتحاد وما أدت إليه. والذي يجعل هذا الأمر مهماً بالنسبة لنا تلك العلاقة التي يبدو أنها قائمة بين الاندماج الأوروبي، واندماج الأقلية المسلمة في المجتمع الهولندي, فالتحفظات من الجهتين تبدو وجوهاً للظاهرة نفسِها: المساعي للحفاظ على الهوية الوطنية، وأُريدُ هنا أن أعترف بأنّ الفكرة القائلة بتأثير الأقليات على صعود مشاعر الحرص على الهوية الوطنية بشكلٍ عامٍ، ما خطرت ببالي إلاّ في الآونة الأخيرة. فقد تحدثتُ إلى بعض الأصدقاء العرب والمسلمين مؤخراً، وخاصةٍ في مؤتمر "المسؤولية الجماعية في العالم العربي" في سياق سلسلة المؤتمرات العربية/ الأوروبية عن الديمقراطية.
وقد نبّهني أحد أولئك الأصدقاء إلى التعددية الموجودة بعُمان منذ زمنٍ طويل، بين السكان الأصليين من جهة، والمهاجرين إلى عُمان في القرنين الأخيرين من الخارج. وقد دفعت هذه الظاهرة في عُمان وغيرها من بلدان الخليج إلى سياساتٍ متشددة بعض الشيء فيما يتعلق بقوانين الهجرة أو الإقامة الدائمة. والعامل الرئيسيُّ المؤثّر في ذلك أنه بدون سياساتٍ محدَّدة؛ فإنّ الهوية الوطنية سوف تكون مهدَّدةً بموجات الهجرة الكبيرة. وقد فتح ذلك عيوني على تلك المسألة، ورأيتُ فيها ظاهرةً مُوازيةً لما يحدث في أوروبا في العقدين الأخيرين.
إنّ الذي أراه أنّ هذه التطورات المتوازية، ينبغي وَضْعُها في سياقٍ أوسع هو سياقُ عمليات الهجرة والانتقال الدائري حول العالم، والتي يمكن اعتبارُها ظاهرةً عالمية أيضاً. وردود الفعل هذه يمكنُ أن نشخّصها بأنها محاولاتٌ أو مَساعٍ من أجل حفظ الهوية الوطنية الذاتية. وفي أوروبا اعتدْنا على فهم تلك القضايا والمسائل تحت مصطلح: مشكلات الأقليات. ومقولتي هنا أنّ فهم قضايا الهجرة تحت عنوان: "الهوية الوطنية" أفضل بكثيرٍ أو لنقل إنها أصحُّ في التشخيص. وأسبابي لذلك تتلخصُ على النحو التالي:
أولاً: رغم الاتفاق على أنّ "الأقلية" لا يصحُّ فهمُها عددياً؛ فإنّ هذا المصطَلَحَ ما يزالُ مصدراً لسوء الفهم وبالذات خارج البلدان الغربية.
ثانياً: إنّ مصطلح "الأقلية" يؤدي إلى ارتباطاتٍ ذات طبيعةٍ أبويةٍ أو تسلطية.
ثالثـا: ومصطلح "الأقلية" يميلُ لوضع المسؤولية على الأكثرية تارةً وعلى الأقلية ذاتها تارةً أُخرى.
رابعاً: فهم الأمر على أنه أقلية وأكثرية، يتجاهل مشكلاتٍ واقعةً على عاتق أفرادٍ أو فئاتٍ من الأكثرية.
خامساً: وفهم الأمر أخيراً على هذا النحو يؤدي إلى نتائج سطحيةٍ فيما يتعلق بمفهوم "الاندماج".
ولا شك أنّ هناك مسائل أُخرى في الاندماج الأوروبي، غير العلاقة السالبة بين النفور المفاجئ من الاندماج، وتزايُد عدد العرب والمسلمين في القارة القديمة. وما أعنيه بذلك مسألة طلب تركيا الانضمام إلى الاتحاد. فبعد الاستفتاءين السلبيين في فرنسا وهولندا ازداد عدد المعارضين للدخول التركي إلى الاتحاد الأوروبي. وهذا يعني من جديد أنّ الانطباع الذاهب إلى أنّ مخاوف الاندماج والاستيعاب ترابطٌ بين المسألة، وبين إقبال العرب و المسلمين على محاولة الدخول والاندماج، سواء كدول أو كمجموعات وأفراد. وقد تردد في السنوات الأخيرة ادعاءٌ مفادُهُ أنّ الدخول التركيَّ إلى السوق والاتحاد يتهدد الطابع المسيحي للقارة، لأنّ تركيا تنتمي لحضارةٍ غريبةٍ عن أوروبا هي الحضارةُ الإسلامية. ولا ينبغي أن نفهم ذلك فهماً دينياً، فالدول الأوروبية كلُّها علمانية تفصلُ الدين عن الدولة، ولا أحسبُ أنّ أوروبا سيجفوها النوم من أجل الحفاظ على الهوية المسيحية للقارة. إنما الذي اعتقدُهُ أنّ الحديث عن مسيحية أوروبا تعبيرٌ أكثر عن الخوف على الهوية الوطنية، لكنه اتخذ هذه المرة صبغةً أوربيةً شاملة.
وينبغي ألاّ ننسى مسألةً ثالثةً مهمةً، لها علاقةٌ بالأمرين: مشكلات المسلمين بأوروبا، والاندماج الأوروبي. وأعني بتلك المسألة الطرائق التي ينبغي سلوكها للتعامل مع التهديدات الإرهابية.
إنّ إحدى نتائج الهجرة والانتقال والتوطُّن تحولت إلى ظاهرة عالمية، ويمكن القول أنّ بلدان الهجرة ستُصبحُ هي القاعدة، وليس الاستثناء. ولنجّرب، كتمرين ذهني، التفكير في هولندا باعتبارها بلداً من بلدان الهجرة. وهذا التمرين يمكن أن يكونَ مفيداً لأنه يدفعُنا للتطلع إلى بلدان الهجرة العريقة مثل الولايات المتحدة وكندا للإفادة من تجربتها، ومعرفة الحلول التي توصلت إليها لمشكلات المهاجرين، أو أنها ما تزال تسعى وتعمل للتفهم والاستيعاب والتطوير. وعلى سبيل المثال، يمكن أن نتعلم منهم أنّ الاندماجَ لا يعني الذوبان أو الابتلاع. ففي البلدان الأوروبية اليومَ ميلٌ متعاظمٌ لإنكار الخلفيات المختلفة والأصول المتباينة للمهاجرين، واعتبارها أموراً تستحق الاهتمام والانتباه والتفهم. فالاندماجُ يفترضُ المعرفة والفهم، لكي يصبح ممكناً في بلاد الهجرة الجديدة. وما أريد التوصل إليه أنه في بلدان الهجرة مثل الولايات المتحدة وكندا هناك تقديرٌ أكبر وتفهُّم أعمق للأُصول وللاختلافات والتبايُنات في الهوية. وإنه لأمرٌ معبِّرٌ ما ظهر في صُوَر يوم الاستقلال الأميركي، والذي كان من حَمَلةِ أعلامه أميركيون من أصلٍ تركي. فالانتماءُ الجديد والكامل، لا يشترطُ إلغاء أو إذابة الهوية الأصلية. ثم إنّ هذا التركيَّ الأصول سُرعان ما يندمجُ في المعنى الأميركي العامّ للوطنية.
وهناك قضايا أُخرى يمكن أن تُثار إذا اعتبرنا هولندا أو ألمانيا أو الدانمارك بلد هجرةٍ وتوطُّن. ومن تلك القضايا ما اتّصل منها بالمسائل الاجتماعية والاقتصادية ضمن حاجات المجتمع وضروراته. وهذه الحجج تكسبُ تدريجياً أرضيةً مهمة؛ وهي تتناقضُ مع الشعارات الشعبوية القائلة: هولندا مزدحمة أو ممتلئة ممتئلة! هولندا ليست ممتلئة، تماماً مثلما نقول إنّ ماليزيا أو هونغ كونغ ليست أكثر ازدحاماً من سنغافورة أو الصين. تصبح البلاد ممتلئة، عندما يصبح مجيء المهاجرين إليها سبيلاً للفوضى أو البطالة الكبيرة. ومن جهةٍ أخرى؛ فإنّ هؤلاء المهاجرين يجدّدون شباب المجتمع الهولندي الذي بدأ يتجه للشيخوخة بسبب الضآلة في عدد المواليد الجدد.
ولا علاقة قطعاً للإرهاب بالازدحام. فالإرهابيون يشكّلون تحدياً للقانون والنظم حيثما ظهروا ومن أي مكانٍ أتوا. ولا نستطيع الآن أن ننكر وجودَ نوعٍ من التقارُب أو التماهي بين الإرهاب والإسلام المتطرف. ولا يحتاج الأمر إلى الإيضاح هنا، أنّ هذا النوعَ من العنف لا يُمارسُ ضد الغربيين فقط؛ بل يُمارَسُ أيضاً ضد الدول والبلدان الإسلامية، وضدّ أفرادٍ وجماعاتٍ من العرب والمسلمين. ولأنّ التطرف الإسلاميّ يجدُ جاذبيةً خاصةً لدى بعض الشبان المسلمين في بلدان الهجرة الأوروبية؛ فإننا مُواجَهون فعلاً بإحدى قضايا الاندماج ومُشكلاته. وفي هذه الحالة، ليست المشكلة في التناقُض بين الهوية الأصلية، وهوية البلاد التي يُهاجرُ إليها المسلمون، بل إنّ التناقُض في هذه الحالة مع النظام العامّ، ومن طريق أيديولوجيا إطلاقية لا تَدَعُ مجالاً للرؤى والآراء الأخرى.
إنّ السببَ الذي نفضّل من أجله أن نتحدث عن وجوه وأبعاد "الهوية الوطنية" يتلخَّصُ في العوامل التالية:
1- في الزمن الحاضر المتميّز بهجراتٍ كثيفةٍ وواسعة، تتعدد الهويات والانتماءات المترابطة والمتشابكة، بحيث يمكن اعتبار ذلك من خصائص العصر. وفي حالاتٍ عديدةٍ لا يقتصر الأمر على التشابك والتفاوت بين الهوية الأصلية وهوية الوطن الجديد؛ بل هناك الهويات الإثنية الخاصة ذات الطموح الوطني مثل حالة الأكراد.
2- إنّ هذه البنية شهدت تطوراتٍ خلال المرحلة الماضية. ويمكن الذهاب إلى أنّ الهوية الوطنية التاريخية أو الماضية تشكّل أساساً للهوية الحاضرة. وبهذا المعنى فإنّ الهوية الأصلية بالنسبة للمهاجر ذات أهميةٍ كبرى. لكنْ ليس من الضروري أن تتضارب الهويتان أو تتناقضا. بل يكون على المهاجر أن يتقبل نتائج الهوية الجديدة، وأن يحاول استيعابها في قلب هويته القديمة. ونحن نتحدث كلَّ الوقت عن الهوية الوطنية، وليس عن الهوية الثقافية.
3- إنّ الهوية الوطنية هي في الأساس هويةٌ سياسية. وبذلك فالهوية الجديدة تعني المشاركة في الدولة الوطنية بقبول سلطاتها المشروعة. وهذا التلاؤم هو حجر الأساس في الاندماج أو التناسُق بين العوامل القديمة والجديدة. وهذا لا يعني أنّ علينا اعتبار الهوية أمرٌ ثابت، بل هي قابلةٌ للتبادل والتعديل، سواءٌ الهوية الجديدة أو الهوية الأصلية.
إنّ على القُدامى والقادمين الجُدُد إلى الهوية الإقبال على مواجهة التحديات الجديدة من أجل خلق هوية وطنية مؤسَّسة على العدالة.
*******************
*) المدير التنفيذي لمعهد الحوار الدولي، بهولندا.